كيفية العمل في استخراج أجوبة المسائل من زايرجة العالم بحول الله منقولا عمن لقيناه من القائمين عليها السؤال له ثلثمائة و ستون جوابا عدة الدرج، و تختلف الأجوبة عن سؤال واحد في طالع مخصوص باختلاف الأسئلة المضافة إلى حروف الأوتار. و تناسب العمل من استخراج الأحرف من بيت القصيد. تنبيه: تركيب حروف الأوتار و الجدول على ثلاثة أصول: حروف عربية تنقل على هيآتها. و حروف برسم الغبار. و هذه تتبدل: فمنها ما ينقل على هيئته متى لم تزد الأدوار عن أربعة، فإن زادت عن أربعة نقلت إلى المرتبة الثانية من مرتبة العشرات و كذلك لمرتبة المئين على حسب العمل كما سنبينه، و منها حروف برسم الزمام كذلك، غير أن رسم الزمام يعطي نسبة ثانية، فهي بمنزلة واحد ألف و بمنزلة عشرة، و لها نسبة من خمسين بالعربي. فاستحق البيت من الجدول أن توضع فيه ثلاثة حروف في هذا الرسم و حرفان في الرسم، فاختصروا من الجدول بيوتا خالية. فمتى كانت أصول الأدوار زائدة على أربعين حسبت في العدد في طول الجدول و إن لم تزد على أربعة لم يحسب إلا العامر منها. و العمل في السؤال يفتقر إلى سبعة أصول: عدة حروف الأول حساب أدوارها بعد طرحها، اثني عشر اثني عشر، و هي ثمانية أحرف في الكامل و ستة في الناقص أبدا. و معرفة درج الطالع و سلطان البرج، و الدور الأكبر الأصلي، و هو واحد أبدا. و ما يخرج من إضافة الطالع للدور الأصلي، و ما يخرج من ضرب الطالع و الدور في سلطان البرج. و إضافة سلطان البرج للطالع و العمل جميعه ينتج عن ثلاثة أدوار مضروبة في أربعة، تكون اثني عشر دورا. و نسبة هذه الثلاثة الأدوار التي هي كل دور من أربعة نشأة ثلاثية، كل نشأة لها ابتداء. ثم إنها تضرب أدوارا رباعية أيضا ثلاثية. ثم إنها من ضرب ستة في اثنين، فكان لها نشأة، يظهر ذلك في العمل. و يتبع هذه الأدوار الاثني عشر نتائج. و هي في الأدوار، إما أن تكون نتيجة أو أكثر إلى ستة. فأول ذلك نفرض سؤالا عن الزايرجة، هل هي علم قديم، أو محدث بطالع أول درجة من القوس أثناء حروف الأوتار ؟ ثم حروف السؤال. فوضعنا حروف وتر رأس القوس و نظيره من رأس الجوزاء. و ثالثه و تر رأس الدلو إلى حد المركز، و أضفنا إليه حروف السؤال، و نظرنا عدتها و أقل ما تكون ثمانية و ثمانين، و أكثر ما تكون ستة و تسعين، و هي جملة الدور الصحيح، فكانت في سؤالنا ثلاثة و تسعين. و يختصر السؤال إن زاد عن ستة و تسعين، بأن يسقط جميع أدواره الاثني عشرية، و يحفظ ما خرج منها و ما بقي، فكانت في سؤالنا سبعة أدوار، الباقي تسعة، أثبتها في الحروف ما لم يبلغ الطالع اثنتي عشرة درجة، فإن بلغها لم تثبت لها عدة و لا دور. ثم تثبت أعدادها أيضا إن زاد الطالع عن أربعين و عشرين في الوجه الثالث، ثم تثبت الطالع و هو واحد، و سلطان الطالع و هو أربعة، و الدور الأكبر و هو واحد، و اجمع ما بين الطالع و الدور و هو اثنان في هذا السؤال، و اضرب ما خرج منهما في سلطان البرج يبلغ ثمانية، و أضف السلطان للطالع فيكون خمسة، فهذه سبعة أصول. فما خرج من ضرب الطالع و الدور الأكبر في سلطان القوس، مما لم يبلغ اثني عشر فيه تدخل في ضلع ثمانية من أسفل الجدول صاعدا، و إن زاد على اثني عشر طرح أدوارا، و تدخل بالباقي في ضلع ثمانية، و تعلم على منتهى العدد و الخمسة المستخرجة من السلطان و الطالع، يكون الطالع في ضلع السطح المبسوط الأعلى من الجدول، و تعد متواليا خمسات أدوارا، و تحفظها إلى أن يقف العدد على حرف من أربعة، و هي ألف أو باء أو جيم أو زاي. فوقع العدد في عملنا على حرف الألف و خلف ثلاثة أدوار، فضربنا ثلاثة في ثلاثين كانت تسعة. و هو عدد الدور الأول. فأثبته و اجمع ما بين الضلعين: القائم و المبسوط يكن في بيت ثمانية في مقابلة البيوت العامرة بالعدد من الجدول، و إن وقف في مقابلة الخالي من بيوت الجدول على أحدها. فلا يعتبر و تستمر على أدوارك. و أدخل يعدد ما في الدور الأول، و ذلك تسعة في صدر الجدول مما يلي البيت الذي اجتمعا فيه. و هي ثمانية، مارا إلى جهة اليسار، فوقع على حرف لام ألف و لا يخرج منها أبدا حرف مركب. و إنما هو إذن حرف تاء أربعمائة برسم الزمام، فعلم عليها بعد نقلها من بيت القصيد، و اجمع عدد الدور للسلطان يبلغ ثلاثة عشر، أدخل بها في حروف الأوتار، و أثبت ما وقع عليه العدد و علم عليه من بيت القصيد. و من هذا القانون تدري كم تدور الحروف في النظم الطبيعي، و ذلك أن تجمع حروف الدور الأول و هو تسعة لسلطان البرج و هو أربعة تبلغ ثلاثة عشر، أضعفها يمثلها تكون ستة و عشرين، أسقط منها درج الطالع وهو واحد في هذا السؤال الباقي خمسة و عشرون. فعلى ذلك يكون نظم الحروف الأول، ثم ثلاثة و عشرون مرتين، ثم اثنان و عشرون مرتين، على حسب هذا الطرح إلى أن ينتهي للواحد من آخر البيت المنظوم. و لا تقف على أربعة و عشرين لطرح ذلك الواحد أولا. ثم ضع الدور الثاني و أضف حروف الدور الأول إلى ثمانية، الخارجة من ضرب الطالع و الدور في السلطان تكن سبعة عشر الباقي خمسة. فاصعد في ضلع ثمانيه بخمسة من حيث انتهيت في الدور الأول و علم عليه، و أدخل في صدر الجدول بسبعة عشر، ثم بخمسة. و لا تعد الخالي، و الدور عشرون، فوجدنا حرف ثاء خمسمائة، و إنما هو نون لأن دورنا في مرتبة العشرات، فكانت الخمسمائة بخمسين لأن دورها سبعة عشر فلو لم تكن سبعة عشر لكانت مئين. فأثبت نونا ثم أدخل بخمسة أيضا من أوله. و انظر ما حاذى ذلك من السطح تجد واحدا، فقهقر العدد واحدا يقع على خمسة، أضف لها واحدا لسطح تكن ستة. أثبت واوا و علم عليها من بيت القصيد أربعة، و أضفها للثمانية الخارجة من ضرب الطالع مع الدور في السلطان تبلغ اثني عشر، أضف لها الباقي من الدور الثاني و هو خمسة تبلغ سبعة عشر، و هو ما للدور الثاني. فدخلنا بسبعة عشر في حروف الأوتار، فوقع العدد على واحد. أثبت الأول و علم عليها من بيت القصيد و أسقط من حروف الأوتار ثلاثة حروف عدة الخارج من الدور الثاني. و ضع الدور الثالث و أضف خمسة إلى ثمانية تكن ثلاثة عشر، الباقي واحد. انقل الدور في ضلع ثمانية بواحد و أدخل في بيت القصيد بثلاثة عشر، و خذ ما وقع عليه العدد و هو ق و علم عليه. و أدخل بثلاثة عشر في حروف الأوتار و أثبت ما خرج، و هو سين، و علم عليه من بيت القصيد، ثم أدخل مما يلي السين الخارجة بالباقي من دور ثلاثة عشر و هو واحد، فخذ مما يلى حرف سين من الأوتار فكان ب أثبتها و علم عليها من بيت القصيد. و هذا يقال له: الدور المعطوف، و ميزانه صحيح. و هو أن تضعف ثلاثة عشر بمثلها، و تضيف إليها الواحد الباقي من الدور. تبلغ سبعة و عشرين. و هو حرف باء المستخرج من الأوتار من بيت القصيد. و أدخل في صدر الجدول بثلاثة عشر، و انظر ما قابله من السطح و أضعفه بمثله، و زد عليه الواحد الباقي من ثلاثة عشر، فكان حرف جيم، و كانت للجملة سبعة، فذلك حرف زاي فأثبتناه و علمنا عليه من بيت القصيد. و ميزانه أن تضعف السبعة بمثلها و زد عليها الواحد الباقي هن ثلاثة عشر يكن خمسة عشر، و هو الخامس عشر من بيت القصيد و هذا آخر أدوار الثلاثيات و ضع الدور الرابع و له من العدد تسعة بإضافة الباقي من الدور السابق، فاضرب الطالع مع الدور في السلطان، و هذا الدور آخر العمل في البيت الأول من الرباعيات. فاضرب على حرفين من الأوتار و اصعد يتسعة في ضلع ثمانية و أدخل بتسعة من دور الحرف الذي أخذته آخرا من بيت القصيد، فالتاسع حرف راء، فأثبته و علم عليه. و أدخل في صدر الجدول بتسعة و انظر ما قابلها من السطح يكون ج، قهقر العدد واحدا يكون ألف و هو الثاني من حرف الراء من بيت القصيد فأثبته و علم عليه. و عد مما يلي الثاني تسعة يكون ألف أيضا أثبته و علم عليه و أضرب على حرف من الأوتار، و أضعف تسعة يمثلها تبلغ ثمانية عشر، أدخل بها في حروف الأوتار تقف على حرف راء، أثبتها و علم عليها من بيت القصيد ثمانية و أربعين. و أدخل بثمانية عشر في حروف الأوتار تقف على س أثيتها و علم عليها اثنين. و أضعف اثنين إلى تسعة تكون أحد عشر. أدخل في صدر الجدول بأحد عشر تقابلها من السطح ألف أثبتها و علم عليها ستة، و ضع الدور الخامس و عدته سبعة عشر الباقي خمسة. اصعد بخمسة في ضلع ثمانية و اضرب على حرفين من الأوتار و أضعف خمسة بمثلها، و أضفها إلى سبعة عشر عدد دورها الجملة سبعة و عشرون، أدخل بها في حروف الأوتار تقع على ب أثبتها و علم عليها اثنين وثلاثين و اطرح من سبعة عشر اثنين التي هي في أس اثنين و ثلاثين الباقي خمسة عشر. أدخل في حروف الأوتار تقف على ق أثبتها و علم عليها ستة و عشرين. و أدخل في صدر الجدول بست و عشرين تقف على اثنين بالغبار و ذلك حرف ب أثبته و علم عليه أربعة و خمسين، و أضرب على حرفين من الأوتار و ضع الدور السادس، و عدته ثلاثة عشر. الباقي منة واحد، فتبين إذ ذاك أن دور النظم من خمسة و عشرين، فإن الأدوار خمسة و عشرون و سبعة عشر و خمسة و ثلاثة عشر و واحد، فاضرب خمسة في خمسة تكن خمسة و عشرين، و هو الدور في نظم البيت، فانقل الدور في ضلع ثمانية بواحد. و لكن لم يدخل في بيت القصيد بثلاثة عشر كما قدمناه، لأنة دور ثاني من نشأة تركيبية ثانية، بل أضفنا الأربعة التي من أربعة و خمسين الخارجة على حروف ب من بيت القصيد إلى الواحد تكون خمسة، تضييف خمسة إلى ثلاثة عشر التي للدور تبلغ ثمانية عشر. أدخل بها في صدر الجدول و خذ ما قابلها من السطح و هو ألف أثبته و علم عليه من بيت القصيد اثني عشر و اضرب على حرفين من الأوتار. و من هذا الجدول تنظر أحرف السؤال، فما خرج منها زده مع بيت القصيد من آخره و علم عليه من حروف السؤال ليكون داخلا في العدد في بيت القصيد. و كذلك تفعل بكل حرف بعد ذلك مناسبا لحروف السؤال، فما خرج منها زده إلى بيت القصيد من آخر و علم عليه. ثم أضف إلى ثمانية عشر ما علمته على حرف الألف من الآحاد، فكان اثنين تبلغ الجملة عشرين. أدخل بها في حروف الأوتار تقف على حرف راء، أثبته و علم عليه من بيت القصيد، ستة و تسعين و هو نهاية الدور في الحرف الوتري. فاضرب على حرفين من الأوتار و ضع الدور السابع. و هو ابتداء لمخترع ثان ينشأ من الإختراعين. و لهذا الدور من العدد تسعة، تضيف لها واحدا تكون عشرة للنشأة الثانية، و هذا الواحد تزيده بعد إلى اثني عشر دورا، إذا كان من هذه النسبة، أو تنقصه من الأصل تبلغ الجملة خمسة عشر. فاصعد في ضلع ثمانية و تسعين و أدخل في صدر الجدول بعشرة تقف على خمسمائة، و إنما هي خمسون، نون مضاعفة بمثلها، و تلك ق أثبتها و علم عليها من بيت القصيد اثنين و خمسين، و أسقط من اثنين و خمسين اثنين، و أسقط تسعة التي للدور، الباقي واحد و أربعون، فأدخل بها في حروف الأوتار تقف على واحد أثبته. و كذلك أدخل بها في بيت القصيد تجد واحدا، فهذا ميزان هذه النشأة الثانية فعلم عليه من بيت القصيد علامتين. علامة على الألف الأخير الميزاني، و أخرى على الألف الأولى فقط، و الثانية أربعة و عشرون و اضرب على حرفين من الأوتار، و ضع الدور الثامن و عدته سبعة عشر الباقي خمسة، أدخل في ضلع ثمانية و خمسين و أدخل في بيت القصيد بخمسة تقع على عين بسبعين، أثبتها و علم عليها. و أدخل في الجدول بخمسة، و خذ ما قابلها من السطح. و ذلك واحد، أثبته و علم عليه من البيت ثمانية و أربعين، و أسقط واحدا من ثمانية و أربعين للأس الثاني و أضف إليها خمسة، الدور. الجملة اثنان و خمسون. أدخل بها في صدر الجدول تقف على حرف ب غبارية و هي مرتبة مئينية لتزايد العدد، فتكون مائتين و هي حرف راء، أثبتها و علم عليها من القصيد أربعة و عشرين، فانتقل الأمر من ستة و تسعين إلى الابتداء و هو أربعة و عشرون، فأضف إلى أربعة و عشرين خمسة، الدور، و أسقط واحدا تكون الجملة ثمانية و عشرين. أدخل بالنصف منها في بيت القصيد تقف على ثمانية، أثبت و علم عليها و ضع الدور التاسع، و عدده ثلاثة عشر الباقي واحد. إصعد في ضلع ثمانية بواحد. و ليست نسبة العمل هنا كنسبتها في الدور السادس لتضاعف العدد، و لأنه من النشأة الثانية، و لأنه أول الثلث الثالث من مربعات البروج و آخر الستة الرابعة من المثلثات. فاضرب ثلاثة عشر التي للدور في أربعة التي هي مثلثات البروج السابقة، الجملة اثنان و خمسون، أدخل بها في صدر الجدول تقف على حرف اثنين غبارية، و إنما هي مئينية لتجاوزها في العدد عن مرتبتي الآحاد و العشرات، فأثبته مائتين راء. و علم عليها من بيت القصيد ثمانية و أربعين، و أضف إلى ثلاثة عشر، الدور، واحد الأس، و أدخل بأربعة عشر في بيت القصيد تبلغ ثمانية، فعلم عليها ثمانية و عشرين، و اطرح من أربعة عشر سبعة يبقى سبعة إضرب على حرفين من الأوتار، و أدخل بسبعة تقف على حرف لام، أثبته و علم عليه من البيت. و ضع الدور العاشر و عدده تسعة، و هذا ابتداء المثلثة الرابعة، و اصعد في ضلع ثمانية بتسعة، تكون خلاء، فاصعد بتسعة ثانية تصير في السابع من الابتداء. اضرب تسعة في أربعة لصعودنا بتسعتين، و إنما كانت تضرب في اثنين. و أدخل في الجدول بستة و ثلاثين تقف على أربعة زمامية و هي عشرية، فأخذناها أحادية لقلة الأدوار. فأثبت حرف دال، و إن أضفت إلى ستة و ثلاثين واحد الأس كان حدها من بيت القصيد. فعلم عليها، و لو دخلت بالتسعة لا غير من ضرب في صدر الجدول لوقف على ثمانية. فاطرح من ثمانية أربعة الباقي أربعة و هو المقصود. و لو دخلت في صدر الجدول بثمانية عشر التي هي تسعة في اثنين لوقف على واحد زمامي و هو عشري. فاطرح منه اثنين تكرار التسعة، الباقي ثمانية نصفها المطلوب. و لو دخلت في صدر الجدول بسبعة و عشرين بضربها في ثلاثة لوقعت على عشرة زمامية، و العمل واحد. ثم أدخل بتسعة في بيت القصيد و أثبت ما خرج و هو ألف، ثم اضرب تسعة في ثلاثة التي هي مركب تسعة الماضية و أسقط واحدا و أدخل في صدر الجدول بستة و عشرين، و أثبت ما خرج و هو مائتان بحرف راء و علم عليه من بيت القصيد ستة و تسعين. و اضرب على حرفين من الأوتار و ضع الدور الحادي عشر و له سبعة عشر الباقي خمسة، إصعد في ضلع ثمانية بخمسة و تحسب ما تكرر عليه المشي في الدور الأول، و أدخل في صدر الجدول بخمسة تقف على خال، فخذ ما قابله من السطح و هو واحد، فادخل بواحد في بيت القصيد تكن سين، أثبته و علم عليه أربعة. و لو يكون الوقف في الجدول على بيت عامر لأثبتنا الواحد ثلاثة. و أضعف سبعة عشر بمثلها و أسقط واحدا و أضعفها بمثلها و زدها أربعة تبلغ سبعة و ثلاثين، أدخل بها في الأوتار تقف على ستة أثبتها و علم عليها، و أضعف خمسة بمثلها. و أدخل في البيت تقف على لام أثبتها و علم عليها عشرين، و اضرب على حرفين من الأوتار. و ضع الدور الثاني عشر و له ثلاثة عشر الباقي واحد، إصعد في ضلع ثمانية بواحد، و هذا الدور آخر الأدوار و آخر الإختراعين و آخر المربعات الثلاثية و آخر المثلثات الرباعية. و الواحد في صدر الجدول يقع على ثمانين زمامية، و إنما هي آحاد ثمانية، و ليس معنا من الأدوار إلا واحد، فلو زاد عن أربعة من مربعات اثني عشر أو ثلاثة من مثلثات اثني عشر لكانت ح، و إنما هي د، فأثبتها و علم عليها من بيت القصيد أربعة و سبعين، ثم انظر ما ناسبها من السطح تكن خمسة، أضعفها بمثلها للأس تبلغ عشرة، أثبت ى و علم عليها، و انظر في أي المراتب وقعت: وجدناها في الرابعة. دخلنا بسبعة في حروف الأوتار، و هذا المدخل يسمى التوليد الحرفي فكانت ف، أثبتها وأضف إلى سبعة واحد الدور، الجملة ثمانية. أدخل بها في الأوتار تبلغ س أثبتها و علم عليها ثمانية، و اضرب ثمانية في ثلاثة الزائدة على عشرة الدور، فإنها أخر مربعات الأدوار بالمثلثات تبلغ أربعة و عشرين، أدخل بها في بيت القصيد وعلم على ما يخرج منها و هو مائتان و علامتها ستة و تسعون. و هو نهاية الدور الثاني في الأدوار الحرفية، و اضرب على حرفين من الأوتار و ضع النتيجة الأولى و لها تسعة. و هذا العدد يناسب أبدا الباقي من حروف الأوتار بعد طرحها أدوارا و ذلك تسعة، فاضرب تسعة في ثلاثة التي هي زائدة على تسعين من حروف الأوتار، و أضف لها واحدا الباقي من الدور الثاني عشر تبلغ ثمانية و عشرين، فأدخل بها في حروف الأوتار تبلغ ألفا، أنبته و علم عليه ستة و تسعين. و إن ضربت سبعة التي هي أدوار الحروف التسعينية في أربعة و هي الثلاثة الزائدة على تسعين. و الواحد الباقي من الدور الثاني عشر كان كذلك، و اصعد في ضلع ثمانية يتسعة و أدخل في الجدول بتسعة تبلغ اثنين زمامية. و اضرب تسعة فيما ناسب من السطح، و ذلك ثلاثة، و أضف لذلك سبعة، عدد الأوتار الحرفية، و اطرح واحدا الباقي من دور اثني عشر تبلغ ثلاثة و ثلاثين، أدخل بها في البيت تبلغ خمسة. فأثبتها و أضف تسعة بمثلها و أدخل في صدر الجدول بثمانية عشر، و خذ ما في السطح و هو واحد، أدخل به في حروف الأوتار تبلغ م أثبته و علم عليه، و اضرب على حرفين من الأوتار. و ضع النتيجة الثانية و لها سبعة عشر الباقي خمسة، فاصعد في ضلع ثمانية بخمسة و اضرب خمسة في ثلاثة الزائدة على تسعين تبلغ خمسة عشر، أضف لها واحدا الباقي من الدور الثاني عشر تكن تسعة، و أدخل بستة عشرفي بيت القصيد تبلغ ت أثبته و علم عليه أربعة و ستين. و أضف إلى خمسة الثلاثة الزائدة على تسعين. و زد واحدا الباقي من الدور الثاني عشر يكن تسعة. أدخل بها في صدر الجدول تبلغ ثلاثين زمامية، و انظر ما في السطح تجد واحدا أثبته و علم عليه من بيت القصيد و هو التاسع أيضا من البيت. و أدخل بتسعة في صدر الجدول تقف على ثلاثة و هي عشرات. فأثبت لام و علم عليه و ضع النتيجة الثالثة و عددها ثلاثة عشر الباقي واحد. فانقل في ضلع ثمانية بواحد و أضف إلى ثلاثة عشر الثلاثة الزائدة على التسعين. و واحد الباقي من الدور الثاني عشر تبلغ سبعة عشر، و واحد النتيجة تكن ثمانية عشر. أدخل بها في حروف الأوتار تكن لاما أثبتها فهذا آخر العمل. و المثال في هذا السؤال السابق: أردنا أن نعلم أن هذه الزايرجة علم محدث أو قديم، بطالع أول درجة من القوس، أثبتنا حروف الأوتار، ثم حروف السؤال. ثم الأصول، و هي عدة الحروف ثلاثة و تسعون أدوارها سبعة الباقي منها تسعة، الطالع واحد، سلطان القوس أربعة، الدور الأكبر واحد، درج الطالع مع الدور اثنان، ضرب الطالع مع الدور في السلطان ثمانية، إضافة السلطان للطالع خمسة بيت القصيد. سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن غرائب شك ضبطه الجد مثلا حروف الأوتار: ص ط ه رث ك هـ م ص ص و ن ب هـ س ا ن ل م ن ص ع ف ص و رس ك ل م ن ص ع ف ض ق ر س ت ث خ ذ ظ غ ش ط ى ع ح ص ر و ح ر و ح ل ص ك ل م ن ص ا ب ج د ه و ز ح ط ى. حروف السؤال ا ل زا ى رج ة ع ل م م ح د ث ا م ق د ى م الدورالأول 19 الدور الثاني 17 الباقي 5 الدور الثالث 13 الباقي 1 الدور الرا بع 9 الدور الخامس 17 الباقي 5 الدور السادس 13 الباقي 1 الدور السابع 9 الدور الثامن 17 الباقي 5 الدور التاسع 13 الباقي 1 الدور العاشر 13 الدور الحادي عشر 17 الباقي 5 الدور الثاني عشر 13 الباقي 1 النتيجة الأولى 9 النتيجة الثانية 17 الباقي 5 النتيجة الثالثة 13 الباقي 1. دورها على خمسة و عشرين ثم على ثلاثة و عشرين مرتين ثم على واحد و عشرين مرتين إلى أن تنتهي إلى الواحد من آخر البيت و تنقل الحروف جميعا و الله أعلم ن ف ر و ح ر و ح ا ل و د س ا د ر ر س ر ه ا ل د ر ى س و ا ن س د ر و ا ب لا ا م ر ب و ا ا ل ع ل ل. هذا آخر الكلام في استخراج الأجوبة من زايرجة العالم منظومة. و للقوم طرائق أخرى من غير الزايرجة يستخرجون بها أجوبة المسائل غير منظومة. و عندهم أن السر في استخراج الجواب منظوما من الزايرجة، إنما هو مزجهم بيت مالك بن وهيب و هو: سؤال عظيم الخلق البيت، و لذلك يخرج الجواب على رويه. و أما الطرق الأخرى فيخرج الجواب غير منظوم. فمن طرائقهم في استخراج الأجوبة ما ننقله عن بعض المحققين منهم.
فصل في الاطلاع على الأسرار الخفية من جهة الارتباطات الحرفية إعلم أرشدنا الله و إياك أن هذه الحروف أصل الأسئلة في كل قضية، و إنما تستنتج الأجوبة على تجزئته بالكلية، و هي ثلاثة و أربعون حرفا كما ترى و الله علام الغيوب ا و ل ا ع ظ س ا ل م خ ى د ل ز ق ت ا ر ذ ص ف ن غ ق ش ا ك ك ى ب م ض ب ح ط ل ج ه د ن ل ث ا. و قد نظمها بعض الفضلاءفي بيت جعل فيه كل حرف مشدد من حرفين و سماه القطب فقال: سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن غرائب شك ضبطه الجد مثلا فإذا أردت استنتاج المسئلة فاحذف ما تكرر من حروفها و أثبت ما فضل منه. ثم احذف من الأصل و هو القطب لكل حرف فضل من المسألة حرفا يماثله، و أثبت ما فضل منه. ثم امزج الفضلين في سطر واحد تبدأ بالأول من فضله. و الثاني من فضل المسئلة. و هكذا إلى أن يتم الفضلان أو ينفد أحدهما قبل الآخر، فتضع البقية على ترتيبها. فإذا كان عدد الحروف الخارجة بعد المزج موافقا لعدد حروف الأصل قبل الحذف فالعمل صحيح، فحينئذ تضيف إليها خمس نونات لتعدل بها الموازين الموسيقية و تكمل الحروف ثمانية و أربعين حرفا. فتعمر بها جدولا مربعا يكون آخر ما في السطر الأول أول ما في السطر الثاني. و تنقل البقية على حالها. و هكذا إلى أن تتم عمارة الجدول. و يعود السطر الأول بعينه و تتوالى الحروف في القطر على نسبة الحركة، ثم تخرج وتر كل حرف بقسمة مربعة على أعظم جزء يوجد له، و تضع الوتر مقابلا لحرفه. ثم تستخرج النسب العنصرية للحروف الجدولية، و تعرف قوتها الطبيعية و موازينها الروحانية و غرائزها النفسانية و أسوسها الأصلية من الجدول الموضوع لذلك، و هذه صورته: ثم تأخذ وتر كل حرف بعد ضربه في أسوس أوتاد الفلك الأربعة، و احذر ما يلي الأوتاد و كذلك السواقط لأن نسبتها مضطربة. و هذا الخارج هو أول رتب السريان. ثم تأخذ مجموع العناصر و تحط منها أسوس المولدات، يبقى أس عالم الخلق بعد عروضه للمدد الكونية، فتحمل عليه بعض المجردات عن المواد و هي عناصر الأمداد، يخرج أفق النفس الأوسط، و تطرح أول رتب السريان من مجموع العناصر يبقى عالم التوسط. و هذا مخصوص بعوالم الأكوان البسيطة لا المركبة. ثم تضرب عالم التوسط في أفق النفس الأوسط يخرج الأفق الأعلى، فتحمل عليه أول رتب السريان، ثم تطرح من الرابع أول عناصر الأمداد الأصلي يبقى ثالث رتبة السريان، فتضرب مجموع أجزاء العناصر الأربعة أبدا في رابع مرتبة السريان، يخرج أول عالم التفصيل، و الثاني في الثاني يخرج ثاني عالم التفصيل، و الثالث في الثالث يخرج ثالث عالم التفصيل، و الرابع في الرابع يخرج رابع عالم التفصيل. فتجمع عوالم التفصيل و تحط من عالم الكل. تبقى العوالم المجردة، فتقسم على الأفق الأعلى يخرج الجزء الأول. و يقسم المنكسر على الأفق الأوسط يخرج الجزء الثاني، و ما انكسر فهو الثالث. و يتعين الرابع هذا في الرباعي. و إن شئت أكثر من الرباعي فتستكثر من عوالم التفصيل و من رتب السريان و من الأوفاق بعد الحروف. و الله يرشدنا و إياك. و كذلك إذا قسم عالم التجريد على أول رتب السريان خرج الجزء الأول من عالم التركيب، و كذلك إلى نهاية الرتبة الأخيرة من عالم الكون. فافهم و تدبر و الله المرشد المعين. و من طريقهم أيضا في استخراج الجواب، قال بعض المحققين منهم: اعلم أيدنا الله و إياك بروج منه، أن علم الحروف جليل يتوصل العالم به لما لا يتوصل بغيره من العلوم المتداولة بين العالم. و للعمل به شرائط تلتزم. و قد يستخرج العالم أسرار الخليقة و سرائر الطبيعة، فيطلع بذلك على نتيجتي الفلسفة، أعني السيميا و أختها. و يرفع له حجاب المجهولات و يطلع بذلك على مكنون خبايا القلوب. و قد شهدت جماعة بأرض المغرب ممن اتصل بذلك، فأظهر الغرائب و خرق العوائد و تصرف في الوجود بتأييد الله. و اعلم أن ملاك كل فضيلة الاجتهاد و حسن الملكة مع الصبر. مفتاح كل خير، كما أن الخرق و العجلة رأس الحرمان، فأقول: إذا أردت أن تعلم قوة كل حرف من حروف الفابيطوس أعني أبجد إلى آخر العدد، و هذا أول مدخل من علم الحروف، فانظر ما لذلك الحرف من الأعداد، فتلك الدرجة التي هي مناسبة للحرف هي قوته في الجسمانيات. ثم اضرب العدد في مثله تخرج لك قوته في الروحانيات و هي وتره. و هذا في الحروف المنقوطة لا يتم بل يتم لغير المنقوطة، لأن المنقوطة منها مراتب لمعان يأتي عليها البيان فيما بعد. و اعلم أن لكل شكل من أشكال الحروف شكلا في العالم العلوي أعني الكرسي، و منها المتحرك و الساكن و العلوي و السفلي كما هو مرقوم في أماكنه من الجداول الموضوعة في الزيارج. و اعلم أن قوى الحروف ثلاثة أقسام: الأول و هو أقلها قوة تظهر بعد كتابتها، فتكون كتابته لعالم روحاني مخصوص بذلك الحرف المرسوم، فمتى خرج ذلك الحرف بقوة نفسانية و جمع همة كانت قوى الحروف مؤثرة في عالم الأجسام. الثاني قوتها في الهيئة الفكرية و ذلك ما يصدر عن تصريف الروحانيات لها، فهي قوة في الروحانيات العلويات، و قوة شكلية في عالم الجسمانيات. الثالث و هو يجمع الباطن، أعني القوة النفسانية على تكوينه، فتكون قبل النطق به صورة في النفس، بعد النطق به صورة في الحروف و قوة في النطق. و أما طبائعها فهي الطبيعيات المنسوبة للمتولدات في الحروف و هي الحرارة و اليبوسة، و الحرارة و الرطوبة و البرودة و اليبوسة و البرودة و الرطوبة، فهذا سر العدد اليماني، و الحرارة جامعة للهواء و النار و هما: ا هـ ط م ف ش ذ ج ز ك س ق ث ظ، و البرودة جامعة للهواء و الماء ب و ى ن ص ت ض د ح ل ع ر خ غ، و اليبوسة جامعة للنار و الأرض ا هـ ط م ف ش ذ ب و ى ن ص ت ض، فهذه نسبة حروف الطبائع و تداخل أجزاء بعضها في بعض. و تداخل أجزاء العالم فيها علويات و سفليات بأسباب الأمهات الأول، أعني الطبائع الأربع المنفردة، فمتى أردت استخراج مجهول من مسئلة ما، فحقق طالع السائل أو طالع مسئلته واستنطق حروف أوتارها الأربعة: الأول و الرابع و السابع و العاشر مستوية مرتبة، و استخرج أعداد القوى و الأوتار كما سنبين، و احمل و انسب و استنتج الجواب يخرج لك المطلوب، إما بصريح اللفظ أو بالمعنى. و كذلك في كل مسئلة تقع لك. بيانه: إذا أردت أن تستخرج قوى حروف الطالع. مع اسم السائل والحاجة. فاجمع أعدادها بالجمل الكبير، فكان الطالع الحمل رابعه السرطان سابعه الميزان عاشره الجدي. و هو أقوى هذه الأوتاد. فاسقط من كل برج حرفي التعريف. و انظر ما يخص كل برج من الأعداد المنطقة الموضوعة في دائرتها، و احذف أجزاء الكسر في النسب الإستنطاقية كلها و أثبت تحت كل حرف ما يخصه من ذلك، ثم أعداد حروف العناصر الأربعة و ما يخصها كالأول. و ارسم ذلك كله أحرفا و رتب الأوتاد و القوى و القرائن سطرا ممتزجا. و كسر و اضرب ما يضرب لاستخراج الموازين. و اجمع و استنتج الجواب يخرج لك الضمير و جوابه. مثاله افرض أن الطالع الحمل كما تقدم. ترسم ح م ل: فللحاء من العدد ثمانية لها النصف و الربع و الثمن د ب ا الميم لها من العدد أربعون. لها النصف و الربع و الثمن و العشر و نصف العشر إذا أردت التدقيق م ك ى ه د ب، اللام لها من العدد ثلاثون، لها النصف و الثلثان و الثلث و الخمس و السدس و العشر ك ى و هـ ج. و هكذا تفعل بسائر حروف المسئلة و الاسم من كل لفظ يقع لك. و أما استخراج الأوتار فهو أن تقسم مربع كل حرف على أعظم جزء يوجد له. مثاله: حرف د له من الأعداد أربعة مربعها ستة عشر. إقسمها على أعظم جزء يوجد لها و هو اثنان يخرج وترا لدال ثمانية. ثم تضع كل وتر مقابلا لحرفه. ثم تستخرج النسب العنصرية، كما تقدم في شرح الاستنطاق. و لها قاعدة تطرد في استخراجها من طبع الحروف و طبع البيت الذي يحل فيه من الجدول كما ذكر الشيخ لمن عرف الاصطلاح. و الله أعلم.
فصل في الاستدلال على ما في الضمائر الخفية بالقوانين الحرفية و ذلك لو سأل سائل عن عليل لم يعرف مرضه ما علته. و ما الموافق لبرئه منه، فمر السائل أن يسمي ما شاء من الأشياء على اسم العلة المجهولة، لتجعل ذلك الاسم قاعدة لك. ثم استنطق الاسم مع اسم الطالع و العناصر و السائل و اليوم والساعة إن أردت التدقيق في المسئلة، و إلا اقتصرت على الاسم الذي سماه السائل. و فعلت به كما نبين. فأقول مثلا: سمى السائل فرسا فأثبت الحروف الثلاثة مع أعدادها المنطقة. بيانه: أن للفاء من العدد ثمانين و لها م ك ي ح ب، ثم الراء لها من العدد مائتان ق ن ك ى ثم السين لها من العدد ستون و لها م ل ك فالواو عدد تام له د جـ ب، و السين مثله و لها م ل ك. فإذا بسطت حروف الأسماء وجدت عنصرين متساويين، فاحكم لأكثرهما حروفا بالغلبة على الآخر، ثم احمل عدد حروف عناصر اسم المطلوب و حروفه دون بسط. و كذلك اسم الطالب و احكم للأكثر و الأقوى بالغلبة. و صفة قوى استخراج العناصر فتكون الغلبة هنا للتراب و طبعه البرودة. و اليبوسة طبع السوداء، فتحكم على المريض بالسوداء. فإذا ألفت من حروف الإستنطاق كلاما على نسبة تقريبية خرج موضع الوجع في الحلق، و يوافقه من الأدوية حقنة و من الأشربة شراب الليمون. هذا ما خرج من قوى أعداد حروف اسم فرس و هو مثال تقريبي مختصر. و أما استخراج قوى العناصر من الأسماء العلمية فهو أن تسمي مثلا محمدا، فترسم أحرفه مقطعة. ثم تضع أسماء العناصر الأربعة على ترتيب الفلك، يخرج لك ما في كل عنصر من الحروف و العدد. و مثاله: فتجد أقوى هذه العناصر من هذا الاسم المذكور عنصر الماء، لأن عدد حروفه عشرون حرفا، فجعلت له الغلبة على بقية عناصر الاسم المذكور. و هكذا يفعل بجميع الأسماء. حينئذ تضاف إلى أوتارها، أو للوتر المنسوب للطالع في الزايرجة، أو لوتر البيت المنسوب لمالك بن وهيب. الذي جعله قاعدة لمزج الأسئلة و هو هذا: سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن غرائب شك ضبطه الجد مثلا و هو وتر مشهور لاستخراج المجهولات، و عليه كان يعتمد ابن الرقام و أصحابه. و هو عمل تام قائم بنفسه في المثالات الوضعية. وصفة العمل بهذا الوتر المذكور أن ترسمه مقطعا ممتزجا بألفاظ السؤال على قانون صنعة التكسير. و عدة حروف هذا الوتر أعني البيت ثلاثة و أربعون حرفا، لأن كل حرف مشدد من حرفين. ثم تحذف ما تكرر عند المزج من الحروف و من الأصل. لكل حرف فضل من المسئلة حرف يماثله، و تثبت الفضلين سطرا ممتزجا بعضه ببعض الحروف. الأول من فضلة القطب و الثاني من فضلة السؤال، حتى يتم الفضلتان جميعا فتكون ثلاثة و أربعين، فتضيف إليها خمس نونات ليكون ثمانية و أربعين، لتعدل بها الموازين الموسيقية. ثم تضع الفضلة على ترتيبها فإن كان عدد الحروف الخارجة بعد المزج يوافق العدد الأصلي قبل الحذف فالعمل صحيح، ثم عمر بما مزجت جدولا مربعا يكون آخر ما في السطر الأول أول ما في السطر الثاني. و على هذا النسق حتى يعود السطر الأول بعينه، و تتوالى الحروف في القطر على نسبة الحركة. ثم تخرج وتر كل حرف كما تقدم تضعه مقابلا لحرفه، ثم تستخرج النسب العنصرية للحروف الجدولية، لتعرف قوتها الطبيعية و موازينها الروحانية و غرائزها النفسانية و أسوسها الأصلية من الجدول الموضوع لذلك. و صفة استخراج النسب العنصرية هو أن تنفر الحرف الأول من الجدول ما طبيعته و طبيعة البيت الذي حل فيه، فإن اتفقت فحسن، و إلا فاستخرج بين الحرفين نسبة. و يتسع هذا القانون في جميع الحروف الجدولية. و تحقيق ذلك سهل على من عرف قوانينة كما هو مقرر في دوائرها الموسيقية. ثم تأخذ وتر كل حرف بعد ضربه في أسوس أوتاد الفلك الأربعة كما تقدم. و احذر ما يلي الأوتاد. و كذلك السواقط لأن نسبتها مضطربة. و هذا الذي يخرج لك هو أول مراتب السريان. ثم تأخذ مجموع العناصر و تحط منها أسوس المولدات يبقى أس عالم الخلق بعد عروضه للمدد الكونية. فتحمل عليه بعض المجردات عن المواد و هي عناصر الإمداد، يخرج أفق النفس الأوسط. و تطرح أول رتب السريان من مجموع العناصر يبقى عالم التوسط. و هذا مخصوص بعوالم الأكوان البسيطة لا المركبة. ثم تضرب عالم التوسط في أفق النفس الأوسط يخرج الأفق الأعلى. فتحمل عليه أول رتب السريان. ثم تطرح من الرابع أول عناصر الإمداد الأصلي يبقى ثالث رتبة السريان. ثم تضرب مجموع أجزاء العناصر الأربعة أبدا في رابع رتب السريان يخرج أول عالم التفصيل، و الثاني في الثاني يخرج ثاني عالم التفصيل، و كذلك الثالث و الرابع، فتجمع عوالم التفصيل و تحط من عالم الكل، تبقى العوالم المجردة، فتقسم على الأفق الأعلى يخرج الجزء الأول. و من هنا يطرد العمل في التامة. و له مقامات في كتب ابن وحشية و البوني و غيرهما. و هذا التدبير يجري على القانون الطبيعي الحكمي في هذا الفن و غيره من فنون الحكمة الإلهية، و عليه مدار وضع الزيارج الحرفية و الصنعة الإلهية و النيرجات الفلسفية. و الله الملهم و به المستعان و عليه التكلان، و حسبنا الله و نعم الوكيل.
الفصل الثلاثون: في علم الكيمياء و هو علم ينظر في المادة التي يتم بها كون الذهب و الفضة بالصناعة و يشرح العمل الذي يوصل إلى ذلك فيتصفحون المكونات كلها بعد معرفة أمزجتها و قواها لعلهم يعثرون على المادة المستعدة لذلك حتى من العضلات الحيوانية كالعظام والريش و البيض و العذرات فضلا عن المعادن. ثم يشرح الأعمال التي تخرج بها تلك المادة من القوة إلى الفعل مثل حل الأجسام إلى أجزائها الطبيعية يالتصعيد والتقطير و جمد الذائب منها بالتكليس و إمهاء الصلب بالقهر و الصلابة و أمثال ذلك. و في زعمهم أنه يخرج بهذه الصناعات كلها جسم طبيعي يسمونه الإكسير. و أنه يلقى منه على الجسم المعدني المستعد لقبول صورة الذهب أو الفضة بالاستعداد القريب من الفعل مثل الرصاص و القصدير و النحاس بعد أن يحمى بالنار فيعود ذهبا إبريزا. و يكنون عن ذلك الإكسير إذا ألغزوا في اصطلاحاتهم بالروح و عن الجسم الذي يلقى عليه بالجسد. فشرح هذه الاصطلاحات و صورة هذا العمل الصناعي الذي يقلب هذه الأجساد المستعدة إلى صورة الذهب و الفضة هو علم الكيمياء. و ما زال الناس يؤلفون فيها قديما و حديثا. و ربما يعزى الكلام فيها إلى من ليس من أهلها. و إمام المدونين فيها جابر بن حيان حتى إنهم يخصونها به فيسمونها علم جابر و له فيها سبعون رسالة كلها شبيهة بالألغاز. و زعموا أنه لا يفتح مقفلها إلا من أحاط علما بجميع ما فيها. و الطغرائي من حكماء المشرق المتأخرين له فيها دواوين و مناظرات مع أهلها و غيرهم من الحكماء. و كتب فيها مسلمة المجريطي من حكماء الأندلس كتابه الذي سماه رتبة الحكيم و جعله قرينا لكتابه الآخر في السحر و الطلسمات الذي سماه غاية الحكيم. و زعم أن هاتين الصناعتين هما نتيجتان للحكمة و ثمرتان للعلوم و من لم يقف عليهما فهو فاقد ثمرة العلم و الحكمة أجمع. و كلامه في ذلك الكتاب وكلامهم أجمع في تآليفهم هي ألغاز يتعذر فهمها على من لم يعان اصطلاحاتهم في ذلك. و نحن نذكر سبب عدولهم إلى هذه الرموز و الألغاز. و لابن المغيربي من أئمة هذا الشأن كلمات شعرية على حروف المعجم من أبدع ما يجيء في الشعر ملغوزة كلها لغز الأحاجي و المعاياة فلا تكاد تفهم. و قد ينسبون للغزالي رحمه الله بعض التآليف فيها و ليس بصحيح لأن الرجل لم تكن مداركه العالية لتقف عن خطأ ما يذهبون إليه حتى ينتحله. و ربما نسبوا بعض المذاهب و الأقوال فيها لخالد بن يزيد بن معاوية ربيب مروان بن الحكم و من المعلوم البين أن خالدا من الجيل العربي و البداوة إليه أقرب فهو بعيد عن العلوم و المهناج بالجملة فكيف له بصناعة غريبة المنحى مبنية على معرفة طبائع المركبات و أمزجتها و كتب الناظرين في ذلك من الطبيعيات و الطب لم تظهر بعد و لم تترجم أللهم إلا أن يكون خالد بن يزيد آخر من أهل المدارك الصناعية تشبه باسمه فممكن. و أنا أنقل لك هنا رسالة أبي بكر بن بشرون لأبي السمح في هذه الصناعة و كلاهما من تلاميذ مسلمة فيستدل من كلامه فيها على ما ذهب إليه في شأنها إذا أعطيته حقه من التأمل قال ابن بشرون بعد صدر من الرسالة خارج عن الغرض: و المقدمات التي لهذه الصناعة الكريمة قد ذكرها الأولون و اقتص جميعها أهل الفلسفة من معرفة تكوين المعادن و تخلق الأحجار و الجواهر و طباع البقاع و الأماكن فمنعنا اشتهارها من ذكرها و لكن أبين لك من هذه الصنعة ما يحتاج إليه فتبدأ بمعرفته فقد قالوا: ينبغي لطلاب هذا العلم أن يعلموا أولا ثلاث خصال: أولها هل تكون ؟ و الثانية من أي تكون ؟ و الثالثة من أي كيف تكون ؟ فإذا عرف هذه الثلاثة و أحكمها فقد ظفر بمطلوبه و بلغ نهايته من هذا العلم و أما البحث عن وجوبها و الاستدلال عن تكونها فقد كفيناكه بما بعثنا به إليك من الإكسير. و أما من أي شيء تكون فإنما يريدون بذلك البحث عن الحجر الذي يمكنه العمل و إن كان العمل موجودا من كل شيء بالقوة لأنها من الطبائع الأربع منها تركبت ابتداء و إليها ترجع انتهاء و لكن من الأشياء ما يكون فيه بالقوة و لا يكون بالفعل و ذلك أن منها ما يمكن تفصيلها تعالج و تدبر و هي التي تخرج من القوة إلى الفعل و التي لا يمكن تفصيلها لا تعالج و لا تدبر لأنها فيها بالقوة فقط و إنما لم يمكن تفصيلها لاستغراق بعض طبائعها في بعض و فضل قوة الكبير منها على الصغير. فينبغي لك وفقك الله أن تعرف أوفق الأحجار المنفصلة التي يمكن فيها العمل و جنسه و قوته و عمله و ما تدبر من الحل و العقد و التنقية و التكليس و التنشيف و التقليب فإن من لم يعرف هذه الأصول التي هي عماد هذه الصنعة لم ينجح و لم يظفر بخير أبدا. و ينبغي لك أن تعلم هل يمكن أن يستعان عليه بغيره أو يكتفى به وحده و هل هو واحد في الابتداء أو شاركه غيره فصار في التدبير واحدا فسمي حجرا. و ينبغي لك أن تعلم كيفية عمله و كمية أوزانه و أزمانه و كيف تركيب الروح فيه و إدخال النفس عليه ؟ و هل تقدر النار على تفصيلها منه بعد تركيبها ؟ فإن لم تقدر فلأي علة و ما السبب الموجب لذلك ؟ فان هذا هو المطلوب فافهم. و اعلم أن الفلاسفة كلها مدحت النفس و زعمت أنها المدبرة للجسد و الحاملة له و الدافعة عنه و الفاعلة فيه. و ذلك أن الجسد إذا خرجت النفس منه مات و برد فلم يقدر على الحركة و الامتناع من غيره لأنه لا حياة فيه و لا نور. و إنما ذكرت الجسد و النفس لأن هذه الصفات شبيهة بجسد الإنسان الذي تركيبه على الغذاء و العشاء و قوامه و تمامه بالنفس الحية النورانية التي بها يفعل العظائم و الأشياء المقابلة التي لا يقدر عليها غيرها بالقوة الحية التي فيها. و إنما انفعل الإنسان لاختلاف تركيب طبائعه و لو اتفقت طبائعه لسلمت من الأعراض و التضاد و لم تقدر النفس على الخروج من بدنه و لكان خالدا باقيا. فسبحان مدبر الأشياء تعالى. و اعلم أن الطبائع التي يحدث عنها هذا العمل كيفية دافعة في الابتداء فيضية محتاجة إلى الانتهاء و ليس لها إذا صارت في هذا الحد أن تستحيل إلى ما منه تركبت كما قلناه آنفا في الإنسان لأن طبائع هذا الجوهر قد لزم بعضها بعضا و صارت شيئا واحدا شبيها بالنفس في قوتها و فعلها و بالجسد في تركيبه و مجسته بعد أن كانت طبائع مفردة بأعيانها. فيا عجبا من أفاعيل الطبائع إن القوة للضعيف الذي يقوى على تفصيل الأشياء و تركيبها و تمامها فلذلك قلت قوي و ضعيف. و إنما وقع التعبير و الفناء في التركيب الأول للاختلاف و عدم ذلك في الثاني للاتفاق. و قد قال بعض الأولين التفصيل و التقطيع في هذا العمل حياة و بقاء و التركيب موت و فناء. و هذا الكلام دقيق المعنى لأن الحكيم أراد بقوله حياة و بقاء خروجه من العدم إلى الوجود لأنه ما دام على تركيبه الأول فهو فان لا محالة، فإذا ركب التركيب الثاني عدم الفناء. و التركيب الثاني لا يكون إلا بعد التفصيل و التقطيع فإذا التفصيل و التقطيع في هذا العمل خاصة. فإذا بقي الجسد المحلول انبسط فيه لعدم الصورة لأنه قد صار في الجسد بمنزلة النفس التي لا صورة لها و ذلك أنه لا وزن له فيه و سترى ذلك إن شاء الله تعالى و قد ينبغي لك أن تعلم أن اختلاط اللطيف باللطيف أهون من اختلاط الغليظ و إنما أريد بذلك التشاكل في الأرواح و الأجساد لأن الأشياء تتصل بأشكالها. و ذكرت لك ذلك لتعلم أن العمل أوفق و أيسر من الطبائع اللطائف الروحانية منها من الغليظة الجسمانية. و قد يتصور في العقل أن الأحجار أقوى و أصبر على النار من الأرواح كما ترى أن الذهب و الحديد و النحاس أصبر على النار من الكبريت و الزئبق و غيرهما من الأرواح فأقول إن الأجساد قد كانت أرواحا في بدنها فلما أصابها حر الكيان قلبها أجسادا لزجة غليظة فلم تقدر النار على أكلها لإفراط غلظها و تلزجها. فإذا أفرطت النار عليها صيرتها أرواحا كما كانت أول خلقها. و إن تلك الأرواح اللطيفة إذا أصابتها النار أبقت و لم تقدر على البقاء عليها فينبغي لك أن تعلم ما صير الأجساد في هذه الحالة و صير الأرواح في هذا الحال فهو أجل ما تعرفه. أقول إنما أبقت تلك الأرواح لاشتعالها و لطافتها. و إنما اشتعلت لكثرة رطوبتها و لأن النار إذا أحست بالرطوبة تعلقت بها لأنها هوائية تشاكل النار و لا تزال تغتذي بها إلى أن تفنى. و كذلك الأجساد إذا أحست بوصول النار إليها لقلة تلزجها و غلظها و إنما صارت تلك الأجساد لا تشتعل لأنها مركبة من أرض و ماء صابر على النار فلطيفه متحد بكثيفه لطول الطبخ اللين المازج للأشياء. و ذلك أن كل متلاش إنما يتلاشى بالنار لمفارقة لطيفه من كثيفه و دخول بعضه في بعض على غير التحليل و الموافقة فصار ذلك الانضمام و التداخل مجاورة لا ممازجة فسهل بذلك افتراقهما كالماء و الدهن و ما أشبههما. و إنما وصفت ذلك لتستدل به على تركيب الطبائع و تقابلها فإذا علمت ذلك علما شافيا فقد أخذت حظك منها. و ينبغي لك أن تعلم أن الأخلاط التي هي طبائع هذه الصناعة موافقة بعضها لبعض مفصلة من جوهر واحد يجمعها نظام واحد بتدبير واحد لا يدخل عليه غريب في الجزء منه و لا في الكل كما قال الفيلسوف: إنك إذا أحكمت تدبير الطبائع و تآليفها و لم تدخل عليها غريبا فقد أحكمت ما أردت إحكامه و قوامه إذ الطبيعة واحدة لا غريب فيها فمن أدخل عليها غريبا فقد زاغ عنها و وقع في الخطأ. و اعلم أن هذه الطبيعة إذا حل لها جسد من قرائنها على ما ينبغي في الحل حتى يشاكلها في الرقة و اللطافة انبسطت فيه و جرت معه حيثما جرى لأن الأجساد ما دامت غليظة جافية لا تنبسط و لا تتزاوج و حل الأجساد لا يكون بغير الأرواح فافهم هداك الله هذا القول. و اعلم هداك الله أن هذا الحل في جسد الحيوان هو الحق الذي لا يضمحل و لا ينقص و هو الذي يقلب الطبائع و يمسكها و يظهر لها ألوانا و أزهارا عجيبة. و ليس كل جسد يحل خلاف هذا هو الحل التام لأنة مخالف للحياة، فإنما حله بما يوافقه و يدفع عنه حرق النار، حتى يزول عن الغلظ و تنقلب الطبائع عن حالاتها إلى ما لها أن تنقلب من اللطافة و الغلظ. فإذا بلغت الأجساد نهايتها من التحليل و التلطيف ظهرت لها هنالك قوة تمسك و تغوص و تقلب و تنفذ و كل عمل لا يرى له مصداق في أوله فلا خير فيه. و اعلم أن البارد من الطبائع هو ييبس الأشياء و يعقد رطوبتها و الحار منها يظهر رطوبتها و يعقد يبسها و إنما أفردت الحر و البرد لأنهما فاعلان و الرطوبة و اليبس منفعلان و على انفعال كل واحد منهما لصاحبه تحدث الأجسام و تتكون و إن كان الحر أكثر فعلا في ذلك من البرد لأن البرد ليس له نقل الأشياء و لا تحركها و الحر هو علة الحركة. و متى ضعفت علة الكون و هو الحرارة لم يتم منها شيء أبدا كما إنه إذا أفرطت الحرارة على شيء و لم يكن ثم برد أحرقته و أهلكته. فمن أجل هذه العلة احتيج إلى البارد في هذه الأعمال ليقوى به كل ضد على ضده و يدفع عنه حر النار. و لم يحذر الفلاسفة أكبر شيء إلا من النيران المحرقة. و أمرت بتطهير الطبائع و الأنفاس و إخراج دنسها و رطوبتها و نفور آفاتها و أوساخها عنها على ذلك استقام رأيهم و تدبيرهم فإنما عملهم إنما هو مع النار أولا و إليها يصير أخيرا فلذلك قالوا: إياكم و النيران المحرقات. و إنما أرادوا بذلك نفي الآفات التي معها فتجمع على الجسد آفتين فتكون أسرع لهلاكه. و كذلك كل شيء إنما يتلاشى و يفسد من ذاته لتضاد طبائعه و اختلافه فيتوسط بين شيئين فلم يجد ما يقويه و يعينه إلا قهرته الآفة و أهلكته. و اعلم أن الحكماء كلها ذكرت ترداد الأرواح على الأجساد مرارا ليكون ألزم إليها و أقوى على قتال النار إذا هي باشرتها عند الإلفة أعني بذلك النار العنصرية فاعلمه. و لنقل الآن على الحجر الذي يمكن منه العمل على ما ذكرته الفلاسفة فقد اختلفوا فيه فمنهم من زعم أنه في الحيوان و منهم من زعم أنه في النبات و منهم من زعم أنه في المعادن و منهم من زعم أنه في الجميع. و هذه الدعاوى ليست بنا حاجة إلى استقصائها و مناظرة أهلها عليها لأن الكلام يطول جدا و قد قلت فيما تقدم إن العمل يكون في كل شيء بالقوة لأن الطبائع موجودة في كل شيء فهو كذلك فنريد أن تعلم من أي شيء يكون العمل بالقوة و الفعل فنقصد إلى ما قاله الحراني إن الصبغ كله أحد صبغين: إما صبغ جسد كالزعفران في الثوب الأبيض حتى يحول فيه و هو مضمحل منتقض التركيب، و الصبغ الثاني تقليب الجوهر من جوهر نفسه إلى جوهر غيره و لونه كتقليب الشجر بل التراب إلى نفسه و قلب الحيوان و النبات إلى نفسه حتى يصير التراب نباتا و النبات حيوانا و لا يكون إلا بالروح الحي و الكيان الفاعل الذي له توليد الأجرام و قلب الأعيان. فإذا كان هذا هكذا فنقول إن العمل لابد أن يكون إما في الحيوان و إما في النبات و برهان ذلك أنهما مطبوعان على الغذاء و به قوامهما و تمامهما. فأما النبات فليس فيه ما في الحيوان من اللطافة و القوة و لذلك قل خوض الحكماء فيه. و أما الحيوان فهو آخر الاستحالات الثلاث و نهايتها و ذلك أن المعدن يستحيل نباتا و النبات يستحيل حيوانا و الحيوان لا يستحيل إلى شيء هو الطف منه إلا أن ينعكس راجعا إلى الغلظ و أنه أيضا لا يوجد في العالم شيء تتعلق فيه الروح الحية غيره و الروح ألطف ما في العالم و لم تتعلق الروح بالحيوان إلا بمشاكلته إياها. فأما الروح التي في النبات فإنها يسيرة فيها غلظ و كثافة و هي مع ذلك مستغرقة كامنة فيه لغلظها و غلظ جسد النبات فلم يقدر على الحركة لغلظه و غلظ روحه. و الروح المتحركة ألطف من الروح الكامنة كثيرا و ذلك أن المتحركة لها قبول الغذاء و التنقل و التنفس و ليس للكامنة غير قبول الغذاء وحده. و لا تجري إذا قيست بالروح الحية إلا كالأرض عند الماء. كذلك النبات عند الحيوان فالعمل في الحيوان أعلى و أرفع و أهون و أيسر. فينبغي للعاقل إذا عرف ذلك أن يجرب ما كان سهلا و يترك ما يخشى فيه عسرا. و اعلم أن الحيوان عند الحكماء ينقسم أقساما من الأمهات التي هي الطبائع و الحديثة التي هي المواليد و هذا معروف متيسر الفهم فلذلك قسمت الحكماء العناصر و المواليد أقساما حية و أقساما ميتة فجعلوا كل متحرك فاعلا حيا و كل ساكن مفعولا ميتا. و قسموا ذلك في جميع الأشياء و في الأجساد الذائبة و في العقاقير المعدنية فسموا كل شيء يذوب في النار و يطير و يشتعل حيا و ما كان على خلاف ذلك سموه ميتا فأما الحيوان و النبات فسموا كل ما انفصل منها طبائع أربعا حيا و ما لم ينفصل سموه ميتا ثم إنهم طلبوا جميع الأقسام الحية. فلم يجدوا لوفق هذه الصناعة مما ينفصل فصولا أربعة ظاهرة للعيان و لم يجدوا غير الحجر الذي في الحيوان فبحثوا عن جنسه حتى عرفوه و أخذوه و دبروه فتكيف لهم منه الذي أرادوا. و قد يتكيف مثل هذا في المعادن و النبات. بعد جمع العقاقير و خلطها ثم تفصل بعد ذلك. فأما النبات فمنه ما ينفصل ببعض هذه الفصول مقل الأشنان و أما المعادن ففيها أجساد و أرواح و أنفاس إذا مزجت و دبرت كان منها ما له تأثير. و قد دبرنا كل ذلك فكان الحيوان منها أعلى و أرفع و تدبيره أسهل و أيسر. فينبغي لك أن تعلم ما هو الحجر الموجود في الحيوان و طريق وجوده. إنا بينا أن الحيوان أرفع المواليد و كذا ما تركب منه فهو ألطف منه كالنبات من الأرض. و إنما كان النبات ألطف من الأرض لأنه إنما يكون من جوهره الصافي و جسده اللطيف فوجب له بذلك اللطافة و الرقة. و كذا هذا الحجر الحيواني بمنزلة النبات في التراب. و بالجملة فإنه ليس في الحيوان شيء ينفصل طبائع أربعا غيره فافهم هذا القول فإنة لا يكاد يخفى إلا على جاهل بين الجهالة و من لا عقل له. فقد أخبرتك ماهية هذا الحجر و أعلمتك جنسه و أنا أبين لك وجوه تدابيره حتى يكمل الذي شرطناه على أنفسنا من الإنصاف إن شاء الله سبحانه. التدبير على بركة الله خذ الحجر الكريم فأودعه القرعة و الإنبيق و فصل طبائعه الأربع التي هي النار و الهواء و الأرض و الماء و هي الجسد و الصبغ فإذا عزلت الماء عن التراب و الهواء عن النار فارفع كل واحد في إنائه على حدة و خذ الهابط أسفل الإناء و هو الثفل فاغسله بالنار الحارة حتى تذهب النار عنه سواده و يزول غلظه و جفاؤه و بيضه تبييضا محكما و طير عنه فضول الرطوبات المستجنة فيه فإنه يصير عند ذلك ماء أبيض لا ظلمة فيه و لا وسخ و لا تضاد. ثم اعمد إلى تلك الطبائع الأول الصاعدة منه فطهرها أيضا من السواد و التضاد و كرر عليها الغسل و التصعيد حتى تلطف و ترق و تصفو. فإذا فعلت ذلك فقد فتح الله عليك فابدأ بالتركيب الذي عليه مدار العمل. و ذلك أن التركيب لا يكون إلا بالتزويج و التعفين فأما التزويج فهو اختلاط اللطيف بالغليظ و أما التعفين فهو التمشية و السحق حتى يختلط بعضه ببعض و يصير شيئا واحدا لا اختلاف فيه و لا نقصان بمنزلة الامتزاج بالماء. فعند ذلك يقوى الغليظ على إمساك اللطيف و تقوى الروح على مقابلة النار و تصبر عليها و تقوى النفس على الغوص في الأجساد والدبيب فيها. و إنما وجد ذلك بعد التركيب لأن الجسد المحلول لما ازدوج بالروح مازجه بجميع أجزائه و دخل بعضها في بعض لتشاكلها فصار شيئا واحدا و وجب من ذلك أن يعرض للروح من الصلاح و الفساد و البقاء و الثبوت و ما يعرض للجسد لموضع الإمتزاج. و كذلك النفس إذا امتزجت بهما و دخلت فيهما بخدمة التدبير اختلطت أجزاؤها بجميع أجزاء الآخرين أعني الروح و الجسد و صارت هي و هما شيئا واحدا لا اختلاف فيه بمنزلة الجزء الكلي الذي سلمت طبائعه و اتفقت أجزاؤه فإذا ألقى هذا المركب الجسد المحلول و ألح عليه النار و أظهر ما فيه من الرطوبة على وجهه ذاب في الجسد المحلول. و من شأن الرطوبة الاشتمال و تعلق النار بها فإذا أرادت النار التعلق بها منعها من الاتحاد بالنفس ممازجة الماء لها. فإن النار لا تتحد بالدهن حتى يكون خالصا. و كذلك الماء من شأنه النفور من النار. فإذا ألحت عليه النار و أرادت تطييره حبسه الجسد اليابس الممازج له في جوفه فمنعه من الطيران فكان الجسد علة لإمساك الماء و الماء علة لبقاه الدهن و الدهن علة لثبات الصبغ و الصبغ علة لظهور الدهن و اظهار الدهنية في الأشياء المظلمة التي لا نور لها و لا حياة فيها. فهذا هو الجسد المستقيم و هكذا يكون العمل. و هذه التصفية التي سألت عنها و هي التي سمتها الحكماء بيضة و إياها يعنون لا بيضة الدجاج و اعلم أن الحكماء لم تسميها بهذا الاسم لغير معنى بل أشبهتها. و لقد سألت مسلمة عن ذلك يوما و ليس عنده غيري فقلت له: أيها الحكيم الفاضل أخبرني لأي شيء سمت الحكماء مركب الحيوان بيضة ؟ اختيارا منهم لذلك أم لمعنى دعاهم إليه ؟ فقال: بل لمعنى غامض فقلت أيها الحكيم و ما ظهر لهم من ذلك من المنفعة و الاستدلال على الصناعة حتى شبهوها و سموها بيضة ؟ فقال: لشبهها و قرابتها من المركب ففكر فيه فإنه سيظهر لك معناه. فبقيت بين يديه مفكرا لا أقدر على الوصول إلى معناه. فلما رأى ما بي من الفكر و أن نفسي قد مضت فيها أخذ بعضدي و هزني هزة خفيفة و قال لي: يا أبا بكر ذلك للنسبة التي بينهما في كمية الألوان عند امتزاج الطبائع و تأليفها. فلما قال ذلك انجلت عني الظلمة و أضاء لى نور قلبي و قوي عقلي على فهمه فنهضت شاكرا الله عليه إلى منزلي و أقمت على ذلك شكلا هندسيا يبرهن به على صحة ما قاله مسلمة. و أنا واضعه لك في هذا الكتاب. مثال ذلك أن المركب إذا تم و كمل كان نسبة ما فيه من طبيعة الهواء إلى ما في البيضة من طبيعة الهواء كنسبة ما في المركب من طبيعة النار إلى ما في البيضة من طبيعة النار. و كذلك الطبيعتان الأخريان، الأرض و الماء فأقول: إن كل شيئين متناسبين على هذه الصفة هما متشابهان. و مثال ذلك أن تجعل لسطح البيضة هزرح فإذا أردنا ذلك فإنا نأخذ أقل طبائع المركب و هي طبيعة اليبوسة و نضيف إليها مثلها من طبيعة الرطوبة و ندبرهما حتى تنشف طبيعة اليبوسة طبيعة الرطوبة و تقبل قوتها. و كأن في هذا الكلام رمزا و لكنه لا يخفى عليك. ثم تحمل عليهما جميعا مثليهما من الروح و هو الماء فيكون الجميع ستة أمثال. ثم تحمل على الجميع بعد التدبير مثلا من طبيعة الهواء التي هي النفس و ذلك ثلاثة أجزاء فيكون الجميع تسعة أمثال اليبوسة بالقوة. و تحمل تحت كل ضلعين من المركب الذي طبيعته محيطة بسطح المركب طبيعتين فتجعل أولا الضلعين المحيطين بسطحه طبيعة الماء و طبيعة الهواء و هما ضلعا ا ح د و سطح ابجد و كذلك الضلعان المحيطان بسطح البيضة اللذان هما الماء و الهواء ضلعا هزوح فأقول أن سطح ابجد يشبه سطح هزوح طبيعة الهواء التي تسمى نفسا و كذلك بجـ من سطح المركب. و الحكماء لم تسم شيئا باسم شيء إلا لشبهه به. و الكلمات التي سألت عن شرحها الأرض المقدسة و هي المنعقدة من الطبائع العلوية و السفلية. و النحاس هو الذي أخرج سواده و قطع حتى صار هباء ثم حمر بالزاج حتى صار نحاسيا و المغنيسيا حجرهم الذي تجمد فيه الأرواح و تخرجه الطبيعة العلوية التي تستجن فيها الأرواح لتقابل عليها النار و الفرفرة لون أحمر قان يحدثه الكيان. و الرصاص حجر له ثلاث قوى مختلفة الشخوص و لكنها متشاكلة و متجانسة. فالواحدة روحانية نيرة صافية و هي الفاعلة و الثانية نفسانية و هي متحركة حساسة غير أنها أغلظ من الأولى و مزكزها دون مركز الأولى و الثالثة قوة أرضية حاسة قابضة منعكسة إلى مركز الأرض لثقلها و هي الماسكة الروحانية والنفسانية جميعا و المحيطة بهما. و أما سائر الباقية فمبتدعة و مخترعة. إلباسا على الجاهل، و من عرف المقدمات استغنى عن غيرها. فهذا جميع ما سألتني عنه و قد بعثت به إليك مفسرا و نرجو بتوفيق الله أن تبلغ أملك و السلام. انتهى كلام ابن بشرون و هو من كبار تلاميذ مسلمة المجريطي شيخ الأندلس في علوم الكيمياء و السيمياء و السحر في القرن الثالث و ما بعده. و أنت ترى كيف صرف ألفاظهم كلها في الصناعة إلى الزمز و الألغاز التي لا تكاد تبين و لا تعرف و ذلك دليل على أنها ليست بصناعة طبيعية. و الذي يجب أن يعتقد في أمر الكيمياء و هو الحق الذي يعضده الواقع أنها من جنس آثار النفوس الروحانية و تصرفها في عالم الطبيعة، إما من نوع الكرامة إن كانت النفوس خيرة أو من نوع السحر إن كانت النفوس شريرة فاجرة. فأما الكرامة فظاهرة و أما السحر فلأن الساحر كما ثبت في مكان تحقيقه يقلب الأعيان المادية بقوته السحرية. و لابد له مع ذلك عندهم من مادة يقع فعله السحري فيها كتخليق بعض الحيوانات من مادة التراب أو الشجر و النبات و بالجملة من غير مادتها المخصوصة بها، كما وقع لسحرة فرعون في الحبال و العصي و كما ينقل عن سحرة السودان و الهنود في قاصية الجنوب و الترك في قاصية الشمال أنهم يسحرون الجو للأمطار و غير ذلك. و لما كانت هذه تخليقا للذهب في غير مادته الخاصة به كان من قبيل السحر و المتكلمون فيه من أعلام الحكماء مثل جابر و مسلمة. و من كان قبلهم من حكماء الأمم إنما نحوا هذا المنحى و لهذا كان كلامهم فيه ألغازا حذرا عليها من إنكار الشرائع على السحر و أنواعه لا أن ذلك يرجع إلى الضنانة بها كما هو رأي من لم يذهب إلى التحقيق في ذلك. و انظر كيف سمى مسلمة كتابه فيها رتبة الحكيم و سمى كتابه في السحر و الطلسمات غاية الحكيم إشارة إلى عموم موضوع الغاية و خصوص موضوع هذه لأن الغاية أعلى من الرتبة فكان مسائل الرتبة بعض من مسائل الغاية و تشاركها في الموضوعات. و من كلامه في الفنين يتبين ما قلناه و نحن نبين فيما بعد غلط من يزعم أن مدارك هذا الأمر بالصناعة الطبيعية. و الله العليم الخبير.
الفصل الحادي و الثلاثون: في إبطال الفلسفة و فساد منتحلها هذا الفصل و ما بعده مهم لأن هذه العلوم عارضة في العمران كثيرة في المدن. و ضررها في الدين كثير فوجب أن يصدع بشأنها و يكشف عن المعتقد الحق فيها. و ذلك أن قوما من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله الحسي منه و ما وراء الحسي تدرك أدواته و أحواله بأسبابها و عللها بالأنظار الفكرية و الأقيسة العقلية و أن تصحيح العقائد الإيمانية من قبل النظر لا من جهة السمع فإنها بعض من مدارك العقل. و هؤلاء يسمون فلاسفة جمع فيلسوف و هو باللسان اليوناني محب الحكمة. فبحثوا عن ذلك و شمروا له و حوموا على إصابة الغرض منه و وضعوا قانونا يهتدي به العقل في نظره إلى التمييز بين الحق و الباطل و سموه بالمنطق. و محصل ذلك أن النظر الذي يفيد تمييز الحق من الباطل إنما هو للذهن في المعاني المنتزعة من الموجودات الشخصية فيجرد منها أولا صور منطبقة على جميع الأشخاص كما ينطبق الطابع على جميع النقوش التي ترسمها في طين أو شمع. و هذه مجردة من المحسوسات تسمى المعقولات الأوائل. ثم تجرد من تلك المعاني الكلية إذا كانت مشتركة مع معان أخرى و قد تميزت عنها في الذهن فتجرد منها معان أخرى و هي التي اشتركت بها. ثم تجرد ثانيا إن شاركها غيرها و ثالثا إلى أن ينتهي التجريد إلى المعاني البسيطة الكلية المنطبقة على جميع المعاني و الأشخاص و لا يكون منها تجريد بعد هذا و هي الأجناس العالية. و هذه المجردات كلها من غير المحسوسات هي من حيث تأليف بعضها مع بعض. لتحصيل العلوم منها تسمى المعقولات الثواني. فإذا نظر الفكر في هذه المعقولات المجردة و طلب تصور الوجود. كما هو فلابد للذهن من إضافة بعضها إلى بعض و نفي بعضها عن بعض بالبرهان العقلي اليقيني ليحصل تصور الوجود تصورا صحيحا مطابقا إذا كان ذلك بقانون صحيح كما مر. و صنف التصديق الذي هو تلك الإضافة و الحكم متقدم عندهم على صنف التصور في النهاية و التصور متقدم عليه في البداءة و التعليم لأن التصور التام عندهم هو غاية الطلب الإدراكي و إنما التصديق وسيلة له و ما تسمعه في كتب المنطقيين من تقدم التصور و توقف التصديق عليه فبمعنى الشعور لا بمعنى العلم التام و هذا هو مذهب كبيرهم أرسطو ثم يزعمون أن السعادة في إدراك الموجودات كلها ما في الحس و ما وراء الحس بهذا النظر و تلك البراهين. و حاصل مداركهم في الوجود على الجملة و ما آلت إليه و هو الذي فرعوا عليه قضايا أنظارهم أنهم عثروا أولا على الجسم السفلي بحكم الشهود و الحس ثم ترقى إدراكهم قليلا فشعروا بوجود النفس من قبل الحركة و الحس في الحيوانات ثم احسوا من قوى النفس بسلطان العقل. و وقف إدراكهم فقضوا على الجسم العالي السماوي بنحو من القضاء على أمر الذات الإنسانية. و وجب عندهم أن يكون للفلك نفس و عقل كما للإنسان ثم أنهوا ذلك نهاية عدد الآحاد و هي العشر، تسع مفصلة ذواتها جمل و واحد أول مفرد و هو العاشر. و يزعمون أن السعادة في إدراك الوجود على هذا النحو من القضاء مع تهذيب النفس و تخلقها بالفضائل و أن ذلك ممكن للإنسان و لو لم يرد شرع لتمييزه بين الفضيلة و الرذيلة من الأفعال بمقتضى عقله و نظره و ميله إلى المحمود منها و اجتنابه للمذموم بفطرته و أن ذلك اذا حصل للنفس حصلت لها البهجة و اللذة و أن الجهل بذلك هو الشقاء السرمدي و هذا عندهم هو معنى النعيم و العذاب في الآخرة إلى خبط لهم في تفاصيل ذلك معروف في كلماتهم. و إمام هذه المذاهب الذي حصل مسائلها و دون علمها و سطر حججها فيما بلغنا في هذه الأحقاب هو أرسطو المقدوني من أهل مقدونية من بلاد الروم من تلاميذ أفلاطون و هو معلم الإسكندر و يسمونه المعلم الأول على الإطلاق يعنون معلم صناعة المنطق إذ لم تكن قبله مهذبة و هو أول من رتب قانونها و استوفى مسائلها و أحسن بسطها و لقد أحسن في ذلك القانون ما شاء لو تكفل له بقصدهم في الإلهيات ثم كان من بعده في الإسلام من أخذ بتلك المذاهب و أتبع فيها رأيه حذو النعل بالنعل إلا في القليل. و ذلك أن كتب أولئك المتقدمين لما ترجمها الخلفاء من بني العباس من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي تصفحها كثير من أهل الملة و أخذ من مذاهبهم من أضله الله من منتحلي العلوم و جادلوا عنها و اختلفوا في مسائل من تفاريعها و كان من أشهرهم أبو نصر الفارابي في المائة الرابعة لعهد سيف الدولة و أبو علي بن سينا في المائة الخامسة لعهد نظام الملك من بني بويه بأصبهان و غيرهما. و اعلم أن هذا الرأي الذي ذهبوا إليه باطل بجميع وجوهه. فأما إسنادهم الموجودات كلها إلى العقل الأول و اكتفاؤهم به في الترقي إلى الواجب فهو قصور عما وراء ذلك من رتب خلق الله فالوجود أوسع نطاقا من ذلك و يخلق ما لا تعلمون و كأنهم في اقتصارهم على إثبات العقل فقط و الغفلة عما وراءه بمثابة الطبيعيين المقتصرين على إثبات الأجسام خاصة المعرضين عن النقل و العقل المعتقدين أنه ليس وراء الجسم في حكمة الله شيء. و أما البراهين التي يزعمونها على مدعياتهم في الموجودات و يعرضونها على معيار المنطق و قانونه في قاصرة و غير وافية بالغرض. أما ما كان منها في الموجودات الجسمانية و يسمونه العلم الطبيعي فوجه قصوره أن المطابقة بين تلك النتائج الذهنية التي تستخرج بالحدود و الأقيسة كما في زعمهم و بين ما في الخارج غير يقيني لأن تلك أحكام ذهنية كلية عامة و الموجودات الخارجية متشخصة بموادها. و لعل في المواد ما يمنع مطابقة الذهني الكلي للخارجي الشخصي اللهم إلا مالا يشهد له الحس من ذلك فدليله شهوده لا تلك البراهين فأين اليقين الذي يجدونه فيها ؟ و ربما يكون تصرف الذهن أيضا في المعقولات الأول المطابقة للشخصيات بالصور الخيالية لا في المعقولات الثواني التي تجريدها في الرتبة الثانية فيكون الحكم حينئذ يقينيا بمثابة المحسوسات إذ المعقولات الأول أقرب إلى مطابقة الخارج لكمال الانطباق فيها فنسلم لهم حينئذ دعاويهم في ذلك. إلا أنه ينبغي لنا الإعراض عن النظر فيها إذ هو من ترك المسلم لما لا يعنيه فإن مسائل الطبيعيات لا تهمنا في ديننا و لا معاشنا فوجب علينا تركها. و أما ما كان منها في الموجودات التي وراء الحس و هي الروحانيات و يسمونه العلم الإلهي و علم ما بعد الطبيعة فإن ذواتها مجهولة رأسا و لا يمكن التوصل إليها و لا البرهان عليها لأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية الشخصية إنما هو ممكن فيما هو مدرك لنا. و نحن لا ندرك الذوات الروحانية حتى نجرد منها ماهيات أخرى بحجاب الحس بيننا و بينها فلا يأتي لنا برهان عليها و لا مدرك لنا في إثبات وجودها على الجملة إلا ما نجده بين جنبينا من أمر النفس الإنسانية و أحوال مداركها و خصوصا في الرؤيا التي هي وجدانية لكل أحد و ما وراء ذلك من حقيقتها و صفاتها فأمر غامض لا سبيل إلى الوقوف عليه. و قد صرح بذلك محققوهم حيث ذهبوا إلى أن مالا مادة له لا يمكن البرهان عليه لأن مقدمات البرهان من شرطها أن تكون ذاتية. و قال كبيرهم أفلاطون: إن الإلهيات لا يوصل فيها إلى أينين و إنما يقال فيها بالأخلق و الأولى يعني الظن: و إذا كنا إنما نحصل بعد التعب و النصب على الظن فقط قيكفينا الظن الذي كان أولا فأي فائدة لهذه العلوم و الاشتغال بها و نحن إنما عنايتنا بتحصيل اليقين فيما وراء الحس من الموجودات و هذه هي غاية الأفكار الإنسانية عندهم. و أما قولهم إن السعادة في إدراك الموجودات على ما هي عليه يتلك البراهين فقول مزيف مردود و تفسيره أن الإنسان مركب من جزءين أحدهما جسماني و الآخر روحاني ممترج به و لكل واحد من الجزءين مدارك مختصة به و المدرك فيهما واحد و هو الجزء الروحاني يدرك تارة مدارك روحانية و تارة مدارك جسمانية إلا أن المدارك الروحانية يدركها بذاته بغير واسطة و المدارك الجسمانية بواسطة آلات الجسم من الدماغ والحواس. و كل مدرك فله ابتهاج بما يدركه. و اعتبره بحال الصبى في أول مداركه الجسمانية التي هي بواسطة كيف يبتهج بما يبصره من الضوء و بما يسمعه من الأصوات فلا شك أن الابتهاج بالإدراك الذي للنفس من ذاتها بغير واسطة يكون أشد و ألذ. فالنفس الروحانية إذا شعرت بإدراكها الذي لها من ذاتها بغير واسطة حصل لها ابتهاج و لذة لا يعبر عنهما و هذا الإدراك لا يحصل بنظر و لا علم و إنما يحصل بكشف حجاب الحس و نسيان المدارك الجسمانية بالجملة. و المتصوفة كثيرا ما يعنون بحصول هذا الإدراك للنفس بحصول هذه البهجة فيحاولون بالرياضة إماتة القوى الجسمانية و مداركها حتى الفكر من الدماغ و ليحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها عند زوال الشواغب و الموانع الجسمانية يحصل لهم بهجة و لذة لا يعبر عنهما. و هذا الذي زعموه بتقدير صحته مسلم لهم و هو مع ذلك غير واف بمقصودهم. فأما قولهم إن البراهين و الأدلة العقلية محصلة لهذا النوع من الإدراك و الابتهاج عنه فباطل كما رأيته إذ البراهين و الأدلة من جملة المدارك الجسمانية لأنها بالقوى الدماغية من الخيال و الفكر و الذكر. و نحن نقول إن أول شيء نعنى به في تحصيل هذا الإدراك إماتة هذه القوى الدماغية كلها لأنها منازعة له قادحة فيه و تجد الماهر منهم عاكفا على كتاب الشفاء و الإشارات و النجاء و تلاخيص ابن رشد للقص من تأليف أرسطو و غيره يبعثر أوراقها و يتوثق من براهينها و يلتمس هذا القسط من السعادة فيها و لا يعلم أنه يستكثر بذلك من الموانع عنها. و مستندهم في ذلك ما ينقلونه عن أرسطو و الفارابي و ابن سينا أن من حصل له إدراك العقل الفعال و اتصل به في حياته فقد حصل حظة من هذه السعادة. و العقل الفعال عندهم عبارة عن أول رتبة ينكشف عنها الحس من رتب الروحانيات و يحملون الاتصال بالعقل الفعال على الإدراك العلمي و قد رأيت فساده و إنما يعني أرسطو و أصحابه بذلك الاتصال و الإدراك إدراك النفس الذي لها من ذاتها و بغير واسطة و هو لا يحصل إلا بكشف حجاب الحس. و أما قولهم إن البهجة الناشئة عن هذا الإدراك هي عين السعادة الموعود بها فباطل أيضا لأنا إنما تبين لنا بما قرروه أن وراء الحس مدركا آخر للنفس من غير واسطة و أنها تبتهج بإدراكها ذلك ابتهاجا شديدا و ذلك لا يعين لنا أنه عين السعادة الأخروية و لابد بل هي من جملة الملاذ التي لتلك السعادة. و أما قولهم إن السعادة في إدراك هذه الموجودات على ما هي عليه فقول باطل مبني على ما كنا قدمناه في أصل التوحيد من الأوهام و الأغلاط في أن الوجود عند كل مدرك منحصر في مداركه. و بينا فساد ذلك و إن الوجود أوسع من أن يحاط به أو يستوفى إدراكه بجملته روحانيا أو جسمانيا. و الذي يحصل من جميع ما قررناه من مذاهبهم أن الجزء الروحاني إذا فارق القوى الجسمانية أدرك إدراكا ذاتيا له مختصا بصنف من المدارك و هي الموجودات التي أحاط بها علمنا و ليس بعام الإدراك في الموجودات كلها إذ لم تنحصر و أنه يبتهج بذلك النحو من الإدراك ابتهاجا شديدا كما يبتهج الصبي بمداركه الحسية في أول نشوءه و من لنا بعد ذلك بإدراك جميع الموجودات أو بحصول السعادة التي وعدنا بها الشارع إن لم نعمل لها، هيهات هيهات لما توعدون. و أما قولهم إن الإنسان مستقل بتهذيب نفسه و إصلاحها بملابسة المحمود من الخلق و مجانبة المذموم فأمر مبني على أن ابتهاج للنفس بإدراكها الذي لها من ذاتها هو عين السعادة الموعود بها لأن الرذائل عائقة للنفس عن تمام إدراكها ذلك بما يحصل لها من الملكات الجسمانية و ألوانها. و قد بينا أن أثر السعادة و الشقاوة و من وراء الإدراكات الجسمانية و الروحانية فهذا التهذيب الذي توصلوا إلى معرفته إنما نفعه في البهجة الناشئة عن الإدراك الروحاني فقط الذي هو على مقاييس و قوانين. و أما ما وراء ذلك من السعادة التي وعدنا بها الشارع على امتثال ما أمر به من الأعمال و الأخلاق فأمر لا يحيط به مدارك المدركين. و قد تنبه لذلك زعيمهم أبو علي ابن سينا فقال في كتاب المبدأ و المعاد ما معناه: إن المعاد الروحاني و أحواله هو مما يتوصل إليه بالبراهين العقلية و المقاييس لأنه على نسبة طبيعية محفوظة و وتيرة واحدة فلنا في البراهين عليه سعة. و أما المعاد الجسماني و أحواله فلا يمكن إدراكه بالبرهان لأنه ليس على نسبة واحدة و قد بسطته لنا الشريعة الحقة المحمدية فلنظر فيها و ليرجع في أحواله إليها. فهذا العلم كما رأيته غير واف بمقاصدهم التي حوموا عليها مع ما فيه من مخالفة الشرائع و ظواهرها. و ليس له فيما علمنا إلا ثمرة واحدة و هي شحذ الذهن في ترتيب الأدلة و الحجج لتحصيل ملكة الجودة و الصواب في البراهين. و ذلك أن نظم المقاييس و تركيبها على وجه الأحكام و الإتقان هو كما شرطوه في صناعتهم المنطيقية و قولهم بذلك في علومهم الطبيعية و هم كثيرا ما يستعملونها في علومهم الحكمية من الطبيعيات و التعاليم و ما بعدها فيستولي الناظر فيها بكثرة استعمال البراهين بشروطها على ملكة الإتقان و الصواب في الحجج و الاستدلالات لأنها و إن كانت غير وافية بمقصودهم فهي أصح ما علمناه من قوانين الأنظار. هذه ثمرة هذه الصناعة مع الاطلاع على مذاهب أهل العلم و آرائهم و مضارها ما علمت. فليكن الناظر فيها متحرزا جهده معاطبها و ليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات و الاطلاع على التفسير و الفقه و لا يكبن أحد عليها و هو خلو من علوم الملة فقل أن يسلم لذلك من معاطبها. و الله الموفق للصواب و للحق و الهادي إليه. و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
الفصل الثاني و الثلاثون: في ابطال صناعة النجوم و ضعف مداركها و فساد غايتها هذه الصناعة يزعم أصحابها أنهم يعرفون بها الكائنات في عالم العناصر قبل حدوثها من قبل معرفة قوى الكواكب و تأثيرها في المولدات العنصرية مفردة و مجتمعة فتكون لذلك أوضاع الأفلاك و الكواكب دالة على ما سيحدث من نوع من أنواع الكائنات الكلية و الشخصية. فالمتقدمون منهم يرون أن معرفة قوى الكواكب و تأثيراتها بالتجربة و هو أمر تقصر الأعمار كلما لو اجتمعت عن تحصيله إذ التجربة إنما تحصل في المرات المتعددة بالتكرار ليحصل عنها العلم أو الظن. و أدوار الكواكب منها ما هو طويل الزمن فيحتاج تكرره إلى آماد و أحقاب متطارلة يتقاصر عنها ما هو طويل من أعمار العالم. و ربما ذهب ضعفاء منهم إلى أن معرفة قوى الكواكب و تأثيراتها كانت بالوحي و هو رأي فائل و قد كفونا مؤنة إبطاله. و من أوضح الأدلة فيه أن تعلم أن الأنبياء عليهم الصلاة و السلام أبعد الناس عن الصنائع و أنهم لا يتعرضون للإخبار عن الغيب إلا أن يكون عن الله فكيف يدعون استنباطه بالصناعة و يشيرون بذلك لتابعيهم من الخلق. و أما بطليمس و من تبعه من المتأخرين فيرون أن دلالة الكواكب على ذلك دلالة طبيعية من قبل مزاج يحصل للكواكب في الكائنات العنصرية قال لأن فعل النيرين و أثرهما في العنصريات ظاهر لا يسع أحدا حجده مثل فعل الشمس في تبدل الفصول و أمزجتها و نضج الثمار و الزرع و غير ذلك و فعل القمر في الرطوبات و الماء و إنضاج المواد المتعفنة و فواكه القناء و سائر أفعاله. ثم قال: و لنا فيما بعدها من الكواكب طريقان الأولى التقليد لمن نقل ذلك عنه من أئمة الصناعة إلا أنه غير مقنع للنفس و الثانية الحدس و التجربة بقياس كل واحد منها إلى النير الأعظم الذي عرفنا طبيعته و أثره معرفة ظاهرة فننظر هل يزيد ذلك الكوكب عند القران في قوته و مزاجه فتعرف موافقته له في الطبيعة أو ينقص عنها فتعرف مضادته. ثم إذا عرفنا قواها مفردة عرفناها مركبة و ذلك عند تناظرها بأشكال التثليث و التربيع و غيرهما و معرفة ذلك من قبل طبائع البروج بالقياس أيضا إلى النير الأعظم. و إذا عرفنا قوى الكواكب كلها فهي مؤثرة في الهواء و ذلك ظاهر. و المزاج الذي يحصل منها للهواء يحصل لما تحته من المولدات و تتخلق به النطف و البزر فتصير حالا للبدن المتكون عنها و للنفس المتعلقة به الفائضة عليه المكتسبة لما لها منه و لما يتبع النفس و البدن من الأحوال لأن كيفيات البزرة و النطفة كيفيات لما يتولد عنهما و ينشأ منهما. قال: و هو مع ذلك ظني و ليس من اليقين في شيء و ليس هو أيضا من القضاء الإلهي يعني القدر إنما هو من جملة الأسباب الطبيعية للكائن و القضاء الإلهي سابق على كل شيء. هذا محصل كلام بطليمس و أصحابه و هو منصوص في كتابه الأربع و غيره. و منه يتبين ضعف مدرك هذه الصناعة و ذلك أن العلم الكائن أو الظن به إنما يحصل عن العلم بجملة أسبابه من الفاعل و القابل و الصورة و الغاية على ما يتبين في موضعه. و القوى النجومية على ما قرروه إنما هي فاعلة فقط و الجزء العنصري هو القابل ثم إن القوى النجومية ليست هي الفاعل بجملتها بل هناك قوى أخرى فاعلة معها في الجزء المادي مثل قوة التوليد للأب و النوع التي في النطفة و قوى الخاصة التي تميز بها صنف من النوع و غير ذلك. فالقوى النجومية إذا حصل كمالها و حصل العلم فيها إنما هي فاعل واحد من جملة الأسباب الفاعلة للكائن. ثم إنة يشترط مع العلم بقوى النجوم و تأثيراتها مزيد حدس و تخمين و حينئذ يحصل عنده الظن بوقوع الكائن. و الحدس و التخمين قوى للناظر في فكره و ليس من علل الكائن و لا من أصول الصناعة فإذا فقد هذا الحدس و التخمين رجعت أدراجها عن الظن إلى الشك. هذا إذا حصل العلم بالقوى النجومية على سداده و لم تعترضه آفة و هذا معوز لما فيه من معرفة حسبانات الكواكب في سيرها لتتعرف به أوضاعها و لما أن اختصاص كل كوكب بقوة لا دليل عليه. و مدرك بطليمس في إثبات القوى للكواكب الخمسة بقياسها إلى الشمس مدرك ضعيف لأن قوة الشمس غالبه لجميع القوى من الكواكب و مستولية عليها فقل أن يشعر بالزيادة فيها أو النقصان منها عند المقارنة كما قال و هذه كلها قادحة في تعريف الكائنات الواقعة في عالم العناصر بهذه الصناعة. ثم إن تأثير الكواكب فيما تحتها باطل إذ قد تبين في باب التوحيد أن لا فاعل إلا الله بطريق استدلالي كما رأيته و احتج له أهل علم الكلام بما هو غني في البيان من أن إسناد الأسباب إلى المسببات مجهول الكيفية و العقل منهم على ما يقضى به فيما يظهر بادئ الرأي من التأثير فلعل استنادها على غير صورة التأثير المتعارف. و القدرة الإلهية رابطة بنهما كما ربطت جميع الكائنات علوا و سفلا سيما و الشرع يرد الحوادث كلها إلى قدرة الله تعالى و يبرأ مما سوى ذلك. و النبؤات أيضا منكرة لشأن النجوم و تأثيراتها. و استقراء الشرعيات شاهد بذلك في مثل قوله إن الشمس و القمر لا يخسفان لموت أحد و لا لحياته و في قوله أصبح من عبادي مؤمن بي و كافر بي. فأما من قال مطرنا بفضل الله و رحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب و أما من قال مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب الحديث الصحيح. فقد بان لك بطلان هذه الصناعة من طريق الشرع و ضعف مداركها مع ذلك من طريق العقل مع ما لها من المضار في العمران الإنساني بما تبعث من عقائد العوام من الفساد إذا اتفق الصدق من أحكامها في بعض الأحايين أتفاقا لا يرجع إلى تعليل و لا تحقيق فيلهج بذلك من لا معرفة له و يظن اطراد الصدق في سائر أحكامها و ليس كذلك. فيقع في رد الأشياء إلى غير خالقها. ثم ما ينشأ عنها كثيرا في الدول من توقع القواطع و ما يبعث عليه ذلك التوقع من تطاول الأعداء و المتربصين بالدولة إلى الفتك و الثورة. و قد شاهدنا من ذلك كثيرا فينبغي أن تحظر هذه الصناعة على جميع أهل العمران لما ينشأ عنها من المضار في الدين و الدول، و لا يقدح في ذلك كون وجودها طبيعيا للبشر بمقتضى مداركهم و علومهم. فالخير و الشر طبيعتان موجودتان في العالم لا يمكن نزعهما و إنما يتعلق التكليف بأسباب حصولهما فيتعين السعي في اكتساب الخير بأسبابه و دفع أسباب الشر و المضار. هذا هو الواجب على من عرف مفاسد هذا العلم و مضاره. و ليعلم من ذلك أنها و إن كانت صحيحة في نفسها فلا يمكن أحدا من أهل الملة تحصيل علمها و لا ملكتها بل إن نظر فيها ناظر و ظن الإحاطة بها فهو في غاية القصور في نفس الأمر. فإن الشريعة لما حظرت النظر فيها فقد الاجتماع من أهل العمران لقراءتها و التحليق لتعليمها و صار المولع بها من الناس و هم الأقل و أقل من الأقل إنما يطالع كتبها و مقالاتها في كسر بيته متسترا عن الناس و تحت ربقة الجمهور مع تشغب الصناعة و كثرة فروعها و اعتياصها على الفهم فكيف يحصل منها على طائل ؟ و نحن نجد الفقه الذي عم نفعه دينا و دنيا و سهلت مآخذه من الكتاب و السنة و عكف الجمهور على قراءته و تعليمه ثم بعد التحقيق و التجميع و طول المدارسة و كثرة المجالس و تعدها إنما يحذق فيه الواحد بعد الواحد في الأعصار و الأجيال. فكيف يعلم مهجور للشريعة مضروب دونه سد الخطر و التحريم مكتوم عن الجمهور صعب المآخذ محتاج بعد الممارسة و التحصيل لأصوله و فروعه إلى مزيد حدس و تخمين يكتنفان به من الناظر فأين التحصيل و الحذق فيه مع هذه كلها. و مدعى ذلك من الناس مردود على عقبه و لا شاهد له يقوم بذلك لغرابة الفن بين أهل الملة و قلة حملته فاعتبر ذلك يتبين لك صحة ما ذهبنا إليه. و الله أعلم بالغيب فلا يظهر على غيبه أحدا. و مما وقع في هذا المعنى لبعض أصحابنا من أهل العصر عندما غلب العرب عساكر السلطان أبي الحسن و حاصروه بالقيروان و كثر إرجاف الفريقين الأولياء و الأعداء و قال في ذلك أبو القاسم الروحي من شعراء أهل تونس: أستغفر الله كل حين قد ذهب العيش و الهناء أصبح في تونس و أمسي و الصبح لله و المساء الخوف و الجوع و المنايا يحدثها الهرج و الوباء و الناس في مرية و حرب و ما عسى ينفع المراء فأحمدي يرى عليا حل به الهلك و التواء و آخر قال سوف يأتي به إليكم صبا رخاء و الله من فوق ذا و هذا يقضي لعيديه ما يشاء يا راصد الخنس الجواري ما فعلت هذه السماء مطلتمونا و قد زعمتم أنكم اليوم أملياء مر خميس على خميس و جاء سبت و أربعاء و نصف شهر و عشر ثان و ثالث ضمه القضاء و لا نرى غير زور قول أذاك جهل أم ازدراء إنا إلى الله قد علمنا أن ليس يستدفع القضاء رضيت بالله لي إلها حسبكم البدر أو ذكاء ما هذه الأنجم السواري إلا عباديد أو إماء يقضى عليها و ليس تقضي و ما لها في الورى اقتضاء ضلت عقول ترى قديما ما شأنه الجرم و الفناء و حكمت في الوجود طبعا يحدثه الماء و الهواء لم تر حلوا إزاء مر تغذوهم تربة و ماء الله ربي و لست أدري ما الجوهر الفرد و الخلاء و لا الهيولى التي تنادي ما لي عن صورة عراء و لا وجود و لا انعدام و لا ثبوت و لا انتفاء و الكسب لم أدر فيه إلا ما جلب البيع و الشراء و إنما مذهبي و ديني ما كان للناس أولياء إذ لا فصول و لا أصول و لا جدال و لا رياء ما تبع الصدر و اقتفينا يا حبذا كان الاقتفاء كانوا كما يعلمون منهم و لم يكن ذلك الهذاء يا أشعري الزمان إني أشعرني الصيف و الشتاء لم أجز بالشر غير شر و الخير عن مثله جزاء و إنني إن أكن مطيعا فلست أعصى و لي رجاء و إنني تحت حكم بار أطاعه العرش و الثراء ليس انتصار بكم و لكن أتاحه الحكم و القضاء لو حدث الأشعري عمن له إلى رأيه انتماء لقال أخبرهم بأني مما يقولونه براء
الفصل الثالث و الثلاثون: في انكار ثمرة الكيميا و استحالة وجودها و ما ينشأ من المفاسد عن انتحالها اعلم أن كثيرا من العاجزين عن معاشهم تحملهم المطامع على انتحال هذه الصنائع و يرون أنها أحد مذاهب المعاش و وجوهه و أن اقتناء المال منها أيسر و أسهل على مبتغيه فيرتكبون فيها من المتاعب و المشاق و معاناة الصعاب و عسف الحكام و خساره الأموال في النفقات زيادة على النيل من غرضه و العطب آخرا إذا ظهر على خيبة و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. و إنما أطمعهم في ذلك رؤية أن المعادن تستحيل و ينقلب بعضها إلى بعض للمادة المشتركة فيحاولون بالعلاج صيرورة الفضة ذهبا و النحاس و القصدير فضة و يحسبون أنها من ممكنات عالم الطبيعة و لهم في علاج ذلك طرق مختلفة لاختلاف مذاهبهم في التدبير و صورته و في المادة الموضوعة عندهم للعلاج المساة عندهم بالحجر المكرم هل هي العذرة أو الدم أو الشعر أو البيض أو كذا أو كذا مما سوى ذلك. و جملة التدبير عندهم بعد تعين المادة أن تمهى بالفهر على حجر صلد أملس و تسقى أثناء إمهائها بالماء و بعد أن يضاف إليها من العقاقير و الأدوية ما يناسب القصد منها و يوثر في انقلابها إلى المعدن المطلوب. ثم تجفف بالشمس من بعد السقي أو تطبخ بالنار أو تصعد أو تكلس لاستخراج مائها أو ترابها فإذا رضي بذلك كله من علاجها و تم تدبيره على ما اقتضته أصول صنعته حصل من ذلك كله تراب أو مائع يسمونه الإكسير و يزعمون أنه إذا ألقى على الفضة المحماة بالنار عادت ذهبا أو النحاس المحمى بالنار عاد فضة على ما قصد به في عمله. و يزعم المحققون منهم أن ذلك الإكسير مادة مركبة من العناصر الأربعة حصل فيها بذلك العلاج الخاص و التدبير مزاج ذو قوى طبيعية تصرف ما حصلت فيه إليها و تقلبه إلى صورتها و مزاجها و تبث فيه ما حصل فيها من الكيفيات و القوى كالخميرة للخبز تقلب العجين إلى ذاتها و تعمل فيه ما حصل لها من الانفشاش و الهشاشة ليحسن هضمة في المعدة و يستحيل سريعا إلى الغذاء. و كذا إكسير الذهب و الفضة فيما يحصل فيه من المعادن يصرفه إليهما و يقلبه إلى صورتهما. هذا محصل زعمهم على الجملة فتجدهم عاكفين على هذا العلاج يبتغون الرزق و المعاش فيه و يتناقلون أحكامه و قواعده من كتب لأئمة الصناعة من قبلهم يتداولونها بينهم و يتناظرون في فهم لغوزها و كشف أسرارها إذ هي في الأكثر تشبه المعمى. كتآليف جابر بن حيان في رسائله السبعين و مسلمة المجريطي في كتابه رتبة الحكيم و الطغرائي و المغيربي في قصائده العريقة في إجادة النظم و أمثالها و لا يحلون من بعد هذا كله بطائل منها. ففاوضت يوما شيخنا أبا البركات التلفيفي كبير مشيخة الأندلس في مثل ذلك و وقفته على بعض التآليف فيها فتصفحه طويلا ثم رده إلي و قال لي و أنا الضامن له أن لا يعود إلى بيته إلا بالخيبة. ثم منهم من يقتصر في ذلك على الدلسة فقط. إما الظاهرة كتمويه الفضة بالذهب أو النحاس بالفضة أو خلطهما على نسبة جزء أو جزءين أو ثلاثة أو الخفية كإلقاء الشبه بين المعادن بالصناعة مثل تبييض النحاس و تلبيسه بالزوق المصعد فيجيء جسما معدنيا شبيها بالفضة و يخفى إلا على النقاد المهرة فيقدر أصحاب هذه الدلس مع دلستهم هذه سكة يسربونها في الناس و يطبعونها بطابع السلطان تمويها على الجمهور بالخلاص. و هؤلاء أخس الناس حرفة و أسوأهم عاقبة لتلبسهم بسرقة أموال الناس فإن صاحب هذه الدلسة إنما هو يدفع نحاسا في الفضة و فضة في الذهب ليستخلصها لنفسه فهو سارق أو شر من السارق. و معظم هذا الصنف لدينا بالمغرب من طلبة البربر المنتبذين بأطراف البقاع و مساكن الأغمار يأوون إلى مساجد البادية و يموهون على الأغنياء منهم بأن بأيديهم صناعة الذهب و الفضة و النفوس مولعة بحبهما و الاستهلاك في طلبهما فيحصلون من ذلك على معاش. ثم يبقى ذلك عندهم تحت الخوف و الرقبة إلى أن يظهر العجز و تقع الفضيحة فيفرون إلى موضع آخر و يستجدون حالا أخرى في استهواء بعض أهل الدنيا بأطماعهم فيما لديهم. و لا يزالون كذلك في ابتغاء معاشهم و هذا الصنف لا كلام معهم لأنهم بلغوا الغاية في الجهل و الرداءة و الاحتراف بالسرقة و لا حاسم لعلتهم إلا اشتداد الحكام عليهم و تناولهم من حيث كانوا و قطع أيديهم متى ظهروا على شأنهم لأن فيه إفسادا للسكة التي تعم بها البلوى و هي متمول الناس كافة. و السلطان مكلف بإصلاحها و الاحتياط عليها و الاشتداد على مفسديها. و أما من انتحل هذه الصناعة ولم يرض بحال الدلسة بل استنكف عنها و نزه نفسه عن إفساد سكة المسلمين و نقودهم و إنما يطلب إحالة الفضة للذهب و الرصاص و النحاس و القصدير إلى الفضة بذلك النحو من العلاج و بالإكسير الحاصل عنده فلنا مع هؤلاء متكلم و بحث في مداركهم لذلك. مع أنا لا نعلم أن أحدا من أهل العالم تم له هذا الغرض أو حصل منه على بغية إنما تذهب أعمارهم في التدبير و الفهر و الصلابة و التصعيد و التكليس و اعتيام الأخطار بجمع العقاقير و البحث عنها. و يتناقلون في ذلك حكايات و تمت لغيرهم ممن تم له الغرض منها أو وقف على الوصول يقنعون باستماعها و المفاوضات فيها و لا يستريبون في تصديقها شأن الكلفين المغرمين بوساوس الأخبار فيما يكلفون به فإذا سئلوا عن تحقيق ذلك بالمعاينة أنكروه و قالوا إنما سمعنا و لم نر. هكذا شأنهم في كل عصر و جيل و اعلم أن انتحال هذه الصنعة قديم في العالم و قد تكلم الناس فيها من المتقدمين و المتأخرين فلننقل مذاهبهم في ذلك ثم نتلوه بما يظهر فيها من التحقيق الذي عليه الأمر في نفسه فنقول إن مبنى الكلام في هذه الصناعة عند الحكماء على حال المعادن السبعة المتطرقة و هي الذهب و الفضة و الرصاص و القصدير و النحاس و الحديد والخارصين هل هي مختلفات بالفصول و كلها أنواع قائمة بأنفسها أو إنها مختلفة بخواص من الكيفيات و هي كلها أصناف لنوع واحد ؟ فالذي ذهب إليه أبو البصر الفارابي و تابعه عليه حكماء الأندلس أنها نوع واحد و أن اختلافها إنما هو بالكيفيات من الرطوبة و اليبوسة و اللين و الصلابة و الألوان من الصفرة و البياض والسواد و هي كلها أصناف لذلك النوع الواحد و الذي ذهب إليه ابن سينا و تابعه عليه حكماء المشرق أنها مختلفة بالفصول و أنها أنواع متباينة كل واحد منها قائم بنفسه متحقق بحقيقته له فصل و جنس شأن سائر الأنواع. و بنى أبو نصر الفارابي على مذهبه في اتفاقها بالنوع إمكان انقلاب بعضها إلى بعض لإمكان تبدل الأغراض حينئذ و علاجها بالصنعة. فمن هذا الوجه كانت صناعة الكيمياء عنده ممكنة سهلة المأخذ. و بنى أبو علي بن سينا على مذهبه في اختلافها بالنوع إنكار هذه الصنعة و استحالة وجودها بناء على أن الفصل لا سبيل بالصناعة إليه و إنما يخلقه خالق الأشياء و مقدرها و هو الله عز و جل. و الفصول مجهولة الحقائق رأسا بالتصوف فكيف يحاول انقلابها بالصنعة. و غلطه الطغرائي من أكابر أهل هذه الصناعة في هذا القول. و رد عليه بأن التدبير و العلاج ليس في تخليق الفصل و إبداعه و إنما هو في إعداد المادة لقبوله خاصة. و الفصل يأتي من بعد الإعداد من لدن خالقه و بارئه كما يفيض النور على الأجسام بالصقل و الإمهاء. و لا حاجة بنا في ذلك إلى تصوره و معرفته قال: و إذا كنا قد عثرنا على تخليق بعض الحيوانات مع الجهل بفصولها مثل العقرب من التراب و النتن و مثل الحيات المتكونة من الشعر و مثل ما ذكره أصحاب الفلاحة من تكوين النحل إذا فقدت من عجاجيل البقر. و تكوين القصب من قرون ذوات الظلف و تصييره سكرا بحشو القرون بالعسل بين يدي ذلك الفلح للقرون فما المانع إذا من العثور على مثل ذلك في الذهب و الفضة. فتتخذ مادة تضيفها للتدبير بعد أن يكون فيها استعداد أول لقبول صورة الذهب و الفضة. ثم تحاولها بالعلاج إلى أن يتم فيها الاستعداد لقبول فصلها. انتهى كلام الطغرائي بمعناه. و هو الذي ذكرة في الرد على ابن سينا صحيح. لكن لنا في الرد على أهل هذه الصناعة مأخذا آخر يتبين منه استحالة وجودها و بطلان مزعمهم أجمعين لا الطغرائي و لا ابن سينا. و ذلك أن حاصل علاجهم أنهم بعد الوقوف على المادة المستعدة بالاستعداد الأول يجعلونها موضوعا و يحاذون في تدبيرها و علاجها تدبير الطبيعة في الجسم المعدني حتى أحالته ذهبا أو فضة و يضاعفون القوى الفاعلة و المنفعلة ليتم في زمان أقصر. لأنة تبين في موضوعه أن مضاعفة قوة الفاعل تنقص من زمن فعله و تبين أن الذهب إنما يتم كونه في معدنه بعد ألف و ثمانين من السنين دورة الشمس الكبرى فإذا تضاعفت القوى و الكيفيات في العلاج كان زمن كونه أقصر من ذلك ضرورة على ما قلناه أو يتحرون بعلاجهم ذلك حصول صورة مزاجية لتلك المادة تصيرها كالخميرة فتفعل في الجسم المعالج الأفاعيل المطلوبة في إحالته و ذلك هو الإكسير على ما تقدم. و اعلم أن كل متكون من المولدات العنصرية فلابد فيه من اجتماع العناصر الأربعة على نسبة متفاوتة إذ لو كانت متكافئة في النسبة لما تم امتزاجها فلابد من الجزء الغالب على الكل. و لابد في كل ممتزج من المولدات من حرارة غريزية هي الفاعلة لكونها الحافظة لصورته، ثم كل متكون في زمان فلابد من اختلاف أطواره و انتقاله في زمن التكوين من طور إلى طور حتى ينتهي إلى غايته. و انظر شأن الإنسان في طور النطفة ثم العلقة ثم المضغة ثم التصوير ثم الجنين ثم المولود ثم الرضيع ثم إلى نهايته. و نسب الأجزاء في كل طور تختلف في مقاديرها و كيفياتها و إلا لكان الطور الأول بعينه هو الآخر و كذا الحرارة الغريزية في كل طور مخالفة لها في الطور الآخر. فانظر إلى الذهب ما يكون له في معدنه من الأطوار منذ ألف سنة و ثمانين و ما ينتقل فيه من الأحوال فيحتاج صاحب الكيمياء إلى أن يساوق فعل الطبيعة في المعدن و يحاذيه بتدبيره و علاجه إلى أن يتم. و من شرط الصناعة أبدا تصورها يقصد إليه بالصنعة فمن الأمثال السائرة للحكماء أول العمل آخر الفكرة و آخر الفكرة أول العمل. فلابد من تصور هذه الحالات للذهب في أحواله المتعددة و نسبها المتفاوتة في كل طور و اختلاف الحار الغريزي عند اختلافها و مقدار الزمان في كل طور و ما ينوب عنه من مقدار القوى المضاعفة و يقوم مقامه حتى يحاذي بذلك كله فعل الطبيعة في المعدن أو تعد لبعض المواد صورة مزاجية كصورة الخميرة للخبز و تفعل في هذه المادة بالمناسبة لقواها و مقاديرها. و هذه المادة إنما يحصرها العلم المحيط والعلوم البشرية قاصرة عن ذلك و إنما حال من يدعي حصوله على الذهب بهذه الصنعة. بمثابة من يدعي بالصنعة تخليق إنسان من المني. و نحن إذا سلمنا له الإحاطة بأجزائه و نسبته و أطواره و كيفية تخليقه في رحمه و علم ذلك علما محصلا بتفاصيله حتى لا يشذ منه شيء عن علمه سلمنا له تحليق هذا الإنسان وأنى له ذلك. و لنقرب هذا البرهان بالاختصار ليسهل فهمه فنقول حاصل صناعة الكيمياء و ما يدعونه بهذا التدبير أنه مساوقة الطبيعية المعدنية بالفعل الصناعي و محاذاتها به إلى أن يتم كون الجسم المعدني أو تخليق مادة بقوى و أفعال و صورة مزاجية تفعل في الجسم فعلا طبيعيا فتصيره و تقلبه إلى صورتها. و الفعل الصناعي مسبوق بتصورات أحوال الطبيعة المعدنية التي يقصد مساوقتها أو محاذاتها أو فعل المادة ذات القوى فيها تصورا مفصلا واحدة بعد أخرى. و تلك الأحوال لا نهاية لها و العلم البشري عاجز عن الإحاطة بما دونها و هو بمثابة من يقصد تخليق إنسان أو حيوان أو نبات. هذا محصل هذا البرهان و هو أوثق ما علمته و ليست الاستحالة فيه من جهة الفصول كما رأيته و لا من الطبيعة إنما هو من تعذر الإحاطة و قصور البشر عنها. و ما ذكره ابن سينا بمعزل عن ذلك و له وجه آخر في الاستحالة من جهة غايته. و ذلك أن حكمة الله في الحجرين و ندورهما أنهما قيم لمكاسب الناس و متمولاتهم. فلو حصل عليهما بالصنعة لبطلت حكمة الله في ذلك و كثر وجودهما حتى لا يحصل أحد من اقتنائهما على شيء. و له وجه آخر من الاستحالة أيضا و هو أن الطبيعة لا تترك أقرب الطريق في أفعالها و ترتكب الأعوص و الأبعد. فلو كان هذا الطريق الصناعي الذي يزعمون أنه صحيح و أنه أقرب من طريق الطبيعة في معدنها أو أقل زمانا لما تركته الطبيعة إلى طريقها الذي سلكته في كون الفضة و الذهب و تخلقهما و أما تشبيه الطغراءي هذا التدبير بما عثر عليه من مفردات لأمثاله في الطبيعة كالعقرب و النحل و الحية وتخليقها فأمر صحيح في هذه أدى إليه العثور كما زعم. و أما الكيمياء فلم تنقل عن أحد من أهل العالم أنه عثر عليها و لا على طريقها و ما زال منتحلوها يخبطون فيها عشواء إلى هلم جرا و لا يظفرون إلا بالحكايات الكاذبة. و لو صح ذلك لأحد منهم لحفظه عنه أولاده أو تلميذه و أصحابه و تنوقل في الأصدقاء و ضمن تصديقه صحة العمل بعده إلى أن ينتشر و يبلغ إلينا و إلى غيرنا. و أما قولهم إن الإكسير بمثابة الخميرة. و إنه مركب يحيل ما يحصل فيه و يقلبه إلى ذلك فاعلم أن الخميرة إنما تقلب العجين و تعده للهضم و هو فساد و الفساد في المواد سهل يقع بأيسر شيء من الأفعال و الطبائع. و المطلوب بالإكسير قلب المعدن إلى ما هو أشرف منه و أعلى فهو تكوين و صلاح و التكوين أصعب من الفساد فلا يقاس الإكسير بالخميرة. و تحقيق الأمر في ذلك أن الكيمياء إن صح وجودها كما تزعم الحكماء المتكلمون فيها مثل جابر بن حيان و مسلمة بن أحمد المجريطي و أمثالهم فليست من باب الصنائع الطبيعية و لا تتم بأمر صناعي. و ليس كلامهم فيها من منحى الطبيعيات إنما هو من منحى كلامهم في الأمور السحرية و سائر الخوارق و ما كان من ذلك للحلاج و غيره و قد ذكر مسلمة في كتاب الغاية ما يشبة ذلك. و كلامه فيها في كتاب رتبة الحكيم من هذا المنحى و هذا كلام جابر في رسائله و نحو كلامهم فيه معروف و لا حاجة بنا إلى شرحه و بالجملة فأمرها عندهم من كليات المواد الخارجة عن حكم الصنائع فكما لا يتدبر ما منه الخشب و الحيوان في يوم أو شهر خشبا أو حيوانا فيما عدا مجرى تخليقه كذلك لا يتدبر ذهب من مادة الذهب في يوم و لا شهر و لا يتغير طريق عادته إلا بإرفاد ما وراء عالم الطبائع و عمل الصنائع فكذلك من طلب الكيمياء طلبا صناعيا ضيع ماله و عمله و يقال لهذا التدبير الصناعي التدبير العقيم لأن نيله إن كان صحيحا فهو واقع مما وراء الطبائع و الصنائع كالمشي على الماء و امتطاء الهواء و النفوذ في كشائف الأجساد و نحو ذلك من كرامات الأولياء الخارقة للعادة أو مثل تخليق الطير و نحوها من معجزات الأنبياء. قال تعالى: وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني و على ذلك فسبيل تيسيرها مختلف بحسب حال من يؤتاها. فربما أوتيها الصالح و يؤتيها غيره فتكون عنده معارة. و ربما أوتيها الصالح و لا يملك إيتاءها فلا تتم في يد غيره. و من هذا الباب يكون عملها سحريا فقد تبين أنها إنما تقع بتأثيرات النفوس و خوارق العادة إما معجزة أو كرامة أو سحرا. و لهذا كان كلام الحكماء كلهم فيها إلغازا لا يظفر بحقيقته إلا من خاض لجة من علم السحر و اطلع على تصرفات النفس في عالم الطبيعة. و أمور خرق العادة غير منحصرة و لا يقصد أحد إلى تحصيلها. و الله بما يعملون محيط. و أكثر ما يحمل على التماس هذه الصناعة و انتحالها هو كما قلناه العجز عن الطرق الطبيعية للمعاش و ابتغاؤه من غير وجوهه الطبيعية كالفلاحة و التجارة و الصناعة فيصعب العاجز ابتغاءه من هذه و يروم الحصول على الكثير من المال دفعة بوجوه غير طبيعية من الكيمياء و غيرها. و أكثر من يعني بذلك الفقراء من أهل العمران حتى في الحكماء المتكلمين في إنكارها و استحالتها. فإن ابن سينا القائل باستحالتها كان عليه الوزراء فكان من أهل الغنى و الثروة و الفارابي القائل بإمكانها كان من أهل الفقر الذين يعوزهم أدنى بلغة من المعاش و أسبابه. و هذه تهمة ظاهرة في أنظار النفوس المولعة بطرقها و انتحالها. و الله الرازق ذو القوة المتين لا رب سواه.
الفصل الرابع و الثلاثون: في أن كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل اعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم و الوقوف على غاياته كثرة التآليف و اختلاف الاصطلاحات في التعاليم و تعد طرقها ثم مطالبة المتعلم و التلميذ باستحضار ذلك. و حينئذ يسلم له منصب التحصيل فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها و مراعاة طرقها. و لا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرد لها فيقع القصور و لابد دون رتبة التحصيل. و يمثل ذلك من شأن الفقه في المذهب المالكي بالكتب المدونة مثلا و ما كتب عليها من الشروحات الفقهية مثل كتاب ابن يونس و اللخمي و ابن بشير و التنبيهات و المقدمات و البيان و التحصيل على العتبية و كذلك كتاب ابن الحاجب و ما كتب عليه. ثم إنه يحتاج إلى تمييز الطريقة القيروانية من القرطبية و البغدادية و المصرية و طرق المتأخرين عنهم و الإحاطة بذلك كله و حينئذ يسلم له منصب الفتيا و هي كلها متكررة والمعنى واحد. و المتعلم مطالب باستحضار جميعها و تمييز ما بينها والعمر ينقضي في واحد منها. و لو اقتصر المعلمون بالمتعلمين على المسائل المذهبية فقط لكان الأمر دون ذلك بكثير و كان التعليم سهلا و مأخذه قريبا و لكنه داء لا يرتفع لاستقرار العوائد عليه فصارت كالطبيعة التي لا يمكن نقلها و لا تحويلها و يمثل أيضا علم العربية من كتاب سيبويه و جميع ما كتب عليه و طرق البصريين و الكوفيين و البغداديين و الأندلسيين من بعدهم و طرق المتقدمين و المتأخرين مثل ابن الحاجب و ابن مالك و جميع ما كتب في ذلك كيف يطالب به المتعلم و ينقضي عمره دونه و لا يطمع أحد في الغاية منه إلا في القليل النادر مثل ما وصل إلينا بالمغرب لهذا العهد من تآليف رجل من أهل صناعة العربية من أهل مصر يعرف بابن هاشم ظهر من كلامه فيها أنه استولى على غاية من ملكة تلك الصناعة لم تحصل إلا لسييبويه و ابن جني و أهل طبقتهما لعظيم ملكته و ما أحاط به من أمصول ذلك الفن و تفاريعه و حسن تصرفه فيه. و ذلك على أن الفضل ليس منحصرا في المتقدمين سيما مع ما قدمناه من كثرة الشواغب بتعدد المذاهب و الطرق و التآليف و لكن فضل الله يؤتيه من يشاء. و هذا نادر من نوادر الوجود و إلا فالظاهر أن المتعلم و لو قطع عمره في هذا كله فلا يفي له بتحصيل علم العربية مثلا الذي هو آلة من الآلات و وسيلة فكيف يكون في المقصود الذي هو الثمرة ؟ و لكن الله يهدي من يشاء.
الفصل الخامس و الثلاثون: في المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف و إلغاء ما سواها اعلم أن العلوم البشرية خزانتها النفس الإنسانية بما جعل الله فيها من الإدراك الذي يفيدها ذلك الفكر المحصل لها ذلك بالتصور للحقائق أولا، ثم بإثبات العوارض الذاتية لها أو نفيها عنها ثانيا، إما بغير وسط أو بوسط، حتى يستنتج الفكر بذلك مطالبه التي يعنى بإثباتها أو نفيها. فإذا استقرت من ذلك صورة علمية في الضمير فلابد من بيانها لآخر: إما على وجه التعليم، أو على وجه المفاوضة، تصقل الأفكار في تصحيحها. و ذلك البيان إنما يكون بالعبارة، و هي الكلام المركب من الألفاظ النطقية التى خلقها الله في عضو اللسان مركبة من الحروف، و هي كيفيات الأصوات المقطعة بعضلة اللهاة و اللسان ليتبين بها ضمائر المتكلمين بعضهم لبعض في مخاطباتهم و هذه رتبة أولى في البيان عما في الضمائر، و إن كان معظمها و أشرفها العلوم، فهي شاملة لكل ما يندرج في الضمير من خبر أو إنشاء على العموم. و بعد هذه الرتبة الأولى من البيان رتبة ثانية لا يؤدى بها ما في الضمير، لمن توارى أو غاب شخصه و بعد، أو لمن يأتي بعد و لم يعاصره و لا لقيه. و هذا البيان منحصر في الكتابة، و هي رقوم باليد تدل أشكالها و صورها بالتواضع على الألفاظ النطقية حروفا بحروف و كلمات بكلمات، فصار البيان فيها على ما في الضمير بواسطة الكلام المنطقي، فلهذا كانت في الرتبة الثانية واحدا، فسمي هذا البيان. يدل على ما في الضمائر من العلوم و المعارف، فهو أشرفها. و أهل الفنون معتنون يإيداع ما يحصل في ضمائرهم من ذلك في بطون الأوراق بهذه الكتابة، لتعلم الفائدة في حصوله للغائب و المتأخر و هؤلاء هم المؤلفون. و التآليف بين العوالم البشرية و الأمم الإنسانية كثير، و منتقلة في الأجيال و الأعصار و تختلف باختلاف الشرائع و الملل و الأخبار عن الأمم و الدول. و أما العلوم الفلسفية، فلا اختلاف فيها، لأنها إنما تأتي على نهج واحد، فيما تقتضيه الطبيعة الفكرية، في تصور الموجودات على ما هي عليه، جسمانيها و روحانيها و فلكيها و عنصريها و مجردها و مادتها. فإن هذه العلوم لا تختلف، و إنما يقع الاختلاف في العلوم الشرعية لاختلاف الملل، أو التاريخية لاختلاف خارج الخبر. ثم الكتابة مختلفة باصطلاحات البشر في رسومها و أشكالها، و يسمى ذلك قلما و خطا. فمنها الخط الحميري، و يسمى المسند، و هو كتابة حمير و أهل اليمن الأقدمين، و هو يخالف كتابة العرب المتأخرين من مضر، كما يخالف لغتهم. و إن الكل عربيا. إلا أن ملكة هؤلاء في اللسان و العبارة غير ملكة أولئك. و لكل منهما قوانين كلية مستقرأة من عبارتهم غير قوانين الآخرين. و ربما يغلط في ذلك من لا يعرف ملكات العبارة. و منها الخط السرياني، و هو كتابة النبط و الكلدانيين. و ربما يزعم بعض أهل الجهل أنه الخط الطبيعي لقدمه فإنهم كانوا أقدم الأمم، و هذا وهم، و مذهب عامي. لأن الأفعال الاختيارية كلها ليس شيء منها بالطبع، و إنما هو يستمر بالقديم و المران حتى يصير ملكة راسخة، فيظنها المشاهد طبيعية كما هو رأي كثير من البلداء في اللغة العربية، فيقولون: العرب كانت تعرب بالطبع و تنطق بالطبع. و هذا وهم. و منها الخط العبراني الذي هو كتابة بني عابر بن شالح من بني إسرائيل و غيرهم. و منها الخط اللطيني، خط اللطينيين من الروم، و لهم أيضا لسان مختص بهم. و لكل أمة من الأمم اصطلاح في الكتاب يعزى إليها و يختص بها. مثل الترك و الفرنج و الهنود و غيرهم. و إنما وقعت العناية بالأقلام الثلاثة الأولى. أما السرياني فلقدمه كما ذكرنا، و أما العربي و العبري فلتنزل القرآن و التوراة بهما بلسانهما. و كان هذان الخطان بيانا لمتلوهما، فوقعت العناية بمنظومهما أولا و انبسطت قوانين لاطراد العبارة في تلك اللغة على أسلوبها لتفهم الشرائع التكليفية من ذلك الكلام الرباني. و أما اللطيني فكان الروم، و هم أهل ذلك اللسان، لما أخذوا بدين النصرانية، و هو كله من التوراة، كما سبق في أول الكتاب، ترجموا التوراة و كتب الأنبياء الإسرائيليين إلى لغتهم، ليقتنصوا منها الأحكام على أسهل الطرق. و صارت عنايتهم بلغتهم و كتابتهم آكد من سواها. و أما الخطوط الأخرى فلم تقع بها عناية، و إنما هي لكل أمة بحسب اصطلاحها. ثم إن الناس حصروا مقاصد التآليف التي ينبغي اعتمادها و إلغاء ما سواها، فعدوها سبعة: أولها: استنباط العلم بموضوعه و تقسيم أبوابه و فصوله و تتبع مسائله، أو استنباط مسائل و مباحث تعرض للعالم المحقق و يحرص على إيصاله بغيره، لتعم المنفعة به فيودع ذلك بالكتاب في المصحف، لعل المتأخر يظهر على تلك الفائدة، كما وقع في الأصول في الفقه. تكلم الشافعى أولا في الأدلة الشرعية اللفظية و لخصها، ثم جاء الحنفية فاستنبطوا مسائل القياس و استوعبوها، و انتفع بذلك من بعدهم إلى الآن. و ثانيها: أن يقف على كلام الأولين و تآليفهم فيجدها مستغلقة على الأفهام و يفتح الله له في فهمها فيحرص على إبانة ذلك لغيره ممن عساه يستغلق عليه، لتصل الفائدة لمستحقها. و هذه طريقة البيان لكتب المعقول و المنقول، و هو فصل شريق. و ثالثها: أن يعثر المتأخر على غلط أو خطأ في كلام المتقدمين ممن اشتهر فضله و بعد في الإفادة صيتة، و يستوثق في ذلك بالبرهان الواضح الذي لا مدخل للشك فيه، فيحرص على إيصال ذلك لمن بعدة، إذ قد تعذر محوه و نزعه بانتشار التآليف في الأفاق و الأعصار، و شهرة المؤلف و وثوق الناس بمعارفه، فيودع ذلك الكتاب ليقف على بيان ذلك. و رابعها: أن يكون الفن الواحد قد نقصت منه مسائل أو فصول بحسب انقسام موضوعه فيقصد المطلع على ذلك أن يتمم ما نقص من تلك المسائل ليكمل الفن بكمال مسائله و فصوله، و لا يبقى للنقص فيه مجال. و خامسها: أن تكون مسائل العلم قد وقعت غير مرتبة في أبوابها و لا منتظمة، فيقصد المطلع على ذلك أن يرتبها و يهذبها، و يجعل كل مسئلة في بابها، كما وقع في المدونة من رواية سحنون عن ابن القاسم، و في العتبية من رواية العتبي عن أصحاب مالك، فإن مسائل كثيرة من أبواب الفقه منها قد وقعت في غير بابها فهذب ابن أبي زيد المدونة و بقيت العتبية غير مهذبة. فنجد في كل باب مسائل من غيره. و استغنوا بالمدونة و ما فعله ابن أبي زيد فيها و البرادعي من بعده. و سادسها: أن تكون مسائل العلم مفرقة في أبوابها من علوم أخرى فيتنبه بعض الفضلاء إلى موضوع ذلك الفن و جميع مسائله، فيفعل ذلك، و يظهر به فن ينظمه في جملة العلوم التي ينتحلها البشر بأفكارهم، كما وقع في علم البيان. فإن عبد القاهر الجرجاني و أبا يوسف السكاكي وجدا مسائله مستقرية في كتب النحو و قد جمع منها الجاحظ في كتاب البيان و التبيين مسائل كثيرة، تنبه الناس فيها لموضوع ذلك العلم و انفراده عن سائر العلوم، فكتبت في ذلك تأليفهم المشهورة، و صارت أصولا لفن البيان، و لقنها المتأخرون فأربوا فيها على كل متقدم. و سابعها: أن يكون الشيء من التآليف التي هي أمهات للفنون مطولا مسهبا فيقصد بالتآليف تلخيص ذلك، بالاختصار و الايجاز و حذف المتكرر، إن وقع، مع الحذر من حذف الضروري لئلا يخل بمقصد المؤلف الأول. فهذه جماع المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف و مراعاتها. و ما سوى ذلك ففعل غير محتاج إليه و خطأ عن الجادة التي يتعين سلوكها في نظر العقلاء، مثل انتحال ما تقدم لغيره من التآليف أن ينسبه إلى نفسه ببعض تلبيس، من تبديل الألفاظ و تقديم المتأخر و عكسه، أو يحذف ما يحتاج إليه في الفن أو يأتي بما لا يحتاج إليه، أو يبدل الصواب بالخطأ، أو يأتي بما لا فائدة فيه. فهذا شأن الجهل و القحة. و لذا قال أرسطو، لما عدد هذه المقاصد، و انتهى إلى آخرها فقال: و ما سوى ذلك ففصل أو شره، يعني بذلك الجهل و القحة. نعوذ بالله من العمل في ما لا ينبغي للعاقل سلوكه. و الله يهدي للتي هي أقوم.
الفصل السادس و الثلاثون في أن كثرة الاختصارات المؤلفة في العلوم مخلة بالتعليم ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق و الأنحاء في العلوم يولعون بها و يدونون منها برنامجا مختصرا في كل علم يشتمل على حصر مسائله و أدلتها باختصار في الألفاظ و حشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن. و صار ذلك مخلا بالبلاغة و عسرا على الفهم. و ربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون للتفسير و البيان فاختصروها تقريبا للحفظ كما فعله ابن الحاجب في الفقه و ابن مالك في العربية و الخونجي في المنطق و أمثالهم. و هو فساد في التعليم و فيه اخلال بالتحصيل و ذلك لأن فيه تخليطا على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه و هو لم يستعد لقبولها بعد و هو من سوء التعليم كما سيأتي. ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتراحم المعاني عليها و صعوبة استخراج المسائل من بينها. لأن ألفاظ المختصرات تجدها لأجل ذلك صعبة عويصة فينقطع في فهمها حظ صالح عن الوقت. ثم بعد ذلك فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات إذا تم على سداده و لم تعقبه آفة فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة لكثرة ما يقع في تلك من التكرار و الإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة. و إذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقلته كشأن هذه الموضوعات المختصرة فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين فأركبوهم صعبا يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة و تمكنها. و من يهد الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له. و الله سبحانه و تعالى أعلم.
الفصل السابع و الثلاثون: في وجه الصواب في تعليم العلوم و طريق إفادته اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا و قليلا قليلا يلقى عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب. و يقرب له في شرحها على سبيل الإجمال و يراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن و عند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية و ضعيفة. و غايتها أنها هيأته لفهم الفن و تحصيل مسائله. ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها و يستوفى الشرح و البيان و يخرج عن الإجمال و يذكر له ما هنالك من الخلاف و وجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته. ثم يرجع به و قد شد فلا يترك عويصا و لا مهما و لا مغلقا إلا وضحه و فتح له مقفله فيخلص من الفن و قد استولى على ملكته هذا وجه التعليم المفيد و هو كما رأيت إنما يحصل في ثلاثا تكرارات. و قد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له و يتيسر عليه و قد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم و إفاداته و يحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم و يطالبونه بإحضار ذهنه في حلها و يحسبون ذلك مرانا على التعليم و صوابا فيه و يكلفونه رعي ذلك و تحصيله و يخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها و قبل أن يستعد لفهمها فإن قبول العلم و الاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجا و يكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل و على سبيل التقريب و الإجمال والأمثال الحسنة. ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفن و تكرارها عليه و الإنتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه، حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل و يحيط هو بمسائل الفن و إذا ألقيت عليه الغايات في البداءات و هو حينئذ عاجز عن الفهم و الوعي و بعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها و حسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه و انحرف عن قبوله و تمادى في هجرانه. و إنما إلى ذلك من سوء التعليم. و لا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته و على نسبة قبوله للتعليم مبتدئا كان أو منتهيا و لا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى أخره و يحصل أغراضه و يستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره. لأن المتعلم إذا حصل ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي و حصل له نشاط في طلب المزيد و النهوض إلى ما فوق حتى يستولي على غايات العلم و إذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم و أدركه الكلال و انطمس فكره و يئس من التحصيل و هجر العلم و التعليم. و الله يهدي من يشاء. و كذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد بتفريق المجالس و تقطيع ما بينها لأنه ذريعة إلى النسيان و انقطاع مسائل الفن بعضها من بعض فيعسر حصول الملكة بتفريقها. و إذا كانت أوائل العلم و أواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان كانت الملكة أيسر حصولا و أحكم ارتباطا و أقرب صنعة لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل و تكراره و إذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه. و الله علمكم ما لم تكونوا تعلمون. و من المذاهب الجميلة و الطرق الواجبة في التعليم أن لا يخلط على المتعلم علمان معا فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال و انصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر فيستغلقان معا و يستصعبان و يعود منهما بالخيبة. و إذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرا عليه فربما كان ذلك أجدر لتحصيله و الله سبحانه و تعالى الموفق للصواب. و اعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك فإن تلقيتها بالقبول و أمسكتها بيد الصناعة ظفرت بكنز عظيم و ذخيرة شريفة و أقدم لك مقدمة تعينك في فهمها و ذلك أن الفكر الإنساني طبيعة مخصوصة فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته و هو وجدان حركة للنفس في البطن الأوسط من الدماغ. تارة يكون مبدأ للأفعال الإنسانية على نظام و ترتيب و تارة يكون مبدأ لعلم ما لم يكن حاصلا بأن يتوجه إلى المطلوب. و قد يصور طرفيه يروم نفيه أو إثباته فيلوح له الوسط الذي يجمع بينهما أسرع من لمح البصر إن كان واحدا. أو ينتقل إلى تحصيل آخر إن كان متعددا و يصير إلى الظفر بمطلوبه هذا شأن هذه الطبيعة الفكرية التي تميز بها البشر من بين سائر الحيوانات. ثم الصناعة المنطقية هي كيفية فعل هذه الطبيعة الفكرية النظرية تصفه لتعلم سداده من خطئه و أنها و إن كان الصواب لها ذاتيا إلا أنه قد يعرض لها الخطأ في الأقل من تصور الطرفين على غير صورتهما من اشتباه الهيئات في نظم القضايا و ترتيبها للنتاج فتعين المنطق للتخلص من ورطة هذا الفساد إذا عرض. فالمنطق إذا أمر صناعي مساوق للطبيعة الفكرية و منطبق على صورة فعلها و لكونه أمرا صناعيا استغني عنه في الأكثر. و لذلك تجد كثيرا من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة علم المنطق و لا سيما مع صدق النية و التعرض لرحمة الله تعالى فإن ذلك أعظم معنى. و يسلكون بالطبيعة الفكرية على سدادها فيفضي بالطبع إلى حصول الوسط و العلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه. ثم من دون هذا الأمر الصناعي الذي هو المنطق مقدمة أخرى من التعلم و هي معرفة الألفاظ و دلالتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب و مشافهة اللسان بالخطاب. فلابد أيها المتعلم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك. فأولا: دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة و هي أخفها ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق. ثم تلك المعاني مجردة في الفكر اشتراطا يقتنص بها المطلوب بالطبيعة الفكرية بالتعرض لرحمة الله و مواهبه. و ليس كل أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة و لا يقطع هذه الحجب في التعليم بسهولة، بل ربما وقف الذهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في اشتراك الأدلة بشغب الجدال و الشبهات و قعد عن تحصيل المطلوب. و لم يكد يتخلص من تلك الغمرة إلا قليلا ممن هداه الله. فإذا ابتليت بمثل ذلك و عرض لك ارتباك في فهمك أو تشغيب بالشبهات في ذهنك فاطرح ذلك و انتبذ حجب الألفاظ و عوائق الشبهات و أترك الأمر الصناعي جملة و اخلص إلى فضاء الفكر الطبيعي الذي فطرت عليه. و سرح نظرك فيه و فرغ ذهنك فيه للغوص على مرامك منه واضعا لها حيث وضعها أكابر النظار قبلك مستعرضا للفتح من الله كما فتح عليهم من ذهنهم من رحمته و علمهم ما لم يكونوا يعلمون. فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك و حصل الإمام الوسط الذي جعله الله من مقتضيات هذا الفكر و نظره عليه كما قلناه و حينئذ فارجع به إلى قوالب الأدلة و صورها فأفرغه فيها و وفه حقه من القانون الصناعي ثم اكسه صور الألفاظ و أبرزة إلى عالم الخطاب و المشافهة وثيق العرى صحيح البنيان. و أما إن وقفت عند المناقشة و الشبهة في الأدلة الصناعية و تمحيص صوابها من خطئها و هذه أمور صناعية وضعية تستوي جهاتها المتعددة و تتشابه لأجل الوضع والاصطلاح فلا تتميز جهة الحق منها إذ جهة الحق إنما تستبين إذا كانت بالطبع فيستمر ما حصل من الشك و الارتياب و تسدل الحجب على المطلوب و تقعد بالناظر عن تحصيله. و هذا شأن الأكثرين من النظار و المتأخرين سيما من سبقت له عجمة في لسانه فربطت عن ذهنه و من حصل له شغب بالقانون المنطقي تعصب له فاعتقد أنه الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع فيقع في الحيرة بين شبه الأدلة و شكوكها و لا يكاد يخلص منها. و الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع إنما هو الفكر الطبيعي كما قلناه إذا جرد عن جميع الأوهام و تعرض الناظر فيه إلى رحمة الله تعالى و أما المنطق فإنما هو واصف لفعل هذا الفكر فيساوقه في الأكثر. فاعتبر ذلك و استمطر رحمة الله تعالى متى أعوزك فهم المسائل تشرق عليك أنواره بالالهام إلى الصواب. و الله الهادي إلى رحمته و ما العلم إلا من عند الله.
الفصل الثامن و الثلاثون: في أن العلوم الإلهية لا توسع فيها الأنظار و لا تفرع المسائل اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين: علوم مقصودة بالذات كالشرعيات من التفسير و الحديث و الفقه و علم الكلام و كالطبيعيات و الإلهيات من الفلسفة، و علوم هي وسيلة آلية بهذه العلوم كالعربية و الحساب و غيرهما للشرعيات كالمنطق للفلسفة. و ربما كان آلة لعلم الكلام و لأصول الفقه على طريقة المتأخرين فأما العلوم التي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها و تفريع المسائل و استكشاف الأدلة و الأنظار فإن ذلك يزيد طالبها تمكنا في ملكته و إيضاحا لمعانيها المقصودة. و أما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية و المنطق و أمثالهما فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط. و لا يوسع فيها الكلام و لا تفرع المسائل لأن ذلك يخرج لها عن المقصود إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير. فكلما خرجت عن ذلك خرجت في المقصود و صار الاشتغال بها لغوا مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها و كثرة فروعها. و ربما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها مع أن شأنها أهم و العمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعا للعمر و شغلا بما لا يغني. و هذا كما فعل المتأخرون في صناعة النحو و صناعة المنطق و أصول الفقه لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها و أكثروا من التفاريع و الاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة و صيرها من المقاصد و ربما يقع فيها لذلك أنظار و مسائل لا حاجة بها في العلوم المقصودة فهي من نوع اللغو و هي أيضا مضرة بالمتعلمين على الإطلاق لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد ؟ فلهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستجيروا في شأنها و لا يستكثروا من مسائلها و ينبهوا المتعلم على الغرض منها و يقفوا به عنده. فمن نزعت به همته بعد ذلك إلى شيء من التوغل و رأى من نفسه قياما بذلك و كفاية به فليرق له ما شاء من المراقي صعبا أو سهلا و كل ميسر لما خلق له.
الفصل التاسع و الثلاثون: في تعليم الولدان و اختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار الدين أخذ به أهل الملة و درجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان و عقائده من آيات القرآن و بعض متون الأحاديث. و صار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات. و سبب ذلك أن التعليم في الصفر أشد رسوخا و هو أصل لما بعده لأن السابق الأول للقلوب كالأساس و للملكات. و على حسب الأساس و أساليبه يكون حال من ينبني عليه. و اختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات. فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، و أخذهم أثناء المدارسة بالرسم و مسائله و اختلاف حملة القرآن فيه لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث و لا من فقه و لا من شعر و لا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة. و هذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب و من تبعهم من قرى البربر، أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة. و كذا في الكبير إذا رجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره. فهم لذلك أقوم على رسم القرآن و حفظه من سواهم. و أما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن و الكتاب من حيث هو، و هذا هو الذي يراعونه في التعليم. إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك و أسه و منبع الدين و العلوم جعلوه أصلا في التعليم. فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب و الترسل و أخذهم بقوانين العربية و حفظها و تجويد الخط و الكتاب. و لا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه، بل عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة و قد شدا بعض الشيء في العربية و الشعر و البصر بهما و برز في الخط و الكتاب و تعلق بأذيال العلم على الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم. لكنهم ينقطعون عن ذلك لانقطاع سند التعليم في آفاقهم و لا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول. و فيه كفاية لمن أرشده الله تعالى و استعداد إذا وجد المعلم. و أما أهل أفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب و مدارسة قوانين العلوم و تلقين بعض مسائلها إلا أن عنايتهم بالقرآن و استنظار الولدان إياه و وقوفهم على اختلاف رواياته و قراءاته أكثر مما سواه و عنايتهم بالخط تبع لذلك. و بالجملة فطريقهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس، و استقروا بتونس و عنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك. و أما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا و لا أدري بم عنايتهم منها. و الذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن و صحف العلم و قوانينه في زمن الشبيبة و لا يخلطون بتعليم الخط بل لتعليم الخط عندهم قانون و معلمون له على انفراده كما تتعلم سائر الصنائع و لا يتداولونها في مكاتب الصبيان. و إذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة و من أراد تعلم الخط فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه و يبتغيه من أهل صنعته. فأما أهل أفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة و ذلك أن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه و الاحتذاء بها. و ليس لهم ملكة في غير أساليبه فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي و حظه الجمود في العبارات و قلة التصرف في الكلام. و ربما كان أهل أفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب بما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه فيقتدرون على شيء من التصرف و محاذاة المثل بالمثل إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة كما سيأتي في فصله. و أما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم و كثرة رواية الشعر و الترسل و مدارسة العربية من أول العمر، حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي. و قصروا في سائر العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن و الحديث الذي هو أصل العلوم و أساسها. فكانوا لذلك أهل حظ و أدب بارع أو مقصر على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبي. و لقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم وأعاد في ذلك و أبدأ و قدم تعليم العربية و الشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس. قال: لأن الشعر ديوان العرب و يدعو على تقديمه و تعليم العربية في التعليم ضرورة فساد اللغة ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليك بهذه المقدمة. ثم قال: و يا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أوامره يقرأ مالا يفهم و ينصب في أمر غيره أهم ما عليه منه. ثم قال ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث و علومه، و نهى مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم قابلا لذلك بجودة الفهم و النشاط. هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر رحمه الله و هو لعمري مذهب حسن إلا أن العوائد لا تساعد عليه و هي أملك بالأحوال و وجه ما اختصت به العوائد من تقدم دراسة القرآن إيثارا للتبرك و الثواب، و خشية ما يعرض للولد في جنون الصبي من الآفات و القواطع عن العلم فيفوته القرآن، لأنه ما دام في الحجر منقاد للحكم. فإذا تجاوز البلوغ و انحل من ربقة القهر فربما عصفت به رياح الشبيبة فألقته بساجل البطالة فيغتنمون في زمان الحجر و ربقة الحكم تحصيل القرآن لئلا يذهب خلوا منه. و لو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم و قبوله التعليم لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى ما أخذ به أهل المغرب و المشرق. و لكن الله يحكم ما يشاء لا معقب لحكمه.
الفصل الأربعون: في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم و ذلك أن إرهاف الحد بالتعليم مضر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة. و من كان مرباه بالعسف و القهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر و ضيق عن النفس في انبساطها و ذهب بنشاطها و دعاه إلى الكسل و حمل على الكذب و الخبث و هو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه و علمه المكر و الخديعة لذلك و صارت له هذه عادة و خلقا و فسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع. و التمرن و هي الحمية و المدافعة عن نفسه و منزله. و صار عيالا على غيره في ذلك بل و كسلت النفس عن اكتساب الفضائل و الخلق الجميل فانقبضت عن غايتها و مدى إنسانيتها فارتكس و عاد في أسفل السافلين. و هكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر و نال منها العسف و اعتبره في كل من يملك أمره عليه. و لا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به. و تجد ذلك فيهم استقراء و انظره في اليهود و ما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق. و عصر بالحرج و معناه في الاصطلاح المشهور التخابث و الكيد و سببه ما قلناه. فينبغي للمعلم في متعلمه و الوالد في ولده أن لا يستبدا عليهما في التأديب. و قد قال محمد بن أبى زيد في كتابه الذي ألفه في حكم المعلمين و المتعلمين: لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئا. و من كلام عمر رضي الله عنه: من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله. حرصا على صون النفوس عن مذلة التأديب و علما بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له فإنه أعلم بمصلحته. و من أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده. قال خلف الأحمر: بعث إلي الرشيد في تأديب ولده محمد الأمين فقال: يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه و ثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة و طاعته لك واجبة و كن له بحيث وضعك أمير المؤمنين أقرئه القرآن و عرفه الأخبار و روه الأشعار و علمه السنن و بصره بمواقع الكلام و بدئه و امنعه من الضحك إلا في أوقاته و خذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه و رفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه. و لا تمرن بك ساعة إلا و أنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه. و لا تمعن في مسامحته فيستجلي الفراغ و يألفه. و قومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة و الغلظة. انتهى.
الفصل الحادي و الأربعون: في أن الرحلة في طلب العلوم و لقاء المشيخة مزيد كمال في التعلم و السبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم و أخلاقهم و ما ينتحلون به من المذاهب و الفضائل: تارة علما و تعليما و إلقاء و تارة محاكاة و تلقينا بالمباشرة. إلا أن حصول الملكات عن المباشرة و التلقين أشد استحكاما و أقوى رسوخا. فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات و رسوخها. و الاصطلاحات أيضا في تعليم العلوم مخلطة على المتعلم حتى لقد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم. و لا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين. فلقاء أهل العلوم و تعدد المشايخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها فيجرد العلم عنها و يعلم أنها أنحاء تعليم و طرق توصل و تنهض قواه إلى الرسوخ و الاستحكام في المكان و تصحح معارفه و تميزها عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة و التلقين و كثرتهما من المشيخة عند تعددهم و تنوعهم. و هذا لمن يسر الله عليه طرق العلم و الهداية. فالرحلة لا بد منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد و الكمال بلقاء المشايخ و مباشرة الرجال. و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الفصل الثاني و الأربعون: في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة و مذاهبها و السبب في ذلك أنهم معتادون النظر الفكري و الغوص على المعاني و انتزاعها من المحسوسات و تجريدها في الذهن، أمورا كلية عامة ليحكم عليها بأمر العلوم لا بخصوص مادة و لا شخص و لا جيل و لا أمة و لا صنف من الناس. و يطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات. و أيضا يقيسون الأمور على أشباهها و أمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي. فلا تزال أحكامهم و أنظارهم كلها في الذهن و لا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث و النظر. و لا تصير بالجملة إلى المطابقة و إنما يتفرغ ما في الخارج عما في الذهن من ذلك كالأحكام الشرعية فإنها فروع عما في المحفوظ من أدلة الكتاب و السنة فتطلب مطابقة ما في الخارج لها عكس الأنظار في العلوم العقلية. التي تطلب في صحتها مطابقتها لما في الخارج. فهم متعودون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية و الأنظار الفكرية لا يعرفون سواها. و السياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج و ما يلحقها من الأحوال و يتبعها فإنها خفية. و لعل أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال و ينافي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها. و لا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر كما اشتبها في أمر واحد فلعلهما اختلفا في أمور فتكون العلماء لأجل ما تعودوه من تعميم الأحكام و قياس الأمور بعضها على بعض إذا نظروا في السياسة افرغوا ذلك في قالب أنظارهم و نوع استدلالاتهم فيقعون في الغلط كثيرا و لا يؤمن عليهم. و يلحق بهم أهل الذكاء و الكيس من أهل العمران لأنهم ينزعون بثقوب أذهانهم إلى مثل شأن الفقهاء من الغوص على المعاني و القياس و المحاكاة فيقعون في الغلط. و العامي السليم الطبع المتوسط الكيس لقصور فكره عن ذلك و عدم اعتياده إياه يقتصر لكل مادة على حكمها و في كل صنف من الأحوال و الأشخاص على ما اختص به و لا يعدي الحكم بقياس و لا تعميم و لا يفارق في أكثر نظره المواد المحسوسة و لا يجاوزها في ذهنه كالسابح لا يفارق البر عند الموج. قال الشاعر: فلا توغلن إذا ما سبحت فإن السلامة في الساحل فيكون مأمونا من النظر في سياسته مستقيم النظر في معاملة أبناء جنسه فيحسن معاشه و تندفع آفاته و مضاره باستقامة نظره. و فوق كل ذي علم عليم. و من هنا يتبين أن صناعة المنطق غير مأمونة الغلط لكثرة ما فيها من الانتزاع، و بعدها عن المحسوس فإنها تنظر في المعقولات الثواني. و لعل المواد فيها ما يمانع تلك الأحكام و ينافيها عند مراعاة التطبيق اليقيني. و أما النظر في المعقولات الأول و هي التي تجريدها قريب فليس كذلك لأنها خيالية و صور المحسوسات حافظة مؤذنة بتصديق انطباقه. و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.
الفصل الثالث و الأربعون: في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم لا من العلوم الشرعية و لا من العلوم العقلية إلا في القليل النادر. و إن كان منهم العربي في نسبته فهو أعجمي في لغته و مرباه و مشيخته مع أن الملة عربية و صاحب شريعتها عربي. و السبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم و لا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة و البداوة و إنما أحكام الشريعة التي هي أوامر الله و نواهيه كان الرجال ينقلونها في صدورهم و قد عرفوا مأخذها من الكتاب و السنة بما تلقوه من صاحب الشرع و أصحابه. و القوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم و التأليف و التدوين و لا دفغوا إليه و لا دعتهم إليه حاجة. و جرى الأمر على ذلك زمن الصحابة و التابعين و كانوا يسمون المختصين بحمل ذلك. و نقله إلى القراء أي الذين يقرأون الكتاب و ليسوا أميين لأن الأمية يومئذ صفة عامة في الصحابة بما كانوا عربا فقيل لحملة القرآن يومئذ قراء إشارة إلى هذا. فهم قراء لكتاب الله و السنة المأثورة عن الله لأنهم لم يعرفوا الأحكام الشرعية إلا منه و من الحديث الذي هو في غالب موارده تفسير له و شرح. قال صلى الله عليه و سلم: تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله و سنتي. فلما بعد النقل من لدن دولة الرشيد فما بعد احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية و تقييد الحديث مخافة ضياعه ثم احتيج إلى معرفة الأسانيد و تعديل الناقلين للتمييز بين الصحيح مم الأسانيد و ما دونه ثم كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب و السنة و فسد مع ذلك اللسان فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية و صارت العلوم الشرعية كلها ملكات في الاستنباطات و الاستخراج و التنظير و القياس و احتاجت إلى علوم أخرى و هي الوسائل لها من معرفة قوانين العربية و قوانين ذلك الاستنباط و القياس و الذب عن العقائد الإيمانية بالأدلة لكثرة البدع و الإلحاد فصارت هذه العلوم كلها علوما ذات ملكات محتاجة إلى التعليم فاندرجت في جملة الصنائع. و قد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر و أن العرب أبعد الناس عنها فصارت العلوم لذلك حضرية و بعد عنها العرب و عن سوقها. و الحضر لذلك العهد هم العجم أو من هم في معناهم من الموالي و أهل الحواضر الذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة و أحوالها من الصنائع و الحرف لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس فكان صاحب صناعة النحو سيبويه و الفارسي من بعده و الزجاج من بعدهما و كلهم عجم في أنسابهم. و إنما ربوا في اللسان العربي فاكتسبوه بالمربى و مخالطة العرب و صيروه قوانين و فنا لمن بعدهم. و كذا حملة الحديث الذين حفظوة عن أهل الإسلام أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة و المربى لاتساع الفن بالعراق. و كان علماء أصول الفقه كلهم عجما كما عرف و كذا حملة علم الكلام و كذا أكثر المفسرين. و لم يقم بحفظ العلم و تدوينه إلا الأعاجم. و ظهر مصداق قوله صلى الله عليه و سلم: لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس. و أما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة و سوقها و خرجوا إليها عن البداوة فشغلتهم الرئاسة في الدولة العباسية و ما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم. و النظر فيه، فإنهم كانوا أهل الدولة و حاميتها و أولي سياستها مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم حينئذ بما صار من جملة الصنائع. و الرؤساء أبدا يستنكفون عن الصنائع و المهن و ما يجر إليها و دفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولدين. و ما زالوا يرون لهم حق القيام به فإنه دينهم و علومهم و لا يحتقرون حملتها كل الاحتقار. حتى إذا خرج الأمر من العرب جملة و صار للعجم صارت العلوم الشرعية غريبة النسبة عند أهل الملك بما هم عليه من البعد عن نسبتها و امتهن حملتها بما يرون أنهم بعداء عنهم مشتغلين بما لا يغني و لا يجدي عنهم في الملك و السياسة كما ذكرناه في نقل المراتب الدينية. فهذا الذي قررناه هو السبب في أن حملة الشريعة أو عامتهم من العجم. و أما العلوم العقلية أيضا فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم و مؤلفوه. و استقر العلم كله صناعة فاختصت بالعجم و تركتها العرب و انصرفوا عن انتحالها فلم يحملها إلا المعربون من العجم شأن الصنائع كما قلناه أولا. فلم يزل ذلك في الأمصار الإسلامية ما دامت الحضارة في العجم و بلادهم من العراق و خراسان و ما وراء النهر. فلما خربت تلك الأمصار و ذهبت منها الحضارة التي هي سر الله في حصول العلم و الصنائع ذهب العلم من العجم جملة لما شملهم من البداوة و اختص العلم بالأمصار الموفورة الحضارة. و لا أوفر اليوم في الحضارة من مصر فهي أم العالم و إيوان الإسلام و ينبوع العلم و الصنائع. و بقي بعض الحضارة في ما وراء النهر لما هناك من الحضارة بالدولة التي فيها فلهم بذلك، حصة من العلوم و الصنائع لا تنكر. و قد دلنا على ذلك كلام بعض علمائهم من تآليف وصلت إلينا إلى هذه البلاد و هو سعد الدين التفتازاني. و أما غيره من العجم فلم نر لهم من بعد الإمام ابن الخطيب و نصير الدين الطوسي كلاما يعول على نهايته في الإصابة. فاعتير ذلك و تأمله تر عجبا في أحوال الخليقة. و الله يخلق ما بشاء لا شريك له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير و حسبنا الله و نعم الوكيل و الحمد لله.
الفصل الرابع و الأربعون: في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربي و السر في ذلك أن مباحث العلوم كلها إنما هي في المعاني الذهنية و الخيالية، من بين العلوم الشرعية، التي هي أكثر مباحثها في الألفاظ و مودها من الأحكام المتلقاة من الكتاب و السنة و لغاتها المؤدية لها، و هي كلها في الخيال، و بين العلوم العقلية، و هي في الذهن. و اللغات إنما هي ترجمان عما في الضمائر من تلك المعاني، يؤديها بعض إلى بعض بالمشافهة بالمناظرة و التعليم، و ممارسة البحث بالعلوم لتحصيل ملكاتها بطول المران على ذلك. و الألفاظ و اللغات وسائط و حجب بين الضمائر، و روابط و ختام بين المعاني. و لابد في اقتياض تلك الضمائر من المعاني من ألفاظها لمعرفة دلالاتها اللغوية عليها، و جودة الملكة لناظر فيها، و إلا فيعتاض عليه اقتناصها زيادة على ما يكون في مباحثها الذهنية من الاعتياص. و إذا كانت ملكته في تلك الدلالات راسخة، بحيث يتبادر المعاني إلى ذهنه من تلك الألفاظ عن استعمالها، أن البديهي والجبلي، زال ذاك الحجاب بالجملة بين المعاني و الفهم أو خف، و لم يبق إلا معاناة ما في المعاني من المباحث فقط. هذا كله إذا كان التعاليم تلقينا و بالخطاب و العبارة. و أما إن احتاج المتعلم إلى الدراسة و التقييد بالكتاب و مشافهة الرسوم الخطية من الدواوين بمسائل العلوم، كان هنالك حجاب آخر بين الخط و رسومه في الكتاب، و بين الألفاظ المقولة في الخيال. لأن رسوم الكتاب لها دلالة خاصة على الألفاظ المقولة. و ما لم تعرف تلك الدلالة تعذرت معرفة العبارة. و إن عرفت بملكة قاصرة كانت معرفتها أيضا قاصرة، و يزداد على الناظر و المتعلم بذلك حجاب آخر بينه و بين مطلوبه، من تحصيل ملكات العلوم أعوص من الحجاب الأول. و إذا كانت ملكته في الدلالة اللفظية و الخطية مستحكمة ارتفعت الحجب بينه و بين المعاني. و صار إنما يعاني فهم مباحثها فقط. هذا شأن المعاني مع الألفاظ و الخط بالنسبة إلى كل لغة. و المتعلمون لذلك في الصغر أشد استحكاما لملكاتهم، ثم إن الملة الإسلامية لما اتسع ملكها و اندرجت الأمم في طيها و درست علوم الأولين بنبوتها و كتابها، و كانت أمية النزعة و الشعار، فأخذ الملك و العزة و سخرية الأمم لهم بالحضارة و التهذيب، و صيروا علومهم الشرعية صناعة، بعد أن كانت نقلا، فحدثت فيهم الملكات، و كثرت الدواوين و التآليف، و تشوفوا إلى علوم الأمم فنقلوها بالترجمة إلى علومهم و أفرغوها في قالب أنظارهم، و جردوها من تلك اللغات الأعجمية إلى لسانهم و أربوا فيها على مداركهم، و بقيت تلك الدفاتر التي بلغتهم الأعجمية نسيا منسيا و طللا مهجورا و هباء منثورا. و أصبحت العلوم كلها بلغة العرب، و دواوينها المسطرة بخطهم، و احتاج القائمون بالعلوم إلى معرفة الدلالات اللفظية و الخطية في لسانهم دون ما سواه من الألسن، لدروسها و ذهاب العناية بها. و قد تقدم لنا أن اللغة ملكة في اللسال، و كذا الخط صناعة ملكتها في اليد، فإذا تقدمت في اللسان ملكة العجمة، صار مقصرا في اللغة العربية، لما قدمناه من أن الملكة إذا تقدمت في صناعة بمحل، فقل أن يجيد صاحبها ملكة في صناعة أخرى، و هو ظاهر. و إذا كال مقصرا في اللغة العربية و دلالاتها اللفظية و الخطية اعتاص عليه فهم المعاني منها كما مر. إلا أن تكون ملكة العجمة السابقة لم تستحكم حين انتقل منها إلى العربية، كأصاغر أبناء العجم الذين يربون مع العرب قبل أن تستحكم عجمتهم. فتكون اللغة العربية كأنها السابقة لهم، و لا يكون عندهم تقصير في فهم المعاني من العربية. و كذا أيضا شأن من سبق له تعلم الخط الأعجمي قبل العربي. و لهذا نجد الكثير من علماء الأعاجم في دروسهم و مجالس تعليمهم يعدلون عن نقل التفاسير من الكتب إلى قراءتها ظاهرا يخففون بذلك عن أنفسهم مؤونة بعض الحجب ليقرب عليهم تناول المعاني. و صاحب الملكة في العبارة و الخط مستغن عن ذلك، بتمام ملكته، و إن صار له فهم الأقوال من الخط، و المعاني من الأقوال كالجبلة الراسخة، و ارتفعت الحجب بينه و بين المعاني. و ربما يكون الدؤوب على التعليم و المران على اللغة، و ممارسة الخط يفيضان لصاحبهما إلى تمكن الملكة، كما نجده في الكثير من علماء الأعاجم، إلا أنه في النادر. و إذا قرن بنظيره من علماء العرب و أهل طبقته منهم، كان باع العرب أطول و ملكته أقوى، لما عند المستعجم من الفتور بالعجمة السابقة التي يؤثر القصور بالضرورة و لا يعترص ذلك بما تقدم بأن علماء الإسلام أكثرهم العجم، لأن المراد بالعجم هنالك عجم النسب لتداول الحضارة فيهم التي قررنا أنها سبب لانتحال الصنائع و الملكات و من جملتها العلوم. و أما عجمة اللغة فليست من ذلك و هي المرادة هنا. و لا يعترض ذلك أيضا مما كان لليونانيين في علومهم من رسوخ القدم فأنهم إنما تعلموها من لغتهم السابقة لهم و خطهم المتعارف بينهم. و الأعجمي المتعلم للعلم في الملة الإسلامية يأخذ العلم بغير لسانه الذي سبق إليه، و من غير خطه الذي يعرف ملكته. فلهذا يكون له ذلك حجابا كما قلناه. و هذا عام في جميع أصناف أهل اللسان الأعجمي من الفرس و الروم و الترك و البربر و الفرنج. و سائر من ليس من أهل اللسان العربي. و في ذلك آيات للمتوسمين.
الفصل الخامس و الأربعون: في علوم اللسان العربي أركانه أربعة و هي اللغة و النحو و البيان و الأدب و معرفتها ضرورية على أهل الشريعة إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها في الكتاب و السنة و هي بلغة العرب و نقلتها من الصحابة و التابعين عرب و شرح مشكلاتها من لغاتهم فلابد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة. و تتفاوت في التأكيد بتفاوت مراتبها في التوفية بمقصود الكلام حسبما يتبين في الكلام عليها فنا فنا و الذي يتحصل أن الأهم المقدم منها هو النحو إذ به تتبين أصول المقاصد بالدلالة فيعرف الفاعل من المفعول و المبتدأ من الخبر و لولاه لجهل أصل الإفادة. و كان من حق علم اللغة التقدم لولا أن أكثر الأوضاع باقية في موضوعاتها لم تتغير بخلاف الإعراب الدال على الإسناد و المسند و المسند إليه فإنه تغير بالجملة و لم يبق له أثر. فلذلك كان علم النحو أهم من اللغة إذ في جهله الإخلال بالتفاهم جملة و ليست كذلك اللغة و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.
علم النحو اعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده. و تلك العبارة فعل لساني ناشئ عن القصد بإفادة الكلام فلابد أن تصير ملكة متقررة في الغصو الفاعل لها و هو اللسان و هو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم. و كانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات و أوضحها إبانة عن المقاصد لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني. مثل الحركات التي تعين الفاعل من المفعول من المجرور أعني المضاف و مثل الحروف التي تفضي بالأفعال أي الحركات إلى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى. و ليس يوجد ذلك إلا في لغة العرب. و أما غيرها من اللغات فكل معنى أو حال لابد له من ألفاظ تخصه بالدلالة و لذلك نجد كلام العجم من مخاطباتهم أطول مما تقدره بكلام العرب. و هذا هو معنى قوله صلى الله عليه و سلم: أوتيت جوامع الكلم و اختصر لي الكلام اختصارا. فصار للحروف في لغتهم. و الحركات و الهيئات أي الأوضاع اعتبار في الدلالة على المقصود غير متكلفين فيه لصناعة يستفيدون ذلك منها. إنما هي ملكة في ألسنتهم يأخذها الآخر عن الأول كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا. فلما جاء الإسلام و فارقوا الحجاز لطلب الملك الذي كان في أيدي الأمم و الدول و خالطوا المجم تغيرت تلك الملكة بما ألقى إليها السمع من المخالفات التي للمستعربين. و السمع أبو الملكات اللسانية ففسدت بما ألقي إليها مما يغايرها لجنوحها إليه باعتياد السمع. و خشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأسا و يطول العهد بها فينغلق القرآن و الحديث على المفهوم فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة شبه الكليات و القواعد يقيسون عليها سائر أنواع الكلام و يلحقون الأشباه بالأشباه مثل أن الفاعل مرفوع و المفعول منصوب و المبتدأ مرفوع. ثم رأوا تغير الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات فاصطلحوا على تسميته إعرابا و تسمية الموجب لذلك التغير عاملا و أمثال ذلك. و صارت كلها اصطلاحات خاصة بهم فقيدوها بالكتاب و جعلوها صناعة لهم مخصوصة. و اصطلحوا على تسميتها بعلم النحو. و أو ل من كتب فيها أبو الأسود الدؤلي من بني كنانة و يقال بإشارة علي رضي الله عنه لأنه رأى تغير الملكة فأشار عليه بحفظها ففزع إلى ضبطها بالقوانين الحاضرة المستقرأة. ثم كتب فيها الناس من بعده إلى أن انتهت إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد و كان الناس أحوج ما كان الناس إليها لذهاب تلك الملكة من العرب. فهذب الصناعة و كمل أبوابها. و أخذها عنه سيبويه فكمل تفاريعها و استكثر من أدلتها و شواهدها و وضع فيها كتابه المشهور الدي صار إماما لكل ما كتب فيها من بعده. ثم وضع أبو علي الفارسي و أبو القاسم الزجاج كتبا مختصرة للمتعلمين يحذون فيها حذو الإمام في كتابه. ثم طال الكلام في هذه الصناعة و حدث الخلاف بين أهلها في الكوفة و البصرة المصرين القديمين للعرب. و كثرت الأدلة و الحجاج بينهم و تباينت الطرق في التعليم و كثر الاختلاف في إعراب كثير من آي القرآن باختلافهم في تلك القواعد و طال ذلك على المتعلمين. و جاء المتأخرون بمذاهبهم في الاختصار فاختصروا كثيرا من ذلك الطول مع استيعابهم لجميع ما نقل كما فعله ابن مالك في كتاب التسهيل و أمثاله أو اقتصارهم على المبادئ للمتعلمين، كما فعله الزمخشري في المفصل و ابن الحاجب في المقدمة له. و ربما نظموا ذلك نظما مثل ابن مالك في الأرجوزتين الكبرى و الصغرى و ابن معطي في الارجوزة الألفية. و بالجملة فالتآليف في هذا الفن أكثر من أن تحصى أو يحاط بها و طرق التعليم فيها مختلفة فطريقة المتقدمين مغايرة لطريقة المتأخرين. و الكوفيون و البصريون و البغداديون و الأندلسيون مختلفة طرقهم كذلك. و قد كادت هذه الصناعة تؤذن بالذهاب لما رأينا من النقص في سائر العلوم و الصنائع بتناقص العمران و وصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر منسوب إلى جمال الدين بن هشام من علمائها استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة و مفصلة. و تكلم على الحروف و المفردات و الجمل و حذف ما في الصناعة من المتكرر في أكثر أبوابه و سماه بالمغني في الإعراب. و أشار إلى نكت إعراب القرآن كلها و ضبطها بأبواب و فصول و قواعد انتظم سائرها فوقفنا منع على علم جم يشهد بعلو قدره في هذه الصناعة و وفور بضاعته منها و كأنه ينحو في طريقته منحاة أهل الموصل الذين اقتفوا أثر ابن جني و اتبعوا مصطلح تعليمه فأتى من ذلك بشيء عجيب دال على قوة ملكته و اطلاعه. و الله يزيد في الخلق ما يشاء.
علم اللغة هذا العلم هو بيان الموضوعات اللغوية و ذلك أنه لما فسدت ملكة اللسان العربي في الحركات المسماة عند أهل النحو بالإعراب و استنبطت القوانين لحفظها كما قلناه. ثم استمر ذلك الفساد بملابسة العجم و مخالطتهم حتى تأدى الفساد إلى موضوعات الألفاظ فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم ميلا مع هجنه المستعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللغوية بالكتاب و التدوين خشية الدروس و ما ينشا عنه من الجهل بالقرآن و الحديث فشمر كثير من أئمة اللسان لذلك و أملوا فيه الدواوين. و كان سابق الحلبة في ذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي. ألف فيها كتاب العين فحصر فيه فركبات حروف العجم كلها من الثنائي و الثلاثي والرباعي و الخماسي و هو غاية ما ينتهي إليه التركيب في اللسان العربي. و تأتي له حصر ذلك بوجوه عديدة حاضرة و ذلك أن جملة الكلمات الثنائية تخرج من جميع الأعداد على التوالي من واحد إلى سبعة و عشرين و هو دون نهاية حروف العجم بواحد. لأن الحرف الواحد منها يؤخذ مع كل واحد من السبعة و العشرين فتكون سبعة و عشرين كلمة ثنائية. ثم يؤخذ الثاني مع الستة و العشرين كذلك. ثم الثالث و الرابع. ثم يؤخذ السابع و العشرون مع الثامن و العشرين فيكون واحدا فتكون كلها أعدادا على توالي العدد من واحد إلى سبعة و عشرين فتجمع كما هي بالعمل المعروف عند أهل الحساب و هو أن تجمع الأول مع الأخير و تضرب المجموع في نصف العدة. ثم تصاعف لأجل قلب الثنائي لأن التقديم و التأخير بين الحروف معتبر في التركيب فيكون الخارج جملة الثنائيات. و تخرج الثلاثيات من صرب عدد الثنائيات فيما يجمع من واحد إلى ستة و عشرين على توالى العدد لأن كل ثنائية يزيد عليها حرفا فتكون ثلاثية. فتكون الثنائية بمنزلة الحرف الواحد مع كل واحد من الحروف الباقية و هي ستة و عشرون حرفا بعد الثنائية فتجمع من واحد إلى ستة و عشرين على توالي العدد و يضرب فيه جملة الثنائيات. ثم تضرب الخارج في ستة، جملة مقلوبات الكلمة الثلاثية فيخرج مجموع تراكيبها من حروف العجم. و كذلك في الرباعي و الخماسي. فانحصرت له التراكيب بهذا الوجه و رتب أبوابه على حروف العجم بالترتيب المتعارف. و اعتمد فيه ترتيب المخارج فبدأ بحروف الحلق ثم بعده من خروف الحنك ثم الأضراس ثم الشفة و جعل حروف العلة آخرا و هي الحروف الهوائية. و بدأ من حروف الحلق بالعين لأنه الأقصر منها فلذلك سمي كتابه بالعين لأن المتقدمين كانوا يذهبون في تسمية دواوينهم إلى مثل هذا و هو تسميته بأول ما يقع فيه من الكلمات و الألفاظ. ثم بين المهمل منها من المستعمل و كان المهمل في الرباعي و الخماسي أكثر لقلة استعمال العرب له لثقله و لحق به الثنائي لقلة دورانه و كان الإستعمال في الثلاثي أغلب فكانت أوضاعه أكثر لدورانه. و ضمن الخليل ذلك كله في كتاب العين و استوعبه أحسن استيعاب و أوعاه. و جاء أبو بكر الزبيدي و كتب لهشام المؤيد بالأندلس في المائة الرابعة فاختصره مع المحافظة على الاستيعاب و حذف منه المهمل كله و كثيرا من شواهد المستعمل و لخصه للحفظ أحسن تلخيص. و ألف الجوهري من المشارقة كتاب الصحاح على الترتيب المتعارف لحروف العجم فجعل البداءة منها بالهمزة و جمل الترجمة بالحروف على الحرف الأخير من الكلمة لاضطرار الناس في الأكثر إلى أواخر الكلم فجعل ذلك بابا. ثم يأتي بالحروف أول الكلمة على ترتيب حروف العجم أيصا و يترجم عليها بالفصول إلى آخرها. و حصر اللغة اقتداء بحصر الخليل. ثم ألف فيها من الأندلسيين ابن سيده من أهل دانية في دولة علي بن مجاهد كتاب المحكم على ذلك المنحى من الاستيعاب و على نحو ترتيب كتاب العين. و زاد فيه التعرض لاشتقاتات الكلم و تصاريفها فجاء من أحسن الدواوين. و لخصه محمد بن أبي الحسين صاحب المستنصر من ملوك الدولة الحفصية بتونس. و قلب ترتيبه إلى ترتيب كتاب الصحاح في اعتبار أواخر الكلم و بناء التراجم عليها فكانا توأمي رحم و سليلي أبوة و لكراع من أئمة اللغة كتاب المنجد، و لابن دريد كتاب الجمهرة و لابن الأنباري كتاب الزاهر هذه أصول كتب اللغة فيما علمناه. و هناك مختصرات أخرى مختصة بصنف من الكلم و مستوعبة لبعض الأبواب أو لكلها. إلا أن وجه الحصر فيها خفي و و في الحصر في تلك جلي من قبل التراكيب كما رأيت. و من الكتب الموضوعة أيضا في اللغة كتاب الزمخشري في المجاز سماه أساس البلاغة بين فيه كل ما تجوزت به العرب من الألفاظ و فيما تجوزت به من المدلولات و هو كتاب شريف الإفادة. ثم لما كانت العرب تضع الشيء على العموم ثم تستعمل في الأمور الخاصة ألفاظا أخرى خاصة بها فوق ذلك عندنا، و بين الوضع و الاستعمال و احتاج إلى فقه في اللغة عزيز المأخذ كما وضع الأبيض بالوضع العام لكل ما فيه بياض ثم اختص ما فيه بياض من الخيل بالأشهب و من الإنسان بالأزهر و من الغنم بالأملح حتى صار استعمال الأبيص في هذه كلها لحنا و خروجا عن لسان العرب. و اختص بالتأليف في هذا المنحى الثعالبي و أفرده في كتاب له سماه فقه اللغة و هو من أكد ما بأخذ به اللغوي نفسه أن يحرف استعمال العرب عن مواضعه. فليس معرفة الوضع الأول بكاف في الترتيب حتى يشهد له استعمال العرب لذلك. و أكثر ما يحتاج إلى ذلك الأديب في فني نظمه و نثره حذرا من أن يكثر لحنه في الموضوعات اللغوية في مفرداتها و تراكيبها و هو أشد من اللحن في الإعراب و أفحش. و كذلك ألف بعض المتأخرين في الألفاظ المشتركة و تكفل بحصرها و إن لم تبلغ إلى النهاية في ذلك فهو مستوعب للأكثر. و أما المختصرات الموجودة في هذا الفن المخصوصة بالمتداول من اللغة الكثير الاستعمال تسهيلا لحفظها على الطالب فكثيرة مثل الألفاظ لابن السكيت و الفصيح لثعلب و غيرهما. و بعضها أقل لغة من بعض لاختلاف نظرهم في الأهم على الطالب للحفظ. و الله الخلاق العليم لا رب سواه. فصل: و اعلم أن النقل الذي تثبت به اللغة، إنما هو النقل عن العرب أنهم استعملوا هذه الألفاظ لهذه المعاني، لا تقل إنهم وصغوها لأنه متعذر و بعيد. و لم يعرف لأحد منهم. و كذلك لا تثبت اللغات بقياس ما لم نعلم استعماله. على ما عرف استعماله في ماء العنب، باعتبار الإسكار الجامع. لأن شهادة الاعتبار في باب القياس إنما يدركها الشرع الدال على صحة القياس من أصله. و ليس لنا مثله في اللغة إلا بالعقل، و هو محكم، و على هذا في جمهور الأئمة. و إن مال إلى القياس فيها القاضي و ابن سريح و غيرهم. لكن القول بنفيه أرجح. و لا تتوهمن أن إثبات اللغة في باب الحدود اللفظية، لأن الحد راجع إلى المعاني. ببيان أن مدلول اللفظ المجهول الخفي هو مدلول الواضح المشهور، و اللغة إثبات أن اللفظ كذا، لمعنى كذا، و الفرق في غاية الظهور.
علم البيان هذا العلم حادث في الملة بعد علم العربية و اللغة، و هو من العلوم اللسانية لأنه متعلق بالألفاظ و ما تفيده. و يقصد بها الدلالة عليه من المعاني و ذلك أن الأمور التي يقصد المتكلم بها إفادة السامع من كلامه هي: إما تصور مفردات تسند و مسند إليها و يفضي بعضها إلى بعض. و الدالة على هذه هي المفردات من الأسماء و الأفعال و الحروف و إما تمييز المسندات من المسند إليها و الأزمنة. و يدل عليها بتغير الحركات من الإعراب و أبنية الكلمات. و هذه كلها هي صناعة النحو. و يبقى من الأمور المكتنفة بالواقعات المحتاجة للدلالة أحوال المتخاطبين أو الفاعلين و ما يقتضيه حال الفعل و هو محتاج إلى الدلالة عليه لأنه من تمام الإفادة و إذا حصلت للمتكلم فقد بلغ غاية الإفادة في كلامه. و إذا لم يشتمل على شيء منها فليس من جنس كلام العرب فإن كلامهم واسع و لكل مقام عندهم مقال يختص به بعد كمال الإعراب و الإبانة. ألا ترى أن قولهم زيد جاءني مغاير لقولهم جاءني زيد من قبل أن المتقدم منهما هو الأهم عند المتكلم فمن قال: جاءني زيد أفاد أن اهتمامه بالمجيء قبل الشخص المسند إليه و من قال: زيد جاءني أفاد أن اهتمامة بالشخص قبل المجيء المسند. و كذا التعبير عن أجزاء الجملة بما يناسب المقام من موصول أو مبهم أو معرفة. و كذا تأكيد الإسناد على الجملة كقولهم: زيد قائم و أن زيدا قائم و إن زيدا لقائم متغايرة كلها في الدلالة و إن استوت من طريق الإعراب فإن الأول العاري عن التأكيد أنما يفيد الخالي الذهن و الثاني المؤكد بإن يفيد المتردد و الثالث يفيد المنكر فهي مختلفة. و كذلك تقول: جاءني الرجل ثم تقول مكانه بعينه جاءني رجل إذا قصدت بذلك التنكير تعظيمه و أنه رجل لا يعادله أحد من الرجال. ثم الجملة الإسنادية تكون خبرية و هي التي لها خارج تطابقه أولا، و إنشائية و هي التي لا خارج لها. كالطلب و أنواعه. ثم قد يتعين ترك العاطف بين الجملتين إذا كان للثانية محل من الإعراب: فيشرك بذلك منزلة التابع المفرد نعتا و توكيدا و بدلا بلا عطف أو يتعين العطف إذا لم يكن للثانية محل من الإعراب. ثم يقتضي المحل الإطناب و الإيجاز فيورد الكلام عليهما. ثم قد يدل باللفظ و لا يراد منطوقه و يراد لازمه إن كان مفردا كما تقول: زيد أسد فلا تريد حقيقة الأسد المنطوقة و إنما تريد شجاعته اللازمة و تسندها إلى زيد و تسمى هذه استعارة. و قد تريد باللفظ المركب الدلالة على ملزومه كما تقول: زيد كثير الرماد و تريد ما لزم ذلك عنه من الجود و قرى الضيف لأن كثرة الرماد ناشئة عنهما في دالة عليهما. و هذه كلها دلالة زائدة على دلالة الألفاظ من المفرد و المركب و إنما هي هيئات و أحوال الواقعات جعلت للدلالة عليها أحوال و هيئات في الألفاظ كل بحسب ما يقتضيه مقامه، فاشتمل هذا العلم المسمى بالبيان على البحث عن هذه الدلالة التي هي للهيئات و الأحوال و المقامات و جعل على ثلاثة أصناف: الصنف الأول يبحث فيه عن هذه الهيآت و الأحوال التي تطابق باللفظ جميع مقتضيات الحال و يسمى علم البلاغة، و الصنف الثاني يبحث فيه عن الدلالة على اللازم اللفظي و ملزومه و هي الاستعارة و الكناية كما قلناه و يسمى علم البيان. و ألحقوا بهما صنفا آخر و هو النظر في تزيين الكلام و تحسينه بنوع من التنميق إما بسجع يفصله أو تجنيس. يشابه بين ألفاظه أو ترصيع يقطع أو تورية عن المعنى المقصود بإيهام معنى أخفى منة لاشتراك اللفظ بينهما و أمثال ذلك و يسمى عندهم علم البدء. و أطق على الأصناف الثلاثة عند المحدثين اسم البيان و هو اسم الصنف الثاني لأن الأقدمين أول من تكلموا فيها ثم تلاحقت مسائل الفن واحدة بعد أخرى و كتب فيها جعفر بن يحيى و الجاحظ و قدامة وأمثالهم إملاءات غير وافية فيها. ثم لم تزل مسائل الفن تكمل شيئا فشيئا إلى أن محص السكاكي زبدته و هذب مسائله و رتب أبوابه على نحو ما ذكرناه أنفا من الترتيب و ألف كتابه المسمى بالمفتاح في النحو و التصريف و البيان فجعل هذا الفن من بعض أجزائه. و أخذه المتأخرون من كتابه و لخصوا منه أمهات قي المتداولة لهذا العهد كما فعله السكاكي في كتاب التبيان و ابن مالك في كتاب المصباح و جلال الدين القزويني في كتاب الإيضاح و التلخيص و هو أصغر حجما من الإيضاح و العناية به لهذا العهد عند أهل المشرق في الشرح و التعليم منه أكثر من غيره. و بالجملة فالمشارقة على هذا الفن أقوم من المغاربة و سببه و الله أعلم أنه كمالي في العلوم اللسانية و الصنائع الكمالية توجد في وفور العمران. و المشرق أوفر عمرانا من المغرب كما ذكرناه. أو نقول لعناية العجم و هم معظم أهل المشرق كتفسير الزمخشري، و هو كله مبني على هذا الفن و هو أصله. و إنما اختص بأهل المغرب من أصنافه علم البدء خاصة، و جعلوه من جملة علوم الأدب الشعرية، و فرغوا له ألقابا و عدوا أبوابا و نوعوا أنواعا. و زعموا أنهم أحصوها من لسان العرب و إنما حملهم على ذلك الولوع بتزيين الألفاظ، و العلم البديع سهل المأخذ. و صعبت عليهم مآخذ البلاغة و البيان لدقة أنظارهما و غموض معانيهما فتجافوا عنهما. و ممن ألف في البدء من أهل أفريقية ابن رشيق و كتاب العمدة له مشهور. و جرى كثير من أهل أفريقية و الأندلس على منحاه. و اعلم أن ثمرة هذا الفن إنما هي في فهم الإعجاز من القرآن لأن إعجازه في وفاء الدلالة منه بجميع مقتضيات الأحوال منطوقة و مفهومة و هي أعلى مراتب الكمال مع الكلام فيما يختص بالألفاظ في انتقائها و جودة رصفها و تركيبها. و هذا هو الإعجاز الذي تقصر الأفهام عن إدراكه. و إنما يدرك بغض الشيء منه من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي و حصول ملكته فيدرك من إعجازه على قدر ذوقه. فلهذا كانت مدارك العرب الذين سمعوة من مبلغه أعلى مقاما في ذلك لأنهم فرسان الكلام و جهابذته و الذوق عندهم موجود بأوفر ما يكون و أصحه. و أحوج ما يكون إلى هذا الفن المفسرون و أكثر تفاسير المتقدمين غفل عنه حتى ظهر جاز الله الزمخشري و وضع كتابه في التفسير و تتبع آي القرآن بأحكام هذا الفن بما يبدي البعض من إعجازه فانفرد بهذا الفصل على جميع التفاسير لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة. و لأجل هذا يتحاماه كثير من أهل السنة مع وفور بضاعته من البلاغة. فمن أحكم عقائد السنة و شارك في هذا الفن بعض المشاركة حتى يقتدر على الرد عليه من جنس كلامه أو يعلم أنه بدعة فيعرض عنها و لا تضر في معتقده فإنه يتعين عليه النظر في هذا الكتاب للظفر بشيء من الإعجاز مع السلامة من البدع و الأهواء. و الله الهادي من يشاء إلى سواء السبيل.
علم الأدب هذا العلم لا موضع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها. و إنما المقصود منة عند أهل اللسان ثمرته، و هي الاجادة في فني المنظوم و المنثور، على أساليب العرب و مناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الكلمة. من شعر عالي الطبقة، و سجع متساو في الإجادة، و مسائل من اللغة و النحو مبثوثة أثناء ذلك، متفرقة، يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع ذكر بعض من أيام العرب يفهم به ما يقع في أشعارهم منها. و كذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة و الأخبار العامة. و المقصود بذلك كله أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب و أساليبيهم و مناحي بلاغتهم إذا تصفحه لأنه لا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه فيحتاج إلى تقديم جميع ما يتوقف عليه فهمة. ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها و الأخذ من كل علم بطرف يريدون من علوم اللسان أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط و هي القرآن و الحديث. إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلام العرب إلا ما ذهب إليه المتأخرون عند كلفهم بصناعة البديع من التورية في أشعارهم و ترسلهم بالاصطلاحات العلمية فاحتاج صاحب هذا الفن حينئذ إلى معرفة اصطلاحات العلوم ليكون قائما على فهمها. و سمعنا من شيوخنا في مجالسى التعليم أن أصول هذا الفن و أركانه أربعة دوارين و هي أدب الكتاب لابن قتيبة و كتاب الكامل للمبرد و كتاب البيان و التبيين للجاحظ و كتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي. و ما سوى هذه الأربعة فتبع لها و فروع عنها. و كتب المحدثين في ذلك كثيرة. و كان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن لما هو تابع للشعر إذ الغناء إنما هو تلحينه. و كان الكتاب و الفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصا على تحصيل أساليب الشعر و فنونه فلم يكن انتحالة قادحا في العدالة و المروءة. و قد ألف القاضي أبو الفرج الأصبهاني كتابه في الأغاني جمع فيه أخبار العرب و أشعارهم و أنسابهم و أيامهم و دولتهم. و جعل مبناه على الغناء في المائة صوتا التي اختارها المغنون للرشيد فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب و أوفاه. و لعمري إنه ديوان العرب و جامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر و التاريخ و الغناء و سائر الأحوال و لا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه و هو الغاية التي يسمو إليها الأديب و يقف عندها و أنى له بها. و نحن الآن نرجع بالتحقيق على الإجمال فيما تكلمنا عليه من علوم اللسان. و الله الهادي للصواب.
الفصل السادس و الأربعون: في أن اللغة ملكة صناعية إعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعانى و جودتها و تصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها. و ليس ذلك بالنظر إلى المفردات و إنما هو بالنظر إلى التراكيب. فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة و مراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال بلغ المتكلم حينئد الغاية من إفادة مقصوده للسامع و هذا هو معنى البلاغة. و الملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال لأن الفعل يقع أولا و تعود منه للذات صفة ثم تتكرر فتكون حالا. و معنى الحال أنها صفة غير راسخه ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة. فالمتكلم من العرب حين كانت ملكته اللغة العربية موجودة فيهم يسمع كلام أهل جيله و أساليبهم في مخاطباتهم و كيفية تعبيرهم عن مقاصدهم كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيلقنها أولا ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك. ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة و من كل متكلم و استعماله يتكرر إلى أن يضير ذلك ملكة و صفة راسخة و يكون كأحدهم. هكذا تصيرت الألسن و اللغات من جيل إلى جيل و تعلمها العجم و الأطفال. و هذا هو معنى ما تقوله العامة من أن اللغة للعرب بالطبع أي بالملكة الأولى التي أخذت عنهم و لم يأخذوها عن غيرهم. ثم إنه لما فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم و سبب فسادها أن الناشئ من الجيل صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التي كانت للعرب فيميز بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم و يسمع كيفيات العرب أيضا فاختلط عليه الأمر و أخذ من هذه وهذه فاستحدث ملكة و كانت ناقصة عن الأولى. و هذا معنى فساد اللسان العربي، و لهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية و أصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم. ثم من اكتنفهم من ثقيف و هذيل و خزاعة و بني كنانة وغطفان و بني أسد و بني تميم. و أما من بعد عنهم من ربيعة و لخم و جذام و غسان و إياد و قضاعة و عرب اليمن المجاورين لأمم الفرس و الروم و الحبشة فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم. و على نسبة بعدهم من قريش كان الإحتجاج بلغاتهم في الصحة و الفساد عند أهل الصناعة العربية. و الله سبحانة و تعالى أعلم و به التوفيق.
الفصل السابع و الأربعون: في أن لغة العرب لهذا العهد مستقلة مغايرة للغة مصر و حمير و ذلك أنا نجدها في بيان المقاصد و الوفاء بالدلالة على سنن اللسان المضري و لم يفقد منها إلا دلالة الحركات على تعين الفاعل من المفعول فاعتاضوا منها بالتقديم و التأخير و بقرائن تدل على خصوصيات المقاصد. إلا أن البيان و البلاغة في اللسان المضري أكثر و أعرق، لأن الألفاظ بأعيانها دالة على المعاني بأعيانها. و يبقى ما تقتضيه الأحوال و يسمى بساط الحال محتاجا إلى ما يدل عليه. و كل معنى لا بد و أن تكتنفه أحوال تخصه فيجب أن تعتبر تلك الأحوال في تأدية المقصود لأنها صفاته و تلك الأحوال في جميع الألسن أكثر ما يدل عليها بألفاظ تخصها بالوضع. و أما في اللسان العربي فإنما يدل عليها بأحوال و كيفيات في تراكيب الألفاظ و تأليفها من تقديم أو تأخير أو حذف أو حركة أعراب. و قد يدل عليها بالحروف غير المستقلة. و لذلك تفاوتت طبقات الكلام في اللسان العربي بحسب تفاوت الدلالة على تلك الكيفيات كما قدمناه فكان الكلام العربي لذلك أوجز و أقل ألفاظا و عبارة من جميع الألسن. و هذا معنى قوله صلى الله عليه و سلم: أوتيت جوامع الكلم و اختصر لي الكلام اختصارا. و اعتبر ذلك بما يحكى عن عيسى بن عمر و قد قال له بعض النحاة: إني أجد في كلام العرب تكرارا في قولهم: زيد قائم و إن زيدا قائم و إن زيدا لقائم و المعنى واحد. فقال له: إن معانيها مختلفة. فالأول: لإفادة الخالي الذهن من قيام زيد. و الثاني: لمن سمعه فتردد فيه، و الثالث لمن عرف بالإصرار على إنكاره فاختلفت الدلالة باختلاف الأحوال. و ما زالت هذه البلاغة و البيان ديدن العرب و مذهبهم لهذا العهد. و لا تلتفتن في ذلك إلى خرفشة النحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق حيث يزعمون أن البلاغة لهذا العهد ذهبت و أن اللسان العربي فسد اعتبارا بما وقع في أواخر الكلم من فساد الإعراب الذي يتدارسون قوانينه. و هي مقالة دسها التشيع في طباعهم و ألقاها القصور في أفئدتهم و إلا فنحن نجد اليوم الكثير من ألفاظ العرب لم تزل في موضوعاتها الأولى و التعبير عن المقاصد و التعاون فيه بتفاوت الإبانة موجود في كلامهم لهذا العهد و أساليب اللسان و فنونه من النظم و النثر موجودة في مخاطباتهم و فهم الخطيب المصقع في محافلهم و مجامعهم و الشاعر المفلق على أساليب لغتهم. و الذوق الصحيح و الطبع السليم شاهدان بذلك. و لم يفقد من أحوال اللسان المدون إلا حركات الإعراب في أواخر الكلم فقط الذي لزم في لسان مضر طريقة واحدة و مهيما معروفا و هو الإعراب. و هو بعض من أحكام اللسان. و إنما وقعت العناية بلسان مضر لما فسد بمخالطتهم الأعاجم حين استولوا على ممالك العراق و الشام و مصر و المغرب و صارت ملكته على غير الصورة التى كانت أولا فانقلب لغة أخرى. و كان القرآن منزلا به و الحديث النبوي منقولا بلغته و هما أصلا الدين و الملة فخشي تناسيهما و انغلاق الأفهام عنهما بفقدان اللسان الذي نزلا به فاحتيج إلى تدوين أحكامه و وضع مقاييسه و استباط قوانينه. و صار علما ذا فصول و أبواب و مقدمات و مسائل سماه أهله بعلم النحو و صناعة العربية فأصبح فنا محفوظا و علما مكتوبا و سلما إلى فهم كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم وافيا. و لعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد و استقرينا أحكامه نعتاض عن الحركات الإعرابية في دلالتها بأمور أخرى موخودة فيه تكون بها قوانين تخصها. و لعلها تكون في أواخره على غير المنهاج الأول في لغة مضر فليست اللغات و ملكاتها مجانا. و لقد كان اللسان المضري مع اللسان الحميري بهذه المثابة و تغير عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري و تصاريف كلماته. تشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا خلافا لمن يحمله القصور على أنها لغة واحدة و يلتمس إجراء اللغة الحميرية على مقاييس اللغة المضرية و قوانينها كما يزعم بعضهم في اشتقاق القيل في اللسان الحميري أنه من القول و كثير من أشباه هذا و ليس ذلك بصحيح. و لغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها و تصاريفها و حركات إعرابها كما هي لغة العرب لعهفدنا مع لغة مضر إلا أن العناية بلسان مضر من أجل الشريعة كما قلناه حمل ذلك على الاستنباط و الاستقراء و ليس عندنا لهذا العهد ما يحملنا على مثل ذلك و يدعونا إليه. و مما وقع في لغة هذا الجيل العربي لهذا العهد حيث كانوا من الأقطار شأنهم في النطق بالقاف فإنهم لا ينطقون بها من مخرج القاف عند أهل الأمصار كما هو مذكور في كتب العربية أنه من أقصى اللسان و ما فوقه من الحنك الأعلى. و ما ينطقون بها أيضا من مخرج الكاف و إن كان أسفل من موضع القاف و ما يليه من الحنك الأعلى كما هي بل يجيئون بها متوسطة بين الكاف و القاف و هو موجود للجيل أجمع حيث كانوا من غرب أو شرق حتى صار ذلك علامة عليهم من بين الأمم و الأجيال مختصا بهم لا يشاركهم فيها غيرهم. حتى إن من يريد التقرب و الانتساب إلى الجيل و الدخول فيه يحاكيهم في النطق بها. و عندهم أنه إنما يتميز العربي الصريح من الدخيل في العروبية والحضري بالنطق بهذه القاف. و يظهر بذلك أنها لغة مضر بعينها فإن هذا الجيل الباقين معظمهم و رؤساؤهم شرقا و غربا في ولد منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان من سليم بن منصور و من بني عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور. و هم لهذا العهد أكثر الأمم في المعمور و أغلبهم و هم من أعقاب مضر و سائر الجيل معهم من بني كهلان في النطق بهذه القاف أسوة. و هذه اللغة لم يبتدعها هذا الجيل بل هي متوارثة فيهم متعاقبة و يظهر من ذلك أنها لغة مضر الأولين و لعلها لغة النبي صلى الله عليه و سلم بعينها قد ادعى ذلك فقهاء أهل البيت و زعموا أن من قرأ في أم القرآن اهدنا الصراط المستقيم بغير القاف التي لهذا الجيل فقد لحن و أفسد صلاته و لم أدر من أين جاء هذا ؟ فإن لغة أهل الأمصار أيضا لم يستحدثوها و إنما تناقلوها من لدن سلفهم و كان أكثرهم من مضر لما نزلوا الأمصار من لدن الفتح. و أهل الجيل أيضا لم يستحدثوها إلا أنهم أبعد من مخالطة الأعاجم من أهل الأمصار. فهذا يرجح فيما يوجد من اللغة لديهم أنه من لغة سلفهم. هذا مع اتفاق أهل الجيل كلهم شرقا و غربا في النطق بها و أنها الخاصية التي يتميز بها العربى من الهجين و الحضري. و الظاهر أن هذه القاف التي ينطق بها أهل الجيل العربي البدوي هو من مخرج القاف عند أولهم من أهل اللغة، و أن مخرج القاف متسع، فأوله من أعلى الحنك و آخره مما يلي الكاف. فالنطق بها من أعلى الحنك في لغة الأمصار، و النطق بها مما يلي الكاف هي لغة هذا الجيل البدوي. و بهذا يندفع ما قاله أهل البيت من فساد الصلاة بتركها في أم القرآن، فإن فقهاء الأمصار كلهم على خلاف ذلك. و بعيد أن يكونوا أهملوا ذلك، فوجهه ما قلناه. نعم نقول إن الأرجح و الأولى ما ينطق به أهل الجيل البدوي لأن تواترها فيهم كما قدمناه شاهد بأنها لغة الجيل الأول من سلفهم، و أنها لغة النبي صلى الله عليه و سلم. و يرجح ذلك أيضا ادغامهم لها في الكاف لتقارب المخرجين. و لو كانت كما ينطق بها أهل الأمصار من أصل الحنك، لما كانت قريبة المخرج من الكاف، و لم تدغم. ثم إن أهل العربية قد ذكروا هذه القاف القريبة من الكاف، و هي التي ينطق بها أهل الجيل البدوي من العرب لهذا العهد، و جعلوها متوسطة بين مخرجي القاف و الكاف. على أنها حرف مستقل، و هو بعيد. و الظاهر أنها من آخر مخرج القاف لاتساعه كما قلناه. ثم إنهم يصرحون باستهجانه و استقباحه كأنهم لم يصح عندهم أنها لغة الجيل الأول. و فيما ذكرناه من اتصال نطقهم بها، لأنهم إنما ورثوها من سلفهم جيلا بعد جيل، و أنها شعارهم الخاص بهم، دليل على أنها لغة ذلك الجيل الأول، و لغة النبي صلى الله عليه و سلم كما تقدم ذلك كله. و قد يزعم زاعم أن هذه القاف التي ينطق بها أهل الأمصار ليست من هذا الحرف، و أنها إنما جاءت من مخالطتهم للعجم، و إنهم ينطقون بها كذلك، فليست من لغة العرب. و لكن الأقيس كما قدمناه من أنهما حرف واحد متسع المخرج. فتفهم ذلك. و الله الهادي المبين.
الفصل الثامن و الأربعون: في أن لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها للغة مضر اعلم أن عرف التخاطب في الأمصار و بين الحضر ليس بلغة مضر القديمة و لا بلغة أهل الجيل بل هي لغة أخرى قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر و عن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدنا و هي عن لغة مضر أبعد. فأنا إنها لغة قائمة بنفسها فهو ظاهر يشهد له ما فيها من التغاير الذي يعد عند صناعة أهل النحو لحنا. و هي مع ذلك تختلف باختلاف الأمصار في اصطلاحاتهم فلغة أهل المشرق مباينة بعض الشيء للغة أهل المغرب و كذا أهل الأندلس عنهما و كل منهم متوصل بلغته إلى تأدية مقصوده و الإبانة عما في نفسه. و هذا معنى اللسان و اللغة. و فقدان الإعراب ليس بضائر لهم كما قلناه في لغة العرب لهذا المهد. و أما أنها أبعد عن اللسان الأول من لغة هذا الجيل فلأن البعد عن اللسان إنما هو بمخالطة العجمة. فمن خالط العجم أكثر كانت لغته عن ذلك اللسان الأصلي أبعد لأن الملكة إنما تحصل بالتعليم كما قلناه. و هذه ملكة ممتزجة من الملكة الأولى التي كانت للعرب و من الملكة الثانية التي للعجم. فعلى مقدار ما يسمعونه من العجم و يربون عليه يبعون عن الملكة الأولى. و اعتبر ذلك في أمصار أفريقية و المغرب والأندلس و المشرق. أما أفريقية و المغرب فخالطت العرب فيها البرابرة من العجم بوفور عمرانها بهم و لم يكد يخلو عنهم مضر و لا جيل فغلبت العجمة فيها على اللسان العربي الذي كان لهم و صارت لغة أخرى ممتزجة. و العجمة فيها أغلب لما ذكرناه فهي عن اللسان الأول أبعد. و كذا المشرق لما غلب العرب على أممه من فارس و الترك فخالطوهم و تداولت بينهم لغاتهم في الأكرة و الفلاحين و السبي الذين اتخذوا خولاً و دايات و أظآرا و مراضع ففسدت لغتهم بفساد الملكة حتى انقلبت لغة أخرى. و كذا أهل الأندلس مع عجم الحلالقة و الإفرنجة. و صار أهل الأمصار كلهم من هذه الأقاليم أهل لغة أخرى مخصوصة بهم تخالف لغة مضر و يخالف أيضا بعضهم بعضا كما نذكره و كأنه لغة أخرى لاستحكام ملكتها في أجيالهم. و الله يخلق ما يشاء و يقدر.
الفصل التاسع و الأربعون في تعليم اللسان المضري اعلم أن ملكة اللسان المضري لهذا العهد قد ذهبت و فسدت و لغة أهل الجيل كلهم مغايرة للغة مضر التي نزل بها القرآن و إنما هي لغة أخرى من امتزاح العجمة بها كما قدمناه. إلا أن اللغات لما كانت ملكات كما مر كان تعلمها ممكنا شأن سائر الملكات. و وجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة و يروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن و الحديث و كلام السلف و مخاطبات فحول العرب في أسجاعهم و أشعارهم و كلمات المولدين أيضا في سائر فنونهم حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم و المنثور منزلة من نشأ بينهم و لقن العبارة عن المقاصد منهم. ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حساب عباراتهم و تأليف كلماتهم و ما وعاه و حفظه من أساليبهم و ترتيب ألفاظهم فتحثل له هذه الملكة بهذا الحفظ و الاستعمال و يزداد بكثرتهما رسوخا و قوة و يحتاج مع ذلك إلى سلامة الطبع و التفهم الحسن لمنازع العرب و أسليبهم في التراكيب و مراعاة التطبيق بينهما و بين مقتضيات الأحوال. و الذوق يشهد بذلك و هو ينشأ ما بين هذه الملكة و الطبع السليم فيهما كما نذكر. و على قدر المحفوظ و كثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع نظما و نثرا، و من حصل على هذه الملكات فقد حصل على لغة مضر و هو الناقد البصير بالبلاغة فيها و هكذا ينبغي أن يكون تعلمها. و الله يهدي من يشاء بفضله و كرمه.
الفصل الخمسون: في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية و مستغنية عنها في التعليم و السبب في ذلك أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة و مقاييسها خاصة. فهو علم بكيفية لا نفس كيفية. فليست نفس الملكة و إنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علماً ولا يحكمها عملاً. مثل أن يقول بصير بالخياطة غير محكم لملكتها في التعبير عن بعض أنواعها الخياطة هي أن يدخل الخيط في خرت الإبرة ثم يغرزها في لفقي الثوب مجتمعين و يخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا ثم يردها إلى حيث ابتدأت ويخرجها قدام منفذها الأول بمطرح ما بين الثقبين الأولين ثم يتمادى على ذلك إلى آخر العمل و يعطي صورة الحبك و التثبيت و التفتيح و سائر أنواع الخياطة و أعمالها. و هو إذا طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئاً. و كذا لو سئل عامل بالنجارة عن تفصيل الخشب فيقول: هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة وتمسك بطرفه و آخر قبالتك ممسك بطرفه الآخر و تتعاقبانه بينكما و أطرافه المضرسة المحددة تقطع ما مرت عليه ذاهبة و جائية إلى أن ينتهي إلى آخر الخشبة. و هو لو طولب بهذا العمل أو شيء منه لم يحكمه. و هكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل و ليس هو نفس العمل. و لذلك نجد كثيراً من جهابذة النحاة و المهرة في صناعة العربية المحيطين علماً بتلك القوانين إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذوي مودته أو شكوى ظلامه أو قصد من قصوده أخطأ فيها عن الصواب و أكثر من اللحن ولم يجد تأليف الكلام لذلك و العبارة عن المقصود على أساليب اللسان العربي ، و كذا نجد كثيراً ممن يحسن هذه الملكة ويجيد التفنن في المنظوم و المنثور و هو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول و لا المرفوع من المجرور و لا شيئاً من قوانين صناعة العربية. فمن هذا تعلم أن الملكة هي غير صناعة العربية و إنها مستغنية عنها بالجملة و قد نجد بعض المهرة في صناعة الإعراب بصيراً بحال هذه الملكة و هو قليل و اتفاقي و أكثر ما يقع للمخالطين لكتاب سيبوبه. فإنه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط بل ملأ كتابه من أمثال العرب و شواهد أشعارهم و عباراتهم فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة فتجد العاكف عليه و المحصل له قد حصل على خط من كلام العرب و اندرج في محفوظه في أماكنه و مفاصل حاجاته. و تنبه به لشأن الملكة فاستوفى تعليمها فكان أبلغ في الإفادة. و من هؤلاء المخالطين لكتاب سيبويه يغفل عن التفطن لهذا فيحصل على علم اللسان صناعة و لا يحصل عليه ملكة. و أما المخالطون لكتب المتأخرين العارية عن ذلك إلا من القوانين النحوية مجردة عن أشعار العرب و كلامهم، فقل ما يشعرون لذلك بأمر هذه الملكة أو ينتبهون لشأنها فتجدهم يحسبون أنهم قد حصلوا على رتبة في لسان العرب و هم أبعد الناس عنه. و أهل صناعة العربية بالأندلس ومعلموها أقرب إلى تحصيل هذه الملكة و تعليمها من سواهم لقيامهم فيها على شواهد العرب و أمثالهم و التفقه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم فيسبق إلى المبتدئ كثير من الملكة أثناء التعليم فتنقطع النفس لها و تستعد إلى تحصيلها و قبولها. و أما من سواهم من أهل المغرب و أفريقية و غيرهم فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثاً و قطعوا النظر في التفقه في كلام العرب إلا أن أعربوا شاهداً أو رجحوا مذهباً من جهة الإقتضاء الذهني لا من جهة محامل اللسان و تراكيبه. فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل و بعدت عن مناحي اللسان و ملكته و أفاد ذلك حملتها في الأمصار و آفاقها البعد عن الملكة في الكلية، و كأنهم لا ينظرون في كلام العرب. و ما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان و تراكيبه و تمييز أساليبه و غفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم فهو أحسن ما تفيد الملكة في اللسان. و تلك القوانين إنما هي وسائل للتعليم لكنهم أجروها على غير ما قصد بها و أصاروها علماً بحتاً و بعدوا عن ثمرتها. و تعلم مما قررناه في هذا الباب أن حصول ملكة اللسن العربي إنما هو بكثرة المحفظ من كلام العرب حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه و يتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم و خالط عباراتهم في كلامهم حتى حصلت له الملكة المستقرة ف يالعبارة عن المقاصد على نحو كلامهم. و الله مقد الأمور كلها و الله أعلم بالغيب.
الفصل الواحد و الخمسون: في تفسر الذوق في مصطلح أهل البيان و تحقيق معناه و بيان أنه لا يحصل للمستعربين من العجم اعلم أن لفظة الذوق يتداولها المعتنون بفنون البيان و معناها حصول ملكة البلاغة للسان. و قد مر تفسير البلاغة و أنها مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه بخواص تقع للتراكيب في إفادة ذلك. فالمتكلم بلسان العرب و البليغ فيه يتحرى الهيئة المفيدة لذلك على أساليب العرب و أنحاء مخاطباتهم و ينظم الكلام على ذلك الوجه جهده فإذا اتصلت مقاماته بمخالطة كلام العرب حصلت له الملكة في نظم الكلام على ذلك الوجه و سهل عليه أمر التركيب حيث لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب و إن سمع تركيباً غير جار على ذلك المنحى مجه و نبا عنه سمعه بأدنى فكر، بل و بغير فكر، إلا بما استفاد من حصول هذه الملكة. فإن الملكات إذا استقرت و رسخت في محالها ظهرت كأنها طبيعة و جبلة لذلك المحل. و لذلك يظن كثير من المغفلين ممن لم يعرف شأن الملكات أن الصواب للعرب في لغتهم إعرابا و بلاغة أمر طبيعي. و يقول كانت العرب تنطق بالطبع و ليس كذلك و إنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكنت و رسخت فظهرت في بادئ الرأي أنها جبلة و طبع. و هذه الملكة كما تقدم إنما تحصل بممارسة كلام العرب و تكرره على السمع و التفطن لخواص تراكيبه و ليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة اللسان فإن هذه القوانين إنما تفيد علما بذلك اللسان و لا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلها و قد مر ذلك. و إذا تقرر ذلك فملكة البلاغة في اللسان تهدي البليغ إلى وجود النظم و حسن التركيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم و نظم كلامهم. و لو رام صاحب هذه الملكة حيدا عن هذه السبل المعينة و التراكيب المخصوصة لما قدر عليه و لا وافقه عليه لسانه لأنه لا يعتاده و لا تهديه إليه ملكته الراسخة عنده. و إذا عرض عليه الكلام حائدا عن أسلوب العرب و بلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه و مجه و علم أنة ليس من كلام العرب الذين مارس كلامهم. و ربما يعجز عن الاحتجاج لذلك كما تصنه أهل القوانين النحوية و البيانية فإن ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء. و هذا أمر وجداني حاصل بممارسة كلام العرب حتى يصير كواحد منهم. و مثاله: لو فرضنا صبيا من صبيانهم نشأ و ربى في جيلهم فإنه يتعلم لغتهم و يحكم شأن الإعراب و البلاغة فيها حتى يستولي على غايتها. و ليس من العلم القانوني في شيء و إنما هو بحصول هذه الملكة في لسانه و نطقه. و كذلك تحصل هذه الملكة لمن بعد ذلك الجيل بحفظ كلامهم و أشعارهم و خطبهم و المداومة على ذلك بحيث يحصل الملكة و يصير كواحد ممن نشأ في جيلهم و ربى بين أجيالهم. و القوانين بمعزل عن هذا و استعير لهذه الملكة عندما ترسخ و تستقر اسم الذوق الذي اصطلح عليه أهل صناعة البيان و الذوق و إنما هو موضوع لإدراك الطعوم. لكن لما كان محل هذه الملكة في اللسان من حيث النطق بالكلام كما هو محل لإدراك الطعوم استعير لها اسمه. و أيضا فهو وجداني اللسان كما أن الطعوم محسوسة له فقيل له ذوق. و إذا تبين لك ذلك علمت منه أن الأعاجم الداخلين في اللسان العربي الطارئين عليه المضطرين إلى النطق به لمخالطة أهله كالفرس و الروم و الترك بالمشرق و كالبربر بالمغرب فإنه لا يحصل لهم هذا الذوق لقصور حظهم في هذه الملكة التي قررنا أمرها لأن قصاراهم بعد طائفة من العمر و سبق ملكة أخرى إلى اللسان و هي لغاتهم أن يعتنوا بما يتداوله أهل مصر بينهم في المحاورة من مفرد و مركب لما يضطرون إليه من ذلك. و هذه الملكة قد ذهبت لأهل الأمصار و بعدوا عنها كما تقدم. و إنما لهم في ذلك ملكة أخرى و ليست هي ملكة اللسان المطلوبة. و من عرف أحكام تلك الملكة من القوانين المسطرة في الكتب فليس من تحصيل الملكة في شيء. إنما حصل أحكامها كما عرفت. و إنما تحصل هذه الملكة بالممارسة و الاعتياد و التكرر لكلام العرب. فإن عرض لك ما تسمعة من أن سيبويه و الفارسي و الزمخشري و أمثالهم من فرسان الكلام كانوا أعجاما مع حصول هذه الملكة لهم فاعلم أن أولئك القوم الذين تسمع عنهم إنما كانوا عجما في نسبهم فقط. و أما المربى و النشأة فكانت بين أهل هذه الملكة من العرب و من تعلمها منهم فاستولوا بذلك من الكلام على غاية لا شيء وراءها و كأنهم في أول نشأتهم من العرب الذين نشأوا في أجيالهم حتى أدركوا كنه اللغة و صاروا من أهلها فهم و إن كانوا عجما في النسب فليسوا بأعجام في اللغة و الكلام لأنهم أدركوا الملة في عنفوانها و اللغة في شبابها و لم تذهب أثار الملكة و لا من أهل الأمصار ثم عكفوا على الممارسة و المدارسة لكلام العرب حتى استولوا على غايته. و اليوم الواحد من العجم إذا خالط أهل اللسان العربي بالأمصار فأول ما يجد تلك الملكة المقصودة من اللسان العربي ممتحية الآثار. و يجد ملكتهم الخاصة بهم ملكة أخرى مخالفة لملكة اللسان العربي. ثم إذا فرضنا أنة أقبل على الممارسة لكلام العرب و أشعارهم بالمدارسة و الحفظ يستفيد تحصيلها فقل أن يحصل له ما قدمناه من أن الملكة إذا سبقتها ملكة أخرى في المحل فلا تحصل إلا ناقصة مخدوشة. و إن فرضنا أعجميا في النسب سلم من مخالطة اللسان العجمي بالكلية و ذهب إلى تعلم هذه الملكة بالحفظ و المدارسة فربما يحصل له ذلك لكنه من الندور بحيث لا يخفى عليك بما تقرر. و ربما يدعى كثير ممن ينظر في هذه القوانين البيانية حصول هذا الذوق له بها و هو غلط أو مغالطة و إنما حصلت له الملكة إن حصلت في تلك القوانين البيانية و ليست من ملكة العبارة في شيء. و الله يهدي من يشاء إلى طريق مستقيم.
الفصل الثاني و الخمسون: في أن أهل الأمصار على الإطلاق قاصرون في تحصيل هذه الملكة اللسانية التي تستفاد بالتعليم و من كان منهم أبعد عن اللسان العربي كان حصولها له أصعب و أعسر و السبب في ذلك ما يسبق إلى المتعلم من حصول ملكة منافية للملكة المطلوبة بما سبق إليه من اللسان الحضري الذي أفادته العجمة حتى نزل بها اللسان عن ملكته الأولى إلى ملكة أخرى هي لغة الحضر لهذا العهد. و لهذا نجد المعلمين يذهبون إلى المسابقة بتعليم اللسان للولدان. و تعتقد النحاة أن هذه المسابقة بصناعتهم و ليس كذلك و إنما هي بتهليم هذه الملكة بمخالطة اللسان و كلام العرب. نعم صناعة النحو أقرب إلى مخالطة ذلك و ما كان من لغات أهل الأمصار أعرق في العجمة و أنعد عن لسان مضر قصر بصاحبه عن تعلم اللغة المضرية و حصول ملكتها لتمكن المنافاة حينئذ. و اعتبر ذلك في أهل الأمصار. فأهل أفريقية و المغرب لما كانوا أعرق في العجمة و أبعد عن اللسان الأول كان لهم قصور تام في تحصيل ملكته بالتعليم. و لقد نقل ابن الرفيق أن بعض كتاب القيروان كتب إلى صاحب له: يا أخي و من لا عدمت فقده أعلمني أبو سعيد كلاما أنك كنت ذكرت أنك تكون مع الذين تأتي و عاقنا اليوم فلم يتهيأ لنا الخروج. و أما أهل المنزل الكلاب من أمر الشين فقد كذبوا هذا باطلا ليس من هذا حرفا واحدا. و كتابي إليك و أنا مشتاق إليك إن شاء الله. و هكذا كانت ملكتهم في اللسان المضري شبية بما ذكرنا. و كذلك أشعارهم كانت بعيدة عن الملكة نازلة عن الطبقة و لم تزل كذلك لهذا العهد و لهذا ما كان بأفريقية من مشاهير الشعراء إلا ابن رشيق و ابن شرف. و أكثر ما يكون فيها الشعراء طارئين عليها و لم تزل طبقتهم في البلاغة حتى الآن مائلة إلى القصور. و أهل الأندلس أقرب منهم إلى تحصيل هذه الملكة بكثرة معاناتهم و امتلائهم من المحفوظات اللغوية نظما و نثرا. و كان فيهم ابن حيان المؤرخ إمام أهل الصناعة في هذه الملكة و رافع الراية لهم فيها و ابن عبد ربه و السقطلي و أمثالهم من شعراء ملوك الطوائف لما زخرت فيها بحار اللسان و الأدب و تداول ذلك فيهم مئين من السنين حتى كان الانفضاض و الجلاء أيام تغلب النصرانية. و شغلوا عن تعلم ذلك و تناقص العمران فتناقص لذلك شأن الصنائع كلها فقصرت الملكة فيهم عن شأنها حتى بلغت الحضيض. و كان من آخرهم صالح بن شريف و مالك بن مرحل من تلاميذ الطبقة الإشبيليين بسبتة و كتاب دولة بني الأحمر في أولها. و ألقت الأندلس أفلاذ كبدها من أهل تلك الملكة بالجلاء إلى العدوة لعدوة الإشبيلية إلى سبته و من شرقي الأندلس إلى أفريقية. و لم يلبثوا إلى أن انقرضوا و انقطع سند تعليمهم في هذه الصناعة لعسر قبول العدوة لها و صعوبتها عليهم بعوج ألسنتهم و رسوخهم في العجمة البربرية و هي منافية لما قلناه. ثم عادت الملكة من بعد ذلك إلى الأندلسس كما كانت و نجم بها ابن بشرين و ابن جابر و ابن الجياب و طبقتهم. ثم إبراهيم الساحلي الطريحي و طبقته و قفاهم ابن الخطيب من بعدهم الهالك لهذا العهد شهيدا بسعاية أعدائه. و كان له في اللسان ملكة لا تدرك و اتبع أثره تلميذه من بعده. و بالجملة فشأن هذه الملكة بالأندلس أكثر و تعليمها أيسر و أسهل بما هم عليه لهذا العهد كما قدمناه من معاناة علوم اللسان و محافظتهم عليها و على علوم الأدب و سند تعليمها. و لأن أهل اللسان العجمي الذين تفسد ملكتهم إنما هم طارئون عليهم. و ليست عجمتهم أصلا للغة أهل الأندلس و البربر في هذه العدوة و هم أهلها و لسانهم لسانها إلا في الأمصار فقط. و هم منغمسون في بحر عجمتهم و رطانتهم البربرية فيصعب عليهم تحصيل الملكة اللسانية بالتعليم بخلاف أهل الأندلس. و اعتبر ذلك بحال أهل المشرق لعهد الدولة الأموية و العباسية فكان شأنهم شأن أهل الأندلس في تمام هذه الملكة و إجادتها لبعدهم لذلك العهد عن الأعاجم و مخالطتهم إلا في القليل. فكان أمر هذه الملكة في ذلك العهد أقوم و كان فحول الشعراء و الكتاب أوفر لتوفر العرب و أبنائهم بالمشرق. و انظز ما اشتمل عليه كتاب الأغاني من نظمهم و نثرهم فإن ذلك الكتاب هو كتاب العرب و ديوانهم و فيه لغتهم و أخبارهم و أيامهم و ملتهم العربية وسيرتهم و آثار خلفائهم و ملوكهم و أشعارهم و غناوهم و سائر معانيهم له فلا كتاب أوعب منه لأحوال العرب. و بقي أمر هذه الملكة مستحكما في المشرق في الدولتين و ربما كانت فيهم أبلغ ممن سواهم ممن كان في الجاهلية كما نذكره بعد. حتى تلاشى أمر العرب و درست لغتهم و فسد كلامهم و انقضى أثرهم و دولتهم و صار الأمر للأعاجم و الملك في أيديهم و التغلب لهم. و ذلك في دولة الديلم و السلجوقية. و خالطوا أهل الأمصار و كثروهم فامتلأت الأرض بلغاتهم. واستولت العجمة على أهل الأمصار و الحواضر حتى بعدوا عن اللسان العربي و ملكته و صار متعلمها منهم مقصرا عن تحصيلها. و على ذلك نجد لسانهم لهذا العهد في فني المنظوم و المنثور و إن كانوا مكثرين منه. و الله يخلق ما يشاء و يختار و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق لا رب سواه.
الفصل الثالث و الخمسون: في انقسام الكلام إلى فني النظم و النثر اعلم أن لسان العرب و كلامهم على فنين في الشعر المنظوم و هو الكلام الموزون المقفى و معناه الذي تكون أوزانه كلها على روي واحد و هو القافية. و في النثر و هو الكلام غير الموزون و كل واحد من الفنين يشتمل على فنون و مذاهب في الكلام. فأما الشعر فمنه المدح و الهجاء و الرثاء و أما النثر فمنه السجع الذي يؤتى به قطعا و يلتزم في كل كلمتين منه قافية واحدة تسمى سجعا و منه المرسل و هو الذي يطلق فيه الكلام إطلاقا و لا يقطع أجزاء بل يرسل إرسالا من غير تقييد بقافية و لا غيرها. و يستعمل قي الخطب و الدعاء و ترغيب الجمهور و ترهيبهم. و أما القرآن و إن كان من المنثور إلا أنه خارج عن الوصفين و ليس يسمى مرسلا مطلقا و لا مسجعا. بل تفصيل آيات ينتهي إلى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها. ثم يعاد الكلام في الآية الأخرى بعدها و يثنى من غير التزام حرف يكون سجعا و لا قافية و هو معنى قوله تعالى: الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم. و قال: قد فصلنا الآيات. و يسمى آخر الآيات منها فواصل إذ ليست أسجاعا و لا التزم فيها ما يلتزم في السجع و لا هي أيضا قواف. و أطلق اسم المثاني على آيات القرآن كلها على العموم لما ذكرناه و اختصت بأم القرآن للغلبة فيها كالنجم للثريا و لهذا سميت السبع المثاني. و انظر هذا مع ما قاله المفسرون في تعليل تسميتها بالمثاني يشهد لك الحق برجحان ما قلناه. و اعلم أن لكل واحد من هذه الفنون أساليب تختص به عند أهله و لا تصلح للفن الآخر و لا تستعمل فيه مثل النسيب المختص بالشعر و الحمد و الدعاء المختص بالخطب و الدعاء المختص بالمخاطبات و أمثال ذلك. و قد استعمل المتأخرون أساليب الشعر و موازينه في المنثور من كثرة الأشجاع و التزام التقفية و تقديم النسيب بين يدي الأغراض. و صار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر و فنه و لم يفترقا إلا في الوزن. و استمر المتأخرون من الكتاب على هذه الطريقة و استعملوها في المخاطبات السلطانية و قصروا الاستعمال في المنثور كله على هذا الفن الذي ارتضوه و خلطوا الأساليب فيه و هجروا المرسل و تناسوه و خصوصا أهل المشرق. و صارت المخاطبات السلطانية لهذا العهد عند الكتاب الغفل جارية على هذا الأسلوب الذي أشرنا إليه و هو غير صواب من جهة البلاغة لما يلاحظ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال من أحوال المخاطب و المخاطب. و هذا الفن المنثور المقفى أدخل المتأخرون فيه أساليب الشعر فوجب أن تنزه المخاطبات السلطانية عنه إذ أساليب الشعر تنافيها اللوذعية و خلط الجد بالهزل و الإطناب في الأوصاف و ضرب الأمثال و كثرة التشبيهات و الاستعارات حيث لا تدعو ضرورة إلى ذلك في الخطاب. و التزام التقفية أيضا من اللوذعة و التزيين و جلال الملك و السلطان و خطاب الجمهور عن الملوك بالترغيب و الترهيب تنافي ذلك و يباينة. و المحمود في المخاطبات السلطانية الترسل و هو إطلاق الكلام و إرساله من غير تسجيع إلا في الأقل النادر. و حيث ترسله الملكة إرسالا من غير تكلف له ثم إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال فإن المقامات مختلفة و لكل مقام أسلوب يخصه من إطناب أو إيجاز أو حذف أو إثبات أو تصريح أو إشارة أو كناية و استعارة. و أما إجراء المخاطبات السلطانية على هذا النحو الذي هو على أساليب الشعر فمذموم و ما حمل عليه أهل العصر إلا استيلاء العجمة على ألسنتهم و قصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة و انفساح خطوبه. و ولعوا بهذا المسجع يلفقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود و مقتضى الحال فيه. و يجبرونه بذلك القدر من التزيين بالأسجاع و الألقاب البديعة و يغفلون عما سوى ذلك. و أكثر من أخذ بهذا الفن و بالغ فيه في سائر أنحاه كلامهم كتاب المشرق و شعراؤه لهذا العهد حتى إنهم ليخلون بالإعراب في الكلمات و التصريف إذا دخلت لهم في تجنيس أو مطابقة لا يجتمعان معها فيرجحون ذلك الصنف من التجنيس. و يدعون الإعراب و يفسدون بنية الكلمة عساها تصادف التجنيس. فتأفل ذلك بما قدمناه لك تقف على صحة ما ذكرناه. و الله الموفق للصواب بمنه و كرمه و الله تعالى أعلم.
الفصل الرابع و الخمسون: في أنه لا تتفق الإجادة في فني المنظوم و المنثور معاً إلا للأقل و السبب في ذلك أنه كما بيناه ملكة في اللسان فإذا تسبقت إلى محله ملكة أخرى قصرت بالمحل عن تمام الملكة اللاحقة. لأن تمام الملكات و حصولها للطبائع التي على الفطرة الأولى أسهل و أيسر. و إذا تقدمتها ملكة أخرى كانت منازعة لها في المادة القابلة و عالقة عن سرعة القبول فوقعت المنافاة و تعذر التمام في الملكة و هذا موجود به في الملكات الصناعية كلها على الإطلاق. و قد برهنا عليه في موضعه بنحو من هذا البرهان. فاعتبر مثله في اللغات فإنها ملكات اللسان و هي بمنزلة الصناعة. و انظر من تقدم له شيء من العجمة كيف يكون قاصرا في اللسان العربي أبدا. فالأعجمي الذي سبقت له اللغة الفارسية لا يستولي على ملكة اللسان العربي و لا يزال قاصرا فيه و لو تعلمه و علمه. و كذا البربري و الرومي. و الإفرنجي قل أن تجد أحدا منهم محكما لملكة اللسان العربي. و ما ذلك إلا لما سبق إلى ألسنتهم من ملكة اللسان الآخر حتى إن طالب العلم من أهل هذه الألسن إذا طلبه بين أهل اللسان العربي جاء مقصرا في معارفه عن الغاية و التحصيل و ما أوتي إلا من قبل اللسان. و قد تقدم لك من قبل أن الألسن و اللغات شبيهة بالصنائع. و قد تقدم لك أن الصنائع و ملكاتها لا تزدحم. و أن من سبقت له إجادة في صناعة فقل أن يجيد في أخرى أو يستولي فيها على الغاية. و الله خلقكم و ما تعملون.
الفصل الخامس و الخمسون: في صناعة الشعر و وجه تعلمه هذا الفن من فنون كلام العرب و هو المسمى بالشعر عندهم و يوجد في سائر اللغات إلا أننا الآن إنما نتكلم في الشعر الذي للعرب. فإن أمكن أن تجد فيه أهل الألسن الأخرى مقصودهم من كلامهم و إلا فلكل لسان أحكام في البلاغة تخصه. و هو في لسان العرب غريب النزعة عزيز المنحى إذ هو كلام مفصل قطعا قطعا متساوية في الوزن متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة و تسمى كل قطعين من هذه القطعات عندهم بيتا و يسمى الحرف الأخير الذي تتفق فيه رويا و قافية و يسمى جملة الكلام إلى آخره قصيدة و كلمة. و ينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه حتى كأنه كلام وحده مستقل عما قبله و ما بعده. و إذا أفرد كان تاما في بابه في مدح أؤ تشبيب أو رثاء فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك البيت ما يستقل في إفادته. ثم يستأنف في البيت الآخر كلاما آخر كذلك و يستطرد للخروج من فن إلى فن و من مقصود إلى مقصود بأن يوطئ المقصود الأول و معانيه إلى أن يناسب المقصود الثاني و يبعد الكلام عن التنافر. كما يستطرد من التشبيب إلى المدح و من وصف البيداء و الطلول إلى وصف الركاب أو الخيل أو الطيف و من وصف الممدوح إلى وصف قومه و عساكره و من التفجع و العزاء في الرثاء إلى التأثر و أمثال ذلك. و يراعي فيه اتفاق القصيدة كلها في الوزن الواحد حذرا من أن يتساهل الطبع في الخروج من وزن إلى وزن يقاربه. فقد يخفى ذلك من أجل المقاربة على كثير من الناس. و لهذه الموازين شروط و أحكام تضمنها علم العروض. و ليس كل وزن يتفق في الطبع استعملته العرب في هذا الفن و إنما هي أوزان مخصوصة تسميها أهل تلك الصناعة البحور. و قد حصروها في خمسة عشر بحرا بمعنى أنهم لم يجدوا للعرب في غيرها من الموازين الطبيعية نظما. و اعلم أن فن الشعر من بين الكلام كان شريفا عند العرب. و لذلك جعلوه ديوان علومهم و أخبارهم و شاهد صوابهم و خطئهم و أصلا يرجعون إليه في الكثير من علومهم و حكمهم. و كانت ملكته مستحكمة فيهم شأن الملكات كلها. و الملكات اللسانية كلما إنما تكسب بالصناعة و الارتياض في كلامهم حتى يحصل شبة في تلك الملكة. و الشعر من بين فنون الكلام صعب المأخذ على من يريد اكتساب ملكته بالصناعة من المتأخرين لاستقلال كل بيت منه بأنه كلام تام في مقصوده و يصلح أن ينفرد دون ما سواه فيحتاج من أجل ذلك إلى نوع تلطف في تلك الملكة حتى يفرغ الكلام الشعري في قوالبه التي عرفت له في ذلك المنحى من شعر العرب و يبرز مستقلا بنفسه. ثم يأتى ببيت آخر كذلك ثم ببيت آخر و يستكمل الفنون الوافية بمقصوده. ثم يناسب بين البيوت في موالاة بعضها مع بعض بحسب اختلاف الفنون التى في القصيدة. و لصعوبة منحاه و غرابة فنه كان محكا للقرائح في استجادة أساليبه و شحذ الأفكار في تنزيل الكلام في قوالبه. و لا يكفي فيه ملكة الكلام العربي على الإطلاق بل يحتاج بخصوصه إلى تلطف و محاولة في رعاية الأساليب التي اختصته العرب بها و استعمالها فيه. لنذكر هنا سلوك الأسلوب عند أهل هذه الصناعة و ما يريدون بها في إطلاقهم. فاعلم أنها عبارة عندهم عن المنوال الذي ينسج فيه التراكيب أو القالب الذي يفرغ به. و لا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته أصل المعنى الذي هو وظيفة الإعراب و لا باعتبار إفادته كمال المعنى من خواص التراكيب الذي هو و ظيفة البلاغة و البيان و لا باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض. فهذه العلوم الثلاثة خارجة عن هذه الصناعة الشعرية و إنما يرجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص. و تلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب و أشخاصها و يصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب و البيان فيرصها فيه رصا كما يفعله البناء في القالب أو النساج في المنوال حتى يتسع القالب بحصول التراكيب الوافية بمقصود الكلام و يقع على الصورة الصحيحة باعتبار ملكة اللسان العربي فيه فإن لكل فن من الكلام أساليب تختص به و توجد فيه على أنحاء مختلفة فسؤال الطلول في الشعر يكون بخطاب الطلول كقوله: يا دار مية بالعلياء فالسند و يكون باستدعاء الصحب للوقوف و السؤال كقوله: قفا نسأل الدار التي خف أهلها. أو باستبكاء الصحب على الطلل كقوله: قفا نبك من في ذكرى حبيب و منزل. أو بالاستفهام عن الجواب لمخاطب غير معين كقوله: ألم تسأل فتخبرك الرسوم. و مثل تحية الطلول بالأمر لمخاطب غير معين بتحيتها كقوله: حي الديار بجانب الغزل. أو بالدعاء لها بالسقيا كقوله: أسقى طلولهم أجش هزيم و غدت عليهم نضرة و نعيم أو سؤاله السقيا لها من البرق كقوله: يا برق طالع منزلا بالأبرق واحد السحاب لها حداء الأينق أو مثل التفجع في الجزع باستدعاء البكاء كقوله: كذا فليجل الخطب و ليفدح الأمر و ليس لعين لم يفض ماؤها عذر أو باستعظام الحادث كقوله: أرأيت من حملوا على الأعواد أرأيت كيف خبا ضياء النادي. أو بالتسجيل على الأكوان بالمصيبة لفقده كقوله: منابت العشب لا حام و لا راع مضى الردى بطويل الرمح و الباع أو بالإنكار على من لم يتفجع له من الجمادات كقول الخارجية: أيا شجر الخابور مالك مورقا كأنك لم تجزع على ابن طريف أو بتهيئة فريقه بالراحة من ثقل وطأته كقوله: ألقى الرماح ربيعة بن نزار أودى الردى بفريقك المغوار و أمثال ذلك كثير من سائر فنون الكلام و مذاهبه. و تنتظم التراكيب فيه بالجمل و غير الجمل إنشائية و خبرية، إسمية و فعلية، متفقة، مفصولة و موصولة، على ما هو شأن التراكيب في الكلام العربي في مكان كل كلمة من الأخرى. يعرفك فيه ما تستفيده بالارتياض في أشعار العرب من القالب الكلي المجرد في الذهن من التراكيب المعينة التي ينطبق ذلك القالب على جميعها. فإن مؤلف الكلام هو كالبناء أو النساج و الصورة الذهنية المنطبقة كالقالب الذي يبنى فيه أو المنوال الذي ينسج عليه. فإن خرج عن القالب في بنائه أو عن المنوال في نسجه كان فاسدا. و لا تقولن إن معرفة قوانين البلاغة كافية لذلك لأنا نقول قوانين البلاغة إنما هي قواعد علمية قياسية تفيد جواز استعمال التراكيب على هيئتها الخاصة بالقياس. و هو قياس علمي صحيح مطرد كما هو قياس القوانين الإعرابية. و هذه الأساليب التي نحن نقررها ليست من القياس في شيء إنما هي هيئة ترسخ في النفس من تتبع التراكيب في شعر العرب لجريانها على اللسان حتى تستحكم صورتها فيستفيد بها العمل على مثالها و الاحتذاء بها في كل تركيب من الشعر كما قدمنا ذلك في الكلام بإطلاق. و إن القوانين العلمية من العربية و البيان لا يفيد تعليمه بوجه. و ليس كل ما يصح في قياس كلام العرب و قوانينه العلمية استعملوه. و إنما المستعمل عندهم من ذلك أنحاء معروفة يطلع عليها الحافظون لكلامهم تندرج صورتها تحت تلك القوانين القياسية. فإذا نظر في شعر العرب على هذا النحو و بهذه الأساليب الذهنية التي تصير كالقوالب كان نظرا في المستعمل من تراكيبهم لا فيما يقتضيه القياس. و لهذا قلنا إن المحصل لهذه القوالب في الذهن إنما هو حفظ أشعار العرب و كلامهم. و هذه القوالب كما تكون في المنظوم تكون في المنثور فإن العرب استعملوا كلامهم في كلا الفنين وجاؤوا به مفصلا في النوعين. ففي الشعر بالقطع الموزونة و القوافي المقيدة و استقلال الكلام في كل قطعين و في المنثور يعتبرون الموازنة و التشابه بين القطع غالبا و قد يقيدونه بالأسجاع. و قد يرسلونه و كل واحد في من هذه معروفة في لسان العرب. و المستعمل منها عندهم هو الذي يبني مؤلف الكلام عليه تأليفه و لا يعرفه إلا من حفظ كلامهم حتى يتجرد في ذهنه من القوالب المعينة الشخصية قالب كلي مطلق يحذو حذوه في التأليف كما يحذو البناء على القالب و النساج على المنوال. فلهذا كان من تآليف الكلام منفردا عن نظر النحوي و البياني و العروضي. نعم إنه مراعاة قوانين هذه العلوم شرط فيه لا يتم بدونها فإذا تحصلت هذه الصفات كلها في الكلام اختص بنوع من النظر لطيف في هذه القوالب التي يسمونها أساليب. و لا يفيده إلا حفظ كلام العرب نظما و نثرا. و إذا تقرر معنى الأسلوب ما هو فلنذكر بعده حدا أو رسما للشعر به تفهم حقيقته على صعوبة هذا العرض. فإنا لم نقف عليه لأحد من المتقدمين فيما رأيناه. و قول العروضيين في حده إنه الكلام الموزون المقفى ليس بحد لهذا الشعر الذي نحن بصدده و لا رسم له. و صناعتهم إنما تنظر في الشعر من حيث اتفاق أبياته في عدد المتحركات و السواكن على التوالي، و مماثلة عروض أبيات الشعر لضربها. و ذلك نظر في وزن مجدد عن الألفاظ و دلالتها. فناسب أن يكون حدا عندهم، و نحن هنا ننظر في الشعر باعتبار ما فيه من الإعراب و البلاغة. و الوزن و القوالب الخاصة. فلا جرم إن حدهم ذلك لا يصلح له عندنا فلا بد من تعريف يعطينا حقيقته من هذه الحيثية فنقول: الشعر هو الكلام البليغ المبني على الإستعاره و الأوصاف، المفضل بأجزاء متفقة في الوزن و الروي مستقل كل جزء منها في غرضه و مقصده عما قبله و بعده الجاري على أساليب العرب المخصوصة به. فقولنا الكلام البليغ جنس و قولنا المبني على الاستعارة و الأوصاف فصل له عما يخلو من هذه فإنه في الغالب ليس بشعر و قولنا المفصل بأجزاء متفقة الوزن و الروي فصل له عن الكلام المنثور الذي ليس بشعر عند الكل و قولنا مستقل كل جزء منها في غرضه و مقصده عما قبله و بعده بيان للحقيقة لأن الشعر لا تكون أبياته إلا كذلك و لم يفصل به شيء. و قولنا الجاري على الأساليب المخصوصة به فصل له عما لم يجر منه على أساليب العرب المعروفة فإنه حينئذ لا يكون شعرا إنما هو كلام منظوم لأن الشعر له أساليب تخصه لا تكون للمنثور. و كذا أساليب المنثور لا تكون للشعر فما كان من الكلام منظوما و ليس على تلك الأساليب فلا يكون شعرا. و بهذا الاعتبار كان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي و المعري ليس هو من الشعر في شيء لأنهما لم يجريا على أساليب العرب فيه، و قولنا في الحد الجاري على أساليب العرب فصل له عن شعر غير العرب من الأمم عندما يرى أن الشعر يوجد للعرب و غيرهم. و من يرى أنه لا يوجد لغيرهم فلا يحتاج إلى ذلك و يقول مكانه الجاري على الأساليب المخصوصة. و إذ قد فرغنا من الكلام على حقيقة الشعر فلنرجع إلى الكلام في كيفية عمله فنقول: اعلم أن لعمل الشعر و إحكام صناعته شروطا أولها: الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها و يتخير المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب. و هذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميين مثل ابن ربيعة و كثير و ذي الرمة و جرير و أبى نواس و حبيب و البحتري و الرضي و أبى فراس. و أكثره شعر كتاب الأغاني لأنه جمع شعر أهل الطبقة الإسلامية كله و المختار من شعر الجاهلية. و من كان خاليا من المحفوظ فنظمه قاصر رديء و لا يعطيه الرونق و الحلاوة إلا كثرة المحفوظ. فمن قل حفظه أو عدم لم يكن له شعر و إنما هو نظم ساقط. و اجتناب الشعر أولى بمن لم يكن له محفوظ. ثم بعد الامتلاء من الحفظ و شحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على النظم و بالإكثار منه تستحكم ملكته و ترسخ. و ربما يقال إن من شرطه نسيان ذلك المحفوظ لتمحى رسومه الحرفية الظاهرة إذ هي صادرة عن استعمالها بعينها. فإذا نسيها و قد تكيفت النفس بها انتقش الأسلوب فيها كأنه منوال يؤخذ بالنسج عليه بأمثالها من كلمات أخري ضرورة. ثم لا بد له من الخلوة و استجادة المكان المنظور فيه من المياه و الأزهار و كذا المسموع لاستنارة القريحة باستجماعها و تنشيطها بملاذ السرور. ثم مع هذا كله فشرطه أن يكون على جمام و نشاط فذلك أجمع له و أنشط للقريحة أن تأتي بمثل ذلك المنوال الذي في حفظه. قالوا: و خير الأوقات لذلك أوقات البكر عند الهبوب من النوم و فراغ المعدة و نشاط الفكر و في هؤلاء الجمام. و ربما قالوا إن من بواعثه العشق و الانتشاء ذكر ذلك ابن رشيق في كتاب العمدة و هو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة و إعطاء حقها و لم يكتب فيها أحد قبله و لا بعده مثله. قالوا: فإن استصعب عليه بعد هذا كله فليتركه إلى وقت أخر و لا يكره نفسه عليه. و ليكن بناء البيت على القافية من أول صوغه و نسجه بعضها و يبني الكلام عليها إلى آخره لأنه إن غفل عن بناء البيت على القافية صعب عليه وضعها في محلها. فربما تجيء نافرة قلقة و إذا سمح الخاطر بالبيت و لم يناسب الذي عنده فليتركه إلى موضعه الأليق به فإن كل بيت مستقل بنفسه و لم تبق إلا المناسبة فليتخير فيها كما يشاء و ليراجع شعره بعد الخلاص منه بالتنقيح و النقد و لا يضن به على الترك إذا لم يبلغ الإجادة. فإن الإنسان مفتون بشعره إذ هو نبات فكره و اختراع قريحته و لا يستعمل فيه من الكلام إلا الأفصح من التراكيب. و الخالص من الضرورات اللسانية فليهجرها فإنها تنزل بالكلام عن طبقة البلاغة. و قد حظر أئمة اللسان المولد من ارتكاب الضرورة إذ هو في سعة منها بالعدول عنها إلى الطريقة المثلى من الملكة. و يجتنب أيضا المعقد من التراكيب جهده. و إنما يقصد منها ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم. و كذلك كثرة المعاني في البيت الواحد فإن فيه نوع تعقيد على الفهم. و إنما المختار منه ما كانت ألفاظه طبقا على معانيه أو أوفى منها. فإن كانت المعاني كثيرة كان حشوا و استعمل الذهن بالغوص عليها فمنع الذوق عن استيفاء مدركه من البلاغة. و لا يكون الشعر سهلا إلا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذهن. و لهذا كان شيوخنا رحمهم الله يعيبون شعر أبى بكر بن خفاجة شاعر شرق الأندلس لكثرة معانيه و ازدحامها في البيت الواحد كما كانوا يعيبون شعر المتنبئ و المعري بعدم النسج على الأساليب العربية كما مر فكان شعرهما كلاما منظوما نازلا عن طبقة الشعر و الحاكم بذلك هو الذوق. و ليجتنب الشاعر أيضا الحوشي من الألفاظ و المقصر و كذلك السوقي المبتذل بالتداول بالاستعمال فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة و كذلك المعاني المبتذلة بالشهرة فإن الكلام ينزل بها عن البلاغة أيضا فيصير مبتذلا و يقرب من عدم الإفادة كقولهم: النار حارة و السماء فوقنا. و بمقدار ما يقرب من طبقة عدم الإفادة يبعد عن رتبة البلاغة إذ هما طرفان. و لهذا كان الشعر في الربانيات و النبويات قليل الإجادة في الغالب و لا يحذق فيه إلا الفحول و في القليل على العشر لأن معانيها متداولة بين الجمهور فتصير مبتذلة لذلك. و إذا تعذر الشعر بعد هذا كله فليراوضه و يعاوده فإن القريحة مثل الضرع يدر بالامتراء و يجف بالترك و الإهمال. و بالجملة فهذه الصناعة و تعلمها مستوفى في كتاب العمدة لابن رشيق و قد ذكرنا منها ما حضرنا بحسب الجهد. و من أراد استيفاء ذلك فعليه بذلك الكتاب ففيه البغية من ذلك. و هذه نبذة كافية و الله المعين. و قد نظم الناس في أمر هذه الصناعة الشعرية ما يجب فيها. و من أحسن ما قيل في ذلك و أظنه لابن رشيق: لعن الله صنعة الشعر ماذا من ضنوف الجهال منه لقينا يؤثرون الغريب منه على ما كان سهلا للسامعين مبينا ويرون المحال معنى صحيحا و خسيس الكلام شيئا ثمينا يجهلون الصواب منه و لا يد رون للجهل أنهم يجهلونا فهم عند من سوانا يلامو ن و في الحق عندنا يعذرونا إنما الشعر ما يناسب في النظم و إن كان في الصفات فنونا فأتى بعضه يشاكل بعضا وأقامت له الصدور المتونا كل معنى أتاك منه على ما تتمنى و لم يكن أن يكونا فتناهى من البيان إلى أن كاد حسنا يبين للناظرينا فكأن الألفاظ منه وجوه و المعاني ركبن فيها عيونا إنما في المرام حسب الأماني يتحلى بحسنه المنشدونا فإذا ما مدحت بالشعر حرا رمت فيه مذاهب المشتهينا فجعلت النسيب سهلا قريبا و جعلت المديح صدقا مبينا و تنكبت ما يهجن في السمع و إن كان لفظه موزونا و إذا ما عرضته بهجاء عبت فيه مذاهب المرقبينا فجعلت التصريح منه دواء و جعلت التعريض داء دفينا و إذا ما بكيت فيه على الغا دين يوما للبين و الظاعنينا خلت دون الأسى و ذللت ما كا ن من الدعع في العيون مصونا ثم إن كنت عاتبا جئت بالو عد وعيدا و بالصعوبة بينا فتركت الذي عتبت عليه حذرا آمنا عزيزا مهينا و أصح القريض ما قارب النظم و إن كان واضحا مستبينا فإذا قيل أطمع الناس طرا و إذا ريم أعجز المعجزينا ومن ذلك أيضا قول بعضهم و هو الناشي: الشعر ما قومت ربع صدوره و شددت بالتهذيب أس متونه و رأيت بالأطناب شعب صدوعه و فتحت بالايجاز عور عيونه و جمعت بين قريبه و بعيده و جمعت بين مجمه و معينه و إذا مدحت به جوادا ماجدا و قضيته بالشكر حق ديونه أصفيته بتفتش و رضيته و خصصته بخطيره و ثمينه فيكون جزلا في مساق صنوفه و يكون سهلا في اتفاق فنونه و إذا بكيت به الديار و أهلها أجريت للمخزون ماء شؤونه و إذا أردت كناية عن ريبة باينت بين ظهوره و بطونه فجعلت سامعه يشوب شكوكه بثبوته و ظنونه بيقينه و إذا عتبت على أخ في زلة أدمجت شدته له في لينه فتركته مستانسأ بدماثة مستأمنا لوعوته و حزونه و إذا نبذت إلى الذي علقتها إذ صارمتك بفاتنات شؤونه تيمتها بلطيفه و رفيقه و شغفتها بخبيه و كمنه و إذا اعتذرت لسقطة أسقطتها و أشكت بين مخيله و مبينه
فيحول ذنبك عند من يعتده عتبا عليه مطالبا بيمينه
الفصل السادس و الخمسون: في أن صناعة النظم و النثر إنما هي في الألفاظ لا في المعاني إعلم أن صناعة الكلام نظما و نثرا إنما هي في الألفاظ لا في المعاني إنما المعاني تبع لها و هي أصل. فالصانع الذي يحاول ملكة الكلام في النظم و النثر إنما يحاولها في الألفاظ بحفظ أمثالها من كلام العرب ليكثر استعماله و جريه على لسانه حتى تستقر له الملكة في لسان مضر و يتخلص من العجمة التي ربي عليها في جبله و يفرض نفسه مثل وليد نشأ في جبل العرب و يلقن لغتهم كما يلقنها الصبي حتى يصير كأنه واحد منهم في لسانهم. و ذلك أنا قدمنا أن للسان ملكة من الملكات في النطق يحاول تحصيلها بتكرارها على اللسان حتى تحصل شأن الملكات و الذي في اللسان و النطق إنما هو الألفاظ و أما المعاني فهي في الضمائر. وأيضا فالمعاني موجودة عند كل واحد و في طوع كل فكر منها ما يشاء و يرضى فلا يحتاج إلى تكلف صناعة في تأليفها و تأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة كما قلناه و هو بمثابة القوالب للمعاني. فكما أن الأواني التى يغترف بها الماء من البحر منها آنية الذهب و الفضة و الصدف و الزجاج و الخزف و الماء واحد في نفسه. و تختلف الجودة في الأواني المملؤة بالماء باختلاف جنسها لا باختلاف الماء. كذلك جودة اللغة و بلاغتها في الاستعمال تختلف بإختلاف طبقات الكلام في تأليفه باعتبار تطبيقه على المقاصد. و المعاني واحدة في نفسها و إنما الجاهل بتأليف الكلام و أساليبه على مقتضى ملكة اللسان إذا حاول العبارة عن مقصوده و لم يحسن بمثابة المقعد الذي يروم النهوض و لا يستطيعه لفقدان القدرة عليه. و الله يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون.
الفصل السابع و الخمسون: في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ و جودتها بجودة المحفوظ قد قدمنا أنه لا بد من كثرة الحفظ لمن يروم تعلم اللسان العربي و على قدر جودة المحفوظ و طبقته في جنسه و كثرته من قلته تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ. فمن كان محفوظه من أشعار العرب الإسلاميين شعر حبيب أو العتابي أو ابن المعتز أو ابن هانئ أو الشريف الرضي أو رسائل ابن المقفع أو سهل ابن هارون أو ابن الزيات أو البديع أو الصابئ تكون ملكته أجود و أعلى مقاما و رتبة في البلاغة ممن يحفظ شعر ابن سهل من المتأخرين أو ابن النبيه أو ترسل البيساني أو العماد الأصبهاني لنزول طبقة هؤلاء عن أولئك يظهر ذلك للبصير الناقد صاجب الذوق. و على مقدار جودة المحفوظ أو المسموع تكون جودة الاستعمال من بعده ثم إجادة الملكة من بعدهما. فبارتقاء المحفوظ في طبقته من الكلام ترتقي الملكة الحاصلة لأن الطبع إنما ينسج على منوالها و تنمو قوى الملكة بتغذيتها. و ذلك أن النفس و إن كانت في جبلتها واحدة بالنوع فهي تختلف في البشر بالقوة و الضعف في الإدراكات. و اختلافها إنما هو باختلاف ما يرد عليها من الإدراكات و الملكات و الألوان التي تكيفها من خارج. فبهذه يتم وجودها و تخرج من القوة إلى الفعل صورتها و الملكات التي تحصل لها إنما تحصل على التدريج كما قدمناه. فالملكة الشعرية تنشأ بحفظ الشعر و ملكة الكتابة بحفظ الأسجاع و الترسيل، و العلمية بمخالطة العلوم و الإدراكات و الأبحاث و الأنظار، و الفقهية بمخالطة الفقه و تنظير المسائل و تفريعها و تخريج الفروع على الأصول والتصوفية الربانية بالعبادات و الأذكار و تعطيل الحواس الظاهرة بالخلوة و الانفراد عن الخلق ما استطاع حتى تحصل له ملكة الرجوع إلى حسه الباطن و روحه و ينقلب ربانيا و كذا سائرها. و للنفس في كل واحد منها لون تتكيف به و على حسب ما نشأت الملكة عليه من جودة أو رداءة تكون تلك الملكة في نفسها فملكة البلاغة العالية الطبقة في جنسها إنما تحصل بحفظ العالي في طبقته من الكلام و بهذا كان الفقهاء و أهل العلوم كلهم قاصرين في البلاغة و ما ذلك إلا لما سبق إلى محفوظهم و يمتلئ به من القوانين العلمية و العبارات الفقهية الخارجة عن أسلوب البلاغة و النازلة عن الطبقة لأن العبارات عن القوانين و العلوم لا حظ لها في البلاغة فإذا سبق ذلك المخفوظ إلى الفكر و كثر و تلونت به النفس جاءت الملكة الناشئة عنه في غاية القصور و انحرفت عباراته عن أساليب العرب في كلامهم. و هكذا نجد شعر الفقهاء و النحاة و المتكلمين و النظار و غيرهم ممن لم يمتلئ من حفظ النقي الحر من كلام العرب. أخبرني صاحبنا الفاضل أبو القاسم بن رضوان كاتب العلامة بالدولة المرينية قال: ذكرت يوما صاحبنا أبا العباس بن شعيب كاتب السلطان أبي الحسن و كان المقدم في البصر باللسان لعهده فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي و لم أنسبها له و هو هذا: لم أذر حين وقفت بالأطلال ما الفرق بين جديدها و البالي فقال لي على البديهة: هذا شعر فقيه، فقلت له: و من أين لك ذلك، فقال: من قوله ما الفرق ؟ إذ هي من عبارات الفقهاء و ليست من أساليب كلام العرب، فقلت له: لله أبوك إنه ابن النحوي. و أما الكتاب و الشعراء فليسوا كذلك لتخيرهم في محفوظهم و مخالطتهم كلام العرب و أساليبهم في الترسل و انتقائهم لهم الجيد من الكلام. ذاكرت يوما صاحبنا أبا عند الله بن الخطيب وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر و كان الصدر المقدم في الشعر و الكتابة فقلت له: أجد استصعابا علي في نظم الشعر متى رمته مع بصري به و حفظي للجيد من الكلام من القرآن و الحديث و فنون من كلام العرب و إن كان محفوظي قليلا. و إنما أتيت و الله أعلم بحقيقة الحال من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية و القوانين التألفية. فإني حفظت قصيدتي الشاطبي الكبرى و الصغرى في القراءات في الرسم و استظهرتهما و تدارست كتابي ابن الحاجب في الفقه و الأصول و جمل الخونجى في المنطق و بعض كتاب التسهيل و كثيرا من قوانين التعليم في المجالس فامتلأ محفوظي من ذلك و خدش وجه الملكة التي استعددت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن و الحديث و كلام العرب تعاق القريحة عن بلوغها. فنظر إلي ساعة معجبا ثم قال: لله أنت و هل يقول هذا إلا مثلك ؟ و يظهر لك من هذا الفصل و ما تقرر فيه سر آخر و هو إعطاء السبب في أن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة و أذواقها من كلام الجاهلية في منثورهم و منظومهم. فإنا نجد شعر حسان بن ثابت و عمر بن أ بي ربيعة و الحطيئة و جرير و الفرزدق و نصيب و غيلان ذي الرمة و الأحوص و بشار ثم كلام السلف من العرب في الدولة الأموية و صدرا من الدولة العباسية في خطبهم و ترسيلهم و محاوراتهم للملوك أرفع طبقة في البلاغة من شعر النابغة و عنترة و ابن كلثوم و زهير و علقمة بن عبدة و طرفة بن العبد و من كلام الجاهلية في منثورهم و محاوراتهم و الطبع السليم و الذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة. و السبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن و الحديث اللذين عجز البشر في الإتيان بمثليهما لكونها ولجت في قلوبهم و نشأت على أساليبها نفوسهم فنهضت طباعهم و ارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية ممن لم يسمع هذه الطبقة و لا نشأ عليها فكان كلامهم في نظمهم و نثرهم أحسن ديباجة و أصفى رونقا من أولئك و أرصف مبنى و أعدل تثقيفا بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة. و تأمل ذلك يشهد لك به ذوقك إن كنت من أهل الذوق و البصر بالبلاغة. و لقد سألت يوما شيخنا الشريف أبا القاسم قاضي غرناطة لعهدنا و كان شيخ هذه الصناعة أخذ بسبتة عن جماعة من مشيختها من تلاميذ الشلوبين و استبحر في علم اللسان و جاء من وراء الغاية فيه فسألته يوما ما بال العرب الإسلاميين أعلى طبقة في البلاغة من الجاهليين ؟ و لم يكن ليستنكر ذلك بذوقه فسكت طويلا ثم قال لي: و الله ما أدري، فقلت: أعرض عليك شيئا ظهر لي في ذلك و لعله السبب فيه. و ذكرت له هذا الذي كتبت فسكت معجبا ثم قال لي: يا فقيه هذا كلام من حقه أن يكتب بالذهب. و كان من بعدها يؤثر محلي و يصيخ في مجالس التعليم إلى قولي و يشهد لي بالنباهة في العلوم، و الله خلق الإنسان و علمه البيان.
الفصل الثامن و الخمسون: في بيان المطبوع من الكلام و المصنوع و كيف جودة المصنوع أو قصوره إعلم أن الكلام الذي هو العبارة و الخطاب، إنما سره و روحه في إفادة المعنى. و أما إذا كان مهملا فهو كالموات الذي لا عبرة به. و كمال الإفادة هو البلاغة على ما عرفت من حدها عند أهل البيان لأنهم يقولون هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، و معرفة الشروط و الأحكام التي بها تطابق التراكيب اللفظية مقتضى الحال، هو فن البلاغة. و تلك الشروط و الأحكام للتراكيب في المطابقة اسقريت من لغة العرب و صارت كالقوانين. فالتراكيب بوضعها تفيد الاسناد بين المسندين، بشروط و أحكام هي جل قوانين العربية. و أحوال هذه التراكيب من تقديم و تأخير، و تعريف و تنكير، و إضمار و إظهار. و تقييد و إطلاق و غيرها، يفيد الأحكام المكتنفة من خارج بالإسناد و بالمتخاطبين حال التخاطب بشروط و أحكام هي قوانين لفن، يسمونه علم المعاني من فنون البلاغة. فتندج قوانين العربية لذلك في قوانين علم المعاني لأن إفادتها الإسناد جزء من إفادتها للأحوال المكتنفة بالإسناد. و ما قصر من هذه التراكيب عن إفادة مقتضى الحال لخلل في قوانين الإعراب أو قوانين المعاني كان قاصرا عن المطابقة لمقتضى الحال، و لحق بالمهمل الذي هو في عداد الموات. ثم يتبع هذه الإفادة لمقتضى الحال التفنن في انتقال التركيب بين المعاني بأصناف الدلالات لأن التركيب يدل بالوضع على معنى ثم ينقل الذهن إلى لازمه أو ملزومه أو شبهه، فيكون فيها مجازا: إما باستعارة أو كناية كما هو مقرر في موضعه، و يحصل للفكر بذلك الانتقال لذة كما تحصل في الإفادة و أشد. لأن في جميعها ظفر بالمدلول من دليله. و الظفر من أسباب اللذة كما علمت. ثم لهذه الانتقالات أيضا شروط و أحكام كالقوانين صيروها صناعة، و سموها بالبيان. و هي شقيقة علم المعانى المفيد لمقتضى الحال لأنها راجعة إلى معاني التراكيب و مدلولاتها. و قوانين علم المعاني راجعة إلى أحوال التراكيب أنفسها من حيث الدلالة. و اللفظ و المعنى متلازمان متضايقان كما علمت. فإذا علم المعاني و علم البيان هما جزء البلاغة، و بهما كمال الإفادة، فهو مقصر عن البلاغة و يلتحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات العجم و أجدر به أن لا يكون عربيا، لأن العربي هو الذي يطابق بإفادته مقتضى الحال. فالبلاغة على هذا هي أصل الكلام العربي و سجيته و روحه و طبيعته. ثم اعلم أنهم إذا قالوا: الكلام المطبوع فإنهم يعنون به الكلام الذي كملت طييعته و سجيته من إفادة مدلوله المقصود منه، لأنه عبارة و خطاب، ليس المقصود منه النطق فقط. بل المتكلم يقصد به أن يفيد سامعه ما في ضميره إفادة تامة، و يدل به عليه دلالة وثيقة. ثم يتبع تراكيب الكلام في هذه السجية التي له بالأصالة ضروب من التحسين و التزيين، بعد كمال الإفادة و كأنها تعطيها رونق الفصاحة من تنميق الأسجاع، و الموازنة بين حمل الكلام و تقسيمه بالأقسام المختلفة الأحكام و التورية باللفظ المشترك عن الخفي من معانيه، و المطابقة بين المتضادات، ليقع التجانس بين الألفاظ و المعاني. فيحصل للكلام رونق و لذة في الأسماع و حلاوة و جمال كلها زائدة على الإفادة. و هذه الصنعة موجودة في الكلام المعجز في مواضيع متعددة مثل: والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى، و مثل: فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى، إلى آخر التقسيم في الآية. و كذا: فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا إلى آخر الآية. و كذا: هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. و أمثاله كثير. و ذلك بعد كمال الإفادة في أصبل هذه التراكيب قبل وقوع هذا البديع فيها. و كذا وقع في كلام الجاهلية منه، لكن عفوا من غير قصد ولا تعمد. و يقال إنه وقع في شعر زهير. و أما الإسلاميون فوقع لهم عفوا و قصدا، و أتوا منه بالعجائب. و أول من أحكم طريقته حبيب بن أوس و البحتري و مسلم بن الوليد، فقد كانوا مولعين بالصنعه. و يأتون منها بالعجب. و قيل أن أول من ذهب إلى معاناتها بشاز بن برد و ابن هرمة، و كانا آخر من يستشهد بشعره في اللسان العربي. ثم اتبعهما عمرو بن كلثوم و العتابي و منصور النميري و مسلم بن الوليد و أبو نواس. و جاء على آثارهم حبيب و البحتري. ثم ظهر ابن المعتز فختم على البدء و الصناعة أجمع. و لنذكر مثالا من المطبوع الخالي من الصناعة. مثل قول قيس بن ذريح: و أخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس في السر خاليا و قول كثير: و إني و تهيامي بعزة بعدما تخليت عما بيننا و تخليت لكالمرتجي ظل الغمامة كلها تبوأ منها للمقيل اضمحلت فتأمل هذا المطبوع، الفقيد الصنعة، ي أحكام تأليفه و ثقافة تركيبه. فلو جاءت فيه الصنعة من بعد هذا الأصل زادته حسنا. و أما المصنوع فكثير من لدن بشار، ثم حبيب و طبقتهما، ثم ابن المعتز خاتم الصنعة الذي جرى المتأخرون بعدهم في ميدانهم، و نسجوا على منوالهم. و قد تعددت أصناف هذه الصنعة عند أهلها، و اختلفت اصطلاحاتهم في ألقابها. و كثير منهم يجعلها مندرجة في البلاغة على أنها غير داخلة في الإفادة، و أنها هي تعطى التحسين و الرونق. و أما المتقدمون من أهل البديع، فهي عندهم خارجة عن البلاغة. و لذلك يذكرونها في الفنون الأدبية التي لا موضوع لها. و هو رأي ابن رشيق قي كتاب العمدة له، و أدباء الأندلس. و ذكروا في استعمال هذه الصنعة شروطا منها أن تقع من غير تكلف و لا اكتراث في ما يقصد منها. و أما العفو فلا كلام فيه لأنها إذا برئت من التكلف سلم الكلام من عيب الاستهجان، لأن تكلفها و معاناتها يصير إلى الغفلة عن التراكيب الأصلية للكلام، فتخل بالإفادة من أصلها، و تذهب بالبلاغة رأسا. و لا يبقى في الكلام إلا تلك التحسينات، و هذا هو الغالب اليوم على أهل العصر. و أصحاب الأذواق في البلاغة يسخرون من كلفهم بهذه الفنون، و يعدون ذلك من القصور عن سواه. و سمعت شيخنا الأستاذ أبا البركات البلفيقي، و كان من أهل البصر في اللسان و القريحة. في ذوقه يقول، إن من أشهى ما تقترحه على نفسي أن أشاهد في بعض الأيام من ينتحل فنون هذا البديع في نظمه أو نثره، و قد عوقب بأشد العقوبة، و نودي عليه، يحذر بذلك تلميذه أن يتعاطوا هذه الصنعة، فيكلفون بها، و يتناسون البلاغة. ثم من شروط استعمالها عندهم الإقلال منها و أن تكون في بيتين أو ثلاثة من القصيد، فتكفي في زينة الشعر و رونقه. و الإكثار منها عيب، قاله ابن رشيق و غيره. و كان شيخنا أبو القاسم الشريف السبتي منفق اللسان العربي بالأندلس لوقته يقول: هذه الفنون البديعية إذا وقعت للشاعر أو للكاتب فيقبح أن يستكثر منها، لأنها من محسنات الكلام و مزيناته، فهي بمثابة الخيلان في الوجه يحسن بالواحد و الإثنين منها، و يقبح بتعدادها. و على نسبة الكلام المنظوم هو الكلام المنثور في الجاهلية و الإسلام. كان أولا مرسلا معتبر الموازنة بين جمله و تراكيبه، شاهدة موازنته بفواصله من غير التزام سجع و لا اكتراث بصنعة. حتى نبغ إبراهيم بن هلال الصابي كاتب بني بويه، فتعاطى الصنعة و التقفيه و أتى بذلك بالعجب. و عاب الناس عليه كلفه بذلك في المخاطبات السلطانية. و إنما حمله عليه ما كان في ملوكه من العجمة و البعد عن صولة الخلافة المنفقة لسوق البلاغة. ثم انتشرت الصناعة بعده في منثور المتأخرين و نسي عهد الترسيل و تشابهت السلطانيات و الإخوانيات و العربيات بالسوقيات. و اختلط المرعى بالهمل. و هذا كله يدلك على أن الكلام المصنوع بالمعاناة و التكليف، قاصر عن الكلام المطبوع، لقلة الإكتراث فيه بأصل البلاغة، و الحاكم في ذلك الذوق. و الله خلقكم و علمكم ما لم تكونوا تعلمون.
الفصل التاسع و الخمسون: في ترفع أهل المراتب عن انتحال الشعر اعلم أن الشعر كان ديوانا للعرب فيه علومهم و أخبارهم و حكمهم. و كان رؤساء العرب منافسين فيه و كانوا يقفون بسوق عكاظ لإنشاده و عرض كل واحد منهم ديباجته على فحول الشأن و أهل البصر لتمييز حوله. حتى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام موضع حجهم و بيت أبيهم إبراهيم كما فعل امرؤ القيس ابن حجر و النابغة الذبياني و زهير بن أبى سلمى و عنترة بن شداد و طرفة بن العبد و علقمة بن عبدة و الأعشى و غيرهم من أصحاب المعلقات السبع. فإنه إنما كان يتوصل إلى تعليق الشعر بها من كان له قدرة على ذلك بقومه و عصبته و مكانه في مضر على ما قيل في سبب تسميتها بالمعلقات. ثم انصرف العرب عن ذلك أول الإسلام بما شغلهم من أمر الدين والنبؤة و الوحي و ما أدهشهم من أسلوب القرآن و نظمه فأخرسوا عن ذلك و سكتوا عن الخوض في النظم و النثر زمانا. ثم استقر ذلك و أونس الرشد من الملة. و لم ينزل الوحي في تحريم الشعر و حظره و سمعه النبي صلى الله عليه و سلم و أثاب عليه، فرجعوا حينئذ إلى ديدنهم منه. و كان لعمر بن أبي ربيعة كبير قريش لذلك العهد مقامات فيه عالية و طبقة مرتفعة و كان كثيرا ما يعرض شعره على ابن عباس فيقف لاستماعه معجبا به. ثم جاء من بعد ذلك الملك الفحل و الدولة العزيزة و تقرب إليهم العرب بأشعارهم يمتدحونهم بها. و يجيزهم الخلفاء بأعظم الجوائز على نسبة الجودة في أشعارهم و مكانهم من قومهم و يحرصون على استهداء أشعارهم يطلعون منها على الآثار و الأخبار و اللغة و شرف اللسان. و العرب يطالبون ولدهم بحفظها. و لم يزل هذا الشأن أيام بني أمية و صدرا من دولة بني العباس. و انظر ما نقله صاحب العقد في مسامرة الرشيد للأصمعي في باب الشعر و الشعراء تجد ما كان عليه الرشيد من المعرفة بذلك و الرسوخ فيه و العناية بانتحاله و التبصر بجيد الكلام و رديئه و كثرة مخفوظه منه. ثم جاء خلق من بعدهم لم يكن اللسان لسانهم من أجل العجمة و تقصيرها باللسان و إنما تعلموه صناعة ثم مدحوا بأشعارهم أمراء العجم الذين ليس اللسان لهم طالبين معروفهم فقط لا سوى ذلك من الأغراض كما فعله حبيب و البحتري و المتنبئ و ابن هانئ و من بعدهم و هلم جرا. فصار غرض الشعر في الأغلب إنما هو الكذب و الاستجداء لذهاب المنافع التي كانت فيه للأولين كما ذكرناه آنفا. و أنف منه لذلك أهل الهمم و المراتب من المتأخرين و تغير الحال و أصبح تعاطيه هجنة في الرئاسة و مذمة لأهل المناصب الكبيرة. و الله مقلب الليل و النهار.
الفصل الستون: في أشعار العرب و أهل الأمصار لهذا العهد اعلم أن الشعر لا يختص باللسان العربي فقط بل هو موجود في كل لغة سواء كانت عربية أو عجمية و قد كان في الفرس شعراء و في يونان كذلك و ذكر منهم أرسطو في كتاب المنطق أوميروس الشاعر و أثنى عليه. و كان في حمير أيضا شعراء متقدمون. و لما فسد لسان مضر و لغتهم التي ذونت مقاييسها و قوانين إعرابها و فسدت اللغات من بعد بحسب ما خالطها و مازجها من العجمة فكانت تحيل العرب بأنفسهم لغة خالفت لغة سلفهم من مضر في الإعراب جملة و في كثير من الموضوعات اللغوية و بناء الكلمات. و كذلك الحضر أهل الأمصار نشأت فيهم لغة أخرى خالفت لسان مضر في الإعراب و أكثر الأوضاع و التصاريف وخالفت أيضا لغة الجيل من العرب لهذا العهد. و اختلفت هي في نفسها بحسب اصطلاحات أهل الآفاق فلأهل الشرق و أمصاره لغة غير لغة أهل المغرب و أمصاره وتخالفهما أيضا لغة أهل الأندلس و أمصاره. ثم لما كان الشعر موجودا بالطبع في أهل كل لسان لأن الموازين على نسبة واحدة في أعداد المتحركات و السواكن و تقابلها موجودة في طباع البشر فلم يهجر الشعر بفقدان لغة واحدة و هي لغة مضر الذين كانوا فحولة و فرسان ميدانه حسبما اشتهر بين أهل الخليقة. بل كل جيل وأهل كل لغة من العرب المستعجمين و الحضر أهل الأمصار يتعاطون منه ما يطاوعهم في انتحاله و رصف بنائه على مهيع كلامهم. فأما العرب أهل هذا الجيل المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر فيعرضون الشعر لهذا العهد في سائر الأعاريض على ما كان عليه سلفهم المستعربون و يأتون منه بالمطولات مشتملة على مذاهب الشعر و أغراضه من النسيب و المدح و الرثاء و الهجاء و يستطردون في الخروج من فن إلى فن في الكلام. و ربما هجموا على المقصود لأول كلامهم و أكثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشاعر ثم بعد ذلك ينسبون. فأهل أمصار المغرب من العرب يسمون هذه القصائد بالأصمعيات نسبة إلى الأصمعي راوية العرب في أشعارهم و أهل المشرق من العرب يسمون هذا النوع من الشعر بالبدوي والحورانى و القيسي. و ربما يلحنون فيه ألحانا بسيطة لا على طريقة الصناعة الموسيقية. ثم يغنون به و يسمون الغناء به باسم الحوراني نسبة إلى حوران من أطراف العراق و الشام و هي من منازل العرب البادية و مساكنهم إلى هذا العهد. و لهم فن آخر كثير التداول في نظمهم يجيئون به معصبا على أربعة أجزاء يخالف آخرها الثلاثة في رويه و يلتزمون القافية الرابعة في كل بيت إلى آخر القصيدة شبيها بالمربع و المخمس الذي أحدثه المتأخرون من المولدين. و لهؤلاء العرب في هذا الشعر بلاغة فائقة و فيهم الفحول و المتأخرون و الكثير من المنتحلين للعلوم لهذا العهد و خصوصا علم اللسان يستنكر صاحبها هذه الفنون التي لهم إذا سمعها و يمج نظمهم إذا أنشد و يعتقد أن ذوقه إنما نبا عنها لاستهجانها و فقدان الإعراب منها. و هذا إنما أتى من فقدان الملكة في لغتهم فلو حصلت له ملكة من ملكاتهم لشهد له طبعة و ذوقه ببلاغتها إن كان سليما من الآفات في فطرته و نظره و إلا فالإعراب لا مدخل له في البلاغة إنما البلاغة مطابقة الكلام للمقصود و لمقتضى الحال من الوجود فيه سواء كان الرفع دالا على الفاعل و النصب دالا على المفعول أو بالعكس و إنما يدل على ذلك قرائن الكلام كما هو في لغتهم هذه. فالدلالة بحسب ما يصطلح عليه أهل الملكة فإذا عرف اصطلاح في ملكة و اشتهر صحة الدلالة و إذا طابقت تلك الدلالة المقصود و مقتضى الحال صحت البلاغة و لا عبرة بقوانين النحاة في ذلك. و أساليب الشعر و فنونه موجودة في أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب في أواخر الكلم فإن غالب كلماتهم موقوفة الآخر. و يتميز عندهم الفاعل من المفعول و المبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب. فمن أشعارهم على لسان الشريف بن هاشم يبكي الجارية بنت سرحان، و يذكر ظعنها مع قومها إلى المغرب: قال الشريف ابن هاشم علي ترى كبدي حرى شكت من زفيرها يغز للإعلام أين ما رأت خاطري يرد غلام البدو يلوي عصيرا و ماذا شكاة الروح مما طرا لها عداة وزائع تلف الله خبيرها يحس إن قطاع عامر ضميرها طوى و هند جافي ذكيرها و عادت كما خوارة في يد غاسل على مثل شوك الطلح عقدوا يسيرها تجابذوها اثنين و النزع بينهم على شوك لعه و البقايا جريرها و باتت دموع العين ذارفات لشانها شبيه دوار السواني يديرها تدارك منها النجم حذرا و زادها مرون يجي متراكبا من صبيرها يصب من القيعان من جانب الصفا عيون و لجاز البرق في غزيرها هاذا الغنى حتى تسابيت غزوة ناضت من بغداد حتى فقيرها و نادى المنادي بالرحيل و شدوا و عرج عاريها على مستعيرها و شد لها الأدهم دياب بن غانم على أيدين ماضي وليد مقرب ميرها و قال لهم حسن بن سرحان غزبوا و سوقوا النجوع إن كان أنا هو غفيرها و يركض و بيده شهامه بالتسامح و باليمين لا يجدوا في مغيرها غدرني زيان السيح من عابس و ما كان يرضى زين حمير و ميرها غدرني و هو زعما صديقي و صاحبي و أناليه ما من درقتي ما يديرها و رجع يقول لهم بلال بن هاشم بحرالبلادالعطشى ما بخيرها حرام علي باب بغداد و أرضها داخل و لا عائد ركيره من نعيرها تصدف روحي عن بلاد بن هاشم على الشمس أوحول الغظامن هجيرها و باتت نيران العذارى قوادح يلوذ و بجرجان يشدوا أسيرها ومن قولهم في رثاء أمير زناتة أبي سعدى اليفرني مقارعهم بأفريقية و أرض الزاب و رثاؤهم له على جهة التهكم: تقول فتاة الحي سعدى و هاضها لها في ظعون الباكرين عويل أيا سائلي عن قبر الزناتي خليفه خذ النعت مني لا تكون هبيل تراه يعالي وادي ران و فوقه من الربط عيساوي بناه طويل أراه يميل النور من شارع النقا به الواد شرقا و اليراع دليل أيا لهف كبدي على الزناتي خليفه قد كان لأعقاب الجياد سليل قتيل فتى الهيجا دياب بن غانم جراحه كافواه المزاد تسيل أيا جائزا مات الزناتي خليفه لاترحل إلا أن يريذ رحيل ألا واش رحلنا ثلاثين مرة و عشرا و ستا في النهار قليل و من قولهم على لسان الشريف بن هاشم يذكر عتابا وقع بينه و بين ماضي بن مقرب: تبدى ماضي الجبار و قال لي أشكر ما نحنا عليك رضاش أشكر أعد ما بقي ود بيننا و رانا عريب عربا لابسين نماش نحن غدينا نصدفو ما قضى لنا كما صادفت طعم الزباد طشاش أشكر أعد إلى يزيد ملامه ليحدو و من عمر بلاده عاش إن كان نبت الشوك يلقح بأرضكم هنا العرب ما زدنا لهن صياش و من قولهم في ذكر رحلتهم إلى الغرب و غلبهم زناتة عليه: و أي جميل ضاع لي في الشريف بن هاشم و أي رجال ضاع قبلي جميلها لقد كنت أنا وياه في زهو بيتنا عناني بحجة ماغباني دليلها وعدت كأني شارب من مدامة من الخمر فهو ما قدر من يميلها أو مثل شمطامات مظنون كبدها غريبا و هي مدوخه عن قبيلها أتاها زمان السوء حتى تدوحت و هي بين عربا غافلا عن نزيلها كذلك أنا مما لحاني من الوجى شاكي بكبد باديتها زعيلها و أمرت قومي بالرحيل و بكروا و قووا و شداد الحوايا حميلها قعدنا سبعة أيام محبوس نجعنا و البدو ماترفع عمود يقيلها نظل على حداب الثنايا نوازي يظل الجرى فوق النضا و نصيلها و من شعر يلطان بن مظفر بن يحيى من الزواودة أحد بطون رياح و أهل الرياسة فيهم، يقولها و هو معتقل بالمهدية في سجن الأمير أبي زكريا بن أبي حفص أول ملوك أفريقية من الموحدين: يقول و في بوح الدجا بعد وهنة حرام على أجفان عيني منامها يا من لقلب حالف الوجد و الأسى و روح هيامي طال ما في سقامها حجازية بدوية عربية عداوية و لها بعيد مرامها مولعة بالبدو لا تألف القرى سوى عانك الوعسا يؤتي خيامها غيات و مشتاها بها كل شتوة ممحونة بيها و بيها صحيح غرامها و مرباها عشب الأراضي من الحيا يواتي من الخورالخلايا جسامها تشوق شوق العين مما تداركت عليها من السحب السواري عمامها و ماذا بكت بالما و ماذا تناحطت عيون غرار المزن عذبا حمامها كأن عروس البكر لاحت ثيابها عليها و من نور الأقاحي خزامها فلاة و دهنا و اتساع و منة و مرعى سوى ما في مراعي نعامها و مشروبها من مخض ألبان شولها غنيم و من لحم الجوازي طعامها تفانت عن الأبواب و الموقف الذي يشيب الفتى مما يقاسي زحامها سقى الله ذا الوادي المشجر بالحيا و بلا و يحيى ما بلي من رمامها فكافأتها بالود مني و ليتني ظفرت بأيام مضت في ركامها ليالي أقواس الصبا في سواعدي إذا قمت لم تحظ من أيدي سهامها و فرسي عديد تحت سرجي مشاقة زمان الصبا سرجا و بيدي لجامها و كم من رداح أسهرتني و لم أرى من الخلق أبهى من نظام ابتسامها و كم غيرها من كاعب مرجحنة مطرزة الأجفان باهي و شامها و صفقت من وجدي عليها طريجة بكفي و لم ينسى جداها ذمامها و نار بخطب الوجد توهج في الحشا و توهج لا يطفا من الماء ضرامها أيا من وعدتي الوعد هذا إلى متى فني العمر في دار عماني ظلامها و لكن رأيت الشمس تكسف ساعة و يغمى عليها ثم يبدا غيامها بنود و رايات من السعد أقبلت إلينا بعون الله يهفو علامها أرى في الفلا بالعين أظعان عزوتي و رمحى على كتفي و سيري أمامها يجرعا عتاق النوق من فوق شامس أحب بلاد الله عندي حشامها إلى منزل بالجعفرية للوى مقيم بها مالذ عندي مقامها ونلقى سراة من هلال بن عامر يزيل الصدا و الغل عني سلامها بهم تضرب الأمثال شرقا و مغربا إذا قاتلوا قوما سريع انهزامها عليهم و من هو في حماهم تحية مدى الدهر ما غنى يفينا حمامها فدع ذا و لا تأسف على سالف مضى فذي الدنيا ما دامت لاحد دوامها و من أشعار المتأخرين منهم قول خالد بن حمزة بن عمر. شيخ الكعوب. من أولاد أبي الليل. يعاتب أقتالهم أولاد مهلهل و يجيب شاعرهم شبل بن مسكيانة بن مهلمهل. عن أبيات فخر عليهم فيها بقومه: يقول و ذا قول المصاب الذي نشا قوارع قيعان يعانى صعابها يريح بها حادي المصاب إذا سعى فنونا من انشاد القوافي عذابها محيرة مختارة من نشادها تحدى بها تام الوشا ملتها بها مغربلة عن ناقد في غضونها محكمة القيعان دابي و دابها و هيض بتذكاري لها يا ذوي الندى قوارع من شبل و هذي جوابها اشبل جنينا من حباك طرائفا فراح يريح الموجعين الغنا بها فخرت و لم تقصر و لا أنت عادم سوى قلت في جمهورها ما أعابها لقولك في أم المتين بن حمزة وحامي حماها عاديا في حرابها أما تعلم أنه قامها بعد ما لقي رصاص بني يحيى و غلاق دابها شهابا من أهل الأمر يا شبل خارق و هل ريت من جا للوغى و اصطلى بها سواها طفاها أضرمت بعد طفيه و أثنى طفاها جاسرا لا يهابها و اضرمت بعد الطفيتين ألن صحت لفاس إلى بيت المنى يقتدى بها و بان لوالي الأمر في ذا انشحابها فصار و هي عن كبر الاسنة تهابها كما كان هو يطلب على ذا تجنبت رجال بني كعب الذي يتقى بها منها في العتاب: وليدا تعاتبتوا أنا أغنى لأنني غنيت بمعلاق الثنا و اغتصابها علي ونا ندفع بها كل مبضع بأسياف ننتاش العدا من رقابها فإن كانت الأملاك بغت عرايس علينا بأطراف القنا اختضابها و لا بعدها الارهاف و ذبل و زرق كالسنة الحناش انسلابها بني عمنا ما نرتضي الذل غلمه تسير السبايا و المطايا ركابها و هي عالما بأن المنايا تنيلها بلا شك و الدنيا سريع انقلابنها و منها في وصف الظعائن: قطعنا قطوع البيد لا نختشي العدا فتوق بحوبات مخوف جنابها ترى العين فيها قل لشبل عرائف وكل مهاة محتظيها ربابها ترى أهلها غب الصباح أن يفلها بكل حلوب الجوف ما سد بابها لها كل يوم في الأرامي قتائل ورا الفاجر الممزوج عفو رضابها و من قولهم في الأمثال الحكمية و طلبك في الممنوع منك سفاهة و صدك عمن صد عنك صواب إذا رأيت أناسا يغلقوا عنك بابهم ظهور المطايا يفتح الله باب و من قول شبل يذكر انتساب الكعوب إلى برجم: لشيب و شبان من أولاد برجم جميع البرايا تشتكي من ضهادها و من قول خالد يعاتب إخوانه في موالاة شيخ الموحدين أبي محمد بن تافراكين المستبد بحجابة السلطان بتونس على سلطانها مكفولة أبي إسحاق ابن السلطان أبي يحيى و ذلك فيما قرب من عصرنا: يقول بلا جهل فتى الجود خالد مقالة قوال و قال صواب مقالة حبر ذات ذهن و لم يكن هريجا و لا فيما يقول ذهاب تهجست معنا نابها لا لحاجة و لا هرج ينقاد منه معاب و كنت بها كبدي و هي نعم صابة حزينة فكر و الحزين يصاب تفوهت بادي شرحها عن مآرب جرت من رجال في القبيل قراب بني كعب أدنى الأقربين لدمنا بني عم منهم شايب و شباب جرى عند فتح الوطن منا لبعضهم مصافاة ود و اتساع جناب و بعضهم ملنا له عن خصيمه كما يعلموا قولي بقيه صواب و بعضهمو مرهوب من بعض ملكنا جزاعا و في جو الضمير كتاب و بعضهمو جانا جريحا تسمحت خواطر منها للنزيل و هاب و بعضهمو نظار فينا بسوة نقهناه حتى ماعنا به ساب رجع ينتهي مما سفهناقبيحه مرارا و في بعض المرار يهاب و بعضهمو شاكي من أوغاد قادر غلق عنه في أحكام السقائف باب فصمناه عنه و اقتضي منه مورد على كره مولى البالقي و دياب و نحن على دافي المدى نطلب العلا لهم ما حططنا للفجور نقاب و حزنا حمى وطن بترشيش بعدما نفقنا عليها سبقا و رقاب و مهد من الأملاك ما كان خارجا على أحكام والي أمرها له ناب بردع قروم من قروم قبيلنا بني كعب لاواها الغريم و طاب جرينا بهم عن كل تاليف في العدا و قمنا لهم عن كل قيد مناب إلى أن عاد من لا كان فيهم بهمة ربيها و خيراته عليه نصاب و ركبوا السبايا المثمنات من أهلها و لبسوا من أنواع الحرير ثياب و ساقوا المطايا يالشرا لا نسوا له جماهير ما يغلو بها بجلاب و كسبوا من أصناف السعايا ذخائر ضخام لحزات الزمان تصاب و عادوا نظير البرمكيين قبل ذا و إلا هلالا في زمان دياب و كانوا لنا درعا لكل مهمة إلى أن بان من نار العدو شهاب و خلوا الدار في جنح الظلام و لا اتقوا ملامه و لا دار الكرام عتاب كسوا الحيى جلباب البهيم لستره وهم لو دروا لبسوا قبيح جباب كذلك منهم حانس ما دار النبا ذهل حلمي إن كان عقله غاب يظن ظنونا ليس نحن بأهلها تمنى يكن له في السماح شعاب خطا هو و من واتاه في سو ظنه بالاثبات من ظن القبايح عاب فوا عزوتي إن الفتى بو محمد وهوب لآلاف بغير حساب و برحت الأوغاد منه و يحسبوا بروحه ما يحيى بروح سحاب جروا يطلبوا تحت السحاب شرائع لقوا كل ما يستاملوه سراب و هو لو عطى ما كان للرأي عارف و لا كان في قلة عطاه صواب و إن نحن ما نستاملوا عنه راحة و إنه باسهام التلاف مصاب و إن ما وطا ترشيش يضياق وسعها عليه و يمشي بالفزوع لزاب و إنه منها عن قريب مفاصل خنوج عناز هوالها و قباب و عن فاتنات الطرف بيض غوانج ربوا خلف أستار و خلف حجاب يتيه إذا تاهوا و يصبوا إذا صبوا بحسن قوانين و صوت رباب يضلوه عن عدم اليمين و ربما يطارح حتى ما كأنه شاب بهم حازله زمه و طوع أوامر و لذة مأكول و طيب شراب حرام على ابن تافركين ما مضى من الود إلا ما بدل بحراب و إن كان له عقل رجيح و فطنة يلجج في اليم الغريق غراب و أما البدا لا بدها من فياعل كبار إلى أن تبقى الرجال كباب و يحمي بها سوق علينا سلاعه و يحمار موصوف القنا و جعاب و يمسي غلام طالب ريح ملكنا ندوما و لا يمسي صحيح بناب أيا واكلين الخبز تبغوا أدامه غلطتوا أدمتوا في السموم لباب و من شعر علي بن عمر بن إبراهيم من رؤساء بني عامر لهذا العهد أحد بطون زغبة يعاتب بني عمه المتطاولين إلى رياسته: محبرة كالدر في يد صانع إذا كان في سلك الحرير نظام أباحها منها فيه أسباب ما مضى و شاء تبارك و الضعون تسام غدا منه لام الحي حيين و انشطت عصاها و لا صبنا عليه حكام و لكن ضميري يوم بان بهم إلينا تبرم على شوك القتاد برام و إلا كأبراص التهامي قوادح و بين عواج الكانفات ضرام و إلا لكان القلب في يد قابض أتاهم بمنشار القطيع غشام لما قلت سما من شقا البين زارني إذا كان ينادي بالفراق و خام ألا يا ربوع كان بالأمس عامر بيحيى و حله و القطين لمام و غيد تداني للخطا في ملاعب دجى الليل فيهم ساهر و نيام و نعم يشوف الناظرين التحامها لنا ما بدا من مهرق و كظام و عرود باسمها ليدعو لسربها و لإطلاق من شرب المها و نعام و اليوم ما فيها سوى البوم حولها ينوح على اطلال لها و خيام وقفنا بها طورا طويلا نسالها بعين سخينا و الدموع سجام و لا صح لي منها سوى وحش خاطري و سقمي من أسباب إن عرفت أوهام و من بعد ذا تدى لمنصور بو علي سلام و من بعد السلام سلام و قولوا له يا بو الوفا كلح رأيكم دخلتم بحور غامقات دهام زواخر ما تنقاس بالعود إنما لها سيلات على الفضا و أكام و لا قمستمو فيها قياسا يدلكم و ليس البحور الطاميات تعام و عانوا على هلكاتهم في ورودها من الناس عدمان العقول لئام أيا عزوة ركبوا الضلالة و لا لهم قرار و لا دنيا لهن دوام ألا غناهمو لو ترى كيف زايهم مثل سراب فلاه ما لهن تمام خلو القنا يبغون في مرقب العلا مواضع ماهيا لهم بمقام و حق النبي و البيت و أركانه العلى و من زارها في كل دهر و عام لبر الليالي فيه إن طالت الحيا يذوقون من خمط الكساع مدام و لا بزها تبقى البوادي عواكف بكل رديني مطرب و حسام و كل مسافة كالسد إياه عابر عليها من أولاد الكرام غلام و كل كميت يكتعص عض نابه يظل يصارع في العنان لجام و تحمل بنا الأرض العقيمة مدة و تولدنا من كل ضيق كظام بالأبطال و القود الهجان و بالقنا لها وقت و جنات البدور زحام أتجحدني و أنا عقيد نقودها وفي سن رمحي للحروب علام و نحن كاضراس الموافي بنجعكم حتى يقاضوا من ديون غرام متى كان يوم القحط يا مير أبو علي يلقى سعايا صايرين قدام كذلك بو حمو إلى اليسر ابعته و خلى الجياد العاليات تسام و خل رجالا لا يرى الضيم جارهم و لا يجمعوا بدهى العدو زفام ألا يقيموها و عقد بؤسهم و هم عذر عنه دائما و دوام و كم ثار طعنها على البدو سابق ما بين صحاصيح و ما بين حسام فتى ثار قطار الصوى يومنا على لنا أرض ترك الظاعنين زمام و كم ذا يجيبوا أثرها من غنيمة حليف الثنا قشاع كل غيام و إن جاء خافوه الملوك و وسعوا غدا طبعه يجدى عليه قيام عليكم سلام الله من لسن فاهم ما غنت الورقا و ناح حمام و من شعر عرب نمر بنواحي حوران لإمرأة قتل زوجها فبعثت إلى أحلافه من قيس تغريهم بطلب ثأره تقول: تقول فتاة الحي أم سلامه بعين أراع الله من لا رثى لها تبيت بطول الليل ما تألف الكرى موجعة كان الشقا في مجالها على ما جرى في دارها و بو عيالها بلحظة عين البين غير حالها فقدنا شهاب الدين يا قيس كلكم و نمتوا عن أخذ الثار ماذا مقالها أنا قلت إذا ورد الكتاب يسرني و يبرد من نيران قلبي ذبالها أيا حين تسريح الذوائب و اللحى و بيض العذارى ما حميتو جمالها
الموشحات و الأزجال للأندلس و أما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم و تهذبت مناحيه و فنونه و بلغ التنميق فيه الغاية استحدث المتأخرون منهم فنا منه سموه بالموشح ينظمونه أسماطا أسماطا و أغصانا أغصانا يكثرون من أعاريضا المختلفة. و يسمون المتعدد منها بيتا واحدا و يلتزمون عند قوافي تلك الأغصان و أوزانها متتاليا فيما بعد إلى آخر القطعة و أكثر ما تنتهى عندهم إلى سبعة أبيات. و يشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض و المذاهب و ينسبون فيها و يمدحون كما يفعل في القصائد. و تجاروا في ذلك إلى الغاية و استظرفة الناس جملة الخاصة والكافة لسهولة تناوله و قرب طريقه. و كان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدم بن معافرالفريري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني. و أخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربه صاحب كتاب العقد و لم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر و كسدت موشحاتهما. فكان أول من برع في هذا الشأن عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المرية. و قد ذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع أبا بكر بن زهير يقول: كل الوشاحين عيال على عبادة القزاز فيما أتفق له من قوله: بدر تم. شمس ضحا غصن نقا. مسك شم ما أتم. ما أوضحا ما أورقا. ما أنم لا جرم. من لمحا قد عشقا. قد حرم و زعموا أنة لم يسبقه وشاح من معاصريه الذين كانوا في زمن الطوائف. و ذكر غير واحد من المشايخ أن أهل هذا الشأن بالأندلس يذكرون أن جماعة من الوشاحين اجتمعوا في مجلس بأشبيلية و كان كل واحد منهم اصطنع موشحة و تأنق فيها فتقدم الأعمى الطليطلي للإنشاد فلما افتتح موشحته المشهورة بقوله: ضاحك عن جمان. سافرعن در ضاق عنه الزمان. و حواه صدري صرف ابن بقي موشحته و تبعه الباقون. و ذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع ابن زهر يقول: ما حسدت قط وشاحا على قول إلا ابن بقي حين وقع له: أما ترى أحمد. في مجده العالي لا يلحق أطلعه الغرب. فأرنا مثله يا مشرق و كان في عصرهما من الموشحين المطبوعين أبو بكر الأبيض. و كان في عصرهما أيضا الحكيم أبو بكر بن باجة صاحب التلاحين المعروفة و من الحكايات المشهورة أنه حضر مجلس مخدومه ابن تيفلويت صاحب سرقسطة فألقى على بعض قيناته موشحته التي أولها: جرر الذيل أيما جر وصل الشكر منك بالشكر فطرب الممدوح لذلك لما ختمها بقوله: عقد الله راية النصر لأمير العلا أبي بكر فلما طرق ذلك التلحين سمع ابن تيفلويت صاح: و اطرباه: و شق ثيابه و قال: ما أحسن ما بدأت و ختمت و حلف بالأيمان المغلظة لا يمشي ابن باجة إلى داره إلا على الذهب. فخاف الحكيم سوء العاقبة فاحتال بأن جعل ذهبا في نعله و مشى عليه. و ذكر أبو الخطاب بن زهر أنه جرى في مجلس أبي بكر ابن زهير ذكر أبي بكر الأبيض الوشاح المتقدم الذكر فغص منه نعض الحاضرين فقال كيف تغص ممن يقول: ما لذي شراب راح على رياض الأقاح لولا هضيم الوشاح إذا أسا في الصباح أو في الأصيل أضحى يقول: ما للشمول لطمت خدي ؟ و للشمال هبت فمال غصن اعتدال ضمه بردي مما أباد القلوبا يمشي لنا مستريبا يا لحظة رد نوبا و يا لماه الشنيبا برد غليل صب عليل لا يستحيل فيه عن عهدي و لا يزال في كل حال يرجو الوصال و هو في الصد و اشتهر بعد هؤلاء في صدر دولة الموحدين محمد بن أبى الفضل بن شرف. قال الحسن بن دويدة: رأيت حاتم بن سعيد على هذا الافتتاح: شمس قاربت بدرا راح و نديم و ابن بهرودس الذي له: يا ليلة الوصل و السعود بالله عودي و ا بن مؤهل الذي له: ما العيد في حلة و طاق. و شم و طيب. و إنما العيد في التلاقي. مع الحبيب. و أبو إسحاق الرويني قال ابن سعيد: سمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول: إنه دخل على ابن زهير و قد أسن و عليه زي البادية إذ كان يسكن بحصن سبتة فلم يعرفة فجلس حيث انتهى به المجلس. و جرت المحاضرة فانشد لنفسه موشحة وقع فيها: كحل الدجى يجري من مقلة الفجر على الصباح و معصم النهر في حلل خضر من البطاح فتحرك ابن زهير و قال أنت تقول هذا ؟ قال: اختبر ! قال: و من تكون فعرفة، فقال ارتفع فوالله ما عرفتك، قال ابن سعيد و سابق الحلبة الذي أدرك هؤلاء أبو بكر بن زهير و قد شرقت موشحاته و غربت، قال: و سمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول قيل لابن زهير لو قيل لك ما أبدع و أرفع ما وقع لك في التوشيح قال كنت أقول: ما للموله من سكره لا يفيق. يا له سكران. من غير خمر. ما للكئيب المشوق. يندب الأوطان. هل تستعاد. أيامنا بالخليج. و ليالينا أو نستفاد. من النسيم الأريج. مسك دارينا أو هل يكاد. حسن المكان البهيج. أن يحيينا ؟ روض أظله. دوح عليه أنيق. مورق الأفنان. و الماء يجري. و عائم و غريق. من جنى الريحان و اشتهر بعده ابن حيون الذي له من الزجل المشهور قوله: يفوق سهمه كل حين بما شئت من يد و عين و ينشد في القصيد: خلقت مليح علمت رامي فليس تخل ساع من قتال و تعمل بذي العينين متاعي ما تعمل يدي بالنبال و اشتهر معهما يومئذ بغرناطة المهر بن الفرس، قال ابن سعيد، و لما سمع ابن زهر قوله: لله ما كان من يوم بهيج بنهر حمص على تلك المروج ثم انعطفنا على فم الخليج نفض في حانه مسك الختام عن عسجد زانه صافي المدام و رداء الأصيل ضمه كف الظلام قال ابن زهر: أين كنا نحن عن هذا الرداء و كان معه في بلده مطرف. أخبر ابن سعيد عن والده أن مطرفا هذا دخل على ابن الفرس فقام له و أكرمه، فقال: لا تفغل ! فقال ابن الفرس: كيف لا أقوم لمن يقول: قلوب تصاب بألحاظ تصيب فقل كيف تبقى بلا وجد و بعد هذا ابن خزمون بمرسية. ذكر ابن الرائس أن يحيى الخزرجي دخل عليه في مجلسه فأنشده موشحة لنفسه فقال له ابن حزمون: لا يكون الموشح بموشح حتى يكون عاريا غن التكلف، قال على مثل ماذا ؟ قال على مثل قولي: يا هاجري هل إلى الوصال منك سبيل أو هل ترى عن هواك سالي قلب العليل و أبو الحسن سهل بن مالك بغرناطة. قال ابن سعيد كان والدي يعجب بقوله: إن سيل الصباح في الشرق عاد بحرا في أجمع الأفق فتداعت نوادب الورق أتراها خافت من الغرق فبكت سحرة على الورق و اشتهر بأشبيلية لذلك العهد أبو الحسن بن الفضل، قال ابن سعيد عن والده، سمعت سهل ابن مالك يقول: له يا ابن الفضل لك على الوشاحين الفضل بقولك: واحسرتا لزمان مضى عشية بأن الهوى و انقضى و أفردت بالرغم لا بالرضى و بت على جمرات الغضى أعانق بالفكر تلك الطلول و ألثم بالوهم تلك الرسوم قال و سمعت أبا بكر بن الصابوني ينشد الأستاذ أبا الحسن الدباج موشحاته غير ما مرة، فما شنمعتة يقول له لله درك، إلا في قوله: قسما بالهوى لذي حجر ما لليل المشوق من فجر جمد الصبح ليس يطرد ما لليلي فيما أظن غد إصح ياليل إنك الأبد أو قفصت قوادم النسر فنجوم السماء لا تسري و من محاسن موشحات ابن الصابوني قوله: ما حال صب ذي ضنى و اكتئاب أمرضة يا ويلتاه الطبيب عامله محبوبه باجتناب ثم اقتدى فيه الكرى بالحبيب جفا جفوني النوم لكنني لم أبكه ألا لفقد الخيال و ذا الوصال اليوم قد غرني منه كما شاء و شاء الوصال فلست باللائم من صدني بصورة الحق و لا بالمحال و اشتهر ببر أهل العدوة ابن خلف الجزائري صاحب الموشحة المشهورة: يد الاصباح قدحت زناد الأنوار في مجامز الزهر و ابن خرز البجائي و له من موشحة: ثغر الزمان موافق حباك منه بابتسام و من محاسن الموشحات للمتأخرين موشحة ابن سهل شاعر أشبيلية و سبتة من بعدها فمنها قوله: هل درى ظبي الحمى أن قد حمى قلب صب حله عن مكنس فهو في نار و خفق مثل ما لعبت ريح الصبا بالقبس و قد نسج على منواله فيها صاحبنا الوزير أبو عبد الله ابن الخطيب شاعر الأندلس و المغرب لعصره و قد مر ذكره فقال: جادك الغيث إذا الغيث همى يا زمان الوصل بالأندلس لم يكن وصلك إلا حلما في الكرى أو خلسة المختلس إذ يقود الدهر أشتات المنى ينقل الخطو على ما يرسم زمرا بين فرادى و ثنا مثل ما يدعو الوفود الموسم و الحيا قد جلل الروض سنى فثغور الزهر فيه تبسم و روى النعمان عن ماء السما كيف يروي مالك عن أنس فكساه الحسن ثوبا معلما يزذهي منه بأبهى ملبس في ليال كتمت سر الهوى بالدجى لو لا شموس الغرر مال نجم الكأس فيها و هوى مستقيم السير سعد الأثر وطر ما فيه من غيب سوى أنه مر كلمح البصر حين لذ النوم منا أو كما هجم الصبح هجوم الحرس غارت الشهب بنا أو ربما أثرت فينا عيون النرجس أي شيء لامرئ قد خلصا فيكون الروض قد مكن فيه تنهب الأزهار فيه الفرصا أمنت من مكره ما تتقيه فإذا الماء يناجي و الحصا و خلا كل خليل بأخيه تبصر الورد غيورا برما يكتسي من غيظيه ما يكتسي و ترى الآس لبيبا فهما يسرق الدمع بأذني فرس يا أهيل الحي من وادي الغضا و بقلبي مسكن أنتم به ضاق عن وجدي بكم رحب الفضا لا أبالي شرقه من غربه فأعيدوا عهد أنس قد مضى تنقذوا عانيكم من كربه و اتقوا الله احيوا مغرما يتلاشى نفسا في نفس حبس القلب عليكم كرما أفترضون خراب الحبس و بقلبي منكم مقترب بأحاديث المنى و هو بعيد قمر أطلع منه المغرب شقوة المغرى به و هو سعيد قد تساوي محسن أو مذنب في هواه بين وعد و وعيد ساحر المقلة معسول اللمى جال في النفس مجال النفس سدد السهم فأصمى إذ رمى بفؤادي نبلة المفترس إن يكن جار و خاب الأمل و فؤاد الصب بالشوق يذوب فهو للنفس حبيب أول ليس في الحب لمحبوب ذنوب أمره معتمل ممتثل في ضلوع قد براها و قلوب حكم اللحظ بها فاحتكما لم يراقب في ضعاف الأنفس ينصف المظلوم ممن ظلما و يجازي البر منها و المسي ما لقلبي كلما هبت صبا عادة عيد من الشوق جديد ؟ كان في اللوح له مكتتبا قوله إن عذابي لشديد جلب الهم له و الوصبا فهو للأشجان في جهد جهيد لاعج في أضلعي قد أضرما فهي نار في هشيم اليبس لم يدع من مهجتي إلا الدما كبقاء ألصبح بعد الغلس سلمي يا نفس في حكم القضا و اعتبري الوقت برجعى و متاب و اتركي ذكرى زمان قد مضى بين عتبى قد تقضت و عتاب و اصرفي القول إلى المولى الرضى ملهم التوفيق في أم الكتاب الكريم المنتهى و المنتمى أسد السرج و بدر المجلس ينزل النصر عليه مثلما ينزل الوحي يروح القدس و أما المشارقة فالتكلف ظاهر على ما عانوه من الموشحات. و من أحسن ما وقع لهم في ذلك موشحة ابن سناء الملك التي اشتهرت شرقا و غربا و أولها: حبيبي ارفع حجاب النور عن العذار تنظر المسك على كافور في جلنار كللي يا سحب تيجان الربى بالحلى و اجعلي
سوارها منعطف الجدول
و لما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس، و أخذ به الجمهور. لسلاسته و تنميق كلامه و ترصيع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله. و نظموا في طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعراباً. و استحدثوا فنا سموه يالزجل، و التزموا النظم فيه على مناحيهم لهذا العهد، فجاءوا فيه بالغرائب و اتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة. و أول من أبدع في هذه الطريقة. الزجلية أبو بكر بن قزمان. و إن كانت قيلت قبله بالأندلس، لكن لم يظهر حلاها، و لا انسبكت معانيها و اشتهرت رشاقتها إلا في زمانه. و كان لعهد الملثمين، و هو إمام الزجالين على الإطلاق. قال ابن سعيد: و رأيت أزجاله مروية ببغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب. قال: و سمعت أبا الحسن بن جحدر الأشبيلي، إمام الزجالين في عصرنا يقول: ما وقع لأحد من أئمة هذا الشأن مثل ما وقع لابن قزمان شيخ الصناعة، و قد خرج إلى منتزه مع بعض أصحابه، فجلسوا تحت عريش و أمامهم تمثال أسد من رخام يصب الماء من فيه على صفائح من الحجر متدرجة فقال: و عريش قد قام على دكان بحال رواق و أسد قد ابتلع ثعبان من غلظ ساق و فتح فمه بحال إنسان بيه الفراق و انطلق من ثم على الصفاح و ألقى الصياح و كان ابن قزمان، مع أنه قرطبي الدار. كثيرا ما يتردد إلى إشبيلية و نيتاب نهرها، فاتفق أن اجتمع ذات يوم جماعة من أعلام هذا الشأن. و قد ركبوا في النهر للنزهة. و معهم غلام جميل الصورة من سروات أهل البلد و بيوتهم. و كانوا مجتمعين في زورق للصيد، فنظموا في وصف الحال، و بدأ منهم عيسى البليدي فقال: يطمع بالخلاص قلبي و قد فاتو و قد ضمني عشقو لشهماتو تراه قد حصل مسكين محلاتو يغلق و كذاك أمر عظيم صاباتو توحش الجفون الكحل إن غابو وذيك الجفون الكحل أبلاتو ثم قال أبو عمرو بن الزاهر الأشبيلي: نشب و الهوى من لج فيه ينشب ترى ايش دعاه يشقى و يتعذب مع العشق قام في بالوان يلعب و خلق كثير من ذا اللعب ماتوا ثم قال أبو الحسن المقري الداني: نهار مليح يعجبن أوصافو شراب و ملاح من حولي قد طافوا و المقلين يقول من فوق صفصافو و البوري أخرى فقلاتو ثم قال أبو بكر بن مرتين: الحق تريد حديث بقالي عاد في الواد النزيه و البوري و الصياد لسنا حيتان ذيك الذي يصطاد قلوب الورى هي في شبيكاتو ثم قال أبو بكر بن قزقان: إذا شمر كمامو يرميها ترى البوري يرشق لذاك الجيها و ليس مرادو أن يقع فيها إلا أن يقبل بدياتو و كان في عصرهم يشرق الأندلس محلف الأسود، و له محاسن من الزجل منها قوله: قد كنت منشوب و اختشيت النشب و ردني ذا العشق لأمر صعب حتى تنظر الخد الشريق البهي تنتهي في الخمر إلما تنتهي يا طالب الكيميا في عيني هي تنظر بها الفضة و ترجع ذهب و جاءت. بعدهم حلبة كان سابقها مدغليس، وقعت له العجائب في هذه الطريقة، فمن قوله في زجله المشهور: و رذاذ دق ينزل و شعاع الشمس يضرب فترى الواحد يفضض و ترى الآخر يذهب و النبات يشرب و يسكر و الغصون ترقص و تطرب و تريد تجي إلينا ثم تستحي و تهرب و من محاسن أزجاله قوله: لاح الضيا و النجوم حيارى فقم بنا ننزع الكسل شربت ممزوج من قراعا أحلى هي عندي من العسل يا من يلمني كما تقلد قلدك الله بما تقول يقول بان الذنوب تولد و أنه يفسد العقول لارض الحجاز موريكن لك أرشد ايش ما ساقك معي في ذا الفضول مر أنت للحج و الزيارا و دعني في الشرب منهمل من ليس لو قدره و لا استطاع النية أبلغ من العمل و ظهر بعد هؤلاء بأشبيلية ابن جحدر الذي فضل على الزجالين في فتح ميورقة بالزجل الذي أوله هذا: من عاند التوحيد بالسيف يمحق أنا بري ممن يعاند الحق قال ابن سعيد لقيتة و لقيت تلميذة المعمع صاحب الزجل المشهور الذي أوله: يا ليتني ان رأيت حبيبي أفتل اذنو بالرسيلا ليش أخذ عنق الغزيل و سرق فم الحجيلا ثم جاء من بعدهم أبو الحسن سهل بن مالك إمام الأدب، ثم من بعدهم لهذه العصور صاحبنا الوزير أبو عبد الله بن الخطيب إمام النظم و النثر في الملة الإسلامية غير مدافع، فمن محاسنه في هذه الطريقة: امزج الأكواس و املالي تجدد ما خلق المال إلا أن يبدد و من قوله على طريقة الصوفية و ينحو منحى الششتري منهم: بين طلوع و بين نزول اختلطت الغزول و مضى من لم يكن و بقي من لم يزول و من محاسنه أيضا قوله في ذلك المعنى: البعد عنك يا بني أعظم مصايبي و حين حصل لي قربك سببت قاربي و كان لعصر الوزير ابن الخطيب بالأندلس محمد بن عبد العظيم من أهل وادي آش، و كان إماما في هذه الطريقة و له من زجل يعارض به مدغليس في قوله: لاح الضياء و النجوم حيارى بقوله: حل المجون يا أهل الشطارا مذ حلت الشمس في الحمل تجددوا كل يوم خلاعا لا تجعلوا بينها ثمل إليها يتخلعوا في شنبل على خضورة ذاك النبات و حل بغداد و اجتياز النيل أحسن عندي من ذيك الجهات و طاقتها أصلح من أربعين ميل ان مرت الريح عليه و جات لم تلتق الغبار امارا و لا بمقدار ما يكتحل و كيف ولاش فيه موضع رقاعا إلا و نسرح فيه النحل و هذه الطريقة الزجلية لهذا العهد هي فن العامة بالأندلس من الشعر. و فيها نظمهم حتى أنهم لينظمون بها في سائر البحور الخمسة عشر، لكن بلغتهم العامية و يسمونه الشعر الزجلي مثل قول شاعرهم: دهر لي نعشق جفونك و سنين و أنت لا شفقة و لا قلب يلين حتى ترى قلبي من أجلك كيف رجع صنعة السكة بين الحدادين الدموع ترشرش و النار تلتهب و المطارق من شمال و من يمين خلق الله النصارى للغزو و أنت تغزو قلوب العاشقين و كان من المجيدين لهذه الطريقة لأول هذه المائة الأديب أبو عبد الله اللوشي و له فيها قصيدة يمدح فيها السلطان ابن الأحمر: طل الصباح قم يا نديمي نشربو و نضحكو من بعدما نطربو سبيكة الفجر أحكت شفق في ميلق الليل فقم قلبو ترى عيارها خالص أبيض نقي فضة هو لكن الشفق ذهبو فتنتفق سكتوا عند البشر نور الجفون من نورها يكسبو فهو النهار يا صاحبي للمعاش عيش الغني فيه بالله ما أطيبو والليل أيضا للقبل و العناق على سرير الوصل يتقلبو جاد الزمان من بعدما كان بخيل ولش ليفلت من يديه عقربو كما جرع مرو فما قد مضى يشرب بيننو و ياكل طيبو قال الرقيب يا أدبا إيش ذا في الشرب و العشق ترى ننجبو و تعجبوا عذالي من ذا الخبر فقلت يا قوم من ذا تتعجبوا نعشق مليح الا رقيق الطباع علاش تكفروا بالله أو تكتبوا ليش يربح الحسن إلا شاعر أديب يفض بكرو و يدع ثيبو أما الكاس فحرام نعم هو حرام على الذي ما يدري كيف يشربو و يد الذي يحسن حسابه و لم يقدر يحسن الفاظ أن يجلبوا و أهل العقل و الفكر و المجون يغفر ذنوبهم لهذا إن أذنبوا ظبي بهي فيها يطفي الجمر و قلبي في جمر الغضى يلهبو غزال بهي ينظر قلوب الأسود و بالوهم قبل النظر يذهبوا ثم يحييهم إذا ابتسم يضحكوا و يفرحوا من بعدما يندبوا فميم كالخاتم و ثغر نقي خطيب الأمة للقبل يخطبو جوهر و مرجان أي عقد يا فلان قد صففه الناظم و لم يثقبو و شارب أخضر يريد لاش يريد من شبهه بالمسك قد عيبو يسبل دلال مثل جناح الغراب ليالي هجري منه يستغربوا على بدن أبيض بلون الحليب ما قط راعي للغنم يحلبوا و زوج هندات ما علمت قبلها ديك الصلايا ريت ما أصلبو تحت العكاكن منها خصر رقيق من رقتو يخفي إذا تطلبوا أرق هو من ديني فيما تقول جديد عتبك حق ما أكذبو أي دين بقا لي معاك و أي عقل من يتبعك من ذا و ذا تسلبوا تحمل ارداف ثقال كالرقيب جين ينظر العاشق و حين يرقبو ان لم ينفس عدر أو ينقشع في طرف ديسا و البشر تطلبو يصير إليك المكان حين تجي و حين تغيب ترجع في عيني تبو محاسنك مثل خصال الأمير أو الرمل من هو الذي يحسبو عماد الأمصار و فصيح العرب من فصاحة لفظه يتقربو بحمل العلم انفرد و العمل و مع بديع الشعر ما أكتبو ففي الصدور بالرمح ما أطعنه و في الرقاب بالسيف ما أضربو من السماء يحسد في أربع صفات فمن يعد قلبي أو يحسبو الشمس نورو و القمر همتو الغيث جودو و النجوم منصبو يركب جواد الجود و يطلق عنان الاغنيا و الجند حين يركبوا من خلعتو يلبس كل يوم بطيب منه بنات المعالي تطيبوا نعمتو تظهر على كل من يجيه قاصد و وارد قط ما خيبوا قد أظهر الحق و كان في حجاب لاش يقدر الباطل بعدما يحجبو و قد بنى بالسر ركن التقى من بعد ما كان الزمان خربو تخاف حين تلقاه كما ترتجيه فمع سماحة وجهو ما أسيبو يلقى الحروب ضاحكا و هي عابسة غلاب هو لا شي في الدنيا يغلبو إذا جبد سيفه ما بين الردود فليس شيء يغني من يضربو و هو سمي المصطفى و الاله للسلطنة اختار و استنخبو تراه خليفة أمير المؤمنين يقود جيوشو و يزين موكبو لذي الإمارة تخضع الرؤوس نعم و في تقبيل يديه يرغبوا ببيته بقى بدور الزمان يطلعوا في المجد و لا يغربوا و في المعالي و الشرف يبعدوا و في التواضع و الحيا يقربوا و الله يبقيهم ما دار الفلك و أشرقت شمسه و لاح كوكبو و ما يغني ذا القصيد في عروض يا شمس خدر مالها مغربو ثم استحدث أهل الأمصار بالمغرب فناً آخر من الشعر، في أعاريض مزدوجة موشح، نظموا فيه بلغتهم الحضرية أيضا و سموه عروض البلد، و كان أول من حدثه فيهم رجل من أهل الأندلس نزل بفاس يعرف بابن عمير. فنظم قطعة بطريقة الموشح و لم يخرج فيها عن مذاهب الإعراب إلا قليلا مطلعها: اني بشاطي النهر نوح الحمام على الغصن في البستان قريب الصباح السحر يمحو مداد الظلام و ماء الندى يجري بثغر الاقاح جرت الرياض و الطل فيها افتراق كثير الجواهر في نحور الجوار مع النواعير ينهرق انهراق يحاكي ثعابين حلقت بالثمار بالغصون خلخال على كل ساق و دار الجميع بالروض دور السوار الندى تخرق جيوب الكمام و يحمل نسيم المسك عنها رياح الصبا يطلى بمسك الغمام و جر النسيم ذيلو عليها و فاح و يطير الحمام بين الورق في القضيب قد ابتلت ارياشو بقطر الندى تنوح مثل ذاك المستهام الغريب قد التف من توبو الجديد في ردا و لكن بما أحمر و ساقو خضيب ينظم سلوك جوهر و يتقلدا جلس بين الأغصان جلسة المستهام جناحا توسد و التوى في جناح و صار يشتكي ما في الفؤاد من غرام منها ضم منقاره لصدره و صاح قلت يا حمام احرمت عيني الهجوع أراك ما تزال تبكي بدمع سفوح قال لي بكيت حتى صفت لي الدموع بلا دمع نبقى طول حياتي ننوح على فرخ طار لي لم يكن لو رجوع ألفت البكا و الحزن من عهد نوح كذا هو الوفا و كذا هو الزمام انظر جفون صارت بحال الجراح و أنتم من بكى منكم إذا تم عام يقول عناني ذا البكا و النواح قلت يا حمام لو خضت بحر الضنى كنت تبكي و ترثي لي بدمع هتون و لو كان بقلبك ما بقلبي أنا ما كان يصير تحتك فروع الغصون اليوم نقاسي الهجر كم من سنا حتى لا سبيل جمله تراني العيون و مما كسا جسمي النحول و السقام أخفاني نحولي عن عيون اللواح لو جتنى المنايا كان يموت في المقام و من مات بعد يا قوم لقد استراح قال لي لو رقدت لاوراق الرياض من خوفي عليه ودا النفوس للفؤاد و تخضبت من دمعي و ذاك البياض طوق العهد في عنقي ليوم التناد أما طرف منقاري حديثو استفاض بأطراف البلد و الجسم صار في الرماد فاستحسنه أهل فاس و ولعوا به و نظموا على طريقته. و تركوا الإعراب الذي ليس من شأنهم، و كثر سماعه بينهم و استفحل فيه كثير منهم و نوعةه أصنافا إلى المزدوج و الكازي و الملعبة و الغزل. و اختلفت أسماؤها باختلاف ازدواجها و ملاحظاتهم فيها. فمن المزدوج ما قاله ابن شجاع من فصولهم و هو من أهل تازا: المال زينة الدنيا و عز النفوس يبهي وجوها ليس هي باهيا فها كل من هو كثير الفلوس ولوه الكلام و الرتبة العاليا يكبر من كثر مالو و لو كان صغير و يصغر عزيز القوم اذ يفتقر من ذا ينطبق صدري و من ذا تغير و كاد ينفقع لولا الرجوع للقدر حتى يلتجي من هو في قومو كبير لمن لا أصل عندو و لا لو خطر لذا ينبغي يحزن على ذي العكوس و يصبغ عليه ثوب فراش صافيا اللي صارت الاذناب أمام الرؤوس و صار يستفيد الواد من الساقيا ضعف الناس على ذا و فسد ذا الزمان ما يدروا على من يكثروا ذا العتاب اللي صار فلان يصبح بو فلان و لو رأيت كيف يرد الجواب عشنا و السلام حتى رأينا عيان أنفاس السلاطين في جلود الكلاب كبار النفوس جدا ضعاف الاسوس هم ناحيا و المجد في ناحيا يرو أنهم و الناس يروهم تيوس و جوه البلد و العمدة الراسيا و من مذاهبهم قول ابن شجاع منهم في بعض مزدوجاته: تعب من تبع ذا الزمان اهمل يا فلان لا يلعب الحسن فيك ما منهم مليح عاهد إلا و خان قليل من عليه تحبس و يحبس عليك يهبوا على العشاق و يتمنعوا و يستعمدوا تقطيع قلوب الرجال و ان واصلوا من حينهم يقطعوا و ان عاهدوا خانوا على كل حال مليح كان هويتو وشت قلبي معو و صيرت من خدي لقدمو نعال و مهدت لو من وسط قلبي مكان و قلت لقلبي اكرم لمن حل فيك و هون عليك ما يعتريك من هوان فلا بد من هول الهوى يعتريك حكمتوا علي و ارتضيت بو أمير فلو كان يرى حالي اذا يبصرو يرجع مثل در حولي بوجه الغدير مرديه و يتعطس بحال انحرو و تعلمت من ساعا بسبق الضمير و يفهم مرادو قبل أن يذكرو و يحتل في مطلو لوان كان عصر في الربيع أو في الليالي يريك و يمشي بسوق كان و لو باصبهان وايش ما يقل يحتاج لو يجيك حتى أتى على آخرها. و كان منهم علي بن المؤذن بتلمسان، و كان لهذه العصور القريبة من فحولهم بزرهون من ضواحي مكناسة رجل يعرف بالكفيف. أبدع في مذاهب هذا الفن. و من أحسن ما علق له بمحفوظي قوله في رحلة السلطان أبي الحسن و بنى مرين إلى أفريقية يصف هزيمتهم بالقيروان. و يعزيهم عنها و يؤنسهم بما وقع لغيرهم بعد أن عيبهم على غزاتهم إلى إفريقية في ملعبة من فنون هذه الطريقة يقول في مفتتحها. و هو من أبدع مذاهب البلاغة في الأشعار بالمقصد في مطلع الكلام و افتتاحه و يسمى براعة الإستهلال: سبحان مالك خواطر الامرا و نواصيها في كل حين و زمان ان طعناه أعظم لنا نصرا و ان عصيناه عاقب بكل هوان إلى أن يقول في السؤال عن جيوش المغرب بعد التخلص: كن مرعى قل و لا تكن راعي فالراعي عن رعيته مسؤول
و استفتح بالصلاة على الداعي للإسلام و الرضا السني المكمول
على الخلفاء الراشدين و الاتباع و اذكر بعدهم اذا تحب و قول أحجاجا تخللوا الصحرا ودوا سرح البلاد مع السكان عسكر فاس المنيرة الغرا وين سارت بوعزايم السلطان أحجاج بالنبي الذي زرتم و قطعتم لو كلاكل البيدا عن جيش الغرب حين يسألكم المتلوف في افريقيا السودا و من كان بالعطايا يزودكم و يدع برية الحجاز رغدا قام قل للسد صادف الجزرا و يعجز شوط بعدما يخفان و يزف كر دوم تهب في الغبرا أي ما زاد غزالهم سبحان لو كان ما بين تونس الغربا و بلاد الغرب سد السكندر مبنى من شرقها إلى غربا طبقا بحديد أو ثانيا بصفر لا بد الطير أن تجيب نبا أو يأتي الريح عنهم بفرد خبر ما أعوصها من أمور و ما شرا لو تقرا كل يوم على الديوان لجرت بالدم و انصدع حجرا و هوت الخراب و خافت الغزلان أدرلي بعقلك الفحاص و تفكر لي بخاطرك جمعا ان كان تعلم حمام و لا رقاص عن السلطان شهر و قبله سبعا تظهر عند المهيمن القصاص و علامات تنشر على الصمعا الا قوم عاريين فلا سترا مجهولين لا مكان و لا امكان ما يدروا كيف يصوروا كسرا و كيف دخلوا مدينة القيروان امولاي أبو الحسن خطينا الباب قضية سيرنا إلى تونس فقنا كنا على الجريد و الزاب واش لك في اعراب افريقيا القوبس ما بلغك من عمر فتى الخطاب الفاروق فاتح القرى المولس ملك الشام و الحجاز و تاج كسرى و فتح من افريقيا و كان رد ولدت لو كره ذكرى و نقل فيها تفرق الاخوان هذا الفاروق مردي الاعوان صرح في افريقيا بذا التصريح و بقت حمى إلى زمن عثمان و فتحها ابن الزبير عن تصحيح لمن دخلت غنائمها الديوان مات عثمان و انقلب علينا الريح و افترق الناس على ثلاثة أمرا و بقي ما هو للسكوت عنوان اذا كان ذا في مدة البرارا اش نعمل في أواخر الازمان و أصحاب الحضر في مكناساتا و في تاريخ كأنا و كيوانا تذكر في صحتها أبياتا شق و سطيح و ابن مرانا ان مرين إذا تكف براياتا لجدا و تونس قد سقط بنيانا قد ذكرنا ما قال سيد الوزرا عيسى بن الحسن الرفيع الشان قال لي رأيت و أنا بذا أدري لكن إذا جاء القدر عميت الأعيان و يقول لك ما دهى المرينيا من حضرة فاس إلى عرب دياب أراد المولى بموت ابن يحيى سلطان تونس و صاحب الأبواب ثم أخذ في ترحيل السلطان و جيوشه، إلى آخر رحلته و منتهى أمره، مع أعراب إفريقية. و أتى فيها بكل غريبة من الإيداع. و أما أهل تونس فاستحدثوا فن الملعبة أيضا على لغتهم الحضرية، إلا أن أكثره رديء و لم يعلق بمحفوظي منة شيء لرداءته. الموشحات و الأزجال في المشرق و كان لعامة بغداد أيضا فن من الشعر يسمونه المواليا، و تحته فنون كثيرة يسمون منها القوما، و كان و كان، و منه مفرد و منه في بيتين، و يسمونه دوبيت على الإختلافات المعتبرة عندهم في كل واحد منها، و غالبها مزدوجة من أربعة أغصان. و تبعهم في ذلك أهل مصر القاهرة و أتوا فيها بالغرائب. و تبحروا فيها في أساليب البلاغة بمقتضى لغتهم الحضرية، فجاؤوا بالعجائب. و رأيت في ديوان الصفي الحلي من كلامه أن المواليا من بحر البسيط، و هو ذو أربعة أغصان و أربع قواف، و يسمى صوتا و بيتين. و أنه من مخترعات أهل واسط، و أن كان و كان فهو قافية واحدة و أوزان مختلفة في أشطاره: الشطر الأول من البيت أطول من الشطر الثاني و لا تكون قافيته إلا مردفة بحرف العلة و أنه من مخترعات البغداديين. و أنشد فيه لنا: بغمز الحواجب حديث تفسير و منو أوبو، و أم الأخرس تعرف بلغة الخرسان. انتهى كلام الصفي. و من أعجب ما علق بحفظى منه قول شاعرهم: هذي جراحي طريا و الدما تنضح و قاتلي يا أخيا في الفلا يمرح قالوا و ناخذ بثارك قلت ذا أقبح إلى جرحتي يداويني يكون أصلح و لغيره: طرقت باب الخبا قالت من الطارق فقلت مفتون لا ناهب ولا سارق تبسمت لاح لي من ثغرها بارق رجعت حيران من بحر أدمعي غارق و لغيره: عهدي بها و هي لا تأمن علي البين و ان شكوت الهوى قالت فديتك العين لمن يعاين لها غيري غلام الزين ذكرتها العهد قالت لك على دين و لغيره في وصف الحشيش: دي خمر صرف التي عهدي بها باقي تغني عن الخمر و الخمار و الساقي قحبا و من قحبها تعمل على احراقي خبيتها في الحشى طلت من احداقي و لغيره: يا من و صالو لأطفال المحبة بح كم توجع القلب بالهجران أوه أح أودعت قلبي حوحو و التصبر بح كل الورى كخ في عيني و شخصك دح و لغيره: ناديتها و مسيبي قد طواني طي جودي علي بقبلة في الهوى يا مي قالت و قد كوت داخل فؤادي كي ما ظن ذا القطن يغشى فم من هو حي و لغيره: راني ابتسم سبقت سحب أدمعي برقه ماط اللثام تبدي بدر في شرقه اسبل دجى الشعرتاه القلب في طرقه رجع هدانا بخيط الصبح من فرقه و لغيره: يا حادي العيس ازجر بالمطايا زجر وقف على منزل أحبابي قبيل الفجر و صيح في حيهم يا من يريد الأجر ينهض يصلي على ميت قتيل الهجر و لغيره: عيني التي كنت ارعاكم بها باتت ترعى النجوم و بالتسهيد اقتاتت و أسهم البين صابتني و لا فاتت و سلوتي عظم الله أجركم ماتت و لغيره: هويت في قنطرتكم يا ملاح الحكر غزال يبلى الأسود الضاريا بالفكر غصن اذا ما انثنى يسبي البنات البكر وان تهلل فما للبدر عندو ذكر و من الذي يسمونه دوبيت: قد اقسم من أحبه بالباري أن يبعث طيفه مع الاسحار يا نار أشواقي به فاتقدي ليلا فعساه يهتدي بالنار و اعلم أن الأذواق كلها في معرفة البلاغة إنما تحصل لمن خالط تلك اللغة و كثر استعماله لها و مخاطبته بين أجيالها حتى يحصل ملكتها كما قلناه في اللغة العربية. فلا يشعر الأندلس بالبلاغة التي في شعر أهل المغرب و لا المغربي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس و المشرق و لا المشرقي بالبلاغة التي في شعر الأندلس و المغرب. لأن اللسان الحضري و تراكيبه مختلفة فيهم. و كل واحد منهم مدرك لبلاغة لغته و ذائق لمحاسن الشعر من أهل جلدته و في خلق السماوات والأرض و اختلاف ألسنتكم و ألوانكم آيات للعالمين و قد كدنا نخرج عن الغرض. و جاء مصليا خلفه منهم ابن رافع، رأس شعراء المأمون ابن ذي النون صاحب طليطلة. قالوا و قد أحسن في ابتدائه في موشحته التي طارت له حيث يقول: العود قد ترنم بأبدع تلحين و سقت المذانب رياض البساتين و في انتهائه حيث يقول: تخطر و لا تسلم عساك المأمون مروع الكتائب يحيى بن ذي النون ثم جاءت الحلبة التي كانت في دولة الملثمين، فظهرت لهم البدائع، و سابق فرسان حلبتهم الأعمى الطليطلي، ثم يحيى بن بقي، و للطليطلي من الموشوحات المهذبة قوله: كيف السبيل إلى صبري و في العالم أشجان و الركب وسط الفلا بالخرد النواعم قد بان
خاتمة و لذلك عزمنا أن نقبض العنان عن القول في هذا الكتاب الأول الذي هو طبيعة العمران و ما يعرض فيه و قد استوفينا من مسائله ما حسيناه كفاية له. و لعل من يأتي بعدنا ممن يؤيده الله بفكر صحيح و علم مبين يغوف من مسائله على أكثر مما كتبنا فليس على مستنبط الفن إحصاء مسائله و إنما عليه تعيين موضع العلم و تنويع فصوله و ما يتكلم فيه و المتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئا فشيئا إلى أن يكمل. و الله يعلم و أنتم لا تعلمون. قال مؤلف الكتاب عفى الله عنه: أتممت هذا الجزء الأول المشتمل على المقدمة بالوضع و التأليف قبل التنقيح و التهذيب في مدة خمسة أشهر آخرها منتصف عام تسعة و سبعين و سبعمائة. ثم نقحته بعد ذلك و هذبته و الحقت به تواريخ الأمم كما ذكرت في أوله و شرطته. و ما العلم إلا من عند الله العزيز الحكيم.