حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: مرَرْتُ في تَطْوافي بشِيرازَ. علي نادٍ يستَوقِفُ المُجْتازَ. ولوْ كان على أوْفازٍ. فلمْ أستَطِعْ تعَدّيهِ. ولا خطَتْ قدَمي في تخَطّيهِ. فعُجْتُ إليْهِ لأسْبُكَ سِرَّ جوهَرِهِ. وأنظُرَ كيفَ ثمَرُهُ من زَهَرِهِ. فإذا أهْلُهُ أفْرادٌ. والعائِجُ إلَيْهِمْ مُفادٌ. وبينَما نحنُ في فُكاهَةٍ أطْرَبَ منَ الأغاريدِ. وأطيَبَ منْ حلَبِ العَناقيدِ. إذِ احتَفّ بِنا ذو طِمْرَينِ. قد كاد يُناهِزُ العُمْرَينِ. فحيّا بلِسانٍ طَليقٍ. وأبانَ إبانَةَ مِنطيقٍ. ثمّ احتَبى حُبوَةَ المُنتَدينَ. وقال: اللهُمّ اجْعَلْنا منَ المُهتَدينَ. فازْدَراهُ القومُ لطِمْرَيْهِ. ونَسوا أنّ المرءَ بأصغَرَيْهِ. وأخَذوا يتَداعَوْنَ فصْلَ الخِطابِ. ويعْتدّونَ عودَهُ من الأحْطابِ. وهوَ لا يُفيصُ بكلِمَةٍ. ولا يُبينُ عنْ سِمَةٍ. إلى أنْ سبَرَ قرائِحَهُمْ. وخبَرَ شائِلَهُمْ وراجِحَهُمْ. فحينَ استخْرَجَ دفائِنَهُمْ. واستَنْثَلَ كنائِنَهُمْ. قال: يا قومُ لوْ علِمْتُمْ أنّ وراء الفِدامِ. صَفْوَ المُدامِ. لَما احتقَرْتُمْ ذا أخْلاقٍ. وقُلتُمْ ما لَهُ منْ خَلاقٍ! ثمّ فجّرَ منْ ينابيعِ الأدَبِ والنُكَتِ النُّخَبِ. ما جلَبَ بهِ بَدائعَ العجَبِ. واستَوْجَبَ أن يُكتَبَ بذَوْبِ الذّهَبِ. فلمّا خلَبَ كُلَّ خِلْبٍ. وقلَبَ إليْهِ كلَّ قلْبٍ. تحلْحَلَ. ليَرْحَلَ. وتأهّبَ. ليَذْهَبَ. فعلِقَتِ الجماعَةُ بذَيلِهِ. وعاقَتْ مسْرَبَ سيْلِهِ. وقالتْ لهُ: قد أرَيْتَنا وسْمَ قِدْحِكَ. فخبّرْنا عنْ قَيضِكَ ومُحّكَ. فصمَتَ صُموتَ مَنْ أُفحِمَ. ثمّ أعْوَلَ حتى رُحِمَ. قال الراوي: فلما رأيتُ شوْبَ أبي زيدٍ ورَوْبَهُ. وأسلوبَهُ المألوفَ وصَوْبَهُ. تأمّلْتُ الشيخَ على سُهومَةِ مُحَيّاهُ. وسُهوكَةِ ريّاهُ. فإذا هوَ إيّاهُ. فكتَمْتُ سِرّهُ كما يُكتَمُ الداءُ الدّخيلُ. وستَرْتُ مكرَهُ وإنْ لمْ يكُنْ يُخيلُ. حتى إذا نزَعَ عنْ إعْوالِهِ. وقدْ عرَفَ عُثوري على حالِهِ. رمَقَني بعَينِ مِضْحاكٍ. ثمّ طَفِقَ يُنشِدُ بلِسانِ مُتباكٍ:
أستَغْفِرُ الـلـهَ وأعْـنـو لـهُ *** منْ فرَطاتٍ أثقَلَتْ ظَهْـريَهْ
يا قوْمُ كمْ منْ عاتِقٍ عـانـسٍ *** ممدوحَةِ الأوْصافِ في الأنديَهْ
قتَلْتُـهـا لا أتّـقـي وارِثـاً *** يطْلُبُ مـنـي قـوَداً أو دِيَهْ
وكلّما استَذْنَبْتُ في قتْـلِـهـا *** أحَلْتُ بالذّنْبِ على الأقْضِـيَهْ
ولمْ تزَلْ نفسي فـي غَـيّهـا *** وقتْلِها الأبكارَ مُسـتَـشْـرِيَهْ
حتى نَهاني الشّيبُ لـمّـا بَـدا *** في مَفْرِقي عنْ تِلكمُ المَعصِيَهْ
فلمْ أُرِقْ مُذْ شابَ فَوْدي دمـاً *** منْ عاتِقٍ يوماً ولا مُصْـبِـيَهْ
وها أنا الآن علـى مـا يُرى *** مني ومِنْ حِرْفَتي المُـكـدِيَهْ
أرُبُّ بِكْراً طالَ تعْنـيسُـهـا *** وحجْبُها حتى عـنِ الأهـويَهْ
وهْيَ على التّعنيسِ مخطـوبَةٌ *** كخِطبَةِ الغانِيَةِ الـمُـغْـنِـيَهْ
وليسَ يكْفيني لتَـجْـهـيزِهـا *** على الرّضى بالدّونِ إلا مِـيَهْ
واليَدُ لا توكي علـى دِرْهَـمٍ *** والأرضُ قفْرٌ والسّما مُصْحِيَهْ
فهلْ مُعينٌ لي على نقـلِـهـا *** مصْحوبَةً بالقَيْنَةِ المُـلْـهِـيَهْ
فيغْسِلَ الهـمّ بـصـابـونِـهِ *** والقلْبُ من أفكارِهِ المُضْنِـيَهْ
ويقْتَني مني الـثّـنـاءَ الـذي *** تَضُـوعُ ريّاهُ مـعَ الأدْعِـيَهْ
قال الراوي: فلمْ يبْقَ في الجَماعَةِ إلا منْ ندِيَتْ لهُ كفُّهُ. وانْباعَ إليْهِ عُرْفُهُ. فلمّا نجَحَتْ بُغيَتُهُ. وكمَلَتْ مِئَتُهُ. أخذَ يُثْني عليْهِمْ بصالِحٍ. ويشمِّرُ عنْ ساقِ سارحٍ. فتَبِعْتُهُ لأستَعْرِفَ رَبيبَةَ خِدْرِهِ. ومنْ قتَلَ في حِدْثانِ أمرِهِ. فكأنّ وشْكَ قِيامي. مثّلَ لهُ مَرامي. فازْدَلَفَ مني. وقال: افْقَهْ عني:
قتْلُ مِثلي يا صاحِ مزْجُ المُدامِ *** ليسَ قتْلي بلَهْـذَمٍ أو حُـسـامِ
والتي عُنسَتْ هيَ البكرُ بنتُ ال *** كَرْمِ لا البِكْرُ من بَناتِ الكِرامِ
ولتَجْهيزِها إلى الـكـاسِ والـطّـا *** سِ قِيامي الذي تَرى ومُـقـامـي
فتَفَهّـمْ مـا قُـلـتُـهُ وتـحَـكّـمْ *** في التّغاضي إنْ شِئتَ أو في المَلامِ
ثمّ قال: أنا عِرْبيدٌ. وأنتَ رِعْديدٌ. وبيْنَنا بوْنٌ بَعيدٌ. ثمّ ودّعَني وانطَلَقَ. وزوّدَني نظرَةً منْ ذي علَقٍ.