كل خير من أخبار العصر لازم مطلوب لفهم تاريخه وأعمال رجاله، ولكن الأخبار المقدمة
على غيرها في حوادث العالم الإسلامي التي أفضت إلى قيام الخلافة الأموية، إنما هي
الأخبار التي لها مساس بموقف معاوية من عثمان قبل مقتله وبعد مقتله، والمبايعة
العلي بالخلافة في الحجاز.
فبغير هذه الأخبار التي تكشف عن موقف معاوية لا يستطيع المؤرخ أن يتثبت
من حقيقة البواعث التي كمنت وراء الحوادث والحروب والخصومات، ولا يستطيع أن
يعرف ما هو صحيح منها، وما هو مصطنع من تدبير السواس والدعاة.
حقيقة المسائل التي أثارت معاوية على علي، وجنحت به إلى سلوك المسلك
الذي اختاره هو ومعاونوه؟ ماذا منها قد حدث فعلا، وماذا منها لم يحدث، وقيل: إنه
حدث للانتفاع به في الدعاء الادعاء وفي الاتهام ورد الاتهام؟ أو ماذا منها قد
حدث فعلا وحرفه الدعاة إلى غير وجهته وأولوه بغير معناه؟ وماذا من تلك الحوادث
جميعا كان خليقا أن يتغير لو تغير الموقف، وتغيرت النيات والمساعي؟
كل أولئك مرهون بالنفاذ إلى حقيقة موقف معاوية من عثمان قبل مقتله، وبعد
مقتله، ومبايعة علي بالحجاز.
وكل ما وصل إلينا من أخبار ذلك الموقف يدل على شيء واحد لا محل فيه للخلاف
الطويل بين الناظرين إليه من الوجهة التاريخية الخالصة، وهو عمل معاوية لنفسه في
كل مطلب طلبه من عثمان، وكل نصيحة أسداها إليه، وكل مشورة أشار بها عليه، فليس
في هذه المطالب والنصائح أو المشورات شيء قط تجرد من منفعة ينظر إليها معاوية في
حاضر أو مصيره، وكل ما عدا ذلك فقد يكثر فيه الخلاف، ويؤول فيه التأويل. كان معاوية في عهد الفاروق قانا بعطائه السنوي وهو ألف دينار، وكان الولاة
والرعية لا يشكون إجحافا ولا محاباة فيما يرجع على أرزاق العمال الكبار والصغار
ومنهم الولاة، فلما انقضى عهد الفاروق كثرت الشكوى من تقسيم هذه الأرزاق، ومن
إيثار بعض الولاة بالولايات لقرابتهم من الخليفة، وكانت هذه الشكوى إحدى الدعايات
التي تذرع بها المشاغبون للثورة التي تفاقمت حتى ذهبت بحياة عثمان.
ولم يكن معاوية يجهل هذه النقمة الفاشية في الولايات، ولكنه على ذلك كتب إلى عثمان يطلب زيادة عطائه، ويطلب غير ذلك أن يقطعة الأرض التي قتل أصحابها من الروم أو تركوها، وهاجروا إلى بلاد غير البلاد المفتوحة من أرض الدولة البيزنطية، وتعلل له بكثرة وقود الأمصار والرسل، وأن هذه الضياع المتروكة لا يؤخذ عليها الخراج، ولا تحسب من أموال أهل الذمة كما جاء في تاريخ ابن عساكر، وكانت هذه الضياع وأمثالها تلحق ببيت المال، وينفق منها على المصالح العامة ومعونة المعوزين وذوي الحاجات، فلما أذن له عثمان بزرعها والانتفاع بثمراتها؛ حبسها على نفسه وعلى آل بيته وخدامه وأعوانه في سياسته، وعمد إلى كل معترض عليه وعلى إنفاقه لهذه الأموال في غير وجوهها، فأقصاه عن الشام وأرسله إلى حيث يشاء من البلاد الإسلامية الأخرى لا يعنيه أن يصنع الشاغبون ما يصنعون في غير ولايته، وهو يعلم أنهم سيشغبون على عثمان حيث ذهبوا وأن عثمان يلقى من الفتنة ما هو حسبه في جواره.
وحديث أبي ذر في الشام معروف ننقل منه ما يدور حول موقف معاوية من عثمان كما جاء في ابن الأثير:
كان أبو ذر يذهب إلى أن المسلم لا ينبغي أن يكون في ملكه أكثر من قوت يومه وليلته، أو شيء ينفقه في سبيل الله، أو يعده الكريم، ويأخذ بظاهر القرآن والذين يرون الدهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فرهم بعذاب أليم فكان يقوم بالشام، ويقول: يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء . بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك وأوجبوه على الأغنياء، وشكا الأغنياء ما يلقون منهم، فأرسل إليه معاوية بألف .و دیار في جنح الليل فأنفقها، فلما صلى معاوية الصبح دعا رسوله الذي أرسله إليه، فقال: أذهب إلى أبي ذر فقل له: أنقذ جسدي من عذاب معاوية! ... فإنه أرسلني إلى نغيرك وإني أخطأت بك، ففعل ذلك، فقال له أبو ذر: يا بني قل له: والله ما أصبح عندنا من دنانيرك دينار، ولكن أخرنا ثلاثة أيام حتى نجمعها، فلما رأى معاوية أن فعله يصدق قوله كتب إلى عثمان: إن أبا ذر قد ضيق علي، وقد كان كذا وكذا للذي يقوله للفقراء، فكتب إليه عثمان: إن الفتنة قد أخرجت خطمها وعينيها، ولم يبق إلا أن تثب، فلا تنكأ القرح وجهز أبا ذر إلي وأبعث معه دليلا وزوده وارفق به، وكفكف الناس ونفسك ما استطعت. ولما خرج الشاغبون بالفتنة من الكوفة إلى الشام بأمر عثمان كتب عثمان إلى معاوية، كما جاء في ابن الأثير: «إن نفرا قد لقوا للفتنة؛ فأقم عليهم وانههم، فإن آنست منهم رشدا فأقبل، وإن أعيوك فارددهم علي » فلقيهم معاوية وزجرهم وأغلظ لهم، ثم أتاهم بعد ذلك، فقال لهم: «إني قد أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم لا ينفع الله بكم أحدا ولا يضره، ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرة، فإن أردتم النجاة فالزموا جماعتكم ولا يبطونكم الإنعام، فإن البطر لا يعتري الخيار، اذهبوا إلى حيث شئتم فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم.» وكتب إلى أمير المؤمنين يهون له من شأنهم ويقول عنهم: إنهم ليسوا لأكثر من شغب ونكير .» ولم يكن أمرهم ليعييه، فإنهم ذهبوا حين سرحهم يقصدون الجزيرة، فعلم بهم عبد الرحمن بن خالد فما أعياه أمرهم، ودعاهم إليه ولم يذهب إليهم كما فعل معاوية؛ فتوعدهم عبد الرحمن وعيدا لا يشكون فيه، وقال لهم: «يا آلة الشيطان لا مرحبا بكم ولا أهلا، قد رجع الشيطان محسوا وأنتم - بعد الرحمن إن لم يؤد بكم ... يا معشر من لا أدري أعرب هم أم عجم، لا تقولوا لي ما بلغني أنكم قلتم لمعاوية، أنا أبن خالد بن الوليد، أنا أبن من قد عجمته العاجمات، أنا ابن فاقی الردة، والله لئن بلغني يا صعصعة أن أحدا ممن معي دق أنفك ثم أمصكه - أي: جعلك نشاط. خسر عبل مي جنح الليل: بكسر الجيم، طائفة وقطعة منه. العود عضه ليعلم صلابته من وره. ۲ عجمته: عجم الأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى، فأقامهم شهرا كلما ركب مشاهم، فإذا مر به صعصعة قال: يا أبن الخطيئة! ... أعلمت أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر، ما لك لا تقول كما بلغني أنك قلت لسعيد ومعاوية؟ ... فيقولون: تتوب إلى الله، أقلنا أقالك الله، فما زالوا به حتى قال: تاب الله عليكم، وسرح ا الأشتر إلى عثمان، فقدم إليه ثانيا، فقال له عثمان: أحلل حيث شئت، فقال: مع عبد الرحمن بن خالد، فقال: ذلك إليك، فرجع إليه.» وعلى اختلاف الروايات في تنقل هذه الفئة بين الكوفة والشام، وفيما قالوه وقيل لهم، لم يتغير موقف معاوية في جميع هذه الروايات، وهو موقف الرجل الذي لا يبالي أمانه على ولايته أن تنجم الفتنة حيث نجمت، وأن يبتلى بها الخليفة بنجوة منه. وقد تفاقم الخطب ونظر الخليفة المحصور حوله يطلب الرأي من ذوي الرأي بين خاصته وخاصة المسلمين، واجتمع عنده رهط منهم يوما أشاروا عليه بما بدا لهم، ثم خرجوا فأمسك عثمان بابن عباس، فقال له: يا بن عمي ويا بن خالتي، إنه لم يبلغني عنك في أمري شيء أحبه ولا أكرهه، وقد علمت أنك رأيت بعض ما رأى الناس، فمنعك عقلك وحلمك من أن تظهر ما أظهروا، وقد أحببت أن تعلمني رأيك فيما بيني وبينك، فأعتذر قال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، إنك قد ابتليتني بعد العافية، وأدخلتني في الضيق بعد السعة، ووالله إن رأيي لك رأي من يجل سنك ويعرف قدرك وسابقتك، ووالله لوددت أنك | تفعل ما فعلت مما ترك الخليفتان قبلك، فإن كان شيئا تركاه؛ لأنه ليس لهما، علمت أنه ليس لك كما لم يكن لهما، وإن كان ذلك لهما فتركاه خيفة أن ينال منهما مثل الذي نيل منك، تركته لما تركاه له، ولم يكونا أحق بإكرام أنفسهما منك بإكرام نفسك. صما قال عثمان: فما منعك أن تشير علي بهذا قبل أن أفعل ما فعلت؟ ... قال ابن عباس: وما علمي أنك تفعل ذلك قبل أن تفعله؟ ... قال: فهب لي حتى ترى رأيي. وخرج ابن عباس وبقي معاوية فسأله عثمان، فأجاب كما جاء في الإمامة والسياسة: الرأي أن تأذن لي بضرب أعناق هؤلاء القوم، قال: من؟ قال: علي وطلحة والزبير ... قال عثمان: سبحان الله ! ... أقتل أصحاب رسول الله بلا حدث أحدثوه ولا ذنب ركبوه؟! قال معاوية: فإن لم تقتلهم فإنهم سيقتلونك قال عثمان: لا أكون أول من خلف رسول الله في أمته بإهراق الدماء. قال معاوية: فاختر مني إحدى ثلاث خصال؟ قال عثمان: ما هي؟ قال معاوية: أرتب لك ها هنا أربعة آلاف من خيل أهل الشام يكونون لك ردءا ؟ وبين يديك يا قال عثمان: أرزقهم من أين؟ قال: من بيت المال. قال عثمان: أرزق أربعة آلاف من الجنود من بيت مال المسلمين لحرز دمي؟ لا فعلت هذا. وفو قال: فثانية. قال: وما هي؟ قال: فرقهم عنك فلا يجتمع منهم اثنان في مصر واحد، واضرب عليهم البعوث والندب حتى يكون دير بعير منهم أهم عليه من صلاته. قال عثمان: سبحان الله ! ... شيوخ المهاجرين وكبار أصحاب رسول الله وبقية الشورى، أخرجهم من ديارهم وأفرق بينهم وبين أهليهم وأبنائهم؟! لا أفعل هذا قال معاوية: فثالثة! قال: وما هي؟ قال: أجعل لي الطلب بدمك إن قتلت قال عثمان: نعم هذه لك، إن قتلت فلا يطل دمي.» هذه رواية الإمامة والسياسة، وفي سائر الروايات أن معاوية قال له غير ذلك : اخرج عليك ما لا تطيقه، قال: لا أبتغي بجوار رسول الله بدلا . إلى الشام قبل أن تلك جملة الآراء التي أشار بها معاوية على الخليفة، وما من رأي منها إلا والنفع فيه ثابت لمعاوية غير ثابت لعثمان، وربما كان في معظمها ما يضره ولا يجديه. فليس قتل علي وطلحة والزبير بالأمر الهين الذي يدفع الشر عن الخليفة، وليس هو بالخطة التي يختارها معاوية لنفسه لو كان في موضع عثمان، وقد أعفى معاوية نفسه من التضييق على صعصعة ورهطه، كما ضيق عليهم عبد الرحمن بن خالد، فليس ۲ ردا: بكسر الراء: العون والناصر. دبر: بفتحتين: الجرح يكون في ظهر الدابة.
- يطل دمي: ل دمه بالمجهول: ذهب هدرا۔ من خطته التي يختارها لنفسه، ويحمل تبعتها على عاتقه أن يقتل ثلاثة من أقطاب
الصحابة كعلي وطلحة والزبير، كما أشار على عثمان، وإنما يبوء عثمان تبعتها ويترك الأمر من بعده لمعاوية بغير منافس ينافسه عليها، بعد مقتل الثلاثة الذين كانوا مرشحين لها عند أهل الحجاز وأهل الكوفة وأهل مصر، أما أهل الشام فهم في ولايته لا يعرفون أحدا غيره ينافسه باسمهم عند اختلاف المختلفين، وليس ثمة مختلفون إذا نفذ القضاء في الأقطاب المقتولين. وأما الإشارة على عثمان بإقامة أربعة آلاف من خيل الشام يحرسونه، فهو تسليم للحجاز إلى يدي معاوية في حياة الخليفة وبعد حياته، فلا يقدر أحد على بيعة فيه غير البيعة التي يرضاها، ولا تقع هذه البيعة أصلا لمن يستجيب لها أو لا يستجيب. والخروج من المدينة إلى الشام مع معاوية ينقل العاصمة إلى دمشق، ويجعل القول الفصل بعد موت الخليقة لصاحب القول الفصل فيها، وما من أحد قط ينتفع من العمل بهذه النصائح غير معاوية في جميع الحالات وقد نقل الرواة والمؤرخون عن كل ناصح أنه أشار على عثمان بترك خطة من خططه في السياسة العامة، ولم ينقل مثل ذلك عن معاوية في جليل من الأمر ولا يسير، ولم يقف مثل موقفه غير مروان بن الحكم الذي لا يملك أن ينهي عثمان عن شيء؛ لأنه كان سبب الشكوى وصاحب التبعات جميعا في كل مأخذ من مآخذ الثوار على العهد كله والسياسة بجملتها، فإذا كان سكوت مروان عن النصح بالتغيير مفهوما متوقعا فمثل هذا السكوت من معاوية لا يفهم إلا على وجه واحد، وهو يعفي نفسه من تبعة النصيحة ليملي للخليفة فيما يرضاه، ويعلم أن التغيير النافع يصيبه في مقدمة الولاة المحسوبين على العهد كله، وقد كان يتعهد للخليفة بكفايته أمر الشام ويسأله أن يفرض على الولاة الآخرين مثل ذلك اليوم ... فإن لم يقدروا مثل قدرته كان حقا له أن يخلفهم أو ينفض يديه من العمل والمشورة. وأثبت ما ثبت من منفعة معاوية بتلك المطالب التي عرضها على الخليفة في شدته مطلبه أن تكون له ولاية الدم بعد مقتله، فإنه بمثابة ولاية العهد بإذن صاحب الأمر، إذ كان القصاص إنما يتولاه القائم بالشريعة حيث تقام حدود الدين، ولم يكن عثمان ليخشى عليه القتل من فرد يعتدي عليه غيلة فيكون عمل ولي الدم أن يقتاده إلى الحاكم القائم بالشريعة، ولكنه خشي عليه القتل من جماعات ثائرة لا يتولى إدانتها والقصاص ۹۶ منها غير صاحب سلطان أقوى من سلطانها، وسلطان من تؤيده وتطيعه على شرطها، فإذا كان معاوية قد طلب ولاية الدم بعد مقتل عثمان؛ فقد طلب ولاية العهد وفارقه وهو يعلم أنه مقتول. وأوشك الخليفة أن يقتل، فإذا نظرنا في أرجاء العالم الإسلامي يومئذ لم نجد أحا أقدر على نجدته من معاوية؛ لأنه الوالي المستقر في ولايته منذ عشرين سنة يقصي عنها كل من يعاديه، ويبقى فيها كل من يواليه، وغيره من الولاة في ذلك العهد بين معزول أو معتزل، أو مهدد في سلطانه، كما هدد الخليفة في عاصمته، ومن كان حول الخليفة من سروات المدينة فليس في وسعه أن ينصره بقوة أقوى من الدولة وحراسها وأشياعها، فإذا جمح السفهاء جماحهم الذي يغلب الدولة على قوتها وهيبتها؛ فحري يصله زاجر ولا ناصح ممن لا يملكون غير الزجر والنصيحة. وأيا كان القول في السروات الآخرين، فواجب معاوية واضح لا لبس فيه، وليس مما يقيله من هذا الواجب أن الخليفة أبي عليه إقامة جيش دائم إلى جواره يرزقه من بيت المال، فإن عمل الجيش الدائم غير عمل النجدة العاجلة، ولا يلام والي الشام على نجدة عاجلة بعد أن طلب الخليفة النجدة من الولاة، ولو أنه كان يلام على ذلك، لكان اللوم أهون عليه من ترك الخليفة لقاتليه يسفكون دمه، وهو معتذر بأمر صدر إليه في حال هذه الحال. لقد كان ذوو الجرأة من المعارضين لعثمان يلقون معاوية بهذا اللوم، كلما أخذهم باللوم؛ لأنهم لم ينصروه، ومن هؤلاء أبو الطفيل عامر بن وائلة الصحابي كما جاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي قال له معاوية: ألست من قتلة عثمان؟ قال أبو الطفيل: لا ... ولكنني ممن حضره فلم ينصره. قال: وما منعك من نصرہ؟ قال: لم تنصره المهاجرون والأنصار. فقال معاوية: أما لقد كان حقه واجبا عليهم أن ينصروه. فقال أبو الطفيل: فما منعك يا أمير المؤمنين من نصرہ ومعك أهل الشام؟ 1 سروات: جمع سراة، وسروات القوم: أشرافهم وسادتهم. ۹۵ فقال معاوية: أما طلبي بدمه نصرة له؟ فضحك أبو الطفيل ثم قال: أنت وعثمان كما قال الشاعر: لا ألفينك بعد الموت تندبني وفي حياتي ما زودتني زادي ووقعت الواقعة ومات الخليفة قتيلا، وذهب معاوية يطالب بدمه وينكر على علي بيعته؛ لأنه لا يسلمه قتلة عثمان، ممن يذكرهم إجمالا أو يسميهم بأسمائهم، وآل الأمر كله بعد حين إلى معاوية يصنع بهؤلاء ما يشاء، فلم يأخذ واحدا منهم بجريرة مشهودة ولم يحاسب أحدا على جريرة مستورة تتطلب الإشهاد، وكان يلقى الرجل منهم فلا يزيد على أن يسأله كما سأل أبا الطفيل: ألست من قتلة عثمان؟ ثم يصرفه في أمان، وقد يسكت عن سؤاله ويصرفه مزودا بالعطاء. وظهر من مبدأ الخصومة أن الغيرة على عثمان لم تكن تلك الغيرة اللاعجة التي تثير الثائرة وتضرم الحروب، فإن معاوية قد حالف عمرو بن العاص وكافأه بولاية مصر، وهي ولاية عزله منها عثمان وبكتها بذكرها يوم صاح به بين الجموع المتذمرة يسأله التوبة والاستغفار، وكاد الرواة يجمعون على كلمة نقلت عن لسان ابن العاص، فحواها أنه كان يلقى الأعرابي في البادية فيحرضه على عثمان، فإن لم يصح عن ابن العاص أنه قائل تلك الكلمة فموقفه من فتنة عثمان، كموقف ذوي الرأي جميعا ممن كان معاوية يحاسبهم على تركهم عثمان بغير نصير، وكان في وسعهم كما قال أن ينصروه . ولم يخف هذا الموقف الذي لا خفاء به على أبناء عثمان وبناته، فإنهم كانوا يرون معاوية فيلقونه بالبكاء ويذكرون أباهم؛ ليذكروه بدمه المطلول ووعده بالثأر له، ثم سكوته عن الثأر بعد أن أمكنه منه ما لم يكن في إمكان أحد من المطلوبين به في رأيه. قال ابن عبد ربه في العقد الفريد، وقال غيره مع اختلاف قليل في السياق: «قدم معاوية المدينة بعد عام الجماعة فدخل دار عثمان بن عفان، فصاحت عائشة بنت عثمان ويكت ونادت أباها، فقال معاوية: يا بنة أخي، إن الناس أعطونا طاعة وأعطيناهم أمانا، لا اللاعجة: يقال: هوى لاعج أي: محرق - بكته: قرعه وعنفه ولامه أشد اللوم. وأظهرنا لهم حلما تحته غضب، وأظهروا لنا ذلا تحته حقد، ومع كل إنسان سيفه ویری موضع أصحابه، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا تكون أم لنا؟ ولأن تكوني ابنة عم أمير المؤمنين خير من أن تكوني امرأة من عرض الناس» فالمطالبة بدم بعثمان إنما كانت قضية قائمة حين كانت لازمة للتحريض على علي وبث الدعوة والتمكين لمعاوية، فلما تمكن واستطاع ما لم يكن في وسع علي أن يفعله سكت عن الثأر وحديثه، إلا ما كان من قبيل الحوار العقيم في المجالس، وقبل من نفسه العذر ضعيفا هزيلا، ولم يكن يقبله قويا معززا بالواقع والبيئة ممن لا لوم عليه. الا ذلك أيسر ما يقال عن حقيقة الموقف من قضية عثمان ومطالبة معاوية بدمه، وكل ما فعله معاوية من نصرة عثمان قبل مقتله وبعده، فهو ثابت النفع لمعاوية غير ثابت النفع العثمان، ولا نجري وراء النيات وإن كان للمؤرخ حق في النظر إليها قد يحمد منه حيث يحمد من القضاء، فإن المؤرخ مطالب بتقويم أقدار الرجال، وتفسير أسرار الحوادث والتعريف بالأخلاق والضمائر، ولا ضر من أستقصائه لما وراء الظواهر والدعوات، بل الضرر كل الضرر أن يأخذ بالظواهر والدعوات دون استقصاء وقضاء التاريخ في موقف معاوية من عثمان أنه موقف يسقط كثيرا من التهم التي كان يكيلها لخصومه، ويسقط كثيرا من الأعذار التي كان ينتحلها لنفسه، ويوجب على المؤرخ أن ينفذ من وراء التهم والمعاذير إلى تفسير واحد لوقائع الثورة التي ثارها معاوية باسم عثمان، فإن أصدق البواعث لها أنها ثورة في طلب الملك أعوزتها الحجة، فالتمستها من مقتل الخليفة الشهيد..
عرض: بضم العين، يقال: هو من عرض الناس أي: من العامة. ۹۷