الرئيسيةبحث

معالم السنن/مقدمة

معالم السنن

الإمام الخطابي


مقدمة المصنف

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الشيخ الإمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي رحمه الله تعالى:

الحمد لله الذي هدانا لدينه، وأكرمنا بسنة نبيه، وجعلنا من العاملين بها، والمتبعين لها، والمتفقهين فيها، ونسأله أن ينفعنا بما علمنا منها، وأن يرزقنا العمل بها، والنصيحة للمسلمين فيها، وأداء الحق في إرشاد متعلميها، وإفادة طلابها ومقتبسيها، وأن يصلي أولا وآخرا على عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، سابق الأنبياء شرفا وفضيلة، وسابقهم دينا وشريعة، ليكون دينه قاضيا على الأديان، وملته باقية آخر الزمان، لا يستولي عليها نسخ، ولا يتعقب حكمه حكم، وليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.

أما بعد: فقد فهمت مساءلتكم إخواني أكرمكم الله، وما طلبتموه من تفسير كتاب السنن لأبي داود سليمان بن الأشعث، وإيضاح ما يُشكل من متون ألفاظه، وشرح ما يستغلق من معانيه، وبيان وجوه أحكامه، والدلالة على مواضع الانتزاع والاستنباط من أحاديثه، والكشف عن معاني الفقه المنطوية في ضمنها لتستفيدوا إلى ظاهر الرواية لها باطن العلم والدراية بها، وقد رأيت الذي ندبتموني له وسألتمونيه من ذلك أمرا لا يسعني تركه كما لا يسعكم جهله، ولا يجوز لي كتمانه كما لا يجوز لكم إغفاله وإهماله فقد عاد الدين غريبا كما بدأ وعاد هذا الشأن دارسة أعلامه خاوية أطلاله وأصبحت رباعه مهجورة ومسالك طرقه مجهولة.

ورأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا حزبين وانقسموا إلى فرقتين أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر، وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية والإرادة، لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب.

ووجدت هذين الفريقين على ما بينهم من التداني في المحلين والتقارب في المنزلتين وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم إلى صاحبه إخوانا متهاجرين وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين.

فأما هذه الطبقة الذين هم أهل الأثر والحديث فإن الأكثرين منهم إنمّا وكدهم الروايات وجمع الطرق وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذي أكثره موضوع أو مقلوب لا يراعون المتون ولا يتفهمون المعاني ولا يستنبطون سيرها ولا يستخرجون ركازها وفقهها وربما عابوا الفقهاء وتناولوهم بالطعن وادعوا عليهم مخالفة السنن ولا يعلمون أنهم عن مبلغ ما أوتوه من العلم قاصرون وبسوء القول فيهم آثمون.

وأما الطبقة الأخرى وهم أهل الفقه والنظر فإن أكثرهم لا يعرجون من الحديث إلا على أقله ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه، ولا يعرفون جيده من رديئه ولا يعبؤون بما بلغهم منه أن يحتجوا به على خصومهم إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها ووافق آراءهم التي يعتقدونها وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم وتعاورته الألسن فيما بينهم من غير ثبت فيه أو يقين علم به، فكان ذلك ضلة من الرأي وغبنا فيه وهؤلاء وفقنا الله وإياهم لو حكي لهم عن واحد من رؤساء مذاهبهم وزعماء نحلهم قول يقوله باجتهاد من قبل نفسه طلبوا فيه الثقة واستبرؤوا له العهدة. فتجد أصحاب مالك لا يعتمدون من مذهبه إلا ما كان من رواية ابن القاسم والأشهب وضربائهم من تلاد أصحابه فإذا وجدت رواية عبد الله بن عبد الحكم وأضرابه لم تكن عندهم طائلا.

وترى أصحاب أبي حنيفة لا يقبلون من الرواية عنه إلا ما حكاه أبو يوسف ومحمد بن الحسن والعلية من أصحابه والأجلة من تلامذته فإن جاءهم عن الحسن بن زياد اللؤلؤي وذويه رواية قول بخلافه لم يقبلوه ولم يعتمدوه.

وكذلك تجد أصحاب الشافعي إنما يعولون في مذهبه على رواية المزني والربيع بن سليمان المرادي فإذا جاءت رواية حرملة والجيزي وأمثالهما لم يلتفتوا إليها ولم يعتدوا بها في أقاويله. وعلى هذا عادة كل فرقة من العلماء في أحكام مذاهب أئمتهم وأستاذيهم.

فإذا كان هذا دأبهم وكانوا لا يقنعون في أمر هذه الفروع وروايتها عن هؤلاء الشيوخ إلا بالوثيقة والثبت فكيف يجوز لهم أن يتساهلوا في الأمر الأهم والخطب الأعظم وأن يتواكلوا الرواية والنقل عن إمام الأئمة ورسول رب العزة، الواجب حكمه اللازمة طاعته، الذي يجب علينا التسليم لحكمه والانقياد لأمره من حيث لا نجد في أنفسنا حرجا مما قضاه ولا في صدورنا غلا من شيء مما أبرمه وأمضاه.

أرأيتم إذا كان للرجل أن يتساهل في أمر نفسه ويتسامح عن غرمائه في حقه فيأخذ منهم الزيف ويغضي لهم عن العيب هل يجوز له أن يفعل ذلك في حق غيره إذا كان نائبا عنه كولي الضعيف ووصي اليتيم ووكيل الغائب وهل يكون ذلك منه إذا فعله إلا خيانة للعهد وإخفارا للذمة فهذا هو ذاك إما عيان حس وإما عيان مثل ولكن أقواما عساهم استوعروا طريق الحق واستطالوا المدة في درك الحظ وأحبوا عجالة النيل فاختصروا طريق العلم واقتصروا على نتف وحروف منتزعة عن معاني أصول الفقه سموها عللا وجعلوها شعارا لأنفسهم في الترسم برسم العلم واتخذوها جُنّة عند لقاء خصومهم ونصبوها دريئة للخوض والجدال يتناظرون بها ويتلاطمون عليها، وعند التصادر عنها قد حكم للغالب بالحذق والتبريز فهو الفقيه المذكور في عصره والرئيس المعظم في بلده ومصره هذا وقد دسّ لهم الشيطان حيلة لطيفة وبلغ منهم مكيدة بليغة. فقال لهم هذا الذي في أيديكم علم قصير وبضاعة مزجاة لا تفي بمبلغ الحاجة والكفاية فاستعينوا عليه بالكلام وصلوه بمقطعات منه واستظهروا بأصول المتكلمين يتسع لكم مذهب الخوض ومجال النظر، فصدق عليهم ظنه وأطاعه كثير منهم واتبعوه إلا فريقا من المؤمنين.

فيا للرجال والعقول أنّى يذهب بهم وأنّى يختدعهم الشيطان عن حظهم وموضع رشدهم والله المستعان.

وقد انتهيت أكرمكم الله إلى ما دعوتم إليه بجهدي وأتيت من مسألتكم بقدر ما تيسرت له ورجوت أن يكون الفقيه إذا ما نظر إلى ما أثبته في هذا الكتاب من معاني الحديث ونهجت من طرق الفقه المتشعبة عنه دعاه ذلك إلى طلب الحديث وتتبع علمه وإذا تأمله صاحب الحديث رغبه في الفقه وتعلمه والله الموفق له وإليه أرغب في أن يجعل ذلك لوجهه وأن يعصمني من الزلل فيه برحمته.

واعلموا رحمكم الله أن كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف لم يصنف في علم الدين كتاب مثله وقد رزق القبول من الناس كافة فصار حكما بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم فلكل فيه ورد ومنه شرب وعليه معول أهل العراق وأهل مصر وبلاد المغرب، وكثير من مدن أقطار الأرض. فأما أهل خراسان فقد أولع أكثرهم بكتاب محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج ومن نحا نحوهما في جمع الصحيح على شرطهما في السبك والانتقاد إلا أن كتاب أبي داود أحسن رصفا وأكثر فقها وكتاب أبي عيسى أيضا كتاب حسن والله يغفر لجماعتهم ويحسن على جميل النية فيما سعوا له مثوبتهم برحمته.

ثم اعلموا أن الحديث عند أهله على ثلاثة أقسام حديث صحيح وحديث حسن وحديث سقيم. فالصحيح عندهم ما اتصل سنده وعدلت نقلته والحسن منه ما عرف مخرجه واشتهر رجاله وعليه مدار أكثر الحديث وهو الذي يقبله أكثر العلماء ويستعمله عامة الفقهاء وكتاب أبي داود جامع لهذين النوعين من الحديث فأما السقيم منه فعلى طبقات شرها الموضوع ثم المقلوب أعني ما قلب إسناده ثم المجهول وكتاب أبي داود خلي منها بريء من جملة وجوهها فإن وقع فيه شيء من بعض أقسامها لضرب من الحاجة تدعوه إلى ذكره فإنه لا يألو أن يبين أمره ويذكر علته ويخرج من عهدته.

وحكي لنا، عَن أبي داود أنه قال ما ذكرت في كتابي حديثا اجتمع الناس على تركه.

وكان تصنيف علماء الحديث قبل زمان أبي داود الجوامع والمسانيد ونحوهما فتجمع تلك الكتب إلى ما فيها من السنن والأحكام أخبارا وقصصا ومواعظ وآدابا.

فأما السنن المحضة فلم يقصد واحد منهم جمعها واستيفاءها ولم يقدر على تخليصها واختصار مواضعها من أثناء تلك الأحاديث الطويلة ومن أدلة سياقها على حسب ما اتفق لأبي داود ولذلك حل هذا الكتاب عند أئمة الحديث وعلماء الأثر محل العجب فضربت فيه أكباد الإبل ودامت إليه الرحل.

أخبرني أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد صاحب أبي العباس أحمد بن يحيى قال قال إبراهيم الحربي لما صنف أبو داود هذا الكتاب ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود الحديد.

وحدثني عبد الله بن محمد المسكي قال حدثني أبو بكر بن جابر خادم أبي داود قال كنت معه ببغداد فصلينا المغرب إذ قرع الباب ففتحته فإذا خادم يقول هذا الأمير أبو أحمد الموفق يستأذن فدخلت إلى أبي داود فأخبرته بمكانه فأذن له فدخل وقعد ثم أقبل عليه أبو داود وقال ما جاء بالأمير في مثل هذا الوقت فقال خلال ثلاث فقال وما هي قال تنتقل إلى البصرة فتتخذها وطنا ليرحل إليك طلبة العلم من أقطار الأرض فتعمر بك فإنها قد خربت وانقطع عنها الناس لما جرى عليها من محنة الزنج، فقال هذه واحدة هات الثانية قال وتروي لأولادي كتاب السنن. فقال نعم هات الثالثة قال وتفرد لهم مجلسا للرواية فإن أولاد الخلفاء لا يقعدون مع العامة فقال أما هذه فلا سبيل إليها لأن الناس شريفهم ووضيعهم في العلم سواء.

قال ابن جابر فكانوا يحضرون بعد ذلك ويقعدون في كم حيري ويضرب بينهم وبين الناس ستر فيسمعون مع العامة.

وسمعت ابن الأعرابي يقول ونحن نسمع منه هذا الكتاب فأشار إلى النسخة وهي بين يديه لو أن رجلا لم يكن عنده من العلم إلا المصنف الذي فيه كتاب الله ثم هذا الكتاب لم يحتج معهما إلى شيء من العلم بتة.

قال أبو سليمان: وهذا كما قال لا شك فيه لأن الله تعالى أنزل كتابه تبيانا لكل شيء وقال {ما فرطنا في الكتاب من شيء} [1] فأخبر سبحانه أنه لم يغادر شيئا من أمر الدين لم يتضمن بيانه الكتاب إلا أن البيان على ضربين بيان جلي تناول الذكر نصا وبيان خفي اشتمل عليه معنى التلاوة ضمنا فما كان من هذا الضرب كان تفصيل بيانه موكولا إلى النبي ﷺ وهو معنى قوله سبحانه: {لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} [2] فمن جمع بين الكتاب والسنة فقد استوفى وجهي البيان، وقد جمع أبو داود في كتابه هذا من الحديث في أصول العلم وأمهات السنن وأحكام الفقه ما لا نعلم متقدما سبقه إليه ولا متأخرا لحقه فيه وقد كتبت لكم فيما أمليت من تفسيرها وأوضحته من وجوهها ومعانيها وذكر أقاويل العلماء واختلافهم فيها علما جما فكونوا به سعداء نفعنا الله تعالى وإياكم برحمته.

هامش

  1. [ الأنعام: 38 ]
  2. [ النحل: 44 ]