→ كتاب الكفالة | ابن حزم - المحلى كتاب الكفالة (مسألة 1230 - 1237) المؤلف: ابن حزم |
كتاب الشركة ← |
كتاب الكفالة
1230 - مسألة: الكفالة هي الضمان، وهي الزعامة، وهي القبالة، وهي الحمالة. فمن كان له على آخر حق مال من بيع، أو من غير بيع من أي وجه كان حالا أو إلى أجل سواء كان الذي عليه الحق حيا أو ميتا فضمن له ذلك الحق إنسان لا شيء عليه للمضمون عنه بطيب نفسه وطيب نفس الذي له الحق: فقد سقط ذلك الحق عن الذي كان عليه وانتقل إلى الضامن ولزمه بكل حال، ولا يجوز للمضمون له أن يرجع على المضمون عنه، ولا على ورثته أبدا بشيء من ذلك الحق انتصف أو لم ينتصف، ولا بحال من الأحوال، ولا يرجع الضامن على المضمون عنه، ولا على ورثته أبدا بشيء مما ضمن عنه أصلا سواء رغب إليه في أن يضمنه عنه أو لم يرغب إليه في ذلك إلا في وجه واحد، وهو: أن يقول الذي عليه الحق: اضمن عني ما لهذا علي فإذا أديت عني فهو دين لك علي: فهاهنا يرجع عليه بما أدى عنه لأنه استقرضه ما أدى عنه: فهو قرض صحيح. أما قولنا: إن الكفالة هي الضمان، والحمالة، والزعامة، والقبالة والضامن: هو القبيل، والكفيل، والزعيم، والحميل، فاللغة، والديانة لا خلاف فيهما في ذلك.
وأما عموم جواز الضمان في كل حق من بيع أو غيره، فلأنه ليس فيه بيع أصلا، وإنما هو نقل حق فقط.
وأما جواز الضمان بغير رغبة المضمون عنه، فلما روينا من طريق أبي داود، حدثنا مسدد بن مسرة، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا ابن أبي ذئب قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري قال: سمعت أبا شريح الكعبي يقول قال رسول الله ﷺ: إنكم يا معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقله وذكر باقي الخبر، فضمن النبي ﷺ عنهم الدية بغير رغبتهم في ذلك.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز الضمان إلا بمحضر الذي له الحق، إلا في موضع واحد، وهو المريض يقول لورثته: أيكم يضمن عني دين فلان علي فيضمنه أحدهم فيجوز بغير محضر الطالب. وهذا كلام في غاية الفساد، لأنه دعوى بلا برهان أصلا.
واحتج له بعض المبتلين بتقليده أنه عقد كالنكاح والبيع، فلا يصح إلا بمحضرهما جميعا.
قال أبو محمد: وهذا قياس، والقياس كله فاسد ثم إنه لو صح لكان هذا منه عين الفساد. أول ذلك: أنهم ينتقضون من قرب فيجيزون نكاح الصغيرة بغير محضرها، ويجيزون الضمان لدين المريض بغير محضر صاحب الحق. ثم إن الضمان ليس عقدا على المضمون له، وإنما هو على الضامن وحده وإنما للمضمون له إنصافه من حقه فقط، فإن أنصف في مثل هذا، وإلا فلا يلزمه ما لم يرض به، وهو باق على حقه كما كان وراموا الفرق بين مسألة المريض وغيرها بأن قالوا: إن الدين قد تعين في مال المريض.
قال علي: وقد كذبوا ما تعين قط في ماله إلا بعد موته، وأبو حنيفة لا يجيز ضمان دين على الميت إلا بأن يترك وفاء فظهر فساد قولهم جملة. واحتجوا في ذلك بأن الدين قد هلك وأجازوا الضمان على الحق المفلس والدين قد هلك وهذا تناقض.
فإن قالوا: قد يكسب المفلس مالا.
قلنا: وقد يطرأ للميت مال لم يكن عرف حين موته وهذا منهم خلاف لرسول الله ﷺ مجرد. ومن قال بقولنا في الضمان عن الميت الذي لا يترك وفاء: مالك، وأبو يوسف،، ومحمد بن الحسن، والشافعي، وأبو سليمان.
روينا من طريق البخاري، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند النبي ﷺ إذ أتي بجنازة، فقالوا: صل عليها فقال: هل ترك شيئا قالوا: لا، قال: فهل عليه دين قالوا: نعم، ثلاثة دنانير، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله وعلي دينه فصلى عليه.
ففي هذا الخبر جواز ضمان دين الميت الذي لم يترك وفاء بدينه، بخلاف رأي أبي حنيفة، وفيه: أن الدين يسقط بالضمان جملة، لأنه لو لم يسقط عن الميت وينتقل إلى ذمة أبي قتادة لما كانت الحال إلا واحدة، وامتناعه عليه السلام من الصلاة عليه قبل ضمان أبي قتادة لدينه، ثم صلاته عليه السلام عليه بعد ضمان أبي قتادة: برهان صحيح على أن الحال الثانية غير الأولى، وأن الدين الذي لا يترك به وفاء قد بطل وسقط بضمان الضامن، ولزم ذمة الضامن بقول أبي قتادة الذي أقره عليه النبي ﷺ على دينه.
فصح أن الدين على الضامن بعد لا على المضمون عنه. وفيه أيضا: جواز الضمان بغير محضر الطالب الذي له الحق، وإذ قد سقط الدين بالضمان كما ذكرنا فلا يجوز رجوعه بعد سقوطه بالدعوى الكاذبة بغير نص، ولا إجماع.
وأيضا: الخبر الذي روينا من طريق مسلم، حدثنا يحيى بن يحيى أنا حماد بن يزيد عن هارون بن رئاب حدثني كنانة بن نعيم العدوي عن قبيصة بن المخارق الهلالي: أن رسول الله ﷺ قال له: يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك وذكر باقي الخبر فعم عليه السلام إباحة تحمل الحمالة عموما بكل حال، وبالله تعالى التوفيق.
وأما قولنا: إنه إن لم يرض المضمون له بالضمان لم يلزمه إلا بأن يوفيه أيضا من حقه فليس له حينئذ إلا أخذه منه أو تركه جملة، ولا طلب له على المضمون عنه بعدها، فلأنه صاحب الحق، ولم يأت نص بلزوم ترك طلب غريمه، بل الضمان حينئذ مطل له، وقد قال عليه السلام: مطل الغني ظلم وأمر عليه السلام أن يعطى كل ذي حق حقه، فإن أنصف فقد أعطي حقه، ومن أعطي حقه فلا حق له سواه.
فإن قيل: فأنتم أصحاب اتباع للآثار فمن أين أجزتم الصلاة على من مات وعليه دين لا وفاء له به قلنا: سبحان الله أو ليس في قوله عليه السلام لهم: صلوا على صاحبكم بيان في أنه عليه السلام المخصوص بهذا الحكم وحده، لا أحد من المسلمين سواه، لا الإمام، ولا غيره فكيف وقد روينا من طريق عبد الرزاق، حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر قال: كان النبي ﷺ لا يصلي على رجل مات وعليه دين، فأتي بميت، فقال: عليه دين قالوا: نعم، ديناران، فقال أبو قتادة الأنصاري: هما علي يا رسول الله، فصلى عليه النبي ﷺ فلما فتح الله على رسوله قال: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك دينا فعلي قضاؤه وذكر الخبر. وممن أجاز الضمان عن الميت الذي لم يترك وفاء: ابن أبي ليلى، ومالك ; وأبو يوسف،، ومحمد بن الحسن، والشافعي وأبو سليمان وما نعلم لأبي حنيفة سلفا في قوله. قال أبو حنيفة، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وأبو عبيد، وإسحاق ; وأحمد، والشافعي، ومالك في أول قوليه: إن للمضمون له أن يطلب بحقه إن شاء الضامن، وإن شاء المضمون.
وقال مالك في آخر قوليه: إذا كان المضمون عنه مليا بالحق فليس لطالب الحق أن يطلب الضامن، وإنما له طلب المضمون عنه فقط، إلا أن ينقص من حقه شيء فيؤخذ من الضامن حينئذ، وإلا أن يكون المضمون عنه غائبا، أو يكون عليه ديون للناس فيخاف المضمون له محاصة الغرماء فله في هذين الوجهين أن يطلب الضامن أيضا حينئذ.
قال أبو محمد: أما هذا القول الذي رجع إليه مالك فظاهر العوار، لأنه دعاوى كله بلا برهان، وتقسيم بلا دليل، لا من قرآن، ولا سنة، ولا رواية سقيمة، ولا قول أحد نعلمه من صاحب أو تابع، ولا قياس، ولا رأي له وجه. وقال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبو ثور، وأبو سليمان، وجميع أصحابنا، كما قلنا من أن الحق قد سقط جملة عن المضمون عنه، ولا سبيل للمضمون له إليه أبدا، وإنما حقه عند الضامن أنصفه أو لم ينصفه.
روينا من طريق ابن أبي شيبة، حدثنا حفص بن غياث عن أشعث، هو ابن عبد الملك الحمراني، عن الحسن، ومحمد بن سيرين، قالا جميعا: الكفالة، والحوالة سواء وقد ذكرنا برهان ذلك من السنة.
وأيضا: فإن من المحال الممتنع أن يكون مال واحد معدود محدود هو كله على زيد، وهو كله على عمرو، ولو كان هذا لكان للذي هو له عليهما أن يأخذهما جميعا بجميعه فيحصل له العدد مضاعفا، ولما سقط عن أحدهما حق قد لزمه بأداء آخر عن نفسه ما لزمه أيضا وهم لا يقولون بهذا. فظهر تناقضهم واختلاط قولهم وأنه لا يعقل، ولا يستقر.
فإن قالوا: إنما هو له على أيهما طلبه منه.
قلنا: فهذا أدخل في المحال، لأنه على هذا لم يستقر حقه على واحد. منهما بعد لا على الضامن، ولا على المضمون عنه فإذا هو كذلك فلا حق له على واحد منهما بعد.
فإن قالوا: فإنكم تقولون في وارثين ترك مورثهما ألفي درهم، فأخذ كل واحد منهما ألف درهم، ثم ظهر غريم له على الميت ألف درهم: أنه يأخذها من أيهما شاء وتقولون فيمن باع شقصا مشاعا، ثم باعه المبتاع من آخر، والثالث من رابع: أن الشفيع يأخذه بالشفعة من أيهم شاء وتقولون فيمن غصب مالا ثم وهبه لأخر: فإن المغصوب منه يأخذ بماله أيهما شاء قلنا: نعم، وليس شيء من هذا مما أنكرناه من كون مال واحد على اثنين هو كله على كل واحد منهما: أما الوارثان فإنهما اقتسما ما لا يحل لهما اقتسامه، وحق الغريم في ذلك المال بعينه، لا عند الوارثين أصلا، فإنما يأخذ حقه من مال الميت حيث وجده، ثم يرجع المأخوذ منه على صاحبه فيقتسمان ما بقي للغريم حينئذ، والقسمة الأولى فاسدة، لأن الله تعالى لم يجعل للورثة إلا بعد الوصية، والدين.
وأما الغاصب يهب ما غصب فحق المغصوب منه عند الغاصب، وحق الغاصب أن يرجع بما يؤدي على الذي وهبه إياه بغير حق، فالمغصوب منه إن طلب الغاصب طلبه بحقه عنده، وإن طلب الموهوب له طلبه بحق الغاصب عنده من رد ما وهبه بالباطل، فإذا فعل استحق المغصوب منه بحقه عند الغاصب، وهكذا كل ما انتقل ذلك المال بغير حق.
وأما الشفيع فإنه مخير إمضاء البيع أو رده، فهو يمضي بيع من شاء منهم ويرد بيع من شاء منهم بحق الشفعة فظهر فساد تنظيرهم. وبالله تعالى نتأيد. واحتجوا على خبر أبي قتادة الذي ذكرنا بخبر رويناه من طريق ابن أبي شيبة عن حسين بن علي الجعفي عن زائدة عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال: مات رجل فقال رسول الله ﷺ أعليه دين قلنا: نعم، ديناران، فقال عليه السلام: صلوا على صاحبكم، فتحملهما أبو قتادة، فقال له رسول الله ﷺ حق الغريم عليك، وبريء منهما الميت قال: نعم يا رسول الله فصلى عليه، فلما كان من الغد قال عليه السلام لأبي قتادة: ما فعل الديناران قال: يا رسول الله إنما دفناه أمس، ثم أتاه بعد فقال له: ما فعل الديناران قال: قضيتهما يا رسول الله، قال: الآن بردت عليه جلده. وبخبرين آخرين لا يصحان: أحدهما: نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه. والآخر، فيه: أنه عليه السلام قال لعلي إذ ضمن دين الميت: فك الله رهانك كما فككت رهان أخيك.
قال أبو محمد: وهذا من العجب احتجاجهم بأخبار هي أعظم حجة عليهم. أما: فك الله رهانك كما فككت رهان أخيك فليس فيه دليل، ولا نص على ما يدعونه من بقاء الدين على المضمون عنه. ونحن نقول: إنه قد فك رهانه بضمانه دينه فقط، فإنه حول دينه على نفسه حيا كان المضمون عنه أو ميتا.
وأما نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه فليس فيه أنه حكم المضمون عنه، ولا أنه حكم من لم يمطل بدينه بعد طلب صاحبه إياه منه. ونحن نقول: إن المطالب بدينه في الآخرة إنما هو من مطل به وهو غني، فصار ظالما، فعليه إثم المطل أعسر بعد ذلك أو لم يعسر وإن كان حق الغريم فيما يتخلف من مال أو في سهم الغارمين من زكوات المسلمين إن لم يخلف مالا. وقد يمكن أن يعفو الله تعالى عنه ذنب المطل إذا قضي عنه مما يخلف أو من سهم الغارمين أو قضاه عنه الضامن ففي هذا جاءت الأحاديث في تشديد أمر الدين.
وأما من لم يمطل قط به، فلم يظلم، وإذا لم يظلم فلا إثم عليه، ولا تبعة، وحق الغريم إن مات الذي عليه الدين فيما يتخلف، أو في سهم الغارمين، والظالم حينئذ من مطله بعد موت الذي عليه الدين من ورثة أو سلطان، ولا إثم على الميت أصلا، لقول الله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}. وهو لم يمطل في حياته فلم يظلم، وإذ لم يظلم في حياته فليس في وسعه الإنصاف بعد موته، وإنما عليه الإقرار به فقط. وبالله تعالى التوفيق وبه نتأيد.
وأما حديث أبي قتادة من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل فأعظم حجة عليهم لو كان لهم مسكة إنصاف لأن فيه نصا قول النبي ﷺ للضامن عن الميت: حق الغريم عليك وبريء منهما الميت، قال الضامن: نعم أليس في هذا كفاية لمن له مسكة دين أو أقل تمييز ولكنهم قوم مفتونون.
فإن قيل: فما معنى قول النبي ﷺ إذ قضاهما: الآن بردت عليه جلده.
قلنا: هذا لا متعلق فيه في بقاء الدين على الميت، ولا في رجوعه عليه لأن نص الخبر قد ورد فيه بعينه: أن الميت قد بريء من الدين، وأن حق الغريم على الزعيم فلا معنى للزيادة في هذا.
وأما قوله عليه السلام: الآن بردت عليه جلده فقد أصاب عليه السلام ما أراد، وقوله الحق لا نشك فيه، لكن نقول: إنه قد يكون تبريد زائد دخل عليه حين القضاء عنه، وإن كان لم يكن قبل ذلك في حر كما تقول: لقد سرني فعلك، وإن لم تكن قبل ذلك في هم، ولا حزن. وكما لو تصدق عن الميت بصدقة لكان قد دخل عليه بها روح زائد، ولا بد، وإن لم يكن قبل ذلك في كرب، ولا غم. ويمكن أن يكون قد كان مطل وهو غني فحصل له الظلم ثم غفر الله تعالى له ذلك الظلم بالقضاء والله أعلم، إلا أنه لا متعلق لهم بهذا أصلا، وإنما هو حكم من أحكام الآخرة، ونحن نجد من سن سنة سوء في الإسلام كان له إثم ذلك وإثم من عمل بها أبدا. ونجد من سن سنة خير في الإسلام كان له أجر ذلك وأجر من عمل بها أبدا، فقد يؤجر الإنسان بفعل غيره، ويعاقب بفعل غيره إذا كان له فيهما سبب. وقد يدخل الروح على من ترك ولدا صالحا يدعو له ويفعل الله ما يشاء، لا يسأل عما يفعل وبالله تعالى التوفيق.
وأما قولنا: لا يرجع الضامن بما أدى سواء بأمره ضمن عنه أو بغير أمره إلا أن يكون المضمون عنه استقرضه، فلما ذكرنا من سقوط الحق عن المضمون عنه وبراءته منه واستقراره على الضامن. فمن الباطل المتيقن والظلم الواضح أن يطالب الضامن من أجل أدائه حقا لزمه وصار عليه واستقر في ذمته من لا حق قبله له، ولا للذي أداه عنه، وهذا لا خفاء به وما ندري لمن قال: إنه يرجع الضامن على المضمون عنه بما أدى حجة أصلا.
وقال مالك: يرجع الضامن على المضمون عنه بما أدى عنه سواء بأمره ضمن عنه أو بغير أمره.
وقال أبو حنيفة، والحسن بن حي، والشافعي: إن ضمن عنه بأمره رجع عليه، وإن ضمن عنه بغير أمره لم يرجع عليه وكلا القولين فاسد لا دليل عليه أصلا، وتقسيم فاسد بلا برهان. وقال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبو ثور، وأبو سليمان بمثل قولنا.
قال أبو محمد: وموه بعضهم بخبر واه رويناه من طريق أبي داود عن القعنبي عن الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة، عن ابن عباس أن رجلا لزم غريما له بعشرة دنانير فقال: والله لا أفارقك حتى تقضيني أو تأتيني بحميل فتحمل بها رسول الله ﷺ فأتاه بقدر ما وعده، فقال له النبي ﷺ أين أصبت هذا الذهب قال: من معدن، قال: لا حاجة لنا فيها ليس فيها خير فقضاها عنه رسول الله ﷺ.
قال علي: في احتجاجهم بهذا الخبر عجب أول ذلك: أنه من رواية عمرو بن أبي عمرو وهو ضعيف ضعفه ابن معين وغيره، وقد تركوا روايته في غير قصة: منها روايته من هذه الطريق نفسها عن النبي ﷺ: من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه. ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة، لأن فيه: فأتاه بقدر ما وعده.
فصح أن المضمون عنه وعده عليه السلام بأن يأتيه بما تحمل عنه، وهذا أمر لا نأباه، بل به نقول إذا قال المضمون للضامن: أنا آتيك بما تتحمل به عني. ثم العجب الثالث احتجاجهم بهذا الخبر وهم أول مخالف له، لأن فيه " أن ما أخذ من معدن فلا خير فيه " وهم لا يقولون بهذا فمن أعجب ممن يحتج بخبر ليس فيه أثر مما يحتج به فيه، ثم هو مخالف لنص ما فيه ونسأل الله العافية.
1231 - مسألة: وحكم العبد، والحر، والمرأة، والرجل، والكافر، والمؤمن: سواء، لعموم النص الذي أوردناه في ذلك، ولم يأت نص بالفرق بين شيء مما ذكرناه وبالله تعالى التوفيق.
1232 - مسألة: ولا يجوز ضمان ما لا يدري مقداره مثل أن يقول له: أنا أضمن عنك ما لفلان عليك، لقول الله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}. ولأخباره عليه السلام: أنه لا يحل مال مسلم إلا بطيب نفس منه والتراضي، وطيب النفس لا يكون إلا على معلوم القدر هذا أمر يعلم بالحس والمشاهدة.
1233 - مسألة: ولا يجوز ضمان مال لم يجب بعد، كمن قال لأخر: أنا أضمن لك ما تستقرضه من فلان، أو قال له: اقترض من فلان دينارا وأنا أضمنه عنك، أو قال له: أقرض فلانا دينارا وأنا أضمنه لك وهو قول ابن أبي ليلى ومحمد بن الحسن، والشافعي، وأبي سليمان، لأنه شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل. ولأن الضمان عقد واجب، ولا يجوز الواجب في غير واجب، وهو التزام ما لم يلزم بعد، وهذا محال وقول متفاسد، وكل عقد لم يلزم حين التزامه فلا يجوز أن يلزم في ثان، وفي حين لم يلتزم فيه، وقد لا يقرضه ما قال له. وقد يموت القائل لذلك قبل أن يقرضه ما أمره بإقراضه. فصح بكل هذا أنه لا يلزم ذلك القول. فإن قال له: أقرضني كذا وكذا وادفعه إلى فلان، أو زن عني لفلان كذا وكذا، أو أنفق، عني في أمر كذا فما أنفقت فهو علي، أو ابتع لي أمر كذا فهذا جائز لازم، لأنها وكالة وكله بما أمره به. وأجاز ما ذكرنا بطلانه: أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومالك وعثمان البتي.
واحتج لهم بعض الممتحنين بتقليدهم بأن رسول الله ﷺ ولى زيد بن حارثة جيش الأمراء، فإن مات، فالأمير جعفر بن أبي طالب، فإن مات، فالأمير عبد الله بن رواحة. قال: فكما تجوز المخاطرة في الولايات فهي جائزة في الضمان.
قال أبو محمد: وهذا قياس والقياس كله باطل، ثم لو صح القياس لكان هذا منه عين الباطل، لأنه لا نسبة بين الولاية وبين الضمان، ولا نسبة بين الوكالة وبين الضمان، لأن الولاية فرض على المسلمين إلى يوم القيامة، وليس الضمان فرضا
وأما الوكالة فحكم على حياله جاء به النص. ثم نسألهم عمن قال: أنا أضمن لك ما أقرضته زيدا ثم مات فأقرض المقول له ذلك زيدا ما أمره به أيلزمونه ذلك بعد موته فهذا عجب أم لا يلزمونه فقد تركوا قولهم الفاسد، ورجعوا إلى الحق، ولئن لزمه ضمان ذلك في ذمته في حياته، فهو لازم له في ماله، ولا بد بعد موته من رأس ماله. ونسألهم عمن ضمن كل ما يتداين به زيد إلى انقضاء عمره فإن ألزموه ذلك كان شنعة من القول، وإن لم يلزموه تناقضوا. ونقول لهم: كما لم يجز الغرر والمخاطرة في البيوع، ولا جاز إصداق ما لم يخلق بعد، فكذلك لا يجوز ضمان ما لم يلزم بعد. فهذا أصح من قياسهم على الإمارة، والوكالة، والدلائل هاهنا على بطلان قولهم تكثر جدا وفيما ذكرنا كفاية.
1234- مسألة: ولا يجوز أن يشترط في ضمان اثنين عن واحد أن يأخذ أيهما شاء بالجميع، ولا أن يشترط ذلك الضامن في نفسه وفي المضمون عنه، ولا أن يشترط أن يأخذ المليء منهما عن المعسر، والحاضر عن الغائب وهو قول ابن شبرمة، وأبي سليمان. وأجاز هذا الشرط شريح، وابن سيرين، وعطاء، وعمرو بن دينار وسليمان بن موسى، وهو قول سفيان الثوري، وأبي حنيفة، ومالك. برهان صحة قولنا: قول النبي ﷺ: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وهذا شرط لم يأت بإباحته نص فهو باطل.
وأيضا: فإنه ضمان لم يستقر عليهما، ولا على واحد منهما بعينه، وإنما هو ضمان معلق على أحدهما بغير عينه لا يدري على أيهما يستقر فهو باطل، لأن ما لم يصح على المرء بعينه حين عقده إياه، فمن الباطل أن يصح عليه بعد ذلك في حين لم يعقده، ولا التزمه وهذا واضح لا خفاء به وبالله تعالى التوفيق.
1235 - مسألة: فإن ضمن اثنان فصاعدا حقا على إنسان فهو بينهم بالحصص لما ذكرنا، فلو ابتاع اثنان بيعا أو تداينا دينا على أن كل واحد منهم ضامن عن الآخر، فإن ما كان على كل واحد منهما قد انتقل عنه واستقر على الآخر لا يجوز غير هذا أصلا لما ذكرنا قبل. ولأن من الباطل المحال الممتنع أن يكون مال واحد على اثنين فصاعدا يكون كله على كل واحد منهما، لأنه كان يصير الدرهم درهمين ولا بد ; أو يكون غير لازم لأحدهما بعينه، ولا لهما جميعا، وهذا هوس لا يعقل - وبالله تعالى التوفيق.
1236 - مسألة: ولا يجوز أن يشترط في بيع، ولا في سلم، ولا في مداينة أصلا إعطاء ضامن. ولا يجوز أن يكلف أحد في خصومة إعطاء ضامن به لئلا يهرب.، ولا يجوز أن يكلف من وجب له حق من ميراث أو غيره ضامنا. وكل ذلك جور وباطل لأنه كله شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل. ولأنه تكليف ما لم يأت قط نص من الله تعالى، ولا من رسوله عليه السلام بإيجابه، فهو شرع لم يأذن به الله تعالى. فإن احتج من يجيز ذلك أو بعضه بالخبر الذي رويناه من طريق عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز عن أبيه عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ ذكر رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فذكر كلاما، وفيه فقال: ائتني بالكفيل فقال: كفى بالله كفيلا، فقال: صدقت فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركبا يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله فلم يجد مركبا فأخذ خشبة فنقرها ثم أدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر فذكر كلاما، وفيه: فرمى بها إلى البحر وذكر باقي الخبر، وذكر البخاري هذا الخبر منقطعا غير متصل فإن هذا خبر لا يصح لأنه من طريق عبد الله بن صالح وهو ضعيف جدا. ثم لو صح لم يكن لهم فيه حجة، لأنه شريعة غير شريعتنا، ولا يلزمنا غير شريعة نبينا ﷺ قال الله تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} والعجب أنهم أول مخالف له، فإنهم لا يجيزون ألبتة لأحد أن يقذف ماله في البحر لعله يبلغ إلى غريمه، بل يقضون على من فعل هذا بالسفه ويحجرون عليه ويؤدبونه فكيف يستسهل ذو حياء أن يحتج على خصمه بما هو أول مخالف له وحسبنا الله ونعم الوكيل.
1237 - مسألة : ولا يجوز ضمان الوجه أصلا، لا في مال، ولا في حد، ولا في شيء من الأشياء لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل.
ومن طريق النظر إننا نسألهم عمن تكفل بالوجه فقط فغاب المكفول ماذا تصنعون بالضامن لوجهه أتلزمونه غرامة ما على المضمون فهذا جور وأكل مال بالباطل لأنه لم يلتزمه قط، أم تتركونه فقد أبطلتم الضمان بالوجه الذي جاذبتم فيه الخصوم، وحكمتم بأنه لا معنى له، أم تكلفونه طلبه فهذا تكليف الحرج، وما لا طاقة له به، وما لم يكلفه الله تعالى إياه قط، ولا منفعة فيه، ولعله يزول عن موضعكم، ولا يطلبه، ولكن يشتغل بما يعنيه. وقولنا هذا هو أحد قولي الشافعي، وقول أبي سليمان.
وقال أبو حنيفة، ومالك: يجوز ضمان الوجه إلا أن مالكا قال: إن ضمن الوجه غرم المال، إلا أن يقول الوجه خاصة، فكان هذا التقسيم طريفا جدا، وما يعلم أحد فرق بين قوله: أنا أضمن وجهه، وبين قوله: أنا أضمن وجهه خالصة، وكلا القولين لم يلتزم فيه غرامة مال، ولا ضمانة أصلا، فكيف يجوز أن يأخذ بغرامة مال لم يضمنه قط وحسبنا الله ونعم الوكيل وما نعلم لمالك في هذا التقسيم سلفا.
واحتج المجيزون ضمان الوجه بخبر رويناه من طريق العقيلي عن إبراهيم بن الحسن الهمذاني عن محمد بن إسحاق البلخي عن إبراهيم بن خثيم بن عراك بن مالك عن أبيه خثيم عن عراك عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ كفل في تهمة. وبما روينا من طريق ابن وهب عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي عن أبيه: أن عمر بعثه مصدقا على بني سعد هذيم فذكر الخبر، وفيه " أنه وجد فيهم رجلا وطئ أمة امرأته فولدت منه فأخذ حمزة بالرجل كفيلا " لأنهم ذكروا له: أن عمر قد عرف خبره، وأنه لم ير عليه رجما، لكن جلده مائة، فلما أتى عمر أخبره الخبر، فصدقهم عمر، قال: وإنما درأ عنه الرجم لأنه عذره بالجهالة. وبخبر رويناه من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب: أن ابن مسعود أتي بقوم يقرون بنبوة مسيلمة، وفيهم ابن النواحة فاستتابه فأبى فضرب عنقه، ثم إن ابن مسعود استشار أصحاب رسول الله ﷺ في الباقين فأشار عليه عدي بن حاتم بقتلهم، وأشار عليه الأشعث بن قيس، وجرير بن عبد الله باستتابتهم وأن يكفلهم عشائرهم، فاستتابهم، فكفلهم عشائرهم، ونفاهم إلى الشام. وذكروا: أن شريحا كفل في دم وحبسه في السجن; وأن عمر بن عبد العزيز كفل في حد، قالوا: وهذا إجماع من الصحابة كما ترى.
قال أبو محمد: في احتجاج من احتج بهذا كله دليل على رقة دين المحتج به، ولا مزيد وعلى قلة مبالاته بالفضيحة العاجلة والخزي الآجل عند الله تعالى وما لهم حجة أصلا غير ما ذكرنا، وكل ذلك باطل. أما الخبر عن رسول الله ﷺ فباطل لأنه من رواية إبراهيم بن خثيم بن عراك، وهو وأبوه في غاية الضعف، لا تجوز الرواية عنهما، ومعاذ الله من أن يأخذ رسول الله ﷺ أحدا بتهمة، وهو القائل: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث والتهمة ظن.
ولو جاز أن يكفل إنسان بتهمة لوجب الكفيل على كل من على ظهر الأرض، إذ ليس أحد بعد الصدر الأول يقطع ببراءته من التهمة وهذا تخليط لا نظير له، والمحتجون بهذا الخبر لا يقولون بما فيه من أخذ الكفالة في التهمة، فمن أضل ممن يحتج بخبر يطلقه على رسول الله ﷺ فيما ليس فيه منه شيء، وهو يخالف كل ما في ذلك الخبر، ويرى الحكم بما فيه جورا وظلما نبرأ إلى الله تعالى من مثل هذا.
وأما خبر حمزة بن عمرو الأسلمي فباطل لأنه عن عبد الرحمن بن أبي الزناد وهو ضعيف ثم المحتجون به أول مخالف لما فيه، فليس منهم أحد يرى أن يجلد الجاهل في وطء أمة امرأته مائة، ولا أن يدرأ الرجم عن الجاهل فكيف يستحلون أن يحتجوا عن عمر رضي الله عنه بعمل هو عندهم جور وظلم، أما في هذا عجب وعبرة ما شاء الله كان.
وأيضا: فكلهم لا يجيز الكفالة في شيء من الحدود وهذا الخبر إنما فيه الكفالة في حد فاعجبوا لهذه العجائب وأما خبر ابن مسعود فإننا رويناه من طريق يحيى بن سعيد القطان، وسفيان بن عيينة، كلاهما عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم، عن ابن مسعود.
ومن طريق الأعمش، وشعبة، وسفيان الثوري، كلهم عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب، عن ابن مسعود، وهذه الأسانيد هي أنوار الهدى لم يذكر أحد منهم في روايته أنه كفل بهم، ولا ذكر منهم أحد كفالة إلا إسرائيل وحده وهو ضعيف ولو كان ثقة ما ضر روايته من خالفها من الثقات، ولكنه ضعيف ثم لو صحت لكان جميع المحتجين بها أول مخالف لها، لأنهم كلهم لا يجيزون الكفالة في الردة تاب أو لم يتب، ولا يرون التغريب على المرتد إذ تاب، وليس هذا مكانا يمكنهم فيه دعوى نسخ بل هي أحكام مجموعة: إما صواب وحجة، وأما خطأ وغير حجة: الكفالة بالوجه في الحدود وفي الردة، والتغريب في الردة وجلد الجاهل المحض في الزنى مائة جلدة، ولا يرجم، فيا للمسلمين كيف يستحل من له مسكة حياء أن يحتج على خصمه بما هو أول مخالف له.
وكذلك الرواية عن شريح، وعمر بن عبد العزيز إنما هي أنهما كفلا في حد ودم، وهم لا يرون الكفالة فيهما أصلا، وهي بعد عن شريح من طريق جابر الجعفي وهو كذاب. ولا يعرف هذا أيضا يصح عن عمر بن عبد العزيز. فإن كان ما ذكروا من هذه التكاذيب إجماعا كما زعموا فقد أقروا على أنفسهم بمخالفة الإجماع، فسحقا وبعدا لمن خالف الإجماع، نقول فيهم: كما قال تعالى فيمن اعترف على نفسه بالضلال: {فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير} وشهدوا على أنفسهم إلا إن أولئك نادمون، وهؤلاء مصرون.
وأما نحن فلو صحت هذه الروايات كلها لما كان فيها حجة، لأنها إنما هي عن خمسة من الصحابة رضي الله عنهم فقط، وأين هذه من صلاة معاذ مع النبي ﷺ ثم إمامته قومه في مسجد بني سلمة في تلك الصلاة وخلفه ثلاثة وأربعون بدريا مسمون بأسمائهم وأنسابهم سوى سائر أصحاب المشاهد منهم، فلم يروا هذا إجماعا، بل رأوها صلاة فاسدة، ومعاذ الله من هذا، بل هي والله صلاة مقدسة فاضلة، حق، وصلاة المخالفين لها هي الفاسدة حقا. وأين هذا من إعطاء رسول الله ﷺ وجميع أصحابه أرض خيبر على نصف ما يخرج منها من زرع أو تمر إلى غير أجل مسمى، لكن يقرونهم بها كما شاءوا، ويخرجونهم إذا شاءوا فلم يروا هذا إجماعا، بل رأوه معاملة فاسدة مردودة، وحاشا لله من هذا، بل هو والله الإجماع المتيقن والحق الواضح، وأقوال من خالف ذلك هي الفاسدة المردودة حقا، ونحمد الله تعالى على ما من به. ثم اعلموا الآن أنه لم يصح قط إباحة كفالة الوجه عن صاحب، ولا تابع فهي باطل متيقن لا تجوز البتة وبالله تعالى التوفيق. تم " كتاب الكفالة " والحمد لله رب العالمين.