الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الثالث/الصفحة الرابعة والخمسون


كتاب الإجارات والأجراء

1285 - مسألة : الإجارة جائزة في كل شيء له منفعة فيؤاجر لينتفع به ولا يستهلك عينه - : روينا من طريق مسلم نا إسحاق بن منصور أنا يحيى بن حماد نا أبو عوانة عن سليمان الشيباني - هو أبو إسحاق - عن عبد الله بن السائب أنهم سمعوا عبد الله بن معقل يقول : زعم ثابت - هو ابن الضحاك - { أن رسول الله ﷺ نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة وقال : لا بأس بها } . قال علي : قد صح سماع عبد الله بن معقل من ثابت بن الضحاك ، وقد جاءت في الإجارات آثار ، وبإباحتها يقول جمهور العلماء إلا أن إبراهيم بن علية قال : لا تجوز لأنها أكل مال بالباطل . قال علي : هذا باطل من قوله وقد { استأجر رسول الله ﷺ ابن أريقط دليلا إلى مكة } .

1286 - مسألة : والإجارة ليست بيعا ، وهي جائزة في كل ما لا يحل بيعه كالحر ، والكلب ، والسنور ، وغير ذلك . ولو كانت بيعا لما جازت إجارة الحر ، والقائلون إنها بيع يجيزون إجارة الحر ، فتناقضوا . ولا يختلفون في أن الإجارة إنما هي الانتفاع بمنافع الشيء المؤاجر الذي لم يخلق بعد ، ولا يحل بيع ما لم يخلق بعد ، فظهر فساد هذا القول .

1287 - مسألة : ولا يجوز إجارة ما تتلف عينه أصلا ، مثل الشمع للوقيد ، والطعام للأكل ، والماء للسقي به ، ونحو ذلك ، لأن هذا بيع لا إجارة ، والبيع هو تملك العين ، والإجارة لا تملك بها العين .

1288 - مسألة : ومن الإجارات ما لا بد فيه من ذكر العمل الذي يستأجر عليه فقط ولا يذكر فيه مدة كالخياطة والنسج وركوب الدابة إلى مكان مسمى ، ونحو ذلك ، ومنها ما لا بد فيه من ذكر المدة كسكنى الدار وركوب الدابة ونحو ذلك ، ومنه ما لا بد فيه من الأمرين معا كالخدمة ونحوها فلا بد من ذكر المدة والعمل ، لأن الإجارة بخلاف ما ذكرنا مجهولة وإذا كانت مجهولة فهي أكل مال بالباطل . والإجارة على تعليم القرآن والعلم جائزة ، لأن كل ذلك داخل في عموم أمر النبي ﷺ بالمؤاجرة .

1289 - مسألة : ومن استأجر حرا أو عبدا من سيده للخدمة مدة مسماة بأجرة مسماة فذلك جائز ، وليستعملهما فيما يحسنانه ويطيقانه بلا إضرار بهما . روينا من طريق البخاري نا يحيى بن بكير نا الليث بن سعد عن عقيل قال : قال ابن شهاب : أخبرني عروة بن الزبير : أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : { استأجر رسول الله ﷺ وأبو بكر رجلا من بني الديل هاديا خريتا وهو على دين كفار قريش ودفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال } .

1290 - مسألة : ولا يجوز اشتراط تعجيل الأجرة ولا تعجيل شيء منها ، ولا اشتراط تأخيرها إلى أجل ولا تأخير شيء منها كذلك . ولا يجوز أيضا اشتراط تأخير الشيء المستأجر ولا تأخير العمل المستأجر له طرفة عين فما فوق ذلك ، لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل . ومن هذا استئجار دار مكتراة ، أو عبد مستأجر ، أو دابة مستأجرة ، أو عمل مستأجر ، أو غير ذلك قبل تمام الإجارة التي هو مشغول فيها ، لأن في العقد اشتراط تأخير قبضة الشيء المستأجر ، أو العمل المستأجر له . وقد أجاز بعض الناس إجارة ما ذكرنا قبل انقضاء مدته باليومين ، ومنع منه أكثر - وهذا تحكم فاسد ودعوى باطل بلا برهان ، وليس إلا حرام فيحرم جملة أو حلال فيحل جملة . وقالوا : هو في المدة الطويلة غرر . فقلنا : وهو أيضا في الساعة غرر ولا فرق ، إذ لا يدري أحد ما يحدث بعد طرفة عين إلا الله تعالى . وأيضا : فيكلفون إلى تحديد المدة التي لا غرر فيها والمدة التي فيها غرر ، وأن يأتوا بالبرهان على ذلك ، وإلا فهم قائلون في الدين ما لا علم لهم به ، فإن تأخر ذلك بلا شرط فلا بأس - وبالله تعالى التوفيق .

1291 - مسألة : وموت الأجير ، أو موت المستأجر ، أو هلاك الشيء المستأجر ، أو عتق العبد المستأجر ، أو بيع الشيء المستأجر من الدار ، أو العبد ، أو الدابة ، أو غير ذلك ، أو خروجه عن ملك مؤاجره بأي وجه خرج كل ذلك يبطل عقد الإجارة فيما بقي من المدة خاصة - قل أو كثر وينفذ العتق ، والبيع ، والإخراج عن الملك بالهبة ، والإصداق ، والصدقة . برهان ذلك : قول الله تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } . وقول رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } . وإذا مات المؤاجر فقد صار ملك الشيء المستأجر لورثته أو للغرماء ، وإنما استأجر المستأجر منافع ذلك الشيء ، والمنافع إنما تحدث شيئا بعد شيء ، فلا يحل له الانتفاع بمنافع حادثة في ملك من لم يستأجر منه شيئا قط ، وهذا هو أكل المال بالباطل جهارا . ولا يلزم الورثة في أموالهم عقد ميت قد بطل ملكه عن ذلك الشيء ، ولو أنه آجر منافع حادثة في ملك غيره لكان ذلك باطلا بلا خلاف وهذا هو ذلك بعينه . وأما موت المستأجر : فإنما كان عقد صاحب الشيء معه لا مع ورثته فلا حق له عند الورثة ، ولا عقد له معهم ، ولا ترث الورثة منافع لهم تخلق بعد ، ولا ملكها مورثهم قط - وهذا في غاية البيان - وبالله تعالى التوفيق . وهو قول الشعبي ، وسفيان الثوري ، والليث بن سعد ، وأبي حنيفة ، وأبي سليمان ، وأصحابهما . ومن طريق ابن أبي شيبة نا عبد الله بن إدريس الأودي عن مطرف بن طريف عن الشعبي قال : ليس لميت شرط . ومن طريق ابن أبي شيبة نا عبد الصمد - هو ابن عبد الوارث - عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحكم بن عتيبة فيمن آجر داره عشر سنين فمات قبل ذلك ؟ قال : تنتقض الإجارة . وقال مكحول : قال ابن سيرين ، وإياس بن معاوية : لا تنتقض ، وقال عثمان البتي ، ومالك ، والشافعي ، وأصحابهما : لا تنتقض الإجارة بموتهما ، ولا بموت أحدهما . وأقصى ما احتجوا به أن قالوا : عقد الإجارة قد صح ، فلا يجوز أن ينتقض إلا ببرهان . قلنا : صدقتم ، وقد جئناكم بالبرهان . وقالوا : فكيف تصنعون في الأحباس ؟ قلنا : رقبة الشيء المحبس لا مالك لها إلا الله ، وإنما للمحبس عليهم المنافع فقط ، فلا تنتقض الإجارة بموت أحدهم ، ولا بولادة من يستحق بعض المنفعة ، لكن إن مات المستأجر انتقضت الإجارة لما ذكرنا من أن عقده قد بطل بموته ولا يلزم غيره ، إذ النص من القرآن قد أبطل ذلك بقوله عز وجل : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } . فإن قالوا : قد ساقى رسول الله ﷺ خيبر اليهود ، وملكها للمسلمين ، بلا شك فقد مات من المسلمين قوم ومن اليهود قوم والمساقاة باقية . قلنا : إن هذا الخبر حق ولا حجة لهم فيه ، بل وهو حجة لنا عليهم لوجوه أربعة : أولها - أن ذلك العقد لم يكن إلى أجل محدود ، بل كان مجملا يخرجونهم إذا شاءوا ، ويقرونهم ما شاءوا ، كما نذكره في " المساقاة " إن شاء الله تعالى - وليست الإجارة هكذا . والثاني - أنه إن كان لم ينقل إلينا تجديد عقده ﷺ أو عامله الناظر على تلك الأموال مع ورثة من مات من اليهود ، وورثة من مات من المسلمين ، فلم يأت أيضا ، ولا نقل أنه اكتفى بالعقد الأول عن تجديد آخر ، فلا حجة لهم فيه ، ولا لنا ، بل لا شك في صحة تجديد العقد في ذلك . والثالث - أنهم لا يقولون بما في هذا الخبر ، ومن الباطل احتجاج قوم بخبر لا يقولون به على من يقول به ، وهذا معكوس . والرابع - أن هذا الخبر إنما هو في " المساقاة والمزارعة " وكلامنا ههنا في الإجارة وهي أحكام مختلفة ، وأول من يخالف بينهما ، فالمالكيون والشافعيون المخالفون لنا في هذا المكان ، فلا يجيزان المزارعة أصلا ، قياسا على الإجارة ، ولا يريان للمساقاة حكم الإجارة ، فمن المحال أن لا يقيسوا الإجارة عليهما وهم أهل القياس ثم يلزموننا أن نقيسها عليهما ونحن نبطل القياس - وبالله تعالى التوفيق . وأما البيع ، والهبة ، والعتق ، والإصداق ، وغير ذلك ، فإن الله تعالى يقول : { وأحل الله البيع } ويقول { المصدقين والمصدقات } . ويقول { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } . وحض على العتق ، فعم تعالى ولم يخص ، فكل ذلك في كل ما يملكه المرء ، فإذا نفذ كل ذلك فيه فقد خرج عن ملك مالكه ، فإذا خرج عن ملكه فقد بطل عقده فيه ، إذ لا حكم له في مال غيره . ولا يحل للمستأجر منافع حادثة في ملك غير مؤاجره ، وخدمة حر لم يعاقده قط ، لأنها حرام عليه ، لأنها بغير طيب نفس مالكها ، وبغير طيب نفس الحر ، فهو أكل مال بالباطل ، فإن ذكروا قول الله تعالى : { أوفوا بالعقود } وهذا عقد لازم حق . قلنا : نعم ، هو مأمور بالوفاء بالعقد في ماله لا في مال غيره ، بل هو محرم عليه التصرف في مال غيره . فإن قالوا : إخراجه للشيء الذي آجر من ملكه إبطال للوفاء بالعقد الذي هو مأمور بالوفاء به . قلنا : وقولكم لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما أصلا : إما أن تمنعوه من إخراجه عن ملكه بالوجوه التي أباح الله تعالى له إخراجه بها عن ملكه بسبب عقد الإجارة . وإما أن تبيحوا له إخراجه عن ملكه بالوجوه التي أباح الله تعالى له إخراجه بها عن ملكه - لا بد من أحدهما . فإن منعتموه إخراجه عن ملكه بالوجوه التي أباح الله تعالى له إخراجه بها عن ملكه كنتم قد خالفتم الله عز وجل ، وحرمتم ما أحل ، وهذا باطل . وقد قال رسول الله ﷺ : { ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله - عز وجل - من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق } . فصح يقينا أن شرطهما في عقد الإجارة لا يمنع ما في كتاب الله تعالى من إباحة البيع والهبة والصدقة والإصداق ، وأن شرط الله تعالى في إباحة كل ذلك أحق من شرطهما في عقد الإجارة وأوثق ، ومتقدم له ، فإنما يكون عقدهما الإجارة على جواز ما في كتاب الله تعالى ، لا على المنع منه ومخالفته . وإن قلتم : بل نجيز له كل ذلك ويبقى عقد الإجارة مع كل ذلك . قلنا : خالفتم قول الله تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } فأوجبتم أن تكسب على غيره ، وأن ينفذ عقده في مال غيره . وخالفتم قول رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } فأبحتم للمستأجر مال غيره ، وأبحتم له مال من لم يعقد معه قط فيه عقدا ، ومنعتم صاحب الحق من حقه وهذا حرام ، وأوجبتم للبائع أن يأخذ إجارة على منافع حادثة في مال غيره ، وعن خدمة حر لا ملك له عليه ؛ وهذا أكل مال بالباطل وأكل إجارة مال حرام عليه عينه والتصرف فيه - وهذا كله ظلم وباطل بلا شك وقولنا هذا هو قول الشعبي ، والحسن البصري ، وسفيان الثوري ، وغيرهم . ومن طريق ابن أبي شيبة نا عبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذاء عن إياس بن معاوية فيمن دفع غلامه إلى رجل يعلمه ثم أخرجه قبل انقضاء شرطه ، قال : يرد على معلمه ما أنفق عليه . ومن طريق ابن أبي شيبة نا غندر عن شعبة عن الحكم بن عتيبة فيمن أجر غلامه سنة فأراد أن يخرجه ، قال : له أن يأخذه . قال حماد : ليس له إخراجه إلا من مضرة . وروينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن الحسن البصري قال : البيع يقطع الإجارة . قال أيوب لا يقطعها ، قال معمر : وسألت ابن شبرمة عن البيع أيقطع الإجارة ؟ قال نعم ، قال عبد الرزاق : وقال سفيان الثوري : الموت والبيع يقطعان الإجارة . قال أبو محمد : وقال مالك وأبو يوسف ، والشافعي : إن علم المشتري بالإجارة فالبيع صحيح ، ولا يأخذ الشيء الذي اشترى إلا بعد تمام مدة الإجارة . وكذلك العتق نافذ والهبة ، وعلى المعتق إبقاء الخدمة ، وتكون الأجرة في كل ذلك للبائع ، والمعتق والواهب قالوا : فإن لم يعلم بالبيع ، فهو مخير بين إنفاذ البيع وتكون الإجارة للبائع أو رده ، لأنه لا يمتنع من الانتفاع بما اشترى - وهذا فاسد بما أوردنا آنفا . وقال أبو حنيفة قولين - أحدهما : أن للمستأجر نقض البيع . والآخر : أنه مخير بين الرضا بالبيع وبين أن لا يرضى به ، فإن رضي به بطلت إجارته . وإن لم يرض به كان المشتري مخيرا بين إمضاء البيع والصبر حتى تنقضي مدة الإجارة ، وبين فسخ البيع لتعذر القبض . قال أبو محمد : هذان قولان في غاية الفساد والتخليط ، لا يعضدهما قرآن ، ولا سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قول أحد نعلمه قبل أبي حنيفة ، ولا قياس ، ولا رأي سديد . وليت شعري إذا جعل للمستأجر الخيار في فسخ البيع ، أترونهم يجعلون له الخيار أيضا في رد المعتق أو إمضائه ؟ إن هذا لعجب أو يتناقضون في ذلك ؟ ولا يحل في شيء مما ذكرنا من خروج الشيء المستأجر عن ملك المؤاجر ببيع ، أو عتق ، أو هبة ، أو صدقة ، أو إصداق أن يشترط على المعتق ، وعلى من صار إليه الملك : بقاء الإجارة ، لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى ، فهو باطل .

1292 - مسألة : وكذلك إن اضطر المستأجر إلى الرحيل عن البلد ، أو اضطر المؤاجر إلى ذلك ، فإن الإجارة تنفسخ إذا كان في بقائها ضرر على أحدهما ، كمرض مانع ، أو خوف مانع ، أو غير ذلك ، لقول الله تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } . وقال تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } . وهو قول أبي حنيفة . روينا من طريق عبد الرزاق نا سفيان الثوري قال : سئل الشعبي عن رجل استأجر دابة إلى مكان فقضى حاجته دون ذلك المكان . قال : له من الأجرة بقدر المكان الذي انتهى إليه . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة فيمن اكترى دابة إلى أرض معلومة فأبى أن يخرج . قال قتادة : إذا حدث نازلة يعذر بها لم يلزمه الكراء .

1293 - مسألة : وكذلك إن هلك الشيء المستأجر فإن الإجارة تنفسخ ووافقنا على هذا أبو حنيفة ، ومالك والشافعي . وقال أبو ثور : لا تنفسخ الإجارة بهذا أيضا ، بل هي باقية إلى أجلها ، الأجرة كلها واجبة للمؤاجر على المستأجر . قال أبو محمد : وهذا خطأ ؛ لأنه أكل مال بالباطل ، وقاس أبو ثور ذلك على البيع ولقد يلزم من رأى الإجارة كالبيع أن يقول بهذا . ولا فرق بين إبقاء مالك ، والشافعي ، الإجارة بموت المؤاجر ، والمستأجر ، وبين إبقاء أبي ثور إياها بهلاك الشيء المستأجر حتى قال مالك : من استؤجرت دابته إلى بلد بعينه فمات المستأجر بالفلاة : أن الإجارة باقية في ماله ، وأن من الواجب أن يؤتى المؤاجر ثمن نقله ، كنقل الميت ينقله إلى ذلك البلد ، وهذا عجب ما مثله عجب لا سيما مع إبطاله بعض الإجارة بجائحة تنزل كاستعذار ، أو قحط ، فاحتاط في أحد الوجهين ولم يحتط في الآخر ولا تبطل إجارة بغير ما ذكرنا - وقد روي عن شريح والشعبي . وصح عنهما أن كل واحد من المستأجر والمؤاجر ينقض الإجارة إذا شاء قبل تمام المدة - وإن كره الآخر - وكانا يقضيان بذلك - ولا نقول بهذا ؛ لأنه عقد عقداه في مال يملكه المؤاجر فهو مأمور بإنفاذه ، وكذلك معاقده ما داما حيين ، وما دام ذلك الشيء في ملك من أجره - وبالله تعالى التوفيق .

1294 - مسألة : وجائز استئجار العبيد والدور والدواب ، وغير ذلك ، إلى مدة قصيرة أو طويلة ، إذا كانت مما يمكن بقاء المؤاجرة والمستأجر والشيء المستأجر إليها ، فإن كان لا يمكن ألبتة بقاء أحدهم إليها ، لم يجز ذلك العقد ، وكان مفسوخا أبدا . برهان ذلك - : أن بيان المدة واجب فيما استؤجر لا لعمل معين ، فإذ هو كذلك فلا فرق بين مدة ما وبين ما أقل منها أو أكثر منها ؛ والمفرق بين ذلك مخطئ بلا شك ، لأنه فرق بلا قرآن ، ولا سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قول صاحب أصلا ، ولا قول تابع نعلمه ، ولا قياس ، ولا رأي له وجه يعقل ، والمخاوف لا تؤمن في قصير المدد كما لا تؤمن في طويلها . وأما إن عقدت الإجارة إلى مدة يوقن أنه لا بد من أن يخترم أحدهما دونها ، أو لا بد من ذهاب الشيء المؤاجر دونها ، فهو شرط متيقن الفساد بلا شك ، لأنه إما عقد منهما على غيرهما ، وهذا لا يجوز - وإما عقد في معدوم ، وذلك لا يجوز - وبالله تعالى التوفيق . ولقد كان يلزم من يرى الإجارة لا تنتقض بموت أحدهما من المالكيين والشافعيين ، أو لا تنتقض بهلاك الشيء المستأجر ممن ذهب مذهب أبي ثور ، أن يجيز عقد الإجارة في الأرض وغيرها إلى ألف عام ، وإلى عشرة آلاف عام ، وأكثر ، ولكن هذا مما تناقضوا فيه - وبالله تعالى نتأيد . وقد جاء النص بالإجارة إلى أجل مسمى ، كما روينا من طريق البخاري : نا سليمان بن حرب نا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر قال : كان رسول الله ﷺ يقول : { مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استأجر أجراء فقال : من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط ؟ فعملت اليهود إلى صلاة الظهر ، ثم قال : من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط ؟ فعملت النصارى ، ثم قال : من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين ؟ فأنتم هم } وذكر الحديث .

1295 - مسألة : وجائز استئجار المرأة ذات اللبن لإرضاع الصغير مدة مسماة . برهان ذلك - : قول الله تعالى : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } .

1296 - مسألة : ولا يجوز استئجار شاة أو بقرة أو ناقة أو غير ذلك - لا واحدة ولا أكثر - للحلب أصلا ؛ لأن الإجارة إنما هي في المنافع خاصة ، لا في تملك الأعيان ، وهذا تملك اللبن ، وهو عين قائمة ، فهو بيع لا إجارة ، وبيع ما لم ير قط ، ولا تعرف صفته باطل . - وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي . ولم يجز مالك إجارة الشاة ولا الشاتين للحلب ، وأجاز إجارة القطيع من ذوات اللبن للحلب - وأجاز استئجار البقرة للحرث ، واشتراط لبنها - وهذا كله خطأ وتناقض ؛ لأنه فرق بين القليل والكثير بلا برهان أصلا . ثم لم يأت بحد بين ما حرم وما حلل ، فمزج الحرام بالحلال بغير بيان ، وهذا كما ترى ؟ وفرض على كل من حلل وحرم أن يبين للناس ما يحرم عليهم مما يحل لهم إن كان يعرف ذلك ، فإن لم يعرفه فالسكوت هو الواجب الذي لا يحل غيره . ثم أجاز ذلك في الرأس الواحد من البقر - وهذا تناقض فاحش . وكذلك أجاز كراء تكون فيها الشجرة أو النخلة واستثناء ثمرتها وإن لم تكن فيها حين الإجارة ثمرة إذا كانت الثمرة أقل من ثلث الكراء وإلا فلا يجوز - ولا يعرف هذا التقسيم عن أحد قبله ولا دليل على صحة شيء منه ، ولئن كان الكثير مما ذكرنا حلالا فالقليل من الحلال حلال ، وإن كان حراما فالقليل من الحرام حرام . وهذا بعينه أنكروا على الحنيفيين إذا أباحوا القليل مما يسكر كثيره وقد وافقونا على أنه لا يحل كراء الطعام ليؤكل - فما الفرق بين ذلك وبين ما أباحوه من كراء الدار بالثمرة التي لم تخلق فيها لتؤكل ، وبين كراء الغنم لتحلب . فإن قالوا : قسنا ذلك على استئجار الظئر . قلنا : القياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان ههنا باطلا لأن أصح القياس ههنا - : أن يقاس استئجار الشاة الواحدة للحلب على استئجار الظئر الواحدة للرضاع فحرمتم ذلك ، ثم قستم حيث لا تشابه بينهما من البقرة للحدث ومن القطيع الكثير عدده ، والعلة المانعة عندهم من إجارة الرأس الواحد للحلب موجودة في الظئر ولا فرق ، وما رأينا أجهل بالقياس ممن هذا قياسه - وبالله تعالى التوفيق .

1297 - مسألة : ولا تجوز إجارة الأرض أصلا ، لا للحرث فيها ، ولا للغرس فيها ، ولا للبناء فيها ، ولا لشيء من الأشياء أصلا ، لا لمدة مسماة قصيرة ولا طويلة ، ولا لغير مدة مسماة ، لا بدنانير ولا بدراهم ، ولا بشيء أصلا - فمتى وقع فسخ أبدا . ولا يجوز في الأرض إلا المزارعة بجزء مسمى مما يخرج منها ، أو المغارسة كذلك فقط ، فإن كان فيها بناء قل أو كثر جاز استئجار ذلك البناء وتكون الأرض تبعا لذلك البناء غير داخلة في الإجارة أصلا . برهان ذلك - : ما رويناه من طريق مسلم نا عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد حدثني أبي عن جدي ثني عقيل بن خالد عن ابن شهاب قال : أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر قال : لقي عبد الله بن عمر رافع بن خديج فسأله . فقال له رافع : سمعت عمي - وكانا قد شهدا بدرا - يحدثان [ أهل الدار ] : { أن رسول الله ﷺ نهى عن كراء الأرض } فذكر الحديث وفيه أن ابن عمر ترك كراء الأرض " . قال أبو محمد : أهل بدر كلهم عدول - : روينا من طريق ابن أبي شيبة نا وكيع عن سفيان الثوري عن يحيى بن سعيد عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج عن جده رافع بن خديج ، قال : { جاء جبريل أو ملك إلى رسول الله ﷺ فقال : ما تعدون من شهد بدرا فيكم ؟ قال رسول الله ﷺ : خيارنا قال : كذلك هم عندنا } . قال علي : وممن روينا عنه المنع من كراء الأرض جملة جابر بن عبد الله ، ورافع بن خديج ، وابن عمر ، وطاوس ، ومجاهد ، والحسن . قال علي : وعند ذكرنا " للمزارعة " إن شاء الله تعالى نتقصى ما شغب به من أباح كراء الأرض ونقض كل ذلك بحول الله تعالى وقوته .

1298 - مسألة : ولا يجوز استئجار دار ولا عبد ولا دابة ولا شيء أصلا ليوم غير معين ، ولا لشهر غير معين ، وغلا لعام غير معين ؛ لأن الكراء لم يصح على شيء لم يعرف فيه المستأجر حقه فهو أكل مال بالباطل وعقد فاسد - وبالله تعالى التوفيق .

1299 - مسألة : وكل ما عمل الأجير شيئا مما استؤجر لعمله استحق من الأجرة بقدر ما عمل فله طلب ذلك وأخذه وله تأخيره بغير شرط حتى يتم عمله أو يتم منه جملة ما ؛ لأن الأجرة إنما هي على العمل فلكل جزء من العمل جزء من الأجرة . وكذلك كل ما استغل المستأجر الشيء الذي استأجر فعليه من الإجارة بقدر ذلك أيضا ، وكما ذكرنا للدليل الذي ذكرنا - وبالله تعالى التوفيق .

1300 - مسألة : وجائز الاستئجار بكل ما يحل ملكه وإن لم يحل بيعه كالكلب ، والهر ، والماء ، والثمرة التي لم يبد صلاحها ، والسنبل الذي لم ييبس - فيستأجر الدار بكلب معين أو كلب موصوف في الذمة ، وبثمرة قد ظهرت ولم يبد صلاحها ، وبماء موصوف في الذمة أو معين محرز ، أو بهر كذلك ؛ لأن الإجارة ليست بيعا ، وإنما نهي في هذه الأشياء عن البيع - وقياس الإجارة على البيع باطل لو كان القياس حقا ، فكيف وهو كله باطل ؟ لأنهم موافقون لنا على إجارة الحر نفسه ، وتحريمهم لبيعه ، ولأن البيع تمليك للأعيان بالنقل لها عن ملك آخر ، والإجارة تمليك منافع لم تحدث بعد - وبالله تعالى التوفيق