→ كتاب الصلح | ابن حزم - المحلى كتاب الصلح (مسألة 1270 - 1275) المؤلف: ابن حزم |
كتاب المداينات والتفليس ← |
كتاب الصلح
1270 - مسألة: لا يحل الصلح ألبتة على الإنكار، ولا على السكوت الذي لا إنكار معه، ولا إقرار، ولا على إسقاط يمين قد وجبت، ولا على أن يصالح مقر على غيره وذلك الذي صولح عنه منكر، وإنما يجوز الصلح مع الإقرار بالحق فقط وهو قول ابن أبي ليلى إلا أنه جوز الصلح على السكوت الذي لا إقرار معه، ولا إنكار.
وهو قول الشافعي إلا أنه جوز الصلح على إسقاط اليمين، وأن يقر إنسان عن غيره ويصالح عنه بغير أمره وهذا نقض لأصله وهو أيضا قول أبي سليمان، إلا أنه جوز الصلح على إسقاط اليمين وهذا نقض لأصله:
روينا من طريق حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين قال: كان لرجل على رجل حق فصالحه عنه ثم رجع فيه فخاصمه إلى شريح، فقال له شريح: شاهدان ذوا عدل: أنه تركه ولو شاء أديته إليه. فهذا شريح لم يجز الصلح إلا مع قدرة صاحب الحق على أخذ حقه بأداء الذي عليه الحق إليه حقه، وفسخه إن يكن كذلك وهو قولنا.
ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا ابن أبي زائدة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن شريح قال: أيما امرأة صولحت عن ثمنها ولم يبين لها ما ترك زوجها، فتلك الريبة كلها. وهذا أيضا بيان أنه لم يجز الصلح إلا على إقرار بمعلوم.
وقال أبو حنيفة، ومالك: الصلح على الإنكار، وعلى السكوت الذي لا إقرار معه، ولا إنكار جائز.
قال أبو محمد: برهان صحة قولنا: قول الله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}. وقول رسول الله ﷺ: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام فصح أن كل مال حرام على غير صاحبه ويحرم على صاحبه أن يبيحه لغيره إلا حيث أباح القرآن، والسنة إخراجه، أو أوجبا إخراجه. ولم يأت نص بجواز الصلح على شيء مما ذكرنا. والحديث المشهور من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني قال: جاء أعرابي إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله، قال أحد الخصمين: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته، فقالوا لي: على ابنك الرجم ففديت ابني بمائة من الغنم ووليدة، ثم سألت أهل العلم فقالوا: إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام وإنما الرجم على امرأته فقال رسول الله ﷺ لاقضين بينكما بكتاب الله، أما الوليدة، والغنم فرد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام وذكر باقي الخبر فأبطل رسول الله ﷺ الصلح المذكور وفسخه.
قال أبو محمد: احتج المتأخرون المجيزون للصلح على الإنكار وعلى سائر ما ذكرنا بقول الله تعالى: {والصلح خير}. وبقول الله تعالى: {أوفوا بالعقود}. وبما روينا من طريق كثير بن عبد الله وهو كثير بن زيد عن أبيه عن جده، وعن الوليد بن رباح عن أبي هريرة، كلاهما أن رسول الله ﷺ قال: الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا والمسلمون عند شروطهم. وبما حدثناه أحمد بن عمر بن أنس، حدثنا أبو ذر الهروي، حدثنا الخليل بن أحمد، حدثنا أبو داود السجستاني، حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، حدثنا يوسف بن موسى القطان، حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري: والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما. وبما روينا من طرق كثيرة منها عن سفيان بن عيينة، ووكيع، وهشيم، وابن أبي زائدة، كلهم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: أتي علي بن أبي طالب في شيء فقال: إنه لجور، ولو لا أنه صلح لرددته. واحتجوا أيضا بقول الله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} قالوا: والصلح على الإنكار تجارة عن تراض منهما قال أبو محمد: هذا كل ما احتجوا به، وكله لا حجة لهم في شيء منه بل كله حجة عليهم على ما نبين إن شاء الله تعالى: أما قوله تعالى: {والصلح خير } {أوفوا بالعقود} فالمخالفون لنا في هذه المسألة وجميع أهل الإسلام موافقون لنا على أن كلتا هاتين الآيتين ليستا على عمومهما، وأن الله تعالى لم يرد قط كل صلح، ولا كل عقد، وأن امرأ لو صالح على إباحة فرجه، أو فرج امرأته، أو على خنزير، أو على خمر، أو على ترك صلاة، أو على إرقاق حر، أو عقد على نفسه كل هذا لكان هذا صلحا باطلا لا يحل، وعقدا فاسدا مردودا، فإذ لا شك في هذا فلا يكون صلح، ولا عقد يجوز إمضاؤهما، إلا صلح، أو عقد: شهد القرآن والسنة بجوازهما.
فإن قالوا: نعم، لكن كل صلح وكل عقد فلازمان إلا صلحا أو عقدا جاء القرآن أو السنة بإبطالهما قلنا: نعم، وهو قولنا، وقد جاء القرآن بالطاعة لرسول الله ﷺ.
وقال عليه السلام: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل.
فصح أن كل شرط فحكمه الإبطال، إلا شرطا جاء بإباحته القرآن أو السنة، وكل عقد، وكل صلح فهو بلا شك شرط، فحكمهما الإبطال أبدا حتى يصححهما قرآن أو سنة، وليس في القرآن، ولا في السنة تصحيح الصلح على الإنكار، ولا على السكوت،، ولا على إسقاط اليمين، ولا صلح إنسان عن من لم يأمره، ولا إقراره على غيره، فبطل كل ذلك بيقين.
وأما حديث الصلح جائز بين المسلمين، وكلام عمر رضي الله عنه فكلاهما لا يجوز الحكم به أما الرواية عن النبي ﷺ فساقطة ; لأنه انفرد بها كثير بن عبد الله بن زيد بن عمر وهو ساقط متفق على اطراحه، وأن الرواية عنه لا تحل.
وأما الرواية عن عمر فانفرد بها عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه وكلاهما لا شيء، ثم لو صحا لكانا حجة لنا ; لأن الصلح على الإنكار وعلى السكوت، لا يخلو ضرورة من أحد وجهين: إما أن يكون الطالب طالب حق، والمطلوب مانع حق أو مماطلا لحق أو يكون الطالب طالب باطل، ولا بد من أحدهما. فإن كان الطالب محقا، فحرام على المطلوب بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام أن يمنعه حقه، أو أن يمطله وهو قادر على إنصافه حتى يضطره إلى إسقاطه بعض حقه، أو أخذ غير حقه، فالمطلوب في هذه الجهة أكل مال الطالب بالباطل وبالظلم، والمطل، والكذب، وهو حرام بنص القرآن. وإن كان الطالب مبطلا فحرام عليه الطلب بالباطل، وأخذ شيء من مال المطلوب بغير حق، بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام وبنص القرآن، والسنة، فالطالب في هذه الجهة: أكل مال المطلوب بالباطل، والظلم، والكذب، وهذا حرام بنص القرآن. ولعمري، إننا ليطول عجبنا كيف خفي هذا الذي هو أشهر من الشمس على من أجاز الصلح بغير الإقرار إذ لا بد فيه ضرورة من أكل مال محرم بالباطل لأحد المتصالحين في كلا الوجهين.
وأما الصلح على ترك اليمين فلا تخلو تلك اليمين التي يطلب بها المنكر من أن تكون صادقة إن حلف بها، أو تكون كاذبة إن حلف بها، ولا سبيل إلى ثالث. فإن كان المطلوب كاذبا إن حلف: فقد قدمنا أنه آكل مال خصمه بالباطل، والظلم والكذب، ولا يحل له ذلك. وإن كان المطلوب صادقا إن حلف فحرام على الطالب أن يأخذ منه فلسا فما فوقه بالباطل، وهذا لا خفاء به على أحد يتأمله ويسمعه.
وأما مصالحة المرء على غيره وإقراره على غيره فهذا أبطل الباطل لقول الله تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى} فإقرار المرء على غيره كسب على غير نفسه، فهو باطل، ومصالحته عن غيره لا تخلو أيضا مما قدمنا إما أن يكون الذي صولح عنه مطلوبا بباطل، أو مطلوبا بحق، ولا بد من أحدهما. فإن كان مطلوبا بباطل فحرام على الطالب أن يأخذ فلسا فما فوقه أو شيئا أصلا بطلب باطل فيكون أكل مال بالباطل. وإن كان الذي صولح عنه مطلوبا بحق، فإن كان المتبرع بالصلح عنه ضامنا لما على المطلوب فهذا جائز، والحق قد تحول حينئذ على المقر، فإنما صالح حينئذ عن نفسه لا عن غيره، وعن حق يأخذه به الطالب كله إن شاء، وهذا جائز حسن لا نمنع منه.
وكذلك إن ضمن عنه بعض ما عليه، ولا فرق. وإنما نمنع من أن يصالح عن غيره دون أن يضمن عنه الحق الذي عليه وهذا في غاية البيان وبالله تعالى التوفيق. فقد صح بهذا أن كل صلح على غير الإقرار فهو محل حراما ومحرم حلالا، ذانك الأثران لو صحا لكانا حجة لنا عليهم قاطعة.
وأما المسلمون عند شروطهم، فإن شروط المسلمين هي الشروط التي جاء القرآن وجاءت السنة بإيجابها وإباحتها، وأما كل شرط لم يأت النص بإباحته أو إيجابه فليس من شروط المسلمين، بل هو من شروط الكافرين أو الفاسقين، لقول رسول الله ﷺ: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وليس الباطل من شروط المسلمين بلا شك.
وأما خبر علي فهو خبر سوء، يعيذ الله عليا في سابقته، وفضله، وإمامته من أن ينفذ الجور وهو يقر أنه جور. ويا سبحان الله هل يجوز لمسلم أن ينفذ جورا لئن صح هذا لينفذن الربا، والزنى والغارة على أموال الناس ; لأنه كله جور. والآفة في هذا الخبر والبلية من قبل الإرسال ; لأن الشعبي لم يسمع قط من علي كلمة وإنما أخذ هذا الخبر بلا شك، من قبل الحارث وأشباهه، وهذا عيب المرسل. ثم العجب من احتجاجهم بهذه البلية، وهم أول مخالف لها فلا يرون إنفاذ الجور، لا في صلح، ولا غيره، وهذا تلاعب بالديانة، وضلال، وإضلال.
فإن قالوا: قد جاء عن عمر، أنه قال: رددوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث بين القوم الضغائن.
قلنا: هذا لا يصح عن عمر أصلا ; لأننا إنما رويناه من طريق محارب بن دثار عن عمر، وعمر لم يدركه محارب، ومحارب ثقة، فهو مرسل. ويعيذ الله عمر من أن يقول هذا القول فيأمر بترديد ذي الحق، ولا يقضي له بحقه، هذا الظلم والجور اللذان نزه الله تعالى عمر في إمامته ودينه وصرامته في الحق من أن يفوه به. ثم ليت شعري أيها المحتجون بهذا القول الذي لم يصح قط عرفونا ما حد هذا الترديد الذي تضيفونه إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه وتحتجون به وتأمرون به أترديد ساعة فإنه ترديد في اللغة بلا شك، أم ترديد يوم، أم ترديد جمعة، أم ترديد شهر، أو ترديد سنة، أم ترديد باقي العمر فكل ذلك ترديد، وليس بعض ذلك باسم الترديد بأولى من بعض، وكل من حد في هذا الترديد حدا فهو كذاب، قائل بالباطل في دين الله عز وجل.
وأيضا: فإن ترك الحكم بينهم حتى ينزل المحق على حكم الباطل، أو يترك الطلب، أو يمل من طلب المبطل فيعطيه ماله بالباطل أشد توريثا للضغائن بين القوم من فصل القضاء بلا شك. والحمد لله الذي جعل الإسناد في ديننا فصلا بين الحق والكذب. فإن ذكر ذاكر الخبر الصحيح عن النبي ﷺ من طريق البخاري عن آدم بن أبي إياس، عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار، ولا درهم، وإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه. فإن هذا الخبر من أعظم حجة في هذا الباب، فإن فيه إيجاب التحلل من كل مظلمة، والتحلل ضرورة لا يكون بإنكار الحق أصلا، بل هذا إصرار على الظلم، وإنما التحلل بالأعتراف، والتوبة، والندم، وطلب أن يجعل في حل فقط وهو قولنا، وليس فيه إباحة صلح أصلا، وإنما فيه الخروج إلى الحل، ولا يكون ذلك إلا بالخروج عن الظلم، فمن كان قبله مال أنصف منه أو تحلل منه، ومن كان قبله سب عرض طلب التحلل، ومن كان قبله قصاص اقتص من نفسه أو تحلل منه بالعفو، ولا مزيد وبالله تعالى التوفيق.
1271 - مسألة: فإذا صح الإقرار بالصلح، فأما أن يكون في المال فلا يجوز إلا بأحد وجهين لا ثالث لهما: إما أن يعطيه بعض ما له عليه ويبرئه الذي له الحق من باقيه باختياره، ولو شاء أن يأخذ ما أبرأه منه لفعل: فهذا حسن جائز بلا خلاف، وهو فعل خير.
وأما أن يكون الحق المقر به عينا معينة حاضرة أو غائبة فتراضيا على أن يبيعها منه، فهذا بيع صحيح يجوز فيه ما يجوز في البيع، ويحرم فيه ما يحرم في البيع، ولا مزيد، أو بالإجارة حيث تجوز الإجارة، لأمر رسول الله ﷺ بالمؤاجرة قال الله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا}.
وروينا من طريق الليث بن سعد عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج: حدثني عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه أنه كان له على عبد الله بن أبي حدرد مال فمر بهما رسول الله ﷺ فقال: أيا كعب فأشار بيده كأنه يقول: النصف، فأخذ نصف ما عليه وترك نصفه.
1272- مسألة: ولا يجوز في الصلح الذي يكون فيه إبراء من البعض شرط تأجيل أصلا ; لأنه شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل، لكنه يكون حالا في الذمة ينظره به ما شاء بلا شرط ; لأنه فعل خير.
1273 - مسألة: ولا يجوز الصلح على مال مجهول القدر، لقول الله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} والرضا لا يكون في مجهول أصلا، إذ قد يظن المرء أن حقه قليل فتطيب نفسه به، فإذا علم أنه كثير لم تطب نفسه به ولكن ما عرف قدره جاز الصلح فيه، وما جهل فهو مؤخر إلى يوم الحساب. وقد احتج من أجاز ذلك بما رويناه من طريق محمد بن إسحاق في مغازيه عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن أبي جعفر محمد بن علي: أن رسول الله ﷺ بعث عليا إلى بني جذيمة إذا أوقع بهم خالد فبعثه عليه السلام بمال فودى لهم الدماء والأموال حتى إنه ليدي لهم ميلغة الكلب، حتى إذا لم يبق شيء من مال، ولا دم حتى أداه وبقيت معه بقية من المال فقال لهم: هل بقي لكم دم أو مال قالوا: لا، قال: فإني أعطيكم هذه البقية من المال احتياطا لرسول الله ﷺ مما لم يعلم، ولا تعلمون، ففعل، فرجع إلى رسول الله ﷺ فأخبره فقال له: أصبت وأحسنت.
قال أبو محمد: هذا لا يصح ; لأنه مرسل، ثم هو عن حكيم بن حكيم وهو ضعيف ثم لو صح لما كانت لهم فيه حجة أصلا ; لأنه ليس فيه صلح مشترط على طلب حق مجهول وهذا هو الذي أنكرنا، وإنما هو تطوع لقوم لا يدعون حقا أصلا، بل هم مقرون بأنهم لم يبق لهم طلب أصلا، ونحن لا ننكر التطوع ممن لا يطلب بحق، بل هو فعل خير وبالله تعالى التوفيق.
1274 - مسألة: ولا يجوز الصلح في غير ما ذكرنا من الأموال الواجبة المعلومة بالإقرار والبينة، إلا في أربعة أوجه فقط: في الخلع ونذكره إن شاء الله تعالى في: (كتاب النكاح) قال الله تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير}. أو في كسر سن عمدا، فيصالح الكاسر في إسقاط القود أو في جراحة عمدا عوضا من القود أو في قتل نفس عوضا من القود بأقل من الدية، أو بأكثر، وبغير ما يجب في الدية. برهان ذلك: ما ذكرنا قبل من قول الله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}. وقول رسول الله ﷺ: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام فلا يحل إعطاء مال إلا حيث جاء النص بإباحة ذلك أو إيجابه. ولقول النبي ﷺ: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل والصلح شرط فهو باطل إلا حيث أباحه نص، ولا مزيد، ولم يبح النص إلا حيث ذكرنا فقط.
روينا من طريق أبي داود، حدثنا مسدد، حدثنا المعتمر بن سليمان التيمي عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: كسرت الربيع أخت أنس بن النضر ثنية امرأة فأتوا النبي ﷺ فقضى بكتاب الله القصاص فقال ابن النضر: والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها اليوم، قال: يا أنس كتاب الله القصاص، فرضوا بأرش أخذوه.
فإن قيل: فإن هذا الخبر رويتموه من طريق حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس فذكر أنها كانت جراحة، وأنهم أخذوا الدية. ورويتموه من طريق بشر بن المفضل، وخالد الحذاء، وكلاهما عن حميد الطويل عن أنس، فذكر أنهم عفوا ولم يذكر دية، ولا أرشا. ورويتموه من طريق أبي خالد الأحمر، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، كلاهما عن حميد الطويل عن أنس فذكر أمر النبي ﷺ بالقصاص فقط. قلنا: نعم، وكل ذلك في غاية الصحة وليس شيء منها مخالفا لسائر ذلك ; لأن سليمان، وثابتا، وبشرا، وخالدا، زادوا كلهم على أبي خالد، والأنصاري: العفو عن القصاص، ولم يذكر الأنصاري، ولا أبو خالد عفوا، ولا أنهم لم يعفوا، وزيادة العدل مقبولة، وزاد سليمان، وثابت على الأنصاري، وأبي خالد، وبشر، ذكر قبول الأرض ولم يذكر هؤلاء خلاف ذلك، وزيادة العدل مقبولة، وقال ثابت: دية، وقال سليمان: أرش. وهذا ليس اختلافا ; لأن كل دية أرش وكل أرش دية، إلا أن من ذلك ما يكون مؤقتا محدودا، ومنه ما يكون غير مؤقت، ولا محدود، والتوقيت لا يؤخذ إلا بنص وارد به، فوجب حمل ما رويناه على عمومه، وجواز ما تراضوا عليه وبالله تعالى التوفيق.
وأما اختلاف ثابت، وسليمان، فقال أحدهما وهو ثابت: جراحة، وأن أم الربيع التي أقسمت أن لا يقتص منها، وقال سليمان: كسر سن، وأن أنس بن النضر أقسم أن لا يقتص منها فيمكن أن يكونا حديثين في قضيتين، ويمكن أن يكون حديث واحد في قضية واحدة ; لأن كسر السن جراحة ; لأنه يدمي ويؤثر في اللثة فهي جراحة، فزاد سليمان بيانا إذ بين أنه كسر سن وبالله تعالى التوفيق.
وأما الجراحة: فروينا من طريق محمد بن داود بن سفيان عن عبد الرزاق، حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة أم المؤمنين: أن رسول الله ﷺ بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقا فلاجه رجل في صدقته، فضربه أبو جهم فشجه فأتوا رسول الله ﷺ فقالوا: القود يا رسول الله فقال رسول الله ﷺ لكم كذا وكذا فلم يرضوا، فقال: لكم كذا وكذا فلم يرضوا، فقال: لكم كذا وكذا، فرضوا. فهذا الصلح على الشجة بما يتراضى به الفريقان.
فإن قيل: فإن هذا خبر رويتموه من طريق محمد بن رافع عن عبد الرزاق بالإسناد المذكور فيه، وفيه: فضربه أبو جهم ولم يذكر شجه.
قلنا: هذه بلا شك قصة واحدة، وخبر واحد، وزاد محمد بن داود بيان ذكر شجه، ولم يذكرها محمد بن رافع، وزيادة العدل مقبولة.
وأما الصلح في النفس: فإننا روينا من طريق مسلم قال:، حدثنا زهير بن حرب، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، حدثنا يحيى بن أبي كثير، حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف حدثني أبو هريرة: أن رسول الله ﷺ قال بعد فتح مكة: ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يفدي، وأما أن يقتل.
فإن قيل: فهذا خبر رويتموه من طريق أبي شريح الكعبي: أن رسول الله ﷺ قال: فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين: بين أن يأخذوا العقل، وبين أن يقتلوه.
قلنا: نعم، كلاهما صحيح وحق وجائز أن يلزم ولي القتيل القاتل الدية وجائز أن يصالحه حينئذ القاتل بما يرضيه به، فكلا الخبرين صحيح وبالله تعالى التوفيق.
1275 - مسألة: ومن صالح عن دم، أو كسر سن، أو جراحة، أو عن شيء معين بشيء معين، فذلك جائز، فإن استحق بعضه، أو كله بطلت المصالحة وعاد على حقه في القود وغيره ; لأنه إنما ترك حقه بشيء لم يصح له وإلا فهو على حقه، فإذا لم يصح له ذلك الشيء فلم يترك حقه.
وكذلك لو صالح من سلعة بعينها بسكنى دار، أو خدمة عبد فمات العبد، وانهدمت الدار، أو استحقا بطل الصلح وعاد على حقه وبالله تعالى التوفيق.