الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الثالث/الصفحة الثالثة والأربعون


كتاب الرهن

1215 - مسألة: فإن مات الرهن، أو تلف، أو أبق، أو فسد، أو كانت أمة فحملت من سيدها، أو أعتقها، أو باع الرهن، أو وهبه، أو تصدق به، أو أصدقه: فكل ذلك نافذ، وقد بطل الرهن وبقي الدين كله بحسبه، ولا يكلف الراهن عوضا مكان شيء من ذلك، ولا يكلف المعتق، ولا الحامل استسعاء، إلا أن يكون الراهن لا شيء له من أين ينصف غريمه غيره، فيبطل عتقه ; وصدقته، وهبته، ولا يبطل بيعه، ولا إصداقه.

روينا من طريق ابن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا إسرائيل عن المغيرة بن مقسم الضبي عن إبراهيم النخعي فيمن رهن عبده ثم أعتقه قال: العتق جائز، ويتبع المرتهن الراهن، قال يحيى: وسمعت الحسن بن حي يقول فيمن رهن عبدا ثم أعتقه: العتق جائز، وليس عليه سعاية. برهان ذلك: أن الدين قد ثبت فلا يبطله شيء إلا نص قرآن، أو سنة، فلا سبيل إلى وجود إبطاله فيهما. ولا يجوز تكليف عوض، ولا استسعاء، لأنه لم يأمر الله تعالى بذلك، ولا رسوله ﷺ والذمم بريئة إلا بنص قرآن، أو سنة.

فأما العتق، والبيع، والهبة، والإصداق، والصدقة ; فإن الرهن مال الراهن بلا خلاف: وكل هذه الوجوه مباحة للمرء في ماله بنص القرآن والسنة، والإجماع المتيقن، إلا من لا شيء له غير ذلك لقول النبي ﷺ: كل معروف صدقة وقوله: الصدقة عن ظهر غنى. فمن ادعى أن الأرتهان يمنع شيئا من ذلك فقوله باطل، ودعواه فاسدة إذ لا سبيل له إلى قرآن، ولا سنة، بتصحيح دعواه. قال تعالى: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}. وقد اختلفوا في ذلك: فقال عثمان البتي، وأبو ثور، وأبو سليمان: العتق باطل بكل حال وهو قول عطاء

وقال مالك، والشافعي: إن كان موسرا نفذ عتقه وكلف قيمة يجعلها رهنا مكانه، وإن كان معسرا فالعتق باطل.

وقال أحمد بن حنبل: العتق نافذ على كل حال، فإن كان موسرا كلف قيمته تكون رهنا، وإن كان معسرا لم يكلف قيمته، ولا كلف العبد استسعاء ونفذ العتق.

وقال أبو حنيفة: العتق نافذ بكل حال، ثم قسم كما نذكر بعد هذا.

وقال الشافعي: إن رهن أمة له فوطئها فحملت، فإن كان موسرا خرجت من الرهن وكلف رهنا آخر مكانها، وإن كان معسرا، فمرة قال: تخرج من الرهن، ولا يكلف رهنا مكانها، ولا تكلف هي شيئا ومرة قال: تباع إذا وضعت، ولا يباع الولد، وتكليف رهن آخر: والتفريق هاهنا بين الموسر والمعسر، وبيعها بعد وضعها دون ولدها أقوال فاسدة بلا برهان. وقال أبو ثور: هي خارجة من الرهن، ولا يكلف لا هو، ولا هي شيئا سواء معسرا كان أو موسرا.

وروينا عن قتادة: أنها تباع هي، ويكلف سيدها أن يفتك ولده منها.

قال أبو محمد: افتكاك الولد لا ندري وجهه، ولئن كان مملوكا فلأي معنى يكلف والده افتكاكه وإن كان حرا فلم يباع حتى يحتاج إلى افتكاكه.

وروينا، عن ابن شبرمة: أنها تستسعى وكذلك العبد المرهون إذا أعتق.

قال أبو محمد: وهذا عجب: وما ندري من أين حل أخذ مالهما وتكليفهما غرامة لم يكلفهما الله تعالى قط إياها، ولا رسوله ﷺ وما جعل الله تعالى فيهما شركا للمرتهن فيستسعى له وأما مالك فقال: إن كان موسرا كلف أن يأتي بقيمتها فتكون القيمة رهنا وتخرج هي من الرهن، وإن كان معسرا فإن كانت تخرج إليه وتأتيه فهي خارجة من الرهن، ولا تتبع بغرامة، ولا يكلف هو رهنا مكانها، ولكن يتبع بالدين الذي عليه فقط، وإن كان تسور عليها بيعت هي وأعطي هو ولده منها.

قال أبو محمد: في هذا القول خمسة أوجه من الخطإ: وهي: تفريقه بين المعسر، والموسر، في ذلك والحق عليهما واحد. وتكليفه إحضار قطعة من ماله لترهن لم يعقد قط فيها رهنا. وتفريقه بين خروجها إلى سيدها وبين تسوره عليها. وهما آمنة في كلا الوجهين، وهي مرهونة في كلا الوجهين، وهذا عجب جدا. وبيعه إياها وهي أم ولد، وإخراجه ولدها من حكم الرهن بلا تكليف عوض بخلاف الأم، وكلاهما عنده لا يجوز رهنهما. وكل هذه أوجه فاحشة الخطإ لا متعلق لها فيها بقرآن، ولا سنة، ولا رواية سقيمة، ولا إجماع، ولا دليل، ولا قياس، ولا رأي له وجه، ولا قول صاحب نعم، ولا قول أحد نعلمه قبله.

وقال أبو حنيفة، وأصحابه إن حملت فأقر بحملها، فإن كان موسرا خرجت من الرهن وكلف قضاء الدين إن كان حالا، أو كلف رهنا بقيمتها إن كان إلى أجل. فإن كان معسرا كلفت أن تستسعى في الدين الحال بالغا ما بلغ، ولا ترجع به على سيدها، ولا يكلف ولدها سعاية، فإن كان الدين إلى أجل كلفت أن تستسعى في قيمتها فقط، فجعلت رهنا مكانها، فإذا حل أجل الدين كلفت من ذي قبل أن تستسعى في باقي الدين إن كان أكثر من قيمتها. قالوا: فإن كان السيد استلحق ولدها بعد وضعها له وهو معسر قسم الدين على قيمتها يوم ارتهنها، وعلى قيمة ولدها يوم استلحق، فما أصاب الأم سعت فيه بالغا ما بلغ للمرتهن، ولم ترجع به على سيدها، وما أصاب الولد سعى في الأقل من الدين أو قيمته ورجع به على أبيه ويأخذ المرتهن كل ذلك. قالوا: فلو كان الرهن عبدا فأعتقه نفذ فيه العتق، وخرج من الرهن. فإن كان الراهن موسرا والدين حالا كلف غرم الدين. فإن كان الدين إلى أجل كلف السيد قيمة العبد تكون رهنا مكانه. فإن كان معسرا استسعي العبد في الأقل من قيمته أو الدين، ورجع به على سيده، ورجع المرتهن على الراهن بباقي دينه.

قال أبو محمد: إن في هذه الأقوال لعبرة لمن اعتبر ونعوذ بالله من الخذلان وإن من العجب تفريقه بين ما تستسعى فيه الأم وبين ما يستسعى فيه العبد المعتق، وبين ما يستسعى فيه الولد وهو عنده حر لاحق النسب فما بال أمة خرجت أم ولد من سيدها بوطء مباح. وما بال إنسان حر ابن حر ولد على فراش أبيه. وما بال عبد عتق يكلفون الغرامات دون جناية جنوها، ولا ذنب اقترفوه فتستباح أموالهم بالباطل، ويكلفون ما لم يكلفهم الله تعالى به قط، ولا رسوله عليه السلام، ولا أحد من المسلمين قبل أبي حنيفة ثم يكلفونهم ما ذكرنا، ويسلمون صاحب الجناية عندهم من الغرامة ما شاء الله كان. وكل ما يدخل على مالك مما ذكرنا قبل فإنه يدخل على أبي حنيفة إلا فرق مالك بين خروجها إليه وبين تسوره عليها. ويزيد من التناقض والفساد في قول أبي حنيفة تفريقه بين الدين الحال والمؤجل في ذلك وتفريقه بين ما تكلفه الأم وبين ما يكلفه الولد. وتفريقه بين إقراره بالحمل وبين إقراره بالولد بعد الوضع فيما يكلفه من الأستسعاء في الحالين. وتفريقه بين ما تكلفه أم الولد وبين ما يكلفه العبد بعتق. وتفريقه بين الرجوع مرة على السيد بما غرم الغارم منهم وبين منعهم من الرجوع عليه مرة بذلك. وأغرب من ذلك كله قوله: إن الولد يستسعى، فليت شعري إلى متى بقي هذا الدين المسخوط حتى ولد المحمول به، وحتى فطم، وكبر، وبلغ، وتصرف أفإن مات قبل ذلك ماذا يكون كل هذا بلا دليل أصلا، لا من قرآن، ولا سنة، ولا رواية سقيمة،، ولا قول أحد من ولد آدم قبلهم، ولا قياس أصلا، ولا رأي له وجه ما مثل عقول أنتجت هذه الأقوال بمأمونة على تدبير نواة محرقة، فكيف على التحكم في الدين وإن نعم الله تعالى علينا لعظيمة في توفيقه لنا إلى اتباع كتابه، وسنن رسوله ﷺ. ولا يموهون بأن يقول: قسنا ذلك على الأستسعاء الثابت عن النبي ﷺ في العبد المشترك يعتقه سيده وهو معسر، فإن ذلك الحكم في عبد يملكه اثنان فصاعدا وليس هاهنا مالك غير المعتق عبده والمولد أمته. ولو كان القياس حقا لكان هذا منه عين الباطل، لأنه قياس حكم على ما لا يشبهه، وعلى ما ليس منه في ورود، ولا في صدر قال أبو محمد: ثم نسألهم ما الفرق بين عتقه وهبته وبيعه وإصداقه، إذ أجزتم البيع بغير إجماع، ومنعتم من سائر ذلك

وأما هلاك الرهن بغير فعل الراهن، ولا المرتهن، فللناس فيه خمسة أقوال: قالت طائفة: يترادان الفضل: تفسير ذلك: أن الرهن إن كانت قيمته وقيمة الدين سواء، فقد سقط الدين عن الذي كان عليه، ولا ضمان عليه في الرهن. فإن كانت قيمة الرهن أكثر سقط الدين بمقداره من الرهن وكلف المرتهن أن يؤدي إلى الراهن مقدار ما كان تزيده قيمة الرهن على قيمة الدين. وإن كانت قيمة الرهن أقل سقط من الدين بمقداره وأدى الراهن إلى المرتهن فضل ما زاد الدين على قيمة الرهن.

روينا من طريق الحكم، وقتادة: أن علي بن أبي طالب قال: يتراجعان الفضل يعني في الرهن يهلك.

وروي أيضا، عن ابن عمر وهو قول عبيد الله بن الحسن، وأبي عبيد، وإسحاق بن راهويه.

وقالت طائفة: إن كانت قيمة الرهن أكثر من قيمة الدين أو مثلها فقد بطل الدين كله، ولا غرامة على المرتهن في زيادة قيمة الرهن على قيمة الدين، فإن كانت قيمة الرهن أقل من قيمة الدين سقط من الدين بمقدار قيمة الرهن وأدى الراهن إلى المرتهن ما بقي من دينه:

روينا هذا من طريق مطر الوراق عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عمر بن الخطاب ومن طريق وكيع عن علي بن صالح بن حي عن عبد الأعلى بن عامر عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب: ومن طريق قتادة عن عبد ربه عن أبي عياض عن علي ومن طريق وكيع عن إدريس الأودي عن إبراهيم بن عمير قال: سمعت ابن عمر يقول: مثل ذلك وهو قول إبراهيم النخعي، وقتادة.

وبه يقول أبو حنيفة، وأصحابه.

وقالت طائفة: ذهب الرهن بما فيه سواء كان كقيمة الدين أو أقل أو أكثر إذا تلف سقط الدين، ولا يغرم أحدهما للآخر شيئا صح هذا عن الحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وشريح، والشعبي، والزهري، وقتادة وصح عن طاووس في الحيوان يرتهن وروينا عن النخعي، والشعبي فيمن ارتهن عبدا فأعور عنده قالا: ذهب بنصف دينه.

وقالت طائفة: إن كان الرهن مما يخفى كالثياب، ونحوها، فضمان ما تلف منها على المرتهن بالغة ما بلغت ويبقى دينه بحسبه حتى يؤدي إليه بكماله، وإن كان الرهن مما يظهر كالعقار، والحيوان، فلا ضمان فيه على المرتهن ودينه باق بكماله حتى يؤدي إليه وهو قول مالك.

وقالت طائفة: سواء كان مما يخفى أو مما لا يخفى لا ضمان فيه على المرتهن أصلا ودينه باق بكماله حتى يؤدي إليه وهو قول الشافعي، وأبي ثور، وأحمد بن حنبل، وأبي سليمان، وأصحابهم.

وروينا من طريق الحجاج بن المنهال، حدثنا همام بن يحيى أنا قتادة عن خلاس أن علي بن أبي طالب قال في الرهن: يترادان الفضل فإن أصابته جائحة برئ فصح أن علي بن أبي طالب لم ير تراد الفضل إلا فيما تلف بجناية المرتهن لا فيما أصابته جائحة، بل رأى البراءة له مما أصابته جائحة وصح عن عطاء، أنه قال: الرهن وثيقة إن هلك فليس عليه غرم يأخذ الدين الذي له كله. وعن الزهري، أنه قال في الرهن يهلك أنه لم يذهب حق هذا إنما هلك من رب الرهن له غنمه وعليه غرمه.

قال أبو محمد: أما تفريق مالك بين ما يخفى وبين ما لا يخفى: فقول لا برهان على صحته لا من قرآن، ولا من سنة، ولا من رواية سقيمة، ولا قياس، ولا قول أحد نعلمه قبله فسقط، وإنما بنوه على التهمة ; والتهمة ظن كاذب يأثم صاحبه، ولا يحل القول به، والتهمة متوجهة إلى أحد وفي كل شيء.

وأما قول أبي حنيفة فإنهم احتجوا بخبر مرسل رويناه من طريق سعيد بن المسيب أن رسول الله ﷺ قال: لا يغلق الرهن من صاحبه له غنمه وعليه غرمه، لا يغلق الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه. وقالوا: قد أجمع الصحابة على تضمين الرهن، والمرتهن أمين فيما زاد من قيمة الرهن على قيمة دينه.

قال أبو محمد: أما قولهم: إن المرتهن أمين فيما فضل من قيمة الرهن على قيمة دينه، فدعوى فاسدة، وتفريق بلا دليل، وما هو إلا أمين في الكل أو غير أمين في الكل.

وأما قولهم: أجمع الصحابة على تضمين الرهن، فقول جروا فيه على عادتهم الخفيفة على ألسنتهم من الكذب على الصحابة بلا مؤنة. ويا للمسلمين هل جاء في هذا كلمة عن أحد من الصحابة إلا عن عمر، وعلي، وابن عمر فقط.

فأما عمر فلم يصح عنه ذلك، لأنه من رواية عبيد بن عمير وعبيد لم يولد إلا بعد موت عمر أو أدركه صغيرا لم يسمع منه شيئا.

وأما ابن عمر فلا يصح عنه ; لأنه من رواية إبراهيم بن عمير عنه وهو مجهول وقد روي عنه يترادان الفضل.

وأما علي فمختلف عنه في ذلك، وأصح الروايات عنه إسقاط التضمين فيما أصابته جائحة كما أوردنا آنفا. ثم أعجب شيء دعواهم أن الصحابة أجمعوا على تضمين الرهن، فإن صح ذلك فهم قد خالفوا الإجماع، لأنهم لا يضمنون بعض الرهن وهو ما زاد من قيمته على قيمة الدين فهذا حكمهم على أنفسهم.

وأما الحديث الذي ذكروا فمرسل، ولا حجة في مرسل، ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة أصلا، لأنه لا يدل على شيء من قولهم، ولا تقسيمهم، وإنما مقتضاه لو صح هو أن قول لا يغلق الرهن ممن رهنه بضم الراء وكسر الهاء، له غنمه وعليه غرمه، فوجب ضمان الرهن على المرتهن، ولا بد بخلاف قولهم. وقوله لا يغلق الرهن من صاحبه له غنمه وعليه غرمه إن كان أراد بصاحبه مالكه، وهو الأظهر، فهو يوجب أن خسارته منه، ولا يضمنه له المرتهن، وإن كان أراد بصاحبه المرتهن فهو يوجب ضمانه له بكل حال، فصار حجة عليهم بكل وجه، وبطل قولهم، ونقول لهم: في أي الأصول وجدتم شيئا واحدا رهنا كله عن دين واحد بعضه مضمون وبعضه أمانة وأنتم تردون السنن بخلافها بالأصول بزعمكم ثم تخالفونها جهارا بلا نص.

وأما من قال " يترادان الفضل " فما نعلم لهم حجة أصلا إلا أنه استحسان وكأنه لما كان الرهن مكان الدين تقاصا فيه، وهذا رأي، والدين لا يؤخذ بالآراء.

وأما من قال " ذهبت الرهون بما فيها " فإنهم احتجوا بخبر رويناه من طريق مصعب بن ثابت عن عطاء أن رجلا رهن فرسا فهلك عنده فقال رسول الله ﷺ: ذهب حقك.

قال أبو محمد: هذا مرسل، ومصعب بن ثابت ليس بالقوي.

قال أبو محمد: فإذ قد بطل كل ما موهوا به، فالواجب الرجوع إلى القرآن، والسنة، فوجدنا ما حدثناه أحمد بن قاسم، حدثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم، حدثنا جدي قاسم بن أصبغ حدثني محمد بن إبراهيم حدثني يحيى بن أبي طالب الأنطاكي وجماعة من أهل الثقة، حدثنا نضر بن عاصم الأنطاكي، حدثنا شبابة عن ورقاء، حدثنا أبي ذئب عن الزهري عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لا يغلق الرهن، الرهن لمن رهنه، له غنمه، وعليه غرمه. فهذا مسند من أحسن ما روي في هذا الباب، وادعوا أن أبا عمر المطرز غلام ثعلب، قال: أخطأ من قال: إن الغرم الهلاك.

قال أبو محمد: وقد صح في ذم قوم في القرآن قوله تعالى: {ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما}. أي يراه هالكا بلا منفعة، فالقرآن أولى من رأي المطرز

قال أبو محمد: ووجدنا النبي ﷺ قد قال: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام. فلم يحل لغريم المرتهن شيئا، ولا أن يضمن الرهن بغير نص في تضمينه إلا أن يتعدى فيه، أو بأن يضيعه فيضمنه حينئذ باعتدائه في كلا الوجهين.

وكذلك الدين قد وجب فلا يسقطه ذهاب الرهن.

فصح يقينا من هذين الأصلين الصحيحين بالقرآن، والإجماع، والسنة: أن هلاك الرهن من الراهن، ولا ضمان على المرتهن، وأن دين المرتهن باق بحسبه لازم للراهن وبالله تعالى التوفيق.

وأما ما تولد من الرهن فإننا روينا من طريق عمرو بن دينار: أن معاذ بن جبل قضى فيمن ارتهن أرضا فأثمرت، فإن الثمرة من الرهن.

ومن طريق طاووس: أن في كتاب معاذ " من ارتهن أرضا فهو يحتسب ثمرها لصاحب الرهن ".

قال أبو محمد: الحكمان متضادان، وهما قولان: أحدهما: أن الثمرة لصاحب الرهن والآخر: أنها من الرهن.

وقال أبو حنيفة: الولد، والغلة، والثمرة، رهن مع الأصول. ثم تناقضوا، فقالوا: إن هلك الولد، والغلة، والثمرة: لم يسقط من أجل ذلك من، الدين شيء، وإن هلك الأصل، والأم، والشجر: قسم الدين على ذلك، وعلى النماء، فما وقع للأصل سقط، وما وقع للنماء بقي.

قال أبو محمد: وهذا تناقض فاحش، لأن كل ذلك رهن عندهم، ثم خالفوا بين أحكامها بلا برهان.

وقال مالك: أما الولد فداخل في الرهن، وأما الغلة والثمرة، فخارجان من الرهن وهذا تقسيم فاسد جدا بلا برهان.

فإن قالوا: إن الولد بعض الأم . قلنا: كذب من قال هكذا وكيف يكون بعضها، وقد يكون ذكرا وهي أنثى، ويكون مسلما، وهي كافرة ثم يقال لهم: والثمرة أيضا بعض الشجر دعوى كدعوى.

وقال الشافعي: كل ذلك لصاحب الأصل، ولا يدخل شيء منه في الرهن وهو الحق، لأن الرهن هو ما تعاقدا عليه الصفقة، لا ما لم يتعاقداها عليه، وكل ما ذكرنا شيء لم يتعاقدا الصفقة عليه، فكله غير الأصل، وكله حادث في ملك صاحب الأصل، فكله له وبالله تعالى التوفيق.

1216 - مسألة: فإن مات الراهن أو المرتهن بطل الرهن ووجب رد الرهن إلى الراهن أو إلى ورثته، وحل الدين المؤجل، ولا يكون المرتهن أولى بثمن الرهن من سائر الغرماء حينئذ، وذلك لقول الله تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} فإذا ما مات المرتهن فإنما كان حق الرهن له، لا لورثته، ولا لغرمائه، ولا لأهل وصيته، وإنما تورث الأموال لا الحقوق التي ليست أموالا: كالأمانات، والوكالات، والوصايا وغير ذلك. فإذا سقط حق المرتهن بموته وجب رد الرهن إلى صاحبه. وإذا مات الراهن فإنما كان عقد المرتهن معه لا مع ورثته، وقد سقط ملك الراهن عن الرهن بموته، وانتقل ملكه إلى ورثته أو إلى غرمائه، وهو أحد غرمائه، أو إلى أهل وصيته، ولا عقد للمرتهن معهم، ولا يجوز عقد الميت على غيره فيكون كاسبا عليهم، فالواجب رد متاعهم إليهم، ولقول رسول الله ﷺ: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام. وما نعلم لمن خالف هذا حجة أصلا:

وروينا عن الشعبي فيمن رهن على يدي عدل فمات: أن الرهن له أي لورثته، قال: الحكم هو للغرماء.

1217 - مسألة: ومن ارتهن شيئا فخاف فساده كعصير خيف أن يصير خمرا ففرض عليه أن يأتي الحاكم فيبيعه ويوقف الثمن لصاحبه إن كان غائبا أو ينصف منه الغريم المرتهن إن كان الدين حالا أو يصرف الثمن إلى صاحبه إن كان الدين مؤجلا، فإن لم يمكنه السلطان فليفعل هو ما ذكرنا لقول الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} ولنهي النبي ﷺ عن إضاعة المال، ولأن ثمن الرهن هو غير الرهن، وإنما عقده في الرهن لا في ثمنه، وإنما ثمنه مال من مال مالكه كسائر ماله، ولا فرق وبالله تعالى التوفيق.

1218 - مسألة: ولا يجوز بيع سلعة على أن تكون رهنا عن ثمنها، فإن وقع فالبيع مفسوخ، ولكن يجوز للبائع إمساك سلعته حتى ينتصف من ثمنها إن كان حالا وإلا فليس له ذلك. برهان ذلك: أنه اشترط منع المشتري من قبض ما اشترى مدة مسماة وهذا شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل.

وأيضا: فإن المشتري لا يملك ما اشترى إلا بتمام عقد البيع بينهما، والبيع لا يتم إلا بما نذكره في " كتاب البيوع " إن شاء الله تعالى من التفرق أو التخيير، فهو ما لم يتم البيع فإنما الشيء المبيع ملك للبائع، فإنما اشترطا في المسألة المذكورة كون شيء من مال البائع المرتهن رهنا عنده نفسه وهذا في غاية الفساد، وهو قول الشافعي، وأبي سليمان، وأصحابهما.

وأما إمساك البائع سلعته حتى ينتصف فإن حقه واجب في مال المشتري فإن مطله بحق قد وجب له عنده، فهو ظالم معتد لقول النبي ﷺ: مطل الغني ظلم، وإذ هو ظالم فكل ظالم معتد.

وقال تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} فالسلعة التي ابتاع مال من مال المشتري فللمطول بحقه المعتدى عليه أن يعتدي على المعتدي عليه بمثل ما اعتدى عليه به نص القرآن، فله إمساك السلعة حتى ينتصف.

روينا من طريق محمد بن عبد السلام الخشني، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا هشيم، وسفيان الثوري، قال سفيان الثوري: عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي أن عمرو بن حريث قال فيمن باع سلعة فنقده المشتري بعض الثمن، فقال البائع: لا أعطيك السلعة حتى تجيء بالبقية، فجعل عمرو بن حريث السلعة رهنا بما بقي. وقال هشيم عن داود بن أبي هند عن الشعبي: أن عروة بن المغيرة بن شعبة جعل في ذلك أيضا السلعة رهنا بما بقي فهذا عمرو صاحب لا يعرف له في هذا مخالف من الصحابة.

1219 - مسألة: ولا يكون حكم الرهن إلا لما ارتهن في نفس عقد التداين، وأما ما ارتهن بعد تمام العقد فليس له حكم الرهن، ولراهنه أخذه متى شاء، لأن الله تعالى لم يجعل الرهن إلا في العقد كما تلونا وكل ما كان بعد ذلك فهو شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل.

1220 - مسألة: ومن تداين فرهن في العقد رهنا صحيحا، ثم بعد ذلك تداينا أيضا وجعلا ذلك الرهن رهنا عن هذا الدين الثاني، فالعقد الثاني باطل مردود، لأن ذلك الرهن قد صح في العقد الأول، فلا يجوز نقله إلى عقد آخر، إذ لم يوجب ذلك قرآن، ولا سنة، فهو شرع ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، وكل عقد انعقد على باطل فهو باطل، لأنه لم تعقد له صحة إلا بصحة ما لا صحة له، فلا صحة له وبالله تعالى التوفيق.

1221 - مسألة: ومن رهن رهنا صحيحا ثم أنصف من بعض دينه أقله أو أكثره فأراد أن يخرج عن الرهن بقدر ما أدى، لم يكن له ذلك، لأن الرهن وقع في جميعه بجميع الدين فلا يسقط عن بعض الرهن حكم الرهن من أجل سقوط بعض الدين، إذ لم يوجب ذلك قرآن، ولا سنة. هو قول الشافعي، وأصحابنا.

فإن قيل: كيف تمنعون من إخراج الرهن إلا برضا المرتهن، وتجيزون بيعه وعتقه والصدقة به، وهو إخراج له عن الرهن بغير إذن المرتهن

قلنا: لأن النص جاء بإيجاب الرهن فليس له إبطال ما صححه الله تعالى فإذا أخرجه عن ملكه جملة، فلم يمنعه الله تعالى من ذلك قط، لا في قرآن، ولا سنة، فإذا صار في ملك غيره فقد قال تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} وعقد المرتهن لم يكن قط مع الذي انتقل إليه الملك، فلا يجوز له ارتهان ماله عن غيره. ونقول لهم: إن جميعكم يعني المالكيين، والحنفيين، والشافعيين مجمعون على أن من قال لعبده: أنت حر إذا قدم أبي أنه قد عقد فيه عقدا لا يحل له الرجوع فيه أبدا، وأنه حر متى قدم أبوه، ثم لا خلاف بينكم في جواز بيعه قبل أن يأتي أبوه وإصداقه، وهبته، فأي فرق بين الأمرين إن أنصفتم أنفسكم.