→ فصل في تفسير أول ما أنزل اقرأ باسم ربك الذي خلق | مجموع فتاوى ابن تيمية – التفسير فصل في نسيان الإنسان ابن تيمية |
فصل في تفسير قوله تعالى الذي خلق خلق الإنسان من علق ← |
فصل في نسيان الإنسان
وهذا النسيان نسيان الإنسان لنفسه ولما في نفسه حصل بنسيانه لربه ولما أنزله. قال تعالى: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [1]، وقال تعالى في حق المنافقين: { نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ } [2]، وقال: { كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } [3].
وقوله: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } ، يقتضي أن نسيان الله كان سببًا لنسيانهم أنفسهم، وأنهم لما نسوا الله عاقبهم بأن أنساهم أنفسهم.
ونسيانهم أنفسهم يتضمن إعراضهم وغفلتهم وعدم معرفتهم بما كانوا عارفين به قبل ذلك من حال أنفسهم، كما أنه يقتضي تركهم لمصالح أنفسهم. فهو يقتضي أنهم لا يذكرون أنفسهم ذكرًا ينفعها ويصلحها، وأنهم لو ذكروا الله لذكروا أنفسهم.
وهذا عكس ما يقال: «من عرف نفسه عرف ربه». وبعض الناس يروى هذا عن النبي ﷺ، وليس هذا من كلام النبي ﷺ، ولا هو في شيء من كتب الحديث، ولا يعرف له إسناد.
ولكن يروى في بعض الكتب المتقدمة إن صح «يا إنسان، اعرف نفسك، تعرف ربك». وهذا الكلام سواء كان معناه صحيحا أو فاسدًا لا يمكن الاحتجاج بلفظه، فإنه لم يثبت عن قائل معصوم. لكن إن فسر بمعنى صحيح عرف صحة ذلك المعنى، سواء دل عليه هذا اللفظ أو لم يدل.
وإنما القول الثابت ما في القرآن، وهو قوله: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } . فهو يدل على أن نسيان الرب موجب لنسيان النفس.
وحينئذ، فمن ذكر الله ولم ينسه، يكون ذاكرًا لنفسه، فإنه لو كان ناسيا لها سواء ذكر الله أو نسيه لم يكن نسيانها مسببا عن نسيان الرب. فلما دلت الآية على أن نسيان الإنسان نفسه مسبب عن نسيانه لربه، دل على أن الذاكر لربه لا يحصل له هذا النسيان لنفسه.
والذكر يتضمن ذكر ما قد علمه، فمن ذكر ما يعلمه من ربه ذكر ما يعلمه من نفسه. وهو قد ولد على الفطرة التي تقتضى أنه يعرف ربه ويحبه ويوحده. فإذا لم ينس ربه الذي عرفه، بل ذكره على الوجه الذي يقتضي محبته ومعرفته وتوحيده، ذكر نفسه، فأبصر ما كان فيها قبل من معرفة الله ومحبته وتوحيده.
وأهل البدع الجهمية ونحوهم لما أعرضوا عن ذكر الله الذكر المشروع الذي كان في الفطرة وجاءت به الشرعة، الذي يتضمن معرفته ومحبته وتوحيده نسوا الله من هذا الوجه. فأنساهم أنفسهم من هذا الوجه، فنسوا ما كان في أنفسهم من العلم الفطري، والمحبة الفطرية، والتوحيد الفطري.
وقد قال طائفة من المفسرين: { نَسُواْ اللهَ }، أي: تركوا أمر الله { فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ }، أي: حظوظ أنفسهم حيث لم يقدموا لها خيرًا، هذا لفظ طائفة منهم البغوى ولفظ آخرين منهم ابن الجوزي: حين لم يعملوا بطاعته. وكلاهما قال: { نَسُواْ اللهَ } أي: تركوا أمر الله.
ومثل هذا التفسير يقع كثيرًا في كلام من يأتى بمجمل من القول يبين معنى دلت عليه الآية ولا يفسرها بما يستحقه من التفسير. فإن قولهم: تركوا أمر الله. هو تركهم للعمل بطاعته، فصار الأول هو الثاني. والله سبحانه قال: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } [4]، فهنا شيئان: نسيانهم لله، ثم نسيانهم لأنفسهم الذي عوقبوا به.
فإن قيل: هذا الثاني هو الأول لكنه تفصيل مجمل، كقوله: { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [5]، وهذا هو هذا، قيل: هو لم يقل: نسوا الله فنسوا حظ أنفسهم حتى يقال: هذا هو هذا، بل قال: { نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } ، فثم إنساء منه لهم أنفسهم. ولو كان هذا هو الأول لكان قد ذكر ما يعذرهم به، لا ما يعاقبهم به.
فلو كان الثاني هو الأول لكان: { نَسُواْ اللهَ }، أي: تركوا العمل بطاعته، فهو الذي أنساهم ذلك. ومعلوم فساد هذا الكلام لفظًا ومعنى.
ولو قيل: { نَسُواْ اللهَ }، أي: نسوا أمره، { فَأَنسَاهُمْ } العمل بطاعته، أي: تذكرها، لكان أقرب، ويكون النسيان الأول على بابه. فإن من نسى نفس أمر الله لم يطعه.
ولكن هم فسروا نسيان الله بترك أمره. وأمره الذي هو كلامه ليس مقدورًا لهم حتى يتركوه، إنما يتركون العمل به، فالأمر بمعنى المأمور به.
إلا أن يقال: مرادهم بترك أمره هو ترك الإيمان به. فلما تركوا الإيمان أعقبهم بترك العمل. وهذا أيضا ضعيف، فإن الإيمان الذي تركوه إن كان هو ترك التصديق فقط فكفي بهذا كفرًا وذنبًا. فلا تجعل العقوبة ترك العمل به، بل هذا أشد. وإن كان المراد بترك الإيمان، ترك الإيمان تصديقًا وعملا، فهذا هو ترك الطاعة كما تقدم.
وهؤلاء أتوا من حيث أرادوا أن يفسروا نسيان العبد بما قيل في نسيان الرب، وذاك قد فسر بالترك. ففسروا هذا بالترك. وهذا ليس بجيد، فإن النسيان المناقض للذكر جائز على العبد بلا ريب. والإنسان يعرض عما أمر به حتى ينساه، فلا يذكره. فلا يحتاج أن يجعل نسيانه تركًا مع استحضار وعلم.
وأما الرب تعالى فلا يجوز عليه ما يناقض صفات كماله سبحانه وتعالى وفي تفسير نسيانه الكفار بمجرد الترك نظر.
ثم هذا قيل في قوله تعالى: { كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا } [6]. أي: تركت العمل بها. وهنا قال: { نَسُواْ اللهَّ }، ولا يقال في حق الله: تركوه.
هامش