→ المجلد السادس والعشرون | مجموع فتاوى ابن تيمية المجلد السابع والعشرون ابن تيمية |
المجلد الثامن والعشرون ← |
☰ جدول المحتويات
- الزيارة وشد الرحال إليها
- فصل زيارة بيت المقدس
- فصل في العبادات المشروعة وغير المشروعة في المسجد الأقصى
- فصل ليس في بيت المقدس مكان يقصد للعبادة سوى المسجد الأقصى
- فصل في زيارة معابد الكفار مثل القُمَامة أو بيت لحم أو صهيون أو كنائس النصارى
- فصل ليس ببيت المقدس مكان يسمى حرما
- فصل زيارة بيت المقدس
- فصل السفر إلى عسقلان
- سئل عن زيارة القدس وقبر الخليل عليه السلام
- سئل هل الأفضل المجاورة بمكة أو بمسجد النبي أو المسجد الأقصى
- فصل قوله من زار قبري فقد وجبت له شفاعتي
- سئل عن قوله من حج فلم يزرني فقد جفاني
- سئل عن مكة هل هي أفضل من المدينة أم بالعكس
- سئل عن التربة التي دفن فيها النبي هل هي أفضل من المسجد الحرام
- سئل عمن قال إن تربة محمد النبي أفضل من السموات والأرض
- سئل هل تفضل الإقامة في الشام على غيره من البلاد
- سئل عن رجلين اختلفا في الصلاة في جامع بني أمية هل هي بتسعين صلاة
- سئل هل دخلت عائشة زوج النبي إلى دمشق
- سئل عن جبل لبنان هل ورد في فضله نص في كتاب الله تعالى أو حديث
- فصل جبل لبنان كان ثغرا
- فصل ليس في جبل لبنان الأربعين الأبدال
- سئل عمن يزور القبور ويستنجد بالمقبور في مرض به
- فصل سؤال المقبور والاستنجاد به
- وسئل عن هؤلاء الزائرين قبور الأنبياء والصالحين كقبر الخليل وغيره
- سئل عمن يقول إن الدعاء المستجاب عند قبور أربعة
- فصل فيما حكي أنه إذا نزل بك حادث أو أمر تخافه فاستوحنى
- فصل قول القائل من قرأ آية الكرسي واستقبل جهة الشيخ عبد القادر الجيلاني
- فصل قول من قال إن الله ينظر إلى الفقراء فى ثلاثة مواطن
- فصل وما يفعله بعض الناس من تحرى الصلاة والدعاء عند ما يقال إنه قبر نبي
- فصل هل للدعاء خصوصية قبول أو سرعة إجابة بوقت معين
- فصل هل يجوز أن يستغيث إلى الله فى الدعاء بنبى مرسل
- فصل هل يجوز تعظيم مكان فيه خلوق وزعفران
- فصل الأشجار والأحجار والعيون ونحوها مما ينذر لها
- فصل ليس فى شريعة الإسلام بقعة تقصد لعبادة
- فصل عسقلان والاسكندرية ثغور
- فصل قصد الصلاة والدعاء عندما يقال إنه قدم نبي
- فصل قول القائل إذا عثر يا جاه محمد
- فصل النذر للقبور
- سئل عمن يأتي إلى قبر بعض الأنبياء فيدعوه لكشف كربته
- فصل النهي عن اتخاذ القبور مساجد
- فتيا ابن تيمية في السفر لزيارة قبور
- فصل مختصر في الرد على الأخنائي
- فصل ظنه أن زيارة قبر الرسول من جنس الزيارة المعهودة في قبر غيره
- فصل متى بنيت المساجد الثلاثة
- فصل في كتاب الجواب الباهر
- طلبه من السلطان النظر في فتواه وانصافه
- فصل أن السفر إلى مسجده وزيارة قبره في مناسك الحج عمل صالح مستحب
- لم يسافرأحد من الصحابة إلى قبر الخليل عليه السلام بالشام
- نهى الله أن يشرك به الملائكة والأنبياء وغيرهم
- لا يجوز تغيير واحد من هذه المساجد الثلاثة عن موضعه
- السفر إلى البقاع المعظمة من جنس الحج عند أهل الشرك
- جميع الأنبياء كانوا على دين الإسلام
- ما اتفق عليه المسلمون فهو حق جاء به الرسول
- تنازع المسلمون في زيارة القبور
- وكان أصحابه خير القرون وكانوا إذا دخلوا إلى مسجده لا يذهب أحد منهم إلى قبره
- السلام على النبي نوعان
- وقد اتفق المسلمون على أنه تشرع الصلاة عليه في الصلاة قبل الدعاء
- أما صلاة غيره على غيره منفردا
- والمقصود هنا أن سلام التحية عند اللقاء في المحيا
- والأعمال تفضل بنيات أصحابها
- فتبين أن الأمن من عذاب الله وحصول السعادة إنما هو بطاعته
- والمقام بالثغور للجهاد أفضل من سكني الحرمين
- فصل ولاة الأمر أحق الناس بنصر دين الرسول
- فصل في قبور الأنبياء
- سئل عن قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
- سئل هل المشاهد المسماة باسم على بن أبي طالب وولده الحسين صحيحة
- سئل عن المشهد المنسوب إلى الحسين بمدينة القاهرة
- سئل عن الزيارة إلى قبر الحسين وإلى السيدة نفيسة
- سئل عن نسبة بعض القبور لأصحابها
- سئل عمن يأخذون أضحيتهم فيذبحونها بالقرافة
- سئل عن رجل غدا إلى التكروري يتفرج فغرق هل هو عاص أم شهيد
- سئل هل في هذه الأمة أقوام صالحون غيبهم الله عن الناس لا يراهم إلا من أرادوا
- سئل عن تعبد النبي ما هو وكيف كان قبل مبعثه
- فصل قصد الصلاة والدعاء والعبادة في مكان لم يقصد الأنبياء فيه الصلاة والعبادة
- فصل في مناقب الشام وأهلها
الزيارة وشد الرحال إليها
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
فصل زيارة بيت المقدس
في زيارة بيت المقدس ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا)، وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد وأبي هريرة، وقد روى من طرق أخرى، وهو حديث مستفيض متلقى بالقبول، أجمع أهل العلم على صحته وتلقيه بالقبول والتصديق.
واتفق علماء المسلمين على استحباب السفر إلى بيت المقدس للعبادة المشروعة فيه، كالصلاة، والدعاء، والذكر، وقراءة القرآن، والاعتكاف. وقد روى من حديث رواه الحاكم في صحيحه: (أن سليمان عليه السلام سأل ربه ثلاثًا: ملكًا لا ينبغى لأحد من بعده، وسأله حكمًا يوافق حكمه، وسأله أنه لا يؤم أحد هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه إلا غُفِرَ له)، ولهذا كان ابن عمر رضى الله عنه يأتي إليه في صلى فيه ولا يشرب فيه ماء؛ لتصيبه دعوة سليمان لقوله: (لا يريد إلا الصلاة فيه)، فإن هذا يقتضي إخلاص النية في السفر إليه، ولا يأتيه لغرض دنيوي ولا بدعة.
وتنازع العلماء فيمن نذر السفر إليه في الصلاة فيه أو الاعتكاف فيه: هل يجب عليه الوفاء بنذره؟ على قولين مشهورين، وهما قولان للشافعي:
أحدهما: يجب الوفاء بهذا النذر، وهو قول الأكثرين، مثل مالك، وأحمد بن حنبل، وغيرهما.
والثاني: لا يجب، وهو قول أبي حنيفة، فإن من أصله أنه لا يجب النذر إلا ما كان جنسه واجبًا بالشرع، فلهذا يوجب نذر الصلاة والصيام والصدقة والحج والعمرة، فإن جنسها واجب بالشرع ولا يوجب نذر الاعتكاف، فإن الاعتكاف لا يصح عنده إلا بصوم، وهو مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه.
وأما الأكثرون، فيحتجون بما رواه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنه قال: (من نذر أن يُطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يَعْصي الله فلا يَعْصه). فأمر النبي ﷺ بالوفاء بالنذر لكل من نذر أن يطيع الله، ولم يشترط أن تكون الطاعة من جنس الواجب بالشرع، وهذا القول أصح.
وهكذا النزاع لو نذر السفر إلى مسجد النبي ﷺ، مع أنه أفضل من المسجد الأقصى. وأما لو نذر إتيان المسجد الحرام لحج أو عمرة، وجب عليه الوفاء بنذره باتفاق العلماء.
والمسجد الحرام أفضل المساجد، ويليه مسجد النبي ﷺ، ويليه المسجد الأقصى، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (صَلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاةٍ فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام).
والذي عليه جمهور العلماء: أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل منها في مسجد النبي ﷺ، وقد روى أحمد والنسائي وغيرهما عن النبي ﷺ: (إن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة). وأما في المسجد الأقصى، فقد روى أنها بخمسين صلاة، وقيل: بخمسمائة صلاة، وهو أشبه.
ولو نذر السفر إلى قبر الخليل عليه السلام أو قبر النبي ﷺ، أو إلى الطور، الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام أو إلى جبل حراء الذي كان النبي ﷺ يتعبد فيه وجاءه الوحى فيه، أو الغار المذكور في القرآن، وغير ذلك من المقابر والمقامات والمشاهد المضافة إلى بعض الأنبياء والمشائخ، أو إلى بعض المغارات، أو الجبال، لم يجب الوفاء بهذا النذر، باتفاق الأئمة الأربعة، فإن السفر إلى هذه المواضع منهى عنه؛ لنهى النبي ﷺ: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد). فإذا كانت المساجد التى هي من بيوت الله التى أمر فيها بالصلوات الخمس قد نهى عن السفر إليها، حتى مسجد قباء الذي يستحب لمن كان بالمدينة أن يذهب إليه، لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ؛ أنه كان يأتي قباء كل سبت راكبًا وماشيًا. وروى الترمذى وغيره أن النبي ﷺ قال: (من تطهر في بيته فأحسن الطهور، ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه، كان له كعمرة). قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
فإذا كان مثل هذا ينهى عن السفر إليه، وينهى عن السفر إلى الطور المذكور في القرآن، وكما ذكر مالك المواضع التى لم تبن للصلوات الخمس؛ بل ينهى عن اتخاذها مساجد، فقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال في مرض موته: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا آثار أنبيائهم مساجد) يحذر ما فعلوا قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا. وفي صحيح مسلم وغيره عن النبي ﷺ أنه قال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)؛ ولهذا لم يكن الصحابة يسافرون إلى شيء من مشاهد الأنبياء لا مشهد إبراهيم الخليل عليه السلام ولا غيره، والنبي ﷺ ليلة المعراج صلى في بيت المقدس ركعتين كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح ولم يصل في غيره. وأما ما يرويه بعض الناس من حديث المعراج أنه صلى في المدينة، و صلى عند قبر موسى عليه السلام و صلى عند قبر الخليل، فكل هذه الأحاديث مكذوبة موضوعة.
وقد رَخّص بعض المتأخرين في السفر إلى المشاهد، ولم ينقلوا ذلك عن أحد من الأئمة ولا احتجوا بحجة شرعية.
فصل في العبادات المشروعة وغير المشروعة في المسجد الأقصى
والعبادات المشروعة في المسجد الأقصى هي من جنس العبادات المشروعة في مسجد النبي ﷺ وغيره من سائر المساجد إلا المسجد الحرام، فإنه يشرع فيه زيادة على سائر المساجد بالطواف بالكعبة، واستلام الركنين اليمانيين، وتقبيل الحجر الأسود، وأما مسجد النبي ﷺ والمسجد الأقصى وسائر المساجد، فليس فيها ما يطاف به، ولا فيها ما يتمسح به، ولا ما يُقَبّل، فلا يجوز لأحد أن يطوف بحجرة النبي ﷺ، ولا بغير ذلك من مقابر الأنبياء والصالحين، ولا بصخرة بيت المقدس، ولا بغير هؤلاء، كالقبة التي فوق جبل عرفات وأمثالها، بل ليست في الأرض مكان يطاف به كما يطاف بالكعبة.
ومن اعتقد أن الطواف بغيرها مشروع؛ فهو شر ممن يعتقد جواز الصلاة إلى غير الكعبة، فإن النبي ﷺ لما هاجر من مكة إلى المدينة صلى بالمسلمين ثمانية عشر شهرًا إلى بيت المقدس، فكانت قبلة المسلمين هذه المدة، ثم إن الله حَوَّل القبلة إلى الكعبة، وأنزل الله في ذلك القرآن كما ذكر في سورة البقرة، و صلى النبي ﷺ والمسلمون إلى الكعبة، وصارت هي القبلة وهي قبلة إبراهيم، وغيره من الأنبياء.
فمن اتخذ الصخرة اليوم قبلة يصلى إليها، فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، مع أنها كانت قبلة لكن نُسخ ذلك، فكيف بمن يتخذها مكانًا يطاف به كما يطاف بالكعبة؟! والطواف بغير الكعبة لم يشرعه الله بحال، وكذلك من قصد أن يسوق إليها غنمًا أو بقرًا ليذبحها هناك ويعتقد أن الأضحية فيها أفضل، وأن يحلق فيها شعره في العيد، أو أن يسافر إليها ليعرف بها عشية عرفة، فهذه الأمور التي يشبه بها بيت المقدس في الوقوف والطواف والذبح والحلق من البدع والضلالات، ومن فعل شيئًا من ذلك معتقدًا أن هذا قربة إلى الله، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، كما لو صلى إلى الصخرة معتقدًا أن استقبالها في الصلاة قربة كاستقبال الكعبة؛ ولهذا بنى عمر بن الخطاب مصلى المسلمين في مقدم المسجد الأقصى.
فإن المسجد الأقصى اسم لجميع المسجد الذي بناه سليمان عليه السلام، وقد صار بعض الناس يسمى الأقصى المصلى الذي بناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مقدمه، والصلاة في هذا الم صلى الذى بناه عمر للمسلمين أفضل من الصلاة في سائر المسجد؛ فإن عمر بن الخطاب لما فتح بيت المقدس وكان على الصخرة زبالة عظيمة؛ لأن النصارى كانوا يقصدون إهانتها مقابلة لليهود الذين يصلون إليها، فأمر عمر رضي الله عنه بإزالة النجاسة عنها، وقال لكعب الأحبار: أين ترى أن نبني مصلى المسلمين؟ فقال: خلف الصخرة، فقال: يا بن اليهودية، خالطتك يهودية، بل أبنيه أمامها، فإن لنا صدور المساجد. ولهذا كان أئمة الأمة إذا دخلوا المسجد قصدوا الصلاة في الم صلى الذي بناه عمر، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه صلى في محراب داود.
وأما الصخرة فلم يصلى عندها عمر رضي الله عنه، ولا الصحابة ولا كان على عهد الخلفاء الراشدين عليها قبة، بل كانت مكشوفة في خلافة عمر وعثمان وعلى ومعاوية ويزيد ومروان، ولكن لما تولى ابنه عبد الملك الشام، ووقع بينه وبين ابن الزبير الفتنة، كان الناس يحجون فيجتمعون بابن الزبير، فأراد عبد الملك أن يصرف الناس عن ابن الزبير فبنى القبة على الصخرة، وكساها في الشتاء والصيف، ليرغب الناس في زيارة بيت المقدس، ويشتغلوا بذلك عن اجتماعهم بابن الزبير، وأما أهل العلم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فلم يكونوا يعظمون الصخرة فإنها قبلة منسوخة، كما أن يوم السبت كان عيدًا في شريعة موسى عليه السلام ثم نسخ في شريعة محمد ﷺ بيوم الجمعة، فليس للمسلمين أن يخصوا يوم السبت ويوم الأحد بعبادة كما تفعل اليهود والنصارى، وكذلك الصخرة إنما يعظمها اليهود وبعض النصارى.
وما يذكره بعض الجهال فيها من أن هناك أثر قدم النبي ﷺ، وأثر عمامته، وغير ذلك، فكله كذب، وأكذب منه من يظن أنه موضع قدم الرب. وكذلك المكان الذي يذكر أنه مهد عيسى عليه السلام كذب، وإنما كان موضع معمودية النصارى. وكذا من زعم أن هناك الصراط والميزان، أو أن السور الذي يضرب به بين الجنة والنار هو ذلك الحائط المبني شرقي المسجد. وكذلك تعظيم السلسلة، أو موضعها ليس مشروعًا.
فصل ليس في بيت المقدس مكان يقصد للعبادة سوى المسجد الأقصى
وليس في بيت المقدس مكان يقصد للعبادة سوى المسجد الأقصى، لكن إذا زار قبور الموتى وسلم عليهم وترحم عليهم كما كان النبي ﷺ يعلم أصحابه فحسن، فإن النبي ﷺ كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمؤمنات، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، الله م لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم).
فصل في زيارة معابد الكفار مثل القُمَامة أو بيت لحم أو صهيون أو كنائس النصارى
وأما زيارة معابد الكفار مثل الموضع المسمى بالقُمَامة أو بيت لحم أو صهيون أو غير ذلك، مثل كنائس النصارى، فمنهي عنها. فمن زار مكانًا من هذه الأمكنة معتقدًا أن زيارته مستحبة، والعبادة فيه أفضل من العبادة في بيته، فهو ضال، خارج عن شريعة الإسلام يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وأما إذا دخلها الإنسان لحاجة وعرضت له الصلاة فيها، فللعلماء فيها ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، قيل: تكره الصلاة فيها مطلقًا، واختاره ابن عقيل، وهو منقول عن مالك. وقيل: تباح مطلقًا. وقيل: إن كان فيها صور نهى عن الصلاة وإلا فلا، وهذا منصوص عن أحمد وغيره، وهو مروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره، فإن النبي ﷺ قال: (لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة)، ولما فتح النبي ﷺ مكة كان في الكعبة تماثيل، فلم يدخل الكعبة حتى محيت تلك الصور. والله أعلم.
فصل ليس ببيت المقدس مكان يسمى حرما
وليس ببيت المقدس مكان يسمى حرمًا ولا بتربة الخليل، ولا بغير ذلك من البقاع إلا ثلاثة أماكن: أحدها: هو حرم باتفاق المسلمين، وهو حرم مكة شرفها الله تعالى. والثإني: حرم عند جمهور العلماء، وهو حرم النبي ﷺ من عير إلى ثور، بريد في بريد، فإن هذا حرم عند جمهور العلماء كمالك، والشافعي، وأحمد وفيه أحاديث صحيحة مستفيضة عن النبي ﷺ. والثالث: وج وهو واد بالطائف، فإن هذا روى فيه حديث رواه أحمد في المسند، وليس في الصحاح، وهذا حرم عند الشافعي؛ لاعتقاده صحة الحديث، وليس حرمًا عند أكثر العلماء، وأحمد ضعف الحديث المروي فيه فلم يأخذ به. وأما ما سوى هذه الأماكن الثلاثة، فليس حرمًا عند أحد من علماء المسلمين، فإن الحرم: ما حرم الله صيده ونباته، ولم يحرم الله صيد مكان ونباته خارجًا عن هذه الأماكن الثلاثة.
فصل زيارة بيت المقدس
وأما زيارة بيت المقدس، فمشروعة في جميع الأوقات، ولكن لا ينبغى أن يؤتى في الأوقات التي تقصدها الضلال، مثل وقت عيد النحر، فإن كثيرًا من الضُّلال يسافرون إليه ليقفوا هناك، والسفر إليه لأجل التعريف به معتقدًا أن هذا قربة، محرم بلا ريب، وينبغي ألا يتشبه بهم، ولا يكثر سوادهم.
وليس السفر إليه مع الحج قربة. وقول القائل: قدس الله حجتك. قول باطل لا أصل له كما يروى: (من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له الجنة)، فإن هذا كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث، بل وكذلك كل حديث يروى في زيارة قبر النبي ﷺ فإنه ضعيف، بل موضوع، ولم يروى أهل الصحاح والسنن والمسانيد كمسند أحمد وغيره من ذلك شيئًا؛ ولكن الذي في السنن: ما رواه أبو داود عن النبي ﷺ أنه قال: (ما من رجل يسلم عليَّ إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام). فهو يرد السلام على من سلم عليه عند قبره، ويبلغ سلام من سلم عليه من البعيد، كما في النسائى عنه أنه قال: (إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام). وفي السنن عنه أنه قال: (أكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي). قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: (إن الله قد حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء). فبين ﷺ أن الصلاة والسلام توصل إليه من البعيد. والله قد أمرنا أن ن صلى عليه ونسلم. وثبت في الصحيح أنه قال: (من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه بها عشرًا)، ﷺ تسليمًا كثيرًا.
فصل السفر إلى عسقلان
وأما السفر إلى عسقلان في هذه الأوقات فليس مشروعًا لا واجبًا، ولا مستحبًا؛ ولكن عسقلان كان لسكناها وقصدها فضيلة لما كانت ثغرًا للمسلمين يقيم بها المرابطون في سبيل الله، فإنه قد ثبت في صحيح مسلم عن سلمان عن النبي ﷺ أنه قال: (رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطًا مات مجاهدًا، وأجرى عليه عمله، وأجرى عليه رزقه من الجنة وأمن الفتان). وقال أبو هريرة: لأن أرابط ليلة في سبيل الله، أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود. وكان أهل الخير والدين يقصدون ثغور المسلمين للرباط فيها ثغور الشام: كعسقلان، وعكة، وطرطوس، وجبل لبنان، وغيرها، وثغور مصر: كالإسكندرية وغيرها، وثغور العراق: كعبادان وغيرها فما خرب من هذه البقاع ولم يبق بيوتًا كعسقلان لم يكن ثغورًا ولا في السفر إليه فضيلة، وكذلك جبل لبنان وأمثاله من الجبال لا يستحب السفر إليه، وليس فيه أحد من الصالحين المتبعين لشريعة الإسلام، ولكن فيه كثير من الجن، وهم رجال الغيب الذين يرون أحيانًا في هذه البقاع، قال تعالى: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } [1] وكذلك الذين يرون الخضر أحيانًا هو جنى رآه، وقد رآه غير واحد ممن أعرفه، وقال إنني الخضر، وكان ذلك جنيًا لبس على المسلمين الذين رأوه؛ وإلا فالخضر الذي كان مع موسى عليه السلام مات، ولو كان حيًا على عهد رسول الله ﷺ لوجب عليه أن يأتي إلى النبي ﷺ ويؤمن به ويجاهد معه؛ فإن الله فرض على كل أحد أدرك محمدًا ولو كان من الأنبياء أن يؤمنوا به ويجاهدوا معه، كما قال تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ } [2]، قال ابن عباس رضى الله عنهما: لم يبعث الله نبيًا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حى ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، ولم يذكر أحد من الصحابة أنه رأى الخضر، ولا أنه أتى إلى النبي ﷺ، فإن الصحابة كانوا أعلم وأجل قدرًا من أن يلبس الشيطان عليهم؛ ولكن لبس على كثير ممن بعدهم، فصار يتمثل لأحدهم في صورة النبي، ويقول: أنا الخضر وإنما هو شيطان، كما أن كثيرًا من الناس يرى ميته خرج وجاء إليه وكلمه في أمور وقضاء حوائج فيظنه الميت نفسه، وإنما هو شيطان تصور بصورته، وكثير من الناس يستغيث بمخلوق إما نصرإني كجرجس، أو غير نصراني، فيراه قد جاءه، وربما يكلمه، وإنما هو شيطان تصور بصورة ذلك المستغاث به لما أشرك به المستغيث تصور له، كما كانت الشياطين تدخل في الأصنام وتكلم الناس، ومثل هذا موجود كثير في هذه الأزمان في كثير من البلاد، ومن هؤلاء من تحمله الشياطين فتطير به في الهواء إلى مكان بعيد، ومنهم من تحمله إلى عرفة فلا يحج حجًا شرعيًا، ولا يحرم ولا يلبى ولا يطوف ولا يسعى؛ ولكن يقف بثيابه مع الناس، ثم يحملونه إلى بلده. وهذا من تلاعب الشياطين بكثير من الناس، كما قد بسط الكلام في غير هذا الموضع، والله أعلم بالصواب، و صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
سئل عن زيارة القدس وقبر الخليل عليه السلام
وَسُئِل رَحمه الله عن زيارة القدس وقبر الخليل عليه السلام وما في أكل الخبز والعدس من البركة، ونقله من بلد إلى بلد للبركة، وما في ذلك من السنة والبدعة.
فأجاب:
الحمد لله، أما السفر إلى بيت المقدس للصلاة فيه، والاعتكاف أو القراءة أو الذكر، أو الدعاء، فمشروع مستحب، باتفاق علماء المسلمين. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ من حديث أبي هريرة وأبي سعيد أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا). والمسجد الحرام ومسجد رسول الله ﷺ أفضل منه. وفي الصحيحين عنه أنه قال: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام).
وأما السفر إلى مجرد زيارة قبر الخليل أو غيره من مقابر الأنبياء والصالحين ومشاهدهم وآثارهم، فلم يستحبه أحد من أئمة المسلمين، لا الأربعة ولا غيرهم؛ بل لو نذر ذلك ناذر لم يجب عليه الوفاء بهذا النذر عن الأئمة الأربعة وغيرهم؛ بخلاف المساجد الثلاثة، فإنه إذا نذر السفر إلى المسجد الحرام لحج أو عمرة لزمه ذلك باتفاق الأئمة، وإذا نذر السفر إلى المسجدين الآخرين لزمه السفر عند أكثرهم كمالك وأحمد والشافعي في أظهر قوليه؛ لقول النبي ﷺ: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه). رواه البخاري. وإنما يجب الوفاء بنذر كل ما كان طاعة؛ مثل من نذر صلاة، أو صومًا، أو اعتكافًا، أو صدقة لله، أو حجًا.
ولهذا لا يجب بالنذر السفر إلى غير المساجد الثلاثة؛ لأنه ليس بطاعة لقول النبي ﷺ: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد). فمنع من السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة، فغير المساجد أولى بالمنع؛ لأن العبادة في المساجد أفضل منها في غير المسجد وغير البيوت بلا ريب، ولأنه قد ثبت في الصحيح عنه ﷺ أنه قال: (أحب البقاع إلى الله المساجد)، مع أن قوله: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) يتناول المنع من السفر إلى كل بقعة مقصودة، بخلاف السفر للتجارة، وطلب العلم، ونحو ذلك. فإن السفر لطلب تلك الحاجة حيث كانت، وكذلك السفر لزيارة الأخ في الله فإنه هو المقصود حيث كان.
وقد ذكر بعض المتأخرين من العلماء: أنه لا بأس بالسفر إلى المشاهد، واحتجوا بأن النبي ﷺ كان يأتي قباء كل سبت راكبًا وماشيًا. أخرجاه في الصحيحين، ولا حجة لهم فيه؛ لأن قباء ليست مشهدًا، بل مسجد، وهي منهى عن السفر إليها باتفاق الأئمة؛ لأن ذلك ليس بسفر مشروع، بل لو سافر إلى قباء من دويرة أهله لم يجز، ولكن لو سافر إلى المسجد النبوي ثم ذهب منه إلى قباء فهذا يستحب، كما يستحب زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد.
وأما أكل الخبز والعدس المصنوع عند قبر الخليل عليه السلام فهذا لم يستحبه أحد من العلماء، لا المتقدمين ولا المتأخرين، ولا كان هذا مصنوعًا لا في زمن الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا بعد ذلك إلى خمسمائة سنة من البعثة، حتى أخذ النصارى تلك البلاد. ولم تكن القبة التي على قبره مفتوحة، بل كانت مسدودة، ولا كان السلف من الصحابة والتابعين يسافرون إلى قبره ولا قبر غيره، لكن لما أخذ النصارى تلك البلاد فسووا حجرته واتخذوها كنيسة، فلما أخذ المسلمون البلاد بعد ذلك اتخذ ذلك من اتخذه مسجدًا، وذلك بدعة منهى عنها، لما ثبت في الصحيح عنه ﷺ أنه قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما فعلوا. وفي الصحيح عنه أنه قال قبل موته بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك).
ثم وقف بعض الناس وقفًا للعدس والخبز، وليس هذا وقفًا من الخليل، ولا من أحد من بنى إسرائيل، ولا من النبي ﷺ ولا من خلفائه، بل قد روى عن النبي ﷺ أنه أطلق تلك القرية للدارميين. ولم يأمرهم أن يطعموا عند مشهد الخليل عليه السلام لا خبزًا ولا عدسًا، ولا غير ذلك. فمن اعتقد أن الأكل من هذا الخبز والعدس مستحب شرعه النبي ﷺ، فهو مبتدع ضال، بل من اعتقد أن العدس مطلقًا فيه فضيلة فهو جاهل. والحديث الذي يروى: (كلوا العدس فإنه يرق القلب، وقد قدس فيه سبعون نبيًا)، حديث مكذوب مختلق باتفاق أهل العلم. ولكن العدس هو مما اشتهاه اليهود. وقال الله تعالى لهم: { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } [3].
ومن الناس من يتقرب إلى الجن بالعدس فيطبخون عدسًا ويضعونه في المراحيض، أو يرسلونه، ويطلبون من الشياطين بعض ما يطلب منهم، كما يفعلون مثل ذلك في الحمام، وغير ذلك، وهذا من الإيمان بالجبت والطاغوت.
وجماع دين الإسلام: أن يعبد الله وحده لا شريك له، ويعبد بما شرعه سبحانه وتعالى على لسان نبيه محمد ﷺ: من الواجبات، والمستحبات، والمندوبات. فمن تعبد بعبادة ليست واجبة، ولا مستحبة فهو ضال، والله أعلم.
سئل هل الأفضل المجاورة بمكة أو بمسجد النبي أو المسجد الأقصى
هل الأفضل المجاورة بمكة، أو بمسجد النبي ﷺ؟ أو المسجد الأقصى، أؤ بثَغْر من الثغور لأجل الغزو، وفيما يروى عن النبي ﷺ: (من زار قبري وجبت له شفاعتي)، و(من زار البيت ولم يزرني فقد جفاني) ؟ وهل زيارة النبي ﷺ على وجه الاستحباب أم لا؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، المرابطة بالثغور أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة، كما نص على ذلك أئمة الإسلام عامة، بل قد اختلفوا في المجاورة: فكرهها أبو حنيفة، واستحبها مالك وأحمد وغيرهما، ولكن المرابطة عندهم أفضل من المجاورة، وهذا متفق عليه بين السلف، حتى قال أبو هريرة رضى الله عنه: لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود. وذلك أن الرباط من جنس الجهاد، وجنس الجهاد مقدم على جنس الحج، كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قيل له: أى العمل أفضل؟ قال: (الإيمان بالله ورسوله). قيل: ثم ماذا؟ قال: (جهاد في سبيل الله). قيل: ثم ماذا؟ قال: (حج مبرور). وقد قال تعالى: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [4].
وأما قوله: (من زار قبري وجبت له شفاعتي): فهذا الحديث رواه الدارقطني فيما قيل بإسناد ضعيف، ولهذا ذكره غير واحد من الموضوعات، ولم يروه أحد من أهل الكتب المعتمد عليها من كتب الصحاح والسنن والمسانيد.
وأما الحديث الآخر: قوله: (من حج البيت ولم يزرنى فقد جفإني)، فهذا لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث، بل هو موضوع على رسول الله ﷺ، ومعناه مخالف للإجماع؛ فإن جفاء الرسول ﷺ من الكبائر، بل هو كفر ونفاق، بل يجب أن يكون أحب إلينا من أهلينا وأموالنا، كما قال ﷺ: (والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين).
وأما زيارته فليست واجبة باتفاق المسلمين، بل ليس فيها أمر في الكتاب ولا في السنة، وإنما الأمر الموجود في الكتاب والسنة بالصلاة عليه والتسليم. فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. وأكثر ما اعتمده العلماء في الزيارة قوله في الحديث الذي رواه أبو داود: (ما من مسلم يُسلِّم عَلَىَّ، إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام). وقد كره مالك وغيره أن يقال: زرت قبر النبي ﷺ. وقد كان الصحابة كابن عمر وأنس وغيرهما يسلمون عليه ﷺ وعلى صاحبيه، كما في الموطأ: أن ابن عمر كان إذا دخل المسجد يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت.
وشد الرحل إلى مسجده مشروع باتفاق المسلمين، كما في الصحيحين عنه أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا). وفي الصحيحين عنه أنه قال: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام). فإذا أتى مسجد النبي ﷺ فإنه يسلم عليه وعلى صاحبيه، كما كان الصحابة يفعلون.
وأما إذا كان قصده بالسفر زيارة قبر النبي دون الصلاة في مسجده، فهذه المسألة فيها خلاف. فالذي عليه الأئمة وأكثر العلماء أن هذا غير مشروع، ولا مأمور به؛ لقوله ﷺ: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى). ولهذا لم يذكر العلماء أن مثل هذا السفر إذا نذره يجب الوفاء به، بخلاف السفر إلى المساجد الثلاثة لا للصلاة فيها والاعتكاف، فقد ذكر العلماء وجوب ذلك في بعضها في المسجد الحرام وتنازعوا في المسجدين الآخرين.
فالجمهور يوجبون الوفاء به في المسجدين الآخرين؛ كمالك والشافعي وأحمد؛ لكون السفر إلى الفاضل لا يغنى عن السفر إلى المفضول. وأبو حنيفة إنما يوجب السفر إلى المسجد الحرام؛ بناء على أنه إنما يوجب بالنذر ما كان جنسه واجبًا بالشرع. والجمهور يوجبون الوفاء بكل ما هو طاعة؛ لما في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنه قال: (من نَذَر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه). بل قد صرح طائفة من العلماء كابن عقيل وغيره بأن المسافر لزيارة قبور الأنبياء عليهم السلام وغيرها لا يقصر الصلاة في هذا السفر؛ لأنه معصية، لكونه معتقدًا أنه طاعة وليس بطاعة، والتقرب إلى الله عز وجل بما ليست بطاعة هو معصية؛ ولأنه نهى عن ذلك والنهي يقتضي التحريم.
ورخص بعض المتأخرين في السفر لزيارة القبور، كما ذكر أبو حامد في الإحياء وأبو الحسن ابن عبدوس، وأبو محمد المقدسي، وقد روى حديثًا رواه الطبرإني من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: (من جاءني زائرًا لا تنزعه إلا زيارتي كان حقًا على أن أكون له شفيعًا يوم القيامة). لكنه من حديث عبد الله بن عبد الله بن عمر العمري، وهو مضعف؛ ولهذا لم يحتج بهذا الحديث أحد من السلف والأئمة. وبمثله لا يجوز إثبات حكم شرعي باتفاق علماء المسلمين، والله أعلم.
فصل قوله من زار قبري فقد وجبت له شفاعتي
وقال الشيخ رحمه الله:
وأما قوله: (من زار قبري فقد وجبت له شفاعتي) وأمثال هذا الحديث مما روي في زيارة قبره ﷺ فليس منها شىء صحيح، ولم يرو أحد من أهل الكتب المعتمدة منها شيئا: لا أصحاب الصحيح: كالبخاري، ومسلم. ولا أصحاب السنن: كأبي داود، والنسائي. ولا الأئمة من أهل المسانيد؛ كالإمام أحمد وأمثاله، ولا اعتمد على ذلك أحد من أئمة الفقه، كمالك والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وأبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وأمثالهم، بل عامة هذه الأحاديث مما يعلم أنها كذب موضوعة، كقوله: (من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة)، وقوله: (من حج ولم يزرني فقد جفاني)، فإن هذه الأحاديث ونحوها كذب.
والحديث الأول رواه الدارقطني والبزار في مسنده، ومداره على عبد الله بن عبد الله ابن عمر العمري، وهو ضعيف، وليس عن النبي ﷺ في زيارة قبره ولا قبر الخليل حديث ثابت أصلا، بل إنما اعتمد العلماء على أحاديث السلام والصلاة عليه، كقوله ﷺ: (ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام). رواه أبو داود وغير. وقوله ﷺ: (إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام). رواه النسائي. وقوله ﷺ: (أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة، وليلة الجمعة؛ فإن صلاتكم معروضة علي)، قالوا: كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء). رواه أبو داود وغيره.
وقد كره مالك أن يقول الرجل: زرت قبر النبي ﷺ. قالوا: لأن لفظ الزيارة قد صارت في عرف الناس تتضمن ما نهى عنه، فإن زيارة القبور على وجهين: وجه شرعي، ووجه بدعى.
فالزيارة الشرعية: مقصودها السلام على الميت والدعاء له، سواء كان نبيا، أو غير نبى. ولهذا كان الصحابة إذا زاروا النبي ﷺ يسلمون عليه، ويدعون له، ثم ينصرفون، ولم يكن أحد منهم يقف عند قبره ليدعو لنفسه؛ولهذا كره مالك وغيره ذلك، وقالوا: إنه من البدع المحدثة. ولهذا قال الفقهاء: إذا سلم المسلم عليه وأراد الدعاء لنفسه لا يستقبل القبر، بل يستقبل القبلة، وتنازعوا وقت السلام عليه: هل يستقبل القبلة أو يستقبل القبر؟ فقال أبو حنيفة: يستقبل القبلة. وقال مالك والشافعي وأحمد: يستقبل القبر. وهذا لقوله ﷺ: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد)، وقوله ﷺ: (لا تتخذوا قبري عيدا)، وقوله ﷺ: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، يحذر ما فعلوا، وقوله ﷺ: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك).
ولهذا اتفق السلف على أنه لا يستلم قبرا من قبور الأنبياء وغيرهم، ولا يتمسح به، ولا يستحب الصلاة عنده، ولا قصده للدعاء عنده أو به؛ لأن هذه الأمور كانت من أسباب الشرك وعبادة الأوثان، كما قال تعالى: { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } [5]. قال طائفة من السلف: هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، فعبدوهم.
وهذه الأمور ونحوها هي من الزيارة البدعية، وهي من جنس دين النصارى والمشركين، وهو أن يكون قصد الزائر أن يستجاب دعاؤه عند القبر، أو أن يدعو الميت ويستغيث به ويطلب منه، أو يقسم به على الله في طلب حاجاته، وتفريج كرباته. فهذه كلها من البدع التي لم يشرعها النبي ﷺ، ولا فعلها أصحابه. وقد نص الأئمة على النهى عن ذلك، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
ولهذا لم يكن أحد من الصحابة يقصد زيارة قبر الخليل، بل كانوا يأتون إلى بيت المقدس فقط طاعة للحديث الذي ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ من غير وجه أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدى هذا).
ولهذا اتفق أئمة الدين على أن العبد لو نذر السفر إلى زيارة قبر الخليل، والطور الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام أو جبل حراء ونحو ذلك، لم يجب عليه الوفاء بنذره، وهل عليه كفارة يمين؟ على قولين؛ لأن النبي ﷺ قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه).
والسفر إلى هذه البقاع معصية في أظهر القولين، حتى صرح من يقول: إن الصلاة لا تقصر في سفر المعصية بأن صاحب هذا السفر لا يقصر الصلاة، ولو نذر إتيان المسجد الحرام لوجب عليه الوفاء بالاتفاق. ولو نذر إتيان مسجد المدينة، أو بيت المقدس ففيه قولان للعلماء. أظهرهما: وجوب الوفاء به، كقول مالك وأحمد والشافعي في أحد قوليه. والثانى: لا يجب عليه الوفاء به، كقول أبي حنيفة والشافعي في قوله الآخر، وهذا بناء على أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع، والصحيح وجوب الوفاء بكل نذر هو طاعة؛ لقول النبي ﷺ: (من نذر أن يطيع الله فليطعه)، ولم يستثن طاعة من طاعة.
والمقصود هنا أن الصحابة لم يكونوا يستحبون السفر لشيء من زيارات البقاع: لا آثار الأنبياء، ولا قبورهم، ولا مساجدهم؛ إلا المساجد الثلاثة، بل إذا فعل بعض الناس شيئا من ذلك أنكر عليه غيره، كما أنكروا على من زار الطور الذي كلم الله عليه موسى، حتى إن (غار حراء) الذي كان النبي ﷺ يتعبد فيه قبل المبعث لم يزره هو بعد المبعث ولا أحد من أصحابه، وكذا الغار المأثور في القرآن.
وثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان في بعض الأسفار، فرأى قوما يتناوبون مكانا يصلون فيه، فقال: ما هذا؟ قالوا: مكان صلى فيه رسول ﷺ. فقال: ومكان صلى فيه رسول الله ﷺ؟! أتريدون أن تتخذوا أثر الأنبياء لكم مساجد؟! إنما هلك من كان قبلكم بهذا. من أدركته الصلاة فليصل، وإلا فليمض. وهذا لأن الله لم يشرع للمسلمين مكانا يتناوبونه للعبادة إلا المساجد خاصة، فما ليس بمسجد لم يشرع قصده للعبادة، وإن كان مكان نبى أو قبر نبى.
ثم إن المساجد حرم رسول الله ﷺ أن تتخذ على قبور الأنبياء والصالحين، كما قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك). وهذان حديثان في الصحيح. وفي المسند، وصحيح أبي حاتم عن النبي ﷺ أنه قال: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد). بل قد كره الصلاة في المقبرة عموما؛ لما في ذلك من التشبه بمن يتخذ القبور مساجد، كما في السنن عنه أنه قال: (الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة، والحمام). وهذه المعاني قد نص عليها أئمة الدين من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأهل العراق وغيرهم، بل ذلك منقول عن أنس.
سئل عن قوله من حج فلم يزرني فقد جفاني
فأجاب:
قوله: (من حج ولم يزرني فقد جفاني) كذب؛ فإن جفاء النبي ﷺ حرام وزيارة قبره ليست واجبة باتفاق المسلمين، ولم يثبت عنه حديث في زيارة قبره، بل هذه الأحاديث التي تروي: (من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة)، وأمثال ذلك كذب باتفاق العلماء. وقد روي الدارقطني وغيره في زيارة قبره أحاديث، وهي ضعيفة. وقد كره مالك وهو من أعلم الناس بحقوق رسول الله ﷺ وبالسنة التي عليها أهل مدينته من الصحابة والتابعين وتابعيهم كره أن يقال: زرت قبر رسول الله ﷺ. ولو كان هذا اللفظ ثابتا عن رسول الله ﷺ معروفا عند علماء المدينة لم يكره مالك ذلك. وأما إذا قال: سلمت على رسول الله ﷺ، فهذا لا يكره بالاتفاق، كما في السنن عنه ﷺ أنه قال: (ما من رجل يسلم على إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام). وكان ابن عمر يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت! وفي سنن أبي داود عنه أنه قال: (أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة على)، قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ قال: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء).
سئل عن مكة هل هي أفضل من المدينة أم بالعكس
فأجاب:
الحمد لله، مكة أفضل لما ثبت عن عبد الله بن عدي بن الحمراء عن النبي ﷺ أنه قال لمكة وهو واقف بالحزورة: (والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما خرجت). قال الترمذي: حديث صحيح. وفي رواية: (إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله). فقد ثبت أنها خير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله وإلى رسوله. وهذا صريح في فضلها. وأما الحديث الذي يروي: (أخرجتني من أحب البقاع إلى فاسكنى أحب البقاع إليك)، فهذا حديث موضوع كذب لم يروه أحد من أهل العلم، والله أعلم.
سئل عن التربة التي دفن فيها النبي هل هي أفضل من المسجد الحرام
وَسُئِلَ عن التربة التي دفن فيها النبي ﷺ: هل هي أفضل من المسجد الحرام؟
فأجاب:
وأما التربة التي دفن فيها النبي ﷺ فلا أعلم أحدا من الناس قال: إنها أفضل من المسجد الحرام، أو المسجد النبوي أو المسجد الأقصى، إلا القاضي عياض، فذكر ذلك إجماعا، وهو قول لم يسبقه إليه أحد فيما علمناه. ولا حجة عليه، بل بدن النبي ﷺ أفضل من المساجد.
وأما ما فيه خلق أو ما فيه دفن، فلا يلزم إذا كان هو أفضل أن يكون ما منه خلق أفضل؛ فإن أحدا لا يقول: إن بدن عبد الله أبيه أفضل من أبدان الأنبياء، فإن الله يخرج الحي من الميت، والميت من الحي. ونوح نبى كريم، وابنه المغرق كافر، وإبراهيم خليل الرحمن، وأبوه آزر كافر.
والنصوص الدالة على تفضيل المساجد مطلقة، لم يستثن منها قبور الأنبياء، ولا قبور الصالحين. ولو كان ما ذكره حقا لكان مدفن كل نبى، بل وكل صالح، أفضل من المساجد التي هي بيوت الله، فيكون بيوت المخلوقين أفضل من بيوت الخالق التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وهذا قول مبتدع في الدين، مخالف لأصول الإسلام.
سئل عمن قال إن تربة محمد النبي أفضل من السموات والأرض
وَسُئِلَ أيضا عن رجلين تجادلا فقال أحدهما: إن تربة محمد النبي ﷺ أفضل من السموات والأرض. وقال الآخر: الكعبة أفضل. فمع من الصواب؟
فأجاب:
الحمد لله، أما نفس محمد ﷺ فما خلق الله خلقا أكرم عليه منه، وأما نفس التراب فليس هو أفضل من الكعبة البيت الحرام، بل الكعبة أفضل منه، ولا يعرف أحد من العلماء فضل تراب القبر على الكعبة إلا القاضي عياض، ولم يسبقه أحد إليه، ولا وافقه أحد عليه، والله أعلم.
سئل هل تفضل الإقامة في الشام على غيره من البلاد
وسُئِلَ رحمه الله: ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين؟ هل تفضل الإقامة في الشام على غيره من البلاد؟ وهل جاء في ذلك نص في القرآن أو الأحاديث أم لا؟ أجيبونا مأجورين.
فأجاب شيخ الإسلام والمسلمين ناصر السنة تقي الدين:
الحمد لله، الإقامة في كل موضع تكون الأسباب فيه أطوع لله ورسوله، وأفعل للحسنات والخير، بحيث يكون أعلم بذلك، وأقدر عليه، وأنشط له أفضل من الإقامة في موضع يكون حاله فيه في طاعة الله ورسوله دون ذلك. هذا هو الأصل الجامع، فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم.
والتقوي هى: ما فسرها الله تعالى في قوله: { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } إلى قوله: { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [6]، وجماعها فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله. وإذا كان هذا هو الأصل فهذا يتنوع بتنوع حال الإنسان. فقد يكون مقام الرجل في أرض الكفر والفسوق من أنواع البدع والفجور أفضل؛ إذا كان مجاهدا في سبيل الله بيده أو لسانه، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، بحيث لو انتقل عنها إلى أرض الإيمان والطاعة لقلت حسناته، ولم يكن فيها مجاهدا، وإن كان أروح قلبا. وكذلك إذا عدم الخير الذي كان يفعله في أماكن الفجور والبدع.
ولهذا كان المقام في الثغور بنية المرابطة في سبيل الله تعالى، أفضل من المجاورة بالمساجد الثلاثة باتفاق العلماء؛ فإن جنس الجهاد أفضل من جنس الحج، كما قال تعالى: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } الآية [7]. وسئل النبي ﷺ: أي الأعمال أفضل؟ قال: (إيمان بالله ورسوله، وجهاد في سبيله). قال: ثم ماذا؟ قال: (حج مبرور).
وهكذا لو كان عاجزا عن الهجرة والانتقال إلى المكان الأفضل التي لو انتقل إليها لكانت الطاعة عليه أهون، وطاعة الله ورسوله في الموضعين واحدة، لكنها هناك أشق عليه. فإنه إذا استوت الطاعتان فأشقهما أفضلهما، وبهذا ناظر مهاجرة الحبشة المقيمون بين الكفار لمن زعم أنه أفضل منهم، فقالوا: كنا عند البغضاء البعداء، وأنتم عند رسول الله ﷺ: يعلم جاهلكم، ويطعم جائعكم، وذلك في ذات الله.
وأما إذا كان دينه هناك أنقص فالانتقال أفضل له، وهذا حال غالب الخلق، فإن أكثرهم لا يدافعون، بل يكونون على دين الجمهور. وإذا كان كذلك، فدين الإسلام بالشام في هذه الأوقات وشرائعه أظهر منه بغيره. هذا أمر معلوم بالحس والعقل، وهو كالمتفق عليه بين المسلمين العقلاء الذين أوتوا العلم والإيمان، وقد دلت النصوص على ذلك؛ مثل ما روي أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ: (ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم). وفي سننه أيضا عن عبد الله بن حوالة، عن النبي ﷺ قال: (إنكم ستجندون أجنادا: جندا بالشام، وجندا باليمن، وجندا بالعراق، فقال ابن حوالة: يا رسول الله، اختر لى، فقال: عليك بالشام؛ فإنها خيرة الله من أرضه يجتبى إليه خيرته من خلقه، فمن أبي فليلحق بيمنه، وليتق من غدره، فإن الله قد تكفل لى بالشام وأهله). وكان الحوالي يقول: من تكفل الله به فلا ضيعة عليه. وهذان نصان في تفضيل الشام.
وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: (لايزال أهل المغرب ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعة). قال الإمام أحمد: أهل المغرب هم أهل الشام، وهو كما قال: فإن هذه لغة أهل المدينة النبوية في ذاك الزمان، كانوا يسمون أهل نجد والعراق أهل المشرق، ويسمون أهل الشام أهل المغرب؛ لأن التغريب والتشريق من الأمور النسبية، فكل مكان له غرب وشرق؛ فالنبي ﷺ تكلم بذلك في المدينة النبوية، فما تغرب عنها فهو غربه، وما تشرق عنها فهو شرقه.
ومن علم حساب البلاد أطوالها وعروضها علم أن المعاقل التي بشاطئ الفرات كالبيرة ونحوها هي محاذية للمدينة النبوية، كما أن ما شرق عنها بنحو من مسافة القصر كحرام وما سامتها مثل الرقة وسميساط فإنه محاذ أم القرى مكة شرفها الله. ولهذا كانت قبلته هو أعدل القبل، فما شرق عما حاذى المدينة النبوية فهو شرقها، وما يغرب ذلك فهو غربها.
وفي الكتب المعتمد عليها مثل مسند أحمد وغيره عدة آثار عن النبي ﷺ في هذا الأصل: مثل وصفه أهل الشام (بأنه لا يغلب منافقوهم مؤمنيهم). وقوله: (رأيت كأن عمود الكتاب وفي رواية: عمود الإسلام أخذ من تحت رأسي، فأتبعته نظري فذهب به إلى الشام). وعمود الكتاب والإسلام ما يعتمد عليه، وهم حملته القائمون به. ومثل قوله ﷺ: (عقر دار المؤمنين الشام). ومثل ما في الصحيحين عن معاذ بن جبل، عن النبي ﷺ أنه قال: (لاتزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة).
وفيهما أيضا عن معاذ بن جبل قال: (وهم بالشام). وفي تاريخ البخاري قال: (وهم بدمشق). وروي: (وهم بأكناف بيت المقدس). وفي الصحيحين أيضا عن ابن عمر، عن النبي ﷺ: أنه أخبر (أن ملائكة الرحمن مظلة أجنحتها بالشام).
والآثار في هذا المعنى متعاضدة، ولكن الجواب ليس على البديهة على عجل.
وقد دل الكتاب والسنة وما روي عن الأنبياء المتقدمين عليهم السلام مع ما علم بالحس والعقل وكشوفات العارفين: أن الخلق والأمر ابتدءا من مكة أم القرى، فهي أم الخلق، وفيها ابتدئت الرسالة المحمدية التي طبق نورها الأرض، وهي جعلها الله قياما للناس: إليها يصلون، ويحجون، ويقوم بها ما شاء الله من مصالح دينهم ودنياهم، فكان الإسلام في الزمان الأول ظهوره بالحجاز أعظم، ودلت الدلائل المذكورة على أن ملك النبوة بالشام، والحشر إليها. فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر. وهناك يحشر الخلق. والإسلام في آخر الزمان يكون أظهر بالشام. وكما أن مكة أفضل من بيت المقدس، فأول الأمة خير من آخرها. وكما أنه في آخر الزمان يعود الأمر إلى الشام، كما أسرى بالنبي ﷺ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. فخيار أهل الأرض في آخر الزمان ألزمهم مهاجر إبراهيم عليه السلام وهو بالشام. فالأمر مساسه كما هو الموجود والمعلوم.
وقد دل القرآن العظيم على بركة الشام في خمس آيات: قوله: { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } [8]، والله تعالى إنما أورث بني إسرائيل أرض الشام، وقوله: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [9]، وقوله: { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } [10]، وقوله: { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } [11]، وقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً } [12]. فهذه خمس آيات نصوص. والبركة تتناول البركة في الدين، والبركة في الدنيا. وكلاهما معلوم لا ريب فيه، فهذا من حيث الجملة والغالب.
وأما كثير من الناس فقد يكون مقامه في غير الشام أفضل له، كما تقدم. وكثير من أهل الشام لو خرجوا عنها إلى مكان يكونون فيه أطوع لله ولرسوله لكان أفضل لهم. وقد كتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي رضي الله عنهما يقول له: هلم إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحدا، وإنما يقدس الرجل عمله. وهو كما قال سلمان الفارسي؛ فإن مكة حرسها الله تعالى أشرف البقاع، وقد كانت في غربة الإسلام دار كفر وحرب يحرم المقام بها، وحرم بعد الهجرة أن يرجع إليها المهاجرون فيقيموا بها، وقد كانت الشام في زمن موسى عليه السلام قبل خروجه ببني إسرائيل دار الصابئة المشركين الجبابرة الفاسقين، وفيها قال تعالى لبني إسرائيل: { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } [13].
فإن كون الأرض دار كفر أو دار إسلام أو إيمان أو دار سلم أو حرب أو دار طاعة، أو معصية أو دار المؤمنين أو الفاسقين، أوصاف عارضة، لا لازمة. فقد تنتقل من وصف إلى وصف، كما ينتقل الرجل بنفسه من الكفر إلى الإيمان والعلم، وكذلك بالعكس.
وأما الفضيلة الدائمة في كل وقت ومكان ففي الإيمان والعمل الصالح، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } الآية [14]. وقال تعالى { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ } الآية [15]. وقال تعال: { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا } [16]. وإسلام الوجه لله تعالى هو إخلاص القصد والعمل له والتوكل عليه. كما قال تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [17]. وقال: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [18]، وقال تعالى: { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [19].
ومنذ أقام الله حجته على أهل الأرض بخاتم رسله محمد عبده ورسوله ﷺ، وجب على أهل الأرض الإيمان به وطاعته، واتباع شريعته ومنهاجه. فأفضل الخلق أعلمهم، وأتبعهم لما جاء به: علما، وحالا، وقولا، وعملا، وهم أتقى الخلق. وأي مكان وعمل كان أعون للشخص على هذا المقصود كان أفضل في حقه، وإن كان الأفضل في حق غيره شيئا آخر. ثم إذا فعل كل شخص ما هو أفضل في حقه، فإن تساوت الحسنات والمصالح التى حصلت له مع ما حصل للآخر فهما سواء، وإلا فإن أرجحهما في ذلك هو أفضلهما.
وهذه الأوقات يظهر فيها من النقص في خراب المساجد الثلاثة علما وإيمانا، ما يتبين به فضل كثير ممن بأقصى المغرب على أكثرهم. فلا ينبغى للرجل أن يلتفت إلى فضل البقعة في فضل أهلها مطلقا، بل يعطى كل ذي حق حقه، ولكن العبرة بفضل الإنسان في إيمانه وعمله الصالح والكلم الطيب، ثم قد يكون بعض البقاع أعون على بعض الأعمال كإعانة مكة حرسها الله تعالى على الطواف والصلاة المضعفة ونحو ذلك. وقد يحصل في الأفضل معارض راجح يجعله مفضولا؛ مثل من يجاور بمكة مع السؤال والاستشراف، والبطالة عن كثير من الأعمال الصالحة، وكذلك من يطلب الإقامة بالشام لأجل حفظ ماله وحرمة نفسه، لا لأجل عمل صالح، فالأعمال بالنيات.
وهذا الحديث الشريف إنما قاله النبي ﷺ بسبب الهجرة فقال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه). قال ذلك بسبب أن رجلا كان قد هاجر يتزوج امرأة يقال لها: أم قيس، وكان يقال له: مهاجر أم قيس.
وإذا فضلت جملة على جملة لم يستلزم ذلك تفضيل الأفراد على الأفراد، كتفضيل القرن الثانى على الثالث، وتفضيل العرب على ما سواهم، وتفضيل قريش على ما سواهم. فهذا هذا، والله أعلم.
سئل عن رجلين اختلفا في الصلاة في جامع بني أمية هل هي بتسعين صلاة
وَسُئِلَ رحمه الله: عن رجلين اختلفا في الصلاة في جامع بني أمية: هل هي بتسعين صلاة، كما زعموا أم لا؟
وقد ذكروا: (أن فيه ثلاثمائة نبي مدفونين)، فهل ذلك صحيح أم لا؟ وقد ذكروا: (أن النائم بالشام كالقائم بالليل بالعراق)، وذكروا: (أن الصائم المتطوع بالعراق كالمفطر بالشام)، وذكروا: (أن الله خلق البركة إحدى وسبعين جزءا، منها جزء واحد بالعراق، وسبعون بالشام)، فهل ذلك صحيح أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، لم يرد في جامع دمشق حديث عن النبي ﷺ بتضعيف الصلاة فيه، ولكن هو من أكثر المساجد ذكرا لله تعالى. ولم يثبت أن فيه عدد الأنبياء المذكورين.
وأما القائم بالشام أو غيره فالأعمال بالنيات؛ فإن أقام فيه بنية صالحة فإنه يثاب على ذلك. وكل مكان يكون فيه العبد أطوع لله فمقامه فيه أفضل، وقد جاء في فضل الشام وأهله أحاديث صحيحة، ودل القرآن على أن البركة في أربع مواضع، ولا ريب أن ظهور الإسلام وأعوانه فيه بالقلب واليد واللسان أقوى منه في غيره، وفيه من ظهور الإيمان وقمع الكفر والنفاق ما لا يوجد في غيره. وأما ما ذكر: من حديث الفطر والصيام، وأن البركة إحدى وسبعون جزءا بالشام، والعراق على ما ذكر: فهذا لم نسمعه عن أحد من أهل العلم، والله أعلم.
سئل هل دخلت عائشة زوج النبي إلى دمشق
وَسُئِلَ أيضا: هل دخلت عائشة زوج النبي ﷺ إلى دمشق، وكانت تحدث الناس بجامع دمشق أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، لم يدخل دمشق أحد من أزواج النبي ﷺ، لا عائشة ولا غيرها، والله أعلم.
سئل عن جبل لبنان هل ورد في فضله نص في كتاب الله تعالى أو حديث
وَسُئِلَ رحمه الله تعالى عن جبل لبنان: هل ورد في فضله نص في كتاب الله تعالى، أو حديث عن رسول الله ﷺ؟ وهل يحل في دين الله تعالى أن يصقع الناس إليه برؤوسهم إذا أبصروه؟ وحتى من أبصره صباحا أو مساء يرى أن ذلك بركة عظيمة؟ وهل ثبت عند أهل العلم أن فيه أربعين من الأبدال؟ أو كان فيه رجال عليهم شعر مثل شعر الماعز؟ وهل هذه صفة الصالحين؟ وهل يجوز أن يعقد له نية الزيارة؟ أو يعتقد أن من وطئ أرضه فقد وطئ بعض الجبل المخصوص بالرحمة؟ وهل ثبت أن فيه نبيا من الأنبياء مدفون أو في أذياله؟ أو قال أحد من أهل العلم: إن فيه رجال الغيب؟ وكيف صفة رجال الغيب الذين يعتقد العوام فيهم؟ وهل يحل في دين الله تعالى أن يعتقد المسلمون شيئا من هذا؟ وهل يكون كل من كابر فيه وحسنه أو داهن فيه مخطئا آثما؟ وهل يكون المنكر لهذا كله من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والحالة هذه أم لا؟
فأجاب:
ليس في فضل جبل لبنان وأمثاله نص لا عن الله ولا عن رسوله، بل هو وأمثاله من الجبال التي خلقها الله وجعلها أوتادا للأرض، وآية من آياته، وفيها من منافع خلقه ما هو نعم لله على عباده. وسوف يفعل بها ما أخبر به في قوله: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا } [20].
وأما ما ذكر في بعض الحكايات عن بعض الناس من الاجتماع ببعض العباد في جبل لبنان، وجبل اللكام، ونحو ذلك، وما يؤثر عن بعض هؤلاء من جميع المقال والفعال، فأصل ذلك: أن هذه الأمكنة كانت ثغورا يرابط بها المسلمون لجهاد العدو؛ لما كان المسلمون قد فتحوا الشام كله وغير الشام، فكانت غزة، وعسقلان، وعكة، وبيروت، وجبل لبنان، وطرابلس، ومصيصة، وسيس، وطرسوس وأذنة، وجبل اللكام، وملطية، وآمد، وجبل ليسون، إلى قزوين إلى الشاش، ونحو ذلك من البلاد، كانت ثغورا، كما كانت الإسكندرية ونحوها ثغورا، وكذلك عبادان ونحوها من أرض العراق. وكان الصالحون يتناوبون الثغور لأجل المرابطة في سبيل الله، فإن المقام بالثغور لأجل الجهاد في سبيل الله أفضل من المجاورة بمكة والمدينة، ما أعلم في ذلك خلافا بين العلماء.
وثبت في صحيح مسلم عن سلمان الفارسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطا مات مجاهدا، وجرى عليه عمله، وأجرى عليه رزقه من الجنة، وأمن الفتان). وفي السنن عن عثمان ابن عفان رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: (رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: لأن أرابط ليلة في سبيل الله، أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود.
وذلك لأن الرباط هو من جنس الجهاد، والمجاورة من جنس النسك، وجنس الجهاد في سبيل الله أفضل من جنس النسك؛ بكتاب الله، وسنة رسوله ﷺ، وإجماع المسلمين، كما قال تعالى: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ } [21]. وفضائل الجهاد والرباط كثيرة.
فلذلك كان صالحو المؤمنين يرابطون في الثغور، مثل ما كان الأوزاعي، وأبو إسحاق الفزاري، ومخلد بن الحسين، وإبراهيم بن أدهم، وعبد الله بن المبارك، وحذيفة المرعشي، ويوسف بن أسباط، وغيرهم، يرابطون بالثغور الشامية. ومنهم من كان يجيء من خراسان والعراق وغيرهما للرباط في الثغور الشامية؛ لأن أهل الشام هم الذين كانوا يقاتلون النصارى أهل الكتاب. وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (من قتله أهل الكتاب فله أجر شهيدين)؛ وذلك لأن هؤلاء يقاتلون على دين. وأما الكفار الترك ونحوهم فلا يقاتلون على دين، فإذا غلبوا أولئك أفسدوا الدين والملك. وأما الترك فيفسدون الملك وما يتبع ذلك من الدين، ولا يقاتلون على الدين.
ولهذا كثر ذكر طرسوس في كتب العلم والفقه المصنفة في ذلك الوقت، لأنها كانت ثغر المسلمين، حتى كان يقصدها أحمد بن حنبل، والسري السقطي؛ وغيرهما من العلماء والمشائخ للرباط، وتوفي المأمون قريبا منها.
فعامة ما يوجد في كلام المتقدمين من فضل عسقلان، والإسكندرية، أو عكة، أو قزوين، أو غير ذلك، وما يوجد من أخبار الصالحين الذين بهذه الأمكنة ونحو ذلك، فهو لأجل كونها كانت ثغورا، لا لأجل خاصية ذلك المكان. وكون البقعة ثغرا للمسلمين أو غير ثغر هو من الصفات العارضة لها اللازمة لها، بمنزلة كونها دار إسلام أو دار كفر، أو دار حرب، أو دار سلم، أو دار علم وإيمان، أو دار جهل ونفاق. فذلك يختلف باختلاف سكانها وصفاتهم، بخلاف المساجد الثلاثة، فإن مزيتها صفة لازمة لها، لا يمكن إخراجها عن ذلك. وأما سائر المساجد فبين العلماء نزاع في جواز تغييرها للمصلحة، وجعلها غير مسجد، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمسجد الكوفة لما بدله وجعل المسجد مكانا آخر، وصار الأول حوانيت التمارين. وهذا مذهب الإمام أحمد وغيره.
فصل جبل لبنان كان ثغرا
إذا عرف ذلك، فهذه السواحل الشامية كانت ثغورا للإسلام إلى أثناء المائة الرابعة، وكان المسلمون قد فتحوا قبرص في خلافة عثمان رضي الله عنه فتحها معاوية، فلما كان في أثناء المائة الرابعة اضطرب أمر الخلافة، وصار للرافضة والمنافقين وغيرهم دولة وملك بالبلاد المصرية والمغرب، وبالبلاد الشرقية وبأرض الشام، وغلب هؤلاء على ما غلبوا عليه من الشام؛ سواحله وغير سواحله، وهم أمة مخذولة ليس لهم عقل ولا نقل، ولا دين صحيح ولا دنيا منصورة، فغلبت النصارى على عامة سواحل الشام، بل وأكثر بلاد الشام، وقهروا الروافض والمنافقين وغيرهم، وأخذوا منهم ما أخذوا، إلى أن يسر الله تعالى بولاية ملوك السنة مثل نور الدين وصلاح الدين وغيرهما، فاستنقذوا عامة الشام من النصارى.
وبقيت بقايا الروافض والمنافقين في جبل لبنان وغيره، وربما غلبهم النصارى عليه حتى يصير هؤلاء الرافضة والمنافقون فلاحين للنصارى. وصار جبل لبنان ونحوه دولة بين النصارى والروافض، ليس فيه من الفضيلة شيء، ولا يشرع، بل ولا يجوز المقام بين نصارى أو روافض يمنعون المسلم عن إظهار دينه.
ولكن صار طوائف ممن يؤثر التخلي عن الناس زهدا ونسكا يحسب أن فضل هذا الجبل ونحوه، لما فيه من الخلوة عن الناس، وأكل المباحات من الثمار التي فيه، فيقصدونه لأجل ذلك غلطا منهم، وخطأ، فإن سكنى الجبال والغيران والبوادي ليس مشروعا للمسلمين إلا عند الفتنة في الأمصار التي تحوج الرجل إلى ترك دينه؛ من فعل الواجبات وترك المحرمات، فيهاجر المسلم حينئذ من أرض يعجز عن إقامة دينه إلى أرض يمكنه فيها إقامة دينه؛ فإن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه.
وربما كان بعض الأوقات من هؤلاء النساك الزهاد طائفة إما ظالمون لأنفسهم، وإما مقتصدون مخطئون مغفور لهم خطؤهم، فأما السابقون المقربون فهم الذين تقربوا إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح الذي رواه عن الله تعالى: (ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعلة ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته، ولابد له منه).
ولا خلاف بين المسلمين أن جنس النساك الزهاد الساكنين في الأمصار أفضل من جنس ساكني البوادي والجبال، كفضيلة القروي على البدوي، والمهاجر على الأعرابي، قال الله تعالى: { الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ } [22]، وفي الحديث: (إن من الكبائر أن يرتد الرجل أعرابيا بعد الهجرة). هذا لمن هو ساكن في البادية بين الجماعة، فكيف بالمقيم وحده دائما في جبل أو بادية؟! فإن هذا يفوته من مصالح الدين نظير ما يفوته من مصالح الدنيا أو قريب منه؛ فإن يد الله على الجماعة، والشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد.
فصل ليس في جبل لبنان الأربعين الأبدال
وأما اعتقاد بعض الجهال أن به الأربعين الأبدال، فهذا جهل وضلال، ما اجتمع به الأبدال الأربعون قط، ولا هذا مشروع لهم، ولا فائدة في ذلك، واعتقاد جهال الجمهور هذا يشبه اعتقاد الرافضة في الخليفة الحجة صاحب الزمان عندهم، الذى يقولون: إنه غائب عن الأبصار، حاضر في الأمصار. ويعظمون قدره، ويرجون بركته. وهو معدوم لا حقيقة له، فكل من علق دينه بالمجهولات، وأعرض عما بعث اللّه به نبيه من الهدى ودين الحق، فهو من أهل الضلال الخارج عن شريعة الإسلام، بل فيه في هذه الأوقات المتأخرة أهل الضلال من النصارى، والنصيرية، والرافضة، الذين غزاهم المسلمون.
وكذلك قول كثير من الجهال وأهل الإفك والمحال: أن به أو بغيره رجال الغيب، وتعظيمهم لهؤلاء هو نوع من الضلال الذى استحوذوا به على الجهال، من الأتراك والأعراب، والفلاحين، والعامة، أضلوهم بذلك عن حقيقة الدين، وأكلوا به أموالهم بالباطل، كما قال تعالى: { إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ } [23].
ولم يكن من أنبياء اللّه وأوليائه من كان غائب الجسد عن أبصار الناس، ولكن كثير منهم قد تغيب عن الناس حقيقة قلبه، وما في باطنه من ولاية اللّه، وعظيم العلم والإيمان، والأحوال الزكية، فيكون في الأمصار والمساجد، وبين الناس من يكون من أولياء اللّه وأكثر الناس لا يعلمون حاله، كما قال النبي ﷺ: (رب أشعث، أغبر، ذى طِمْرَين، مدفوع بالأبواب: لو أقسم على اللّه لأبره)، أى: قد يكون فيمن تنبو عنه الأبصار لرثاثة حاله من يبر اللّه قسمه، وليس هذا وصفا لازما، بل ولاية اللّه هى ما ذكرنا في قوله: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [24] فأولياء اللّه هم المؤمنون المتقون في جميع الأصناف المباحة.
وكذلك خبر الرجل الذى نبت الشعر على جميع بدنه كالماعز باطل ومحال. نعم يكون في الضلال من الزهاد من يترك السنة حتى ينبت الشعر ويكثر على جسده، وهذا ينبغى أن يؤمر بما أمر به النبي ﷺ من إحفاء الشوارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، ونحو ذلك.
فإن ظن أن غير هدى النبي ﷺ أكمل من هديه، أو أن من الأولياء من يسعه الخروج عن شريعة محمد ﷺ كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهذا كافر يجب قتله بعد استتابته؛ لأن موسى عليه السلام لم تكن دعوته عامة، ولم يكن يجب على الخضر اتباع موسى عليهما السلام بل قال الخضر لموسى: إنى على علم من اللّه علمنيه اللّه لا تعلمه، وأنت على علم من اللّه علمكه اللّه لا أعلمه.
فأما محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب فهو رسول اللّه ﷺ إلى جميع الثقلين؛ الجن والإنس، عربهم وعجمهم، دانيهم وقاصيهم، ملوكهم ورعيتهم، زهادهم وغير زهادهم. قال اللّه تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } [25]، وقال تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [26]، وقال النبي ﷺ: (كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة). وهو خاتم الرسل، ليس بعده نبي ينتظر، ولا كتاب يرتقب، بل هو آخر الأنبياء، والكتاب الذى أنزل عليه مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه. فمن اعتقد أن لأحد من جميع الخلق علمائهم وعبادهم وملوكهم خروجا عن اتباعه وطاعته وأخذ ما بعث به من الكتاب والحكمة، فهو كافر.
ويجب التفريق بين العبادات الإسلامية الإيمانية النبوية الشرعية التى يحبها اللّه ورسوله وعباده المؤمنون، وبين العبادات البدعية الضلالية الجاهلية التى قال اللّه فيها: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } [27]. وإن ابتلى بشىء منها بعض أكابر النساك والزهاد. ففي الصحاح عن أنس رضي اللّه عنه: أن النبي ﷺ بلغه أن بعض أصحابه قال: أما أنا فأصوم لا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم لا أنام، وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم، فقال النبي ﷺ: (لكنى أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم. فمن رغب عن سنتي فليس مني). والراغب عن الشىء الذى لا يحبه ولا يريده، بل يحب ويريد ما ينافي المشروع الذى أحبه اللّه ورسوله، فقد تبرأ منه رسول اللّه ﷺ، مثل الذى يتعرى دائما، أو يصمت دائما، أو يسكن وحده في البرية دائما، أو يترك أكل الخبز واللحم دائما، أو يترهب دائما؛ متعبدا بذلك، ظانا أن هذا يحبه اللّه ورسوله؛ دون ضده من اللباس بالمعروف، والكلام بالمعروف، والأكل بالمعروف، ونحو ذلك.
وإذا عرف هذا، فكل ما ذكر من الانحناء للجبل المذكور ونحوه، أو لمن فيه، أو زيارته بلا قصد للجهاد، أو لأمر مشروع، فهو من الجهالات والضلالات. وكذلك التبرك بما يحمل منه من الثمار هو من البدع الجاهلية المضاهية للضلالات النصرانية والشركية، وقد جاء في الحديث المعروف: أن بصرة بن أبي بصرة الغفارى رأى أبا هريرة رضي اللّه عنه وقد سافر إلى الطور الذى كلم اللّه موسى عليه فقال: لو رأيتك قبل أن تذهب إليه لم أدعك تذهب إليه؛ لأن رسول اللّه ﷺ قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدى هذا). فإذا كان السفر لزيارة الطور الذى كلم اللّه عليه موسى، وسماه الوادى المقدس، والبقعة المباركة لا يشرع، فكيف بالسفر لزيارة غيره من الأطوار ؟! فإن الطور هو الجبل، والأطوار الجبال.
وأما القبر المشهور في سفحه بالكرك الذى يقال: إنه قبر نوح فهو باطل محال، لم يقل أحد ممن له علم ومعرفة: إن هذا قبر نوح، ولا قبر أحد من الأنبياء أو الصالحين، ولا كان لهذا القبر ذكر ولا خبر أصلا، بل كان ذلك المكان حاكورة يزرع فيها، ويكون بها الحاكة إلى مدة قريبة. رأوا هناك قبرا فيه عظم كبير، وشموا فيه رائحة، فظن الجهلاء أنه لأجل تلك الرائحة يكون قبر نبي. وقالوا: من كان من الأنبياء كبيرا؟ فقالوا: نوح. فقالوا: هو قبر نوح، وبنوا عليه في دولة الرافضة الذين كانوا مع الناصر صاحب حلب ذلك القبر، وزيد بعد ذلك في دولة الظاهر، فصار وثنا يشرك به الجاهلون، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: (إن اللّه حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء). فلو كان قبر نبي لم يتجرد العظم. وقد حدثنى من ثقات أهل المكان عن آبائهم من ذكر: أنهم رأوا تلك العظام الكبيرة فيه، وشاهدوه قبل ذلك مكانا للزرع والحياكة. وحدثنى من الثقات من شاهد في المقابر القريبة منه رؤوسا عظيمة جدا تناسب تلك العظام، فعلم أن هذا وأمثاله من عظام العمالقة، الذين كانوا في الزمن القديم أو نحوهم.
ولو كان قبر نبي أو رجل صالح لم يشرع أن يبنى عليه مسجد بإجماع المسلمين، وبسنة رسول اللّه ﷺ المستفيضة عنه، كما قال في الصحاح: (لعن اللّه اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وقال: (إن من كان قبلكم كانوا يتحذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك).
ولا تستحب الصلاة، لا الفرض ولا النفل، عند قبر نبي ولا غيره بإجماع المسلمين، بل ينهى عنه، وكثير من العلماء يقول: هى باطلة؛لما ورد في ذلك من النصوص، وإنما البقاع التى يحبها اللّه ويحب الصلاة والعبادة فيها هى المساجد التى قال اللّه فيها: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } [28]، وقال تعالى: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [29]. وسئل النبي ﷺ: أى البقاع أحب إلى اللّه ؟ قال: (المساجد). قيل: فأى البقاع أبغض إلى اللّه؟ قال: (الأسواق). وقال ﷺ: (من غدا إلى المسجد أو راح أعد اللّه له نُزلا كلما غدا أو راح)، وقال: (إن العبد إذا تطهر فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، كانت خطوتاه، إحداهما ترفع درجة، والأخرى تحط خطيئة).
فدين الإسلام هو اتباع ما بعث اللّه به رسوله من أنواع المحبوبات، واجتناب ما كرهه اللّه ورسوله من البدع والضلالات، وأنواع المنهيات. فالعبادات الإسلامية، مثل الصلوات المشروعة، والجماعات، والجمعات، وقراءة القرآن، وذكر اللّه الذى شرعه لعباده المؤمنين، ودعائه، وما يتبع ذلك من أحوال القلوب، وأعمال الأبدان، وكذلك أنواع الزكوات؛ من الصدقات، وسائر الإحسان إلى الخلق، فإن كل معروف صدقة، وكذلك سائر العبادات المشروعة، فنسأل اللّه العظيم أن يثبتنا عليها وسائر إخواننا المؤمنين، واللّه سبحانه أعلم.
سئل عمن يزور القبور ويستنجد بالمقبور في مرض به
وَسُئِلَ أَحمد بن تيمية رحمهُ اللّه تعالى عمن يزور القبور ويستنجد بالمقبور في مرضٍ به أو بفرسه أو بعيره: يطلب إزالة المرض الذى بهم، ويقول: ياسيدى، أنا في جيرتك، أنا في حسبك، فلان ظلمنى، فلان قصد أذيتى، ويقول: إن المقبور يكون واسطة بينه وبين اللّه تعالى. وفيمن ينذر للمساجد، والزوايا والمشائخ حيهم وميتهم بالدراهم والإبل والغنم والشمع والزيت وغير ذلك، يقول: إن سلم ولدى فللشيخ على كذا وكذا، وأمثال ذلك. وفيمن يستغيث بشيخه يطلب تثبيت قلبه من ذاك الواقع. وفيمن يجىء إلى شيخه ويستلم القبر ويمرغ وجهه عليه، ويمسح القبر بيديه، ويمسح بهما وجهه، وأمثال ذلك. وفيمن يقصده بحاجته، ويقول: يافلان، ببركتك، أو يقول: قضيت حاجتى بركة اللّه وبركة الشيخ. وفيمن يعمل السماع ويجىء إلى القبر فيكشف ويحط وجهه بين يدى شيخ على الأرض ساجدا. وفيمن قال: إن ثم قطبا غوثا جامعا في الوجود. أفتونا مأجورين، وابسطوا القول في ذلك.
فأجاب:
للّه رب العالمين، الدين الذى بعث اللّه به رسله وأنزل به كتبه هو عبادة اللّه وحده لا شريك له، واستعانته، والتوكل عليه، ودعاؤه لجلب المنافع، ودفع المضار، كما قال تعالى: { تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفي إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } [30]، وقال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [31] وقال تعالى: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [32]، وقال تعالى: { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [33]. قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرا والملائكة، قال اللّه تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم عبادى كما أنتم عبادى، ويرجون رحمتى كما ترجون رحمتى، ويخافون عذأبي كما تخافون عذأبي، ويتقربون إلىَّ كما تتقربون إلىَّ. فإذا كان هذا حال من يدعو الأنبياء والملائكة فكيف بمن دونهم؟!
وقال تعالى: { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا } [34]، وقال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [35]. فبين سبحانه أن من دعى من دون اللّه من جميع المخلوقات من الملائكة والبشر وغيرهم أنهم لا يملكون مثقال ذرة في ملكه، وأنه ليس له شريك في ملكه، بل هو سبحانه له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير، وأنه ليس له عون يعاونه كما يكون للملك أعوان وظهراء، وأن الشفعاء عنده لا يشفعون إلا لمن ارتضى، فنفي بذلك وجوه الشرك.
وذلك أن من يدعون من دونه، إما أن يكون مالكا، وإما ألا يكون مالكا، وإذا لم يكن مالكا فإما أن يكون شريكا، وإما ألا يكون شريكا، وإذا لم يكن شريكا فإما أن يكون معاونا، وإما أن يكون سائلا طالبا. فالأقسام الأول الثلاثة وهى: الملك، والشركة والمعاونة منتفية، وأما الرابع فلا يكون إلا من بعد إذنه، كما قال تعالى: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [36]، وكما قال تعالى: { وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرضي } [37]، وقال تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [38]، وقال تعالى: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } [39]، وقال تعالى: { وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [40]، وقال تعالى: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [41]. فإذا جعل من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا كافرا، فكيف من اتخذ من دونهم من المشايخ وغيرهم أربابا ؟!
وتفصيل القول: أن مطلوب العبد إن كان من الأمور التى لا يقدر عليها إلا اللّه تعالى؛ مثل أن يطلب شفاء مريضه من الآدميين والبهائم، أو وفاء دينه من غير جهة معينة، أو عافية أهله، وما به من بلاء الدنيا والآخرة، وانتصاره على عدوه، وهداية قلبه، وغفران ذنبه، أو دخوله الجنة أو نجاته من النار، أو أن يتعلم العلم والقرآن، أو أن يصلح قلبه ويحسن خلقه ويزكى نفسه، وأمثال ذلك فهذه الأمور كلها لا يجوز أن تطلب إلا من اللّه تعالى، ولا يجوز أن يقول لملك ولا نبي ولا شيخ سواء كان حيا أو ميتا: اغفر ذنبي، ولا انصرنى على عدوى، ولا اشف مريضى، ولا عافنى أو عاف أهلى أو دابتى، وما أشبه ذلك. ومن سأل ذلك مخلوقا كائنا من كان، فهو مشرك بربه، من جنس المشركين الذين يعبدون الملائكة والأنبياء والتماثيل التى يصورونها على صورهم، ومن جنس دعاء النصارى للمسيح وأمه، قال اللّه تعالى: { وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ } الآية [42]، وقال تعالى: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [43].
وأما ما يقدر عليه العبد فيجوز أن يطلب منه في بعض الأحوال دون بعض؛ فإن مسألة المخلوق قد تكون جائزة، وقد تكون منهيا عنها، قال اللّه تعالى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [44]، وأوصى النبي ﷺ ابن عباس: (إذا سألت فاسأل اللّه، وإذا استعنت فاستعن باللّه)، وأوصى النبي ﷺ طائفة من أصحابه: ألا يسألوا الناس شيئا. فكان سوط أحدهم يسقط من كفه فلا يقول لأحد: ناولنى إياه. وثبت في الصحيحين أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: (يدخل الجنة من أمتى سبعون ألفا بغير حساب، وهم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون). والاسترقاء طلب الرقية، وهو من أنواع الدعاء، ومع هذا فقد ثبت عنه ﷺ أنه قال: (ما من رجل يدعو له أخوه بظهر الغيب دعوة، إلا وكل اللّه بها ملكا كلما دعا لأخيه دعوة قال الملك: ولك مثل ذلك).
ومن المشروع في الدعاء دعاء غائب لغائب؛ ولهذا أمر النبي ﷺ بالصلاة عليه، وطلبنا الوسيلة له، وأخبر بما لنا في ذلك من الأجر إذا دعونا بذلك، فقال في الحديث: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا على، فإن من صلى عليَّ مرة صلى اللّه عليه عشرا، ثم سلو اللّه لى الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا ينبغى أن تكون إلا لعبد من عباد اللّه، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد. فمن سأل اللّه لى الوسيلة حلت له شفاعتى يوم القيامة).
ويشرع للمسلم أن يطلب الدعاء ممن هو فوقه وممن هو دونه، فقد روى طلب الدعاء من الأعلى والأدنى؛ فإن النبي ﷺ ودع عمر إلى العمرة، وقال: (لا تنسنا من دعائك يا أخى)، لكن النبي ﷺ لما أمرنا بالصلاة عليه وطلب الوسيلة له ذكر أن من صلى عليه مرة صلى الله بها عليه عشرا، وأن من سأل له الوسيلة حلَّت له شفاعته يوم القيامة، فكان طلبه منا لمنفعتنا في ذلك، وفرق بين من طلب من غيره شيئا لمنفعة المطلوب منه، ومن يسأل غيره لحاجته إليه فقط. وثبت في الصحيح أنه ﷺ ذكر أُوَيْسا القَرَنى وقال لعمر: (إن استطعت أن يستغفر لك فافعل).
وفي الصحيحين أنه كان بين أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما شىء، فقال أبو بكر لعمر: استغفر لى، لكن في الحديث: أن أبا بكر ذكر أنه حنق على عمر. وثبت أن أقواما كانوا يسترقون، وكان النبي ﷺ يرقيهم.
وثبت في الصحيحين أن الناس لما أجدبوا سألوا النبي ﷺ أن يستسقى لهم فدعا اللّه لهم فسقوا. وفي الصحيحين أيضًا: أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه استسقى بالعباس فدعا، فقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون. وفي السنن: أن أعرابيا قال للنبي ﷺ: جهدت الأنفس، وجاع العيال، وهلك المال، فادع اللّه لنا، فإنا نستشفع باللّه عليك، وبك على اللّه. فسبح رسول اللّه ﷺ حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، وقال: (ويحك ! إن اللّه لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن اللّه أعظم من ذلك). فأقره على قوله: (إنا نستشفع بك على اللّه)، وأنكر عليه: (نستشفع باللّه عليك)؛ لأن الشافع يسأل المشفوع إليه، والعبد يسأل ربه ويستشفع إليه، والرب تعالى لا يسأل العبد ولا يستشفع به.
وأما زيارة القبور المشروعة، فهو أن يسلم على الميت ويدعو له بمنزلة الصلاة على جنازته، كما كان النبي ﷺ يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: ( سلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء اللّه بكم لاحقون، ويرحم اللّه المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل اللّه لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم). وروى عن النبي ﷺ أنه قال: (ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد اللّه عليه روحه حتى يرد عليه السلام). واللّه تعالى يثيب الحى إذا دعا للميت المؤمن، كما يثيبه إذا صلى على جنازته؛ ولهذا نهى النبي ﷺ أن يفعل ذلك بالمنافقين، فقال عز من قائل: { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ } [45]. فليس في الزيارة الشرعية حاجة الحى إلى الميت، ولا مسألته ولا توسله به، بل فيها منفعة الحى للميت، كالصلاة عليه، واللّه تعالى يرحم هذا بدعاء هذا وإحسانه إليه، ويثيب هذا على عمله، فإنه ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (إذا مات ابن ادم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له).
فصل سؤال المقبور والاستنجاد به
وأما من يأتى إلى قبر نبي أو صالح، أو من يعتقد فيه أنه قبر نبي أو رجل صالح وليس كذلك، ويسأله ويستنجده فهذا على ثلاث درجات:
إحداها: أن يسأله حاجته، مثل أن يسأله أن يزيل مرضه، أو مرض دوابه، أو يقضى دينه، أو ينتقم له من عدوه، أو يعافي نفسه وأهله ودوابه، ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا اللّه عز وجل، فهذا شرك صريح، يجب أن يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل.
وإن قال: أنا أسأله لكونه أقرب إلى اللّه منى ليشفع لى في هذه الأمور؛ لأنى أتوسل إلى اللّه به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه، فهذا من أفعال المشركين والنصارى، فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء يستشفعون بهم في مطالبهم، وكذلك أخبر اللّه عن المشركين أنهم قالوا: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفي } [46]، وقال سبحانه وتعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [47]، وقال تعالى: { مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } [48]، وقال تعالى: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [49]. فبين الفرق بينه وبين خلقه. فإن من عادة الناس أن يستشفعوا إلى الكبير من كبرائهم بمن يكرم عليه، فيسأله ذلك الشفيع، فيقضى حاجته؛ إما رغبة، وإما رهبة، وإما حياءً وإما مودة، وإما غير ذلك، واللّه سبحانه لا يشفع عنده أحد حتى يأذن هو للشافع، فلا يفعل إلا ما شاء، وشفاعة الشافع من إذنه، فالأمر كله له.
ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه: (لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لى إن شئت، اللهم ارحمنى إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، فإن اللّه لا مكره له). فبين أن الرب سبحانه يفعل ما يشاء لا يكرهه أحد على ما اختاره، كما قد يكره الشافع المشفوع إليه، وكما يكره السائل المسؤول إذا ألح عليه وآذاه بالمسألة. فالرغبة يجب أن تكون إليه، كما قال تعالى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [50]. والرهبة تكون من اللّه كما قال تعالى: { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } [51]، وقال تعالى: { فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } [52]. وقد أمرنا أن نصلى على النبي ﷺ في الدعاء، وجعل ذلك من أسباب إجابة دعائنا.
وقول كثير من الضلال: هذا أقرب إلى اللّه منى، وأنا بعيد من اللّه لا يمكننى أن أدعوه إلا بهذه الواسطة، ونحو ذلك من أقوال المشركين، فإن اللّه تعالى يقول: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [53]. وقد روى: أن الصحابة قالوا: يارسول اللّه، ربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل اللّه هذه الآية. وفي الصحيح أنهم كانوا في سفر، وكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال النبي ﷺ: (يا أيها الناس، ارْبَعُوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، بل تدعون سميعا قريبا، إن الذى تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) وقد أمر اللّه تعالى العباد كلهم بالصلاة له ومناجاته وأمر كلا منهم أن يقول: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [54]. وقد أخبر عن المشركين أنهم قالوا: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفي } [55].
ثم يقال لهذا المشرك: أنت إذا دعوت هذا، فإن كنت تظن أنه أعلم بحالك وأقدر على عطاء سؤالك أو أرحم بك، فهذا جهل وضلال وكفر. وإن كنت تعلم أن اللّه أعلم وأقدر وأرحم، فلم عدلت عن سؤاله إلى سؤال غيره؟ ألا تسمع إلى ما خرجه البخارى وغيره عن جابر رضي اللّه عنه قال: كان رسول اللّه ﷺ يعلمنا الاستخارة في الأمور، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: (إذا هَمَّ أحدكم بأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إنى أستخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لى في دينى ومعاشى، وعاقبة أمرى، فاقْدُرْه لى، ويسره لى، ثم بارك لى فيه، وإن كنت تعمل أن هذا الأمر شر لى في دينى، ومعاشى، وعاقبة أمرى، فاصرفه عنى، واصرفنى عنه، واقْدُرْ لى الخير حيث كان، ثم أرْضِنى به قال: ويسمى حاجته). أمر العبد أن يقول: (أستخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم).
وإن كنت تعلم أنه أقرب إلى اللّه منك وأعلى درجة عند اللّه منك فهذا حق؛ لكن كلمة حق أريد بها باطل؛ فإنه إذا كان أقرب منك وأعلى درجة منك فإنما معناه: أن يثيبه ويعطيه أكثر مما يعطيك، ليس معناه: أنك إذا دعوته كان اللّه يقضى حاجتك أعظم مما يقضيها إذا دعوت أنت اللّه تعالى، فإنك إن كنت مستحقا للعقاب ورد الدعاء مثلا لما فيه من العدوان فالنبي والصالح لا يعين على ما يكرهه اللّه، ولا يسعى فيما يبغضه اللّه، وإن لم يكن كذلك، فاللّه أولى بالرحمة والقبول.
وإن قلت: هذا إذا دعا اللّه أجاب دعاءه أعظم مما يجيبه إذا دعوته، فهذا هو القسم الثانى وهو: ألا تطلب منه الفعل ولا تدعوه، ولكن تطلب أن يدعو لك. كما تقول للحى: ادع لى، وكما كان الصحابة رضوان اللّه عليهم يطلبون من النبي ﷺ، الدعاء، فهذا مشروع في الحى كما تقدم، وأما الميت من الأنبياء والصالحين وغيرهم فلم يشرع لنا أن نقول: ادع لنا، ولا اسأل لنا ربك، ولم يفعل هذا أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر به أحد من الأئمة، ولا ورد فيه حديث، بل الذى ثبت في الصحيح أنهم لما أجدبوا زمن عمر رضي اللّه عنه استسقى بالعباس، وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون. ولم يجيئوا إلى قبر النبي ﷺ قائلين: يا رسول اللّه، ادع اللّه لنا واستسق لنا، ونحن نشكوا إليك مما أصابنا، ونحو ذلك. لم يفعل ذلك أحد من الصحابة قط، بل هو بدعة، ما أنزل اللّه بها من سلطان، بل كانوا إذا جاؤوا عند قبر النبي ﷺ يسلمون عليه، فإذا أرادوا الدعاء لم يدعوا اللّه مستقبلى القبر الشريف، بل ينحرفون ويستقبلون القبلة، ويدعون اللّه وحده لا شريك له كما يدعونه في سائر البقاع.
وذلك أن في الموطأ وغيره عنه ﷺ قال: (اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد، اشتد غضب اللّه على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). وفي السنن عنه أنه قال: (لا تتخذوا قبرى عيدا، وصلُّوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغنى). وفي الصحيح عنه أنه قال في مرضه الذى لم يقم منه: (لعن اللّه اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما فعلوا. قالت عائشة رضي اللّه عنها وعن أبويها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا. وفي صحيح مسلم عنه ﷺ أنه قال قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك). وفي سنن أبي داود عنه قال: (لعن اللّه زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج).
ولهذا قال علماؤنا: لا يجوز بناء المسجد على القبور، وقالوا: إنه لا يجوز أن ينذر لقبر، ولا للمجاورين عند القبر شيئا من الأشياء، لا من درهم، ولا من زيت، ولا من شمع، ولا من حيوان، ولا غير ذلك، كله نذر معصية. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (من نذر أن يطيع اللّه فليطعه، ومن نذر أن يعصى اللّه فلا يعصه). واختلف العلماء: هل على الناذر كفارة يمين؟ على قولين؛ ولهذا لم يقل أحد من أئمة السلف: إن الصلاة عند القبور وفي مشاهد القبور مستحبة، أو فيها فضيلة، ولا أن الصلاة هناك والدعاء أفضل من الصلاة في غير تلك البقعة والدعاء، بل اتفقوا كلهم على أن الصلاة في المساجد والبيوت أفضل من الصلاة عند القبور قبور الأنبياء والصالحين سواء سميت مشاهد أو لم تسم.
وقد شرع اللّه ورسوله في المساجد دون المشاهد أشياء، فقال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } [56]، ولم يقل: المشاهد. وقال تعالى: { وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [57] ولم يقل: في المشاهد، وقال تعالى: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [58]، وقال تعالى: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [59]، وقال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [60] وقال ﷺ: ( صلاة الرجل في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين ضعفا)، وقال ﷺ: (من بنى للّه مسجدا بنى اللّه له بيتا في الجنة).
وأما القبور فقد ورد نهيه ﷺ عن اتخاذها مساجد، ولعن من يفعل ذلك، وقد ذكره غير واحد من الصحابة والتابعين، كما ذكره البخارى في صحيحه والطبرانى وغيره في تفاسيرهم، وذكره وَثِيمَة وغيره في قصص الأنبياء في قوله تعالى: { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } [61]، قالوا: هذه أسماء قوم صالحين كانوا من قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم طال عليهم الأمد فاتخذوا تماثليهم أصناما. وكان العكوف على القبور والتمسح بها وتقبيلها والدعاء عندها وفيها ونحو ذلك هو أصل الشرك وعبادة الأوثان؛ ولهذا قال النى ﷺ: (اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد).
واتفق العلماء على أن من زار قبر النبي ﷺ أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين الصحابة وأهل البيت وغيرهم أنه لا يتمسح به، ولا يقبله، بل ليس في الدينا من الجمادات ما يشرع تقبيلها إلا الحجر الأسود. وقد ثبت في الصحيحين: أن عمر رضي اللّه عنه قال: واللّه، انى لأعلم أنك حَجَر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول اللّه ﷺ يُقَبِّلك ما قَبَّلتك.
ولهذا لا يسن باتفاق الأئمة أن يقبل الرجل أو يستلم ركنى البيت اللذين يليان الحجر ولا جدران البيت، ولا مقام إبراهيم، ولا صخرة بيت المقدس، ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين، حتى تنازع الفقهاء في وضع اليد على منبر سيدنا رسول اللّه ﷺ لما كان موجودا، فكرهه مالك وغيره؛ لأنه بدعة، وذكر أن مالكا لما رأى عطاء فعل ذلك لم يأخذ عنه العلم، ورخص فيه أحمد وغيره؛ لأن ابن عمر رضي اللّه عنهما فعله. وأما التمسح بقبر النبي ﷺ وتقبيله فكلهم كره ذلك ونهى عنه؛ وذلك لأنهم علموا ما قصده النبي ﷺ من حسم مادة الشرك، وتحقيق التوحيد وإخلاص الدين للّه رب العالمين.
وهذا ما يظهر الفرق بين سؤال النبي ﷺ والرجل الصالح في حياته، وبين سؤاله بعد موته وفي مغيبه؛ وذلك أنه في حياته لا يعبده أحد بحضوره، فإذا كان الأنبياء صلوات اللّه عليهم والصالحون أحياء لا يتركون أحدا يشرك بهم بحضورهم، بل ينهونهم عن ذلك، ويعاقبونهم عليه، ولهذا قال المسيح عليه السلام: { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [62]. وقال رجل للنبي ﷺ: ما شاء اللّه وشئت، فقال: (أجعلتنى للّه ندا؟! ما شاء اللّه وحده)، وقال: (لا تقولوا: ما شاء اللّه وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء اللّه ثم شاء محمد). ولما قالت الجويرية: وفينا رسول اللّه يعلم ما في غَدٍ. قال: (دعى هذا، قولى بالذى كنت تقولين). وقال: (لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد اللّه ورسوله)، ولما صفوا خلفه قياما، قال: (لا تعظمونى كما تعظم الأعاجم بعضهم بعضا)، وقال أنس: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول اللّه ﷺ، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له؛ لما يعلمون من كراهته لذلك. ولما سجد له معاذ نهاه، وقال: (إنه لا يصلح السجود إلا للّه، ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، من عظم حقه عليها). ولما أتى على بالزنادقة الذين غلوا فيه واعتقدوا فيه الإلهية أمر بتحريقهم بالنار. فهذا شأن أنبياء اللّه وأوليائه، وإنما يقر على الغلو فيه وتعظيمه بغير حق من يريد علوا في الأرض وفسادا، كفرعون ونحوه، ومشائخ الضلال الذين غرضهم العلو في الأرض والفساد، والفتنة بالأنبياء والصالحين، واتخاذهم أربابا، والإشراك بهم مما يحصل في مغيبهم وفي مماتهم، كما أشرك بالمسيح وعزير.
فهذا مما يبين الفرق بين سؤال النبي ﷺ في حياته وحضوره، وبين سؤاله في مماته ومغيبه، ولم يكن أحد من سلف الأمة في عصر الصحابة ولا التابعين ولا تابعى التابعين يتحرون الصلاة والدعاء عند قبور الأنبياء ويسألونهم، ولا يستغيثون بهم، لا في مغيبهم، ولا عند قبورهم، وكذلك العكوف.
ومن أعظم الشرك أن يستغيث الرجل بميت أو غائب، كما ذكره السائل، ويستغيث به عند المصائب يقول: يا سيدى فلان، كأنه يطلب منه إزالة ضره أو جلب نفعه، وهذا حال النصارى في المسيح وأمه وأحبارهم ورهبانهم. ومعلوم أن خير الخلق وأكرمهم على اللّه نبينا محمد ﷺ، وأعلم الناس بقدره وحقه أصحابه، ولم يكونوا يفعلون شيئا من ذلك؛ لا في مغيبه، ولا بعد مماته. وهؤلاء المشركون يضمون إلى الشرك الكذب، فإن الكذب مقرون بالشرك، وقد قال تعالى: { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } [63]. وقال النبي ﷺ: (عَدَلت شهادة الزور الإشراك باللّه) مرتين، أو ثلاثا. وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } [64]، وقال الخليل عليه السلام: { أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [65].
فمن كذبهم أن أحدهم يقول عن شيخه: إن المريد إذا كان بالمغرب وشيخه بالمشرق وانكشف غطاؤه رده عليه، وإن الشيخ إن لم يكن كذلك لم يكن شيخا. وقد تغويهم الشياطين، كما تغوى عباد الأصنام كما كان يجرى في العرب في أصناهم، ولعباد الكواكب وطلاسمها من الشرك والسحر، كما يجرى للتتار، والهند، والسودان، وغيرهم من أصناف المشركين؛ من إغواء الشياطين ومخاطبتهم ونحو ذلك. فكثير من هؤلاء قد يجرى له نوع من ذلك، لا سيما عند سماع المكاء والتصدية؛ فإن الشياطين قد تنزل عليهم، وقد يصيب أحدهم كما يصيب المصروع: من الإرغاء، والإزباد، والصياح المنكر، ويكلمه بما لا يعقل هو والحاضرون، وأمثال ذلك مما يمكن وقوعه في هؤلاء الضالين.
وأما القسم الثالث: وهو أن يقول: اللهم بجاه فلان عندك، أو ببركة فلان، أو بحرمة فلان عندك، افعل بى كذا، وكذا. فهذا يفعله كثير من الناس، لكن لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين وسلف الأمة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء، ولم يبلغنى عن أحد من العلماء في ذلك ما أحكيه، إلا ما رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد بن عبد السلام. فإنه أفتى: أنه لا يجوز لأحد أن يفعل ذلك؛ إلا للنبي ﷺ إن صح الحديث في النبي ﷺ. ومعنى الاستفتاء: قد روى النسائى والترمذى وغيرهما أن النبي ﷺ علم بعض أصحابه أن يدعو فيقول: (اللهم إنى أسألك وأتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد، يا رسول اللّه، إنى أتوسل بك إلى ربى في حاجتى ليقضيها لى. اللهم، فشفعه في). فإن هذا الحديث قد استدل به طائفة على جواز التوسل بالنبي ﷺ في حياته وبعد مماته. قالوا: وليس في التوسل دعاء المخلوقين، ولا استغاثة بالمخلوق، وإنما هو دعاء واستغاثة باللّه، لكن فيه سؤال بجاهه، كما في سنن ابن ماجه عن النبي ﷺ أنه ذكر في دعاء الخارج للصلاة أن يقول: (اللهم إنى أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاى هذا، فإنى لم أخرج أشرا ولا بطرا ً، ولا رياءً ولا سمعةً. خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذنى من النار، وأن تغفر لى ذنوبى، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
قالوا: ففي هذا الحديث أنه سأل بحق السائلين عليه، وبحق ممشاه إلى الصلاة، واللّه تعالى قد جعل على نفسه حقا، قال اللّه تعالى: { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [66]، ونحو قوله: { كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُولًا } [67]. وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل: أن النبي ﷺ قال له: (يا معاذ، أتدرى ما حق اللّه على العباد؟). قال: اللّه ورسوله أعلم، قال: (حق اللّه على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. أتدرى ما حق العباد على اللّه إذا فعلوا ذلك؟ فإن حقهم عليه أن لا يعذبهم). وقد جاء في غير حديث: (كان حقا على اللّه كذا وكذا) كقوله: (من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوما، فإن تاب تاب اللّه عليه، فإن عاد فشربها في الثالثة أو الرابعة كان حقا على اللّه أن يسقيه من طينة الخَبَال) قيل: وما طينة الخبال؟ قال: (عصارة أهل النار).
وقالت طائفة ليس في هذا جواز التوسل به بعد مماته وفي مغيبه، بل إنما فيه التوسل في حياته بحضوره، كما في صحيح البخارى أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه استسقى بالعباس، فقال: اللهم إنا كنا إذا أجْدَبْنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعَمِّ نبينا فاسقنا، فيسقون. وقد بين عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنهم كانوا يتوسلون به في حياته فيسقون.
وذلك التوسل به أنهم كانوا يسألونه أن يدعو اللّه لهم، فيدعو لهم، ويدعون معه، ويتوسلون بشفاعته ودعائه، كما في الصحيح عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان بجوار دار القضاء، ورسول اللّه ﷺ قائم يخطب، فاستقبل رسول اللّه، قائما، فقال: يا رسول اللّه، هلكت الأموال، وانقطعت السُّبُل. فادع اللّه لنا أن يمسكها عنا، قال: فرفع رسول اللّه ﷺ يديه ثم قال: (اللهم، حوالينا ولا علينا اللهم على الآكَام والظِّرَاب وبُطُون الأودية ومَنَابِت الشجر). قال: وأقلعت فخرجنا نمشى في الشمس، ففي هذا الحديث: أنه قال: ادع اللّه لنا أن يمسكها عنا. وفي الصحيح: أن عبد اللّه بن عمر قال: إنى لأذكر قول أبي طالب في رسول اللّه ﷺ حيث يقول:
وأبيض يُسْتَسقى الغَمام بوجهه**ثِمَال اليتامى عِصمة للأرامل.
فهذا كان توسلهم به في الاستسقاء ونحوه. ولما مات توسلوا بالعباس رضي اللّه عنه كما كانوا يتوسلون به ويستسقون. وما كانوا يستسقون به بعد موته، ولا في مغيبه ولا عند قبره ولا عند قبر غيره، وكذلك معاوية بن أبي سفيان استسقى بيزيد ابن الأسود الجُرَشى، وقال: اللهم إنا نستشفع إليك بخيارنا. يا يزيد، ارفع يديك إلى اللّه، فرفع يديه، ودعا، ودَعْوا، فسقوا. فلذلك قال العلماء: يستحب أن يستسقى بأهل الصلاح والخير، فإذا كانوا من أهل بيت رسول اللّه ﷺ كان أحسن. ولم يذكر أحد من العلماء أنه يشرع التوسل والاستسقاء بالنبي والصالح بعد موته ولا في مغيبه، ولا استحبوا ذلك في الاستسقاء ولا في الاستنصار ولا غير ذلك من الأدعية. والدعاء مُخُّ العبادة.
والعبادة مبناها على السنة والاتباع، لا على الأهواء والابتداع، وإنما يعبد اللّه بما شرع، لا يعبد بالأهواء والبدع، قال تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } [68]، وقال تعالى: { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [69]، وقال النبي ﷺ: (إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء والطهور).
وأما الرجل إذا أصابته نائبة أو خاف شيئا فاستغاث بشيخه، يطلب تثبيت قلبه من ذلك الواقع، فهذا من الشرك، وهو من جنس دين النصارى؛ فإن اللّه هو الذى يصيب بالرحمة ويكشف الضر، قال تعالى: { وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ } [70]، وقال تعالى: { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } [71]، وقال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } [72]، وقال تعالى: { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [73]. فبين أن من يدعى من الملائكة والأنبياء وغيرهم لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويلا.
فإذا قال قائل: أنا أدعو الشيخ ليكون شفيعا لى، فهو من جنس دعاء النصارى لمريم والأحبار والرهبان. والمؤمن يرجو ربه ويخافه، ويدعوه مخلصا له الدين، وحق شيخه أن يدعو له ويترحم عليه؛ فإن أعظم الخلق قدرا هو رسول اللّه ﷺ، وأصحابه أعلم الناس بأمره وقدره، وأطوع الناس له، ولم يكن يأمر أحدا منهم عند الفزع والخوف أن يقول: يا سيدى، يا رسول اللّه، ولم يكونوا يفعلون ذلك في حياته ولا بعد مماته، بل كان يأمرهم بذكر اللّه ودعائه والصلاة والسلام عليه ﷺ، قال اللّه تعالى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } [74]، وفي صحيح البخارى عن ابن عباس رضي اللّه عنهما: أن هذه الكلمة قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقى في النار، وقالها محمد ﷺ يعنى وأصحابه حين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم. وفي الصحيح عن النبي ﷺ: أنه كان يقول عند الكرب: (لا إله إلا اللّه العظيم الحليم، لا إله إلا اللّه رب العرش الكريم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض ورب العرش العظيم). وقد روى أنه علم نحو هذا الدعاء بعض أهل بيته. وفي السنن: أن النبي ﷺ كان إذا حَزَبَه أمر قال: (يا حى، يا قيوم، برحمتك أستغيث). وروى أنه علم ابنته فاطمة أن تقول: يا حى، يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث، أصلح لى شأنى كله، ولا تِكَلْنى إلى نفسى طَرْفَة عين، ولا إلى أحد من خلقك).
وفي مسند الإمام أحمد وصحيح أبي حاتم البستى عن ابن مسعود رضي اللّه عنه عن النبي ﷺ أنه قال: (ما أصاب عبدًا قط هَمٌّ ولا حَزَن فقال: اللهم إنى عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصِيتى بيدك، ماضٍ في حكمك، عَدْل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سَمَّيتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو عَلَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم رَبِيع قلبى، ونور صدرى، وجلاء حُزّنى، وذهاب هَمِّى وغمى، إلا أذهب اللّه همه وغمه، وأبدله مكانه فرحا). قالوا: يا رسول اللّه، أفلا نتعلمهن؟ قال: (ينبغى لمن سمعهن أن يتعلمهن). وقال لأمته: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات اللّه، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن اللّه يُخَوِّف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة، وذِكْر اللّه، والاستغفار). فأمرهم عند الكسوف بالصلاة والدعاء والذكر والعتق والصدقة، ولم يأمرهم أن يدعوا مخلوقا ولا ملكا ولا نبيا ولا غيرهم.
ومثل هذا كثير في سنته، لم يشرع للمسلمين عند الخوف إلا ما أمر اللّه به؛ من دعاء اللّه، وذكره والاستغفار، والصلاة، والصدقة، ونحو ذلك. فكيف يعدل المؤمن باللّه ورسوله عما شرع اللّه ورسوله إلى بدعة ما أنزل اللّه بها من سلطان، تُضَاهى دين المشركين والنصارى؟!
فإن زَعَم أحد أن حاجته قضيت بمثل ذلك، وأنه مثل له شيخه ونحو ذلك، فعباد الكواكب والأصنام ونحوهم من أهل الشرك يجرى لهم مثل هذا، كما قد تواتر ذلك عمن مضى من المشركين، وعن المشركين في هذا الزمان. فلولا ذلك ما عبدت الأصنام ونحوها، قال الخليل عليه السلام: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ } [75].
ويقال: إن أول ما ظهر الشرك في أرض مكة بعد إبراهيم الخليل من جهة (عمرو بن لُحِىِّ الخزاعى)، الذى رآه النبي ﷺ يجر أمعاءه في النار. وهو أول من سَيَّب السوائب، وغَيَّر دين إبراهيم. قالوا: إنه ورد الشام، فوجد فيها أصناما بالبلقاء، يزعمون أنهم ينتفعون بها في جَلْب منافعهم ودفع مضارهم، فنقلها إلى مكة، وسَنَّ للعرب الشرك وعبادة الأصنام.
والأمور التى حرمها اللّه ورسوله، من الشرك، والسحر، والقتل، والزنا وشهادة الزور، وشرب الخمر وغير ذلك من المحرمات، قد يكون للنفس فيها حظ مما تعده منفعة، أو دفع مَضَرَّة، ولولا ذ لك ما أقدمت النفوس على المحرمات التى لا خير فيها بحال، وإنما يوقع النفوس في المحرمات الجهل أو الحاجة. فأما العالم بقبح الشىء والنهى عنه فكيف يفعله؟! والذين يفعلون هذه الأمور جميعها قد يكون عندهم جهل بما فيه من الفساد، وقد تكون بهم حاجة إليها، مثل الشهوة إليها، وقد يكون فيها من الضرر أعظم مما فيها من اللذة ولا يعلمون ذلك لجلهلهم أو تغلبهم أهواؤهم حتى يفعلوها، والهوى غالبا يجعل صاحبه كأنه لا يعلم من الحق شيئا، فإن حبك للشىء يُعْمِى ويُصِمُّ.
ولهذا كان العالم يخشى اللّه، وقال أبو العالية: سألت أصحاب محمد ﷺ عن قول اللّه عز وجل: { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } الآية [76]. فقالوا: كل من عصى اللّه فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب. وليس هذا موضع البسط لبيان ما في المنهيات من المفاسد الغالبة وما في المأمورات من المصالح الغالبة، بل يكفي المؤمن أن يعلم أن ما أمر اللّه به فهو لمصلحة محضة أو غالبة، وما نهى اللّه عنه فهو مفسدة محضة أو غالبة، وأن اللّه لا يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم، ولا نهاهم عما نهاهم بُخْلا به عليهم، بل أمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم؛ ولهذا وصف نبيه ﷺ بأنه { يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ } [77].
وأما التمسح بالقبر أىّ قبر كان وتقبيله، وتمريغ الخد عليه، فمنهى عنه باتفاق المسلمين، ولو كان ذلك من قبور الأنبياء، ولم يفعل هذا أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هذا من الشرك، قال اللّه تعالى: { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا } [78]، وقد تقدم أن هؤلاء أسماء قوم صالحين كانوا من قوم نوح، وأنهم عَكَفوا على قبورهم مدة، ثم طال عليهم الأمد فصَوَّروا تماثيلهم؛ لا سيما إذا اقترن بذلك دعاء الميت والاستغاثة به. وقد تقدم ذكر ذلك، وبيان ما فيه من الشرك، وبينا الفرق بين الزيارة البدعية التى تشبه أهلها بالنصارى والزيارة الشرعية.
وأما وضع الرأس عند الكبراء من الشيوخ وغيرهم، أو تقبيل الأرض ونحو ذلك، فإنه مما لا نزاع فيه بين الأئمة في النهى عنه، بل مجرد الانحناء بالظهر لغير اللّه عز وجل منهى عنه. ففي المسند وغيره: أن معاذ بن جبل رضي اللّه عنه لما رجع من الشام سجد للنبي ﷺ فقال: (ما هذا يا معاذ؟). فقال: يا رسول اللّه، رأيتهم في الشام يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، ويذكرون ذلك عن أنبيائهم، فقال: (كذبوا يا معاذ، لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عِظَم حقه عليها، يا معاذ، أرأيت إن مررت بقبرى أكنت ساجدا؟). قال: لا. قال: (لا تفعل هذا)، أو كما قال رسول اللّه ﷺ.
بل قد ثبت في الصحيح من حديث جابر: أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى بأصحابه قاعدًا من مرض كان به، فصلوا قيامًا، فأمرهم بالجلوس، وقال: (لا تعظموني كما تعظم الأعاجم بعضها بعضًا)، وقال: (من سره أن يتمثل له الناس قيامًا فليتبوأ مقعده من النار). فإذا كان قد نهاهم مع قعوده وإن كانوا قاموا في الصلاة حتى لا يتشبهوا بمن يقومون لعظمائهم، وبين أن من سره القيام له كان من أهل النار فكيف بما فيه من السجود له، ومن وضع الرأس، وتقبيل الأيادي؟! وقد كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو خليفة الله على الأرض قد وكل أعوانًا يمنعون الداخل من تقبيل الأرض، ويؤدبهم إذا قبل أحد الأرض.
وبالجملة، فالقيام والقعود والركوع والسجود حق للواحد المعبود؛ خالق السموات والأرض، وما كان حقًا خالصًا لله لم يكن لغيره فيه نصيب؛ مثل الحلف بغير الله عز وجل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت). متفق عليه. وقال أيضًا: (من حلف بغير الله فقد أشرك).
فالعبادة كلها لله وحده لا شريك له: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [79]. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الله يرضي لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم). وإخلاص الدين لله هو أصل العبادة.
ونبينا صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الشرك دقِّه وجلِّه، وحقيره وكبيره، حتى إنه قد تواتر عنه أنه نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها بألفاظ متنوعة؛ تارة يقول: (لا تَحَرُّوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها). وتارة ينهى عن الصلاة بعد طلوع الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس. وتارة يذكر أن الشمس إذا طلعت طلعت بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ونهى عن الصلاة في هذا الوقت؛ لما فيه من مشابهة المشركين في كونهم يسجدون للشمس في هذا الوقت، وأن الشيطان يقارن الشمس حينئذ ليكون السجود له، فكيف بما هو أظهر شركًا ومشابهة للمشركين من هذا؟! وقد قال الله تعالى فيما أمر رسوله أن يخاطب به أهل الكتاب: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [80]، وذلك لما فيه من مشابهة أهل الكتاب من اتخاذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، ونحن منهىون عن مثل هذا، ومن عدل عن هدي نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهدي أصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى ما هو من جنس هدي النصارى، فقد ترك ما أمر الله به ورسوله.
وأما قول القائل: انقضت حاجتي ببركة الله وبركتك. فمنكر من القول؛ فإنه لا يقرن بالله في مثل هذا غيره، حتى إن قائلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال: (أجعلتني لله نِدّا؟! بل ما شاء الله وحده)، وقال لأصحابه: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد). وفي الحديث: أن بعض المسلمين رأي قائلا يقول: نعم القوم أنتم، لولا أنكم تنددون. أي: تجعلون لله ندًا. يعني: تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فنهاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك. وفي الصحيح عن زيد بن خالد، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الفجر بالحديبية في إثر سَمَاء من الليل، فقال: (أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟). قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: (قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب). والأسباب التي جعلها الله أسبابًا لا تجعل مع الله شركاء وأندادًا وأعوانًا.
وقول القائل: ببركة الشيخ، قد يعني بها دعاءه، وأسرعُ الدعاءِ إجابة دعاء غائب لغائب. وقد يعني بها بركة ما أمره به وعلمه من الخير، وقد يعني بها بركة معاونته له على الحق، وموالاته في الدين، ونحو ذلك. وهذه كلها معان صحيحة. وقد يعني بها دعاءه للميت والغائب؛ إذ استقلال الشيخ بذلك التأثير، أو فعله لما هو عاجز عنه، أو غير قادر عليه، أو غير قاصد له متابعته أومطاوعته على ذلك من البدع المنكرات، ونحو هذه المعاني الباطلة. والذي لا ريب فيه أن العمل بطاعة الله تعالى، ودعاء المؤمنين بعضهم لبعض، ونحو ذلك، هو نافع في الدنيا والآخرة، وذلك بفضل الله ورحمته.
وأما سؤال السائل عن القطب الغوث الفرد الجامع، فهذا قد يقوله طوائف من الناس، ويفسرونه بأمور باطلة في دين الإسلام؛ مثل تفسير بعضهم: أن الغوث هو الذي يكون مدد الخلائق بواسطته في نصرهم ورزقهم، حتى يقول: إن مدد الملائكة وحيتان البحر بواسطته. فهذا من جنس قول النصارى في المسيح عليه السلام والغالية في علي رضي الله عنه. وهذا كفر صريح، يستتاب منه صاحبه، فإن تاب وإلا قتل؛ فإنه ليس من المخلوقات لا ملك ولا بشر يكون إمداد الخلائق بواسطته؛ ولهذا كان ما يقوله الفلاسفة في العقول العشرة الذين يزعمون أنها الملائكة، وما يقوله النصارى في المسيح ونحو ذلك، كفر صريح باتفاق المسلمين.
وكذلك عني بالغوث ما يقوله بعضهم: من أن في الأرض ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، يسمونهم النجباء، فينتقي منهم سبعون هم النقباء، ومنهم أربعون هم الأبدال، ومنهم سبعة هم الأقطاب، ومنهم أربعة هم الأوتاد، ومنهم واحد هو الغوث، وأنه مقيم بمكة، وأن أهل الأرض إذا نابهم نائبة في رزقهم ونصرهم فزعوا إلى الثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، وأولئك يفزعون إلى السبعين، السبعون إلى الأربعين والأربعون إلى السبعة، والسبعة إلى الأربعة، والأربعة إلى الواحد. وبعضهم قد يزيد في هذا وينقص في الأعداد والأسماء والمراتب؛ فإن لهم فيها مقالات متعددة حتى يقول بعضهم: إنه ينزل من السماء على الكعبة ورقة خضراء باسم غوث الوقت، واسم خضره على قول من يقول منهم: إن الخضر هو مرتبة، وإن لكل زمان خضرًا، فإن لهم في ذلك قولين وهذا كله باطل لا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا قاله أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، ولا من المشايخ الكبار المتقدمين الذين يصلحون للاقتداء بهم. ومعلوم أن سيدنا رسول رب العالمين وأبا بكر وعمر وعثمان وعلىا رضي الله عنهم كانوا خير الخلق في زمنهم، وكانوا بالمدينة، ولم يكونوا بمكة.
وقد روي بعضهم حديثًا في هلال غلام المغيرة بن شعبة، وأنه أحد السبعة. والحديث باطل باتفاق أهل المعرفة، وإن كان قد روي بعض هذه الأحاديث أبو نعيم في حلية الأولياء، والشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في بعض مصنفاته، فلا تغتر بذلك؛ فإن فيه الصحيح والحسن والضعيف والموضوع، والمكذوب الذي لا خلاف بين العلماء في أنه كذب موضوع. وتارة يرويه على عادة بعض أهل الحديث الذين يروون ما سمعوا ولا يميزون بين صحيحه وباطله، وكان أهل الحديث لا يروون مثل هذه الأحاديث؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من حدث عني بحديث وهو يري أنه كذب فهو أحد الكاذبين).
وبالجملة، فقد علم المسلمون كلهم أن ما ينزل بالمسلمين من النوازل، في الرغبة والرهبة؛ مثل دعائهم عند الاستسقاء لنزول الرزق، ودعائهم عند الكسوف، والاعتداد لرفع البلاء، وأمثال ذلك، إنما يدعون في ذلك الله وحده لا شريك له، لا يشركون به شيئًا، لم يكن للمسلمين قط أن يرجعوا بحوائجهم إلى غير الله عز وجل، بل كان المشركون في جاهليتهم يدعونه بلا واسطة فيجيبهم الله، أفَتَرَاهم بعد التوحيد والإسلام لا يجيب دعاءهم إلا بهذه الواسطة التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ قال تعالى: { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ } [81]، وقال تعالى: { وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [82]، وقال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }، وقال: { وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [83].
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم استسقي لأصحابه بصلاة وبغير صلاة، وصلى بهم للاستسقاء، وصلاة الكسوف، وكان يقنت في صلاته فيستنصر على المشركين، وكذلك خلفاؤه الراشدون بعده، وكذلك أئمة الدين ومشايخ المسلمين، ومازالوا، على هذه الطريقة.
ولهذا يقال: ثلاثة أشياء مالها من أصل: باب النصيرية، ومنتظر الرافضة، و غوث الجهال ؛ فإن النصيرية تدعي في الباب الذي لهم ما هو من هذا الجنس؛ أنه الذي يقيم العالم، فذاك شخصه موجود، ولكن دعوي النصيرية فيه باطلة. وأما محمد بن الحسن المنتظر، والغوث المقيم بمكة، ونحو هذا، فإنه باطل ليس له وجود.
وكذلك ما يزعمه بعضهم من أن القطب الغوث الجامع يمد أولياء الله، ويعرفهم كلهم، ونحو هذا، فهذا باطل. فأبو بكر وعمر رضي الله عنهما لم يكونا يعرفان جميع أولياء الله، ولا يمدانهم، فكيف بهؤلاء الضالين المغترين الكذابين؟! ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيد ولد آدم إنما عرف الذين لم يكن رآهم من أمته بسيماء الوضوء، وهو الغُرَّة والتحجيل، ومن هؤلاء من أولياء الله من لا يحصيه إلا الله عز وجل. وأنبياء الله الذين هو إمامهم وخطيبهم لم يكن يعرف أكثرهم، بل قال الله تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } [84]، وموسى لم يكن يعرف الخضر، والخضر لم يكن يعرف موسى، بل لما سلم عليه موسى قال له الخضر: وأنَّي بأرضك السلام؟ فقال له: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. وقد كان بلغه اسمه وخبره، ولم يكن يعرف عينه. ومن قال: إنه نقيب الأولياء، أو أنه يعلمهم كلهم، فقد قال الباطل.
والصواب الذي عليه المحققون أنه ميت، وأنه لم يدرك الإسلام، ولو كان موجودًا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوجب عليه أن يؤمن به، ويجاهد معه، كما أوجب الله ذلك عليه وعلى غيره، ولكان يكون في مكة والمدينة، ولكان يكون حضوره مع الصحابة للجهاد معهم وإعانتهم على الدين أولى به من حضوره عند قوم كفار ليرقع لهم سفينتهم، ولم يكن مختفيًا عن خير أمة أخرجت للناس، وهو قد كان بين المشركين ولم يحتجب عنهم.
ثم ليس للمسلمين به وأمثاله حاجة لا في دينهم ولا في دنياهم، فإن دينهم أخذوه عن الرسول النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم الذي علمهم الكتاب والحمكة، وقال لهم نبيهم: (لو كان موسى حيَا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم). وعيسي ابن مريم عليه السلام إذا نزل من السماء إنما يحكم فيهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم. فأي حاجة لهم مع هذا إلى الخضر وغيره؟! والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبرهم بنزول عيسي من السماء، وحضوره مع المسلمين، وقال: (كيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسي في آخرها). فإذا كان النبيان الكريمان اللذان هما مع إبراهيم وموسى ونوح أفضل الرسل، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم سيد ولد آدم، ولم يحتجبوا عن هذه الأمة، لا عَوَامِّهم ولا خَوَاصِّهم، فكيف يحتجب عنهم من ليس مثلهم؟! وإذا كان الخضر حيًا دائمًا فكيف لم يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك قط، ولا أخبر به أمته، ولا خلفاؤه الراشدون؟!
وقول القائل: إنه نقيب الأولياء. فيقال له: من ولاه النقابة، وأفضل الأولياء أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليس فيهم الخضر؟ وعامة ما يحكي في هذا الباب من الحكايات بعضها كذب، وبعضها مبني على ظن رجل؛ مثل شخص رأي رجلا ظن أنه الخضر، وقال: إنه الخضر، كما أن الرافضة تري شخصًا تظن أنه الإمام المنتظر المعصوم، أو تدعي ذلك، وروي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال وقد ذكر له الخضر: من أحالك على غائب فما أنصفك. وما ألقي هذا على ألسنة الناس إلا الشيطان. وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
وأما إن قصد القائل بقوله: القطب الغوث الفرد الجامع أنه رجل يكون أفضل أهل زمانه فهذا ممكن، لكن من الممكن أيضًا أن يكون في الزمان اثنان متساويان في الفضل، وثلاثة وأربعة، ولا يجزم بألا يكون في كل زمان أفضل الناس إلا واحدًا، وقد تكون جماعة بعضهم أفضل من بعض من وجه دون وجه، وتلك الوجوه إما متقاربة وإما متساوية.
ثم إذا كان في الزمان رجل هو أفضل أهل الزمان فتسميته بالقطب الغوث الجامع بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، ولا تكلم بهذا أحد من سلف الأمة وأئمتها، وما زال السلف يظنون في بعض الناس أنه أفضل أو من أفضل أهل زمانه ولا يطلقون عليه هذه الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان، لا سيما أن من المنتحلين لهذا الاسم من يدعي أن أول الأقطاب هو الحسن بن على بن أبي طالب رضي الله عنهما ثم يتسلل الأمر إلى ما دونه إلى بعض مشايخ المتأخرين، وهذا لا يصح لا على مذهب أهل السنة، ولا على مذهب الرافضة. فأين أبو بكر وعمر وعثمان وعلى والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار؟! والحسن عند وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد قارب سن التمييز والاحتلام.
وقد حكي عن بعض الأكابر من الشيوخ المنتحلين لهذا: أن القطب الفرد الغوث الجامع ينطبق علمه على علم الله تعالى، وقدرته على قدرة الله تعالى، فيعلم ما يعلمه الله، ويقدر على ما يقدر عليه الله. وزعم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان كذلك، وأن هذا انتقل عنه إلى الحسن، وتسلسل إلى شيخه. فبنت أن هذا كفر صريح، وجهل قبيح، وأن دعوي هذا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفر، دع ما سواه، وقد قال الله تعالى: { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } [85]، قال تعالى: { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } الآية [86]، وقال تعالى: { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا } الآية، وقال تعالى: { يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } [87]، وقال تعالى: { لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } [88]، وقال تعالى: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [89].
والله سبحانه وتعالى أمرنا أن نطيع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } [90]، وأمرنا أن نتبعه فقال تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ } [91]، وأمرنا أن نعزره ونوقره وننصره، وجعل له من الحقوق ما بينه في كتابه وسنة رسوله، حتى أوجب علىنا أن يكون أحب الناس إلىنا من أنفسنا وأهلينا، فقال تعالى: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } [92]، وقال تعالى: { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ } [93]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين). وقال له عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، لأنت أحب إلى من كل شيء إلا من نفسي. فقال: (لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك). قال: فلأنت أحب إلى من نفسي، قال: (الآن يا عمر). وقال: (ثلاث من كن فيه وَجَدَ بهنّ حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقي في النار).
وقد بين في كتابه حقوقه التي لا تصلح إلا له وحقوق رسله وحقوق المؤمنين بعضهم على بعض، كما بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وذلك مثل قوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } [94]، فالطاعة لله. والرسول والخشية والتقوي لله وحده، وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ } [95]، فالإيتاء لله والرسول والرغبة لله وحده، وقال تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } [96]، لأن الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، وأما الحسب فهو لله وحده، كما قال: { وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ } [97]، ولم يقل: حسبنا الله ورسوله، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [98] أي: يكفيكك الله ويكفي من اتبعك من المؤمنين، وهذا هو الصواب المقطوع به في هذه الآية؛ ولهذا كانت كلمة إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام حسبنا الله ونعم الوكيل. والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم، وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وسئل عن هؤلاء الزائرين قبور الأنبياء والصالحين كقبر الخليل وغيره
وَسُئِل رحمه الله عن هؤلاء الزائرين قبور الأنبياء والصالحين كقبر الخليل وغيره، فيأتون إلى الضريح ويقبلونه، والقوام بذلك المكان، أي من جاء يأتونه ويجيئون به إلى الضريح، فيعلمونهم ذلك، ويقرونهم عليه. فهل هذا ما أمر الله تعالى به ورسوله أم لا؟ وهل في ذلك ثواب وأجر أم لا؟ وهل هو من الدين الذي بعث الله سبحانه به رسوله ﷺ أم لا؟ وإذا لم يكن كذلك وكان أناس يعتقدون أن هذا من الدين ويفعلونه على هذا الوجه، فهل يجب أن ينهوا عن ذلك أم لا؟ وهل استحب هذا أحد من الأئمة الأربعة أم لا؟ وهل كانت الصحابة والتابعون يفعلون ذلك أم لا؟ وإذا كان في القوام أو غيرهم من يفعل ذلك، أو يأمر به أو يقر عليه لأجل جعل يأخذه أو غير ذلك، فهل يثاب ولي الأمر على منع هؤلاء أم لا؟ وهل إذا لم ينتهوا عن ذلك فهل لولي الأمر أن يصرف عن الولاية من لم ينته منهم أم لا؟ والكسب الذي يكسبه الناس من مثل هذا الأمر هل هو كسب طيب أو خبيث؟ وهل يستحقون مثل هذا الكسب، أم يؤخذ منهم ويصرف في مصالح المسلمين؟ وهل يجوز أن يقام إلى جانب مسجد الخليل السماع الذي يسمونه النوبة الخليلية ويقام عند ذلك سماع يجتمعون له، الفقراء وغيرهم وفيه الشبابة أم لا ؟ والذي يصفر بالشبابة مؤذن بالمكان المذكور هل يفسق أم لا؟ وهل إذا لم ينته يصرفه ولي الأمر أم لا؟ وإذا لم يستطع ولي الأمر أن يزيل ذلك، فهل له أن ينقل هذه النوبة المذكورة إلى مكان لا يمكن الرقص فيه لضيق المكان أم لا؟
فأجاب رضي الله عنه:
الحمد لله رب العالمين، لم يأمر الله ولا رسوله ولا أئمة المسلمين بتقبيل شيء من قبور الأنبياء والصالحين، ولا التمسح به، لا قبر نبينا ﷺ، ولا قبر الخليل ﷺ، ولا قبر غيرهما، بل ولا بالتقبيل والاستلام لصخرة بيت المقدس، ولا الركنين الشاميين من البيت العتيق، بل إنما يستلم الركنان إلىمانيان فقط؛ اتباعًا لسنة النبي ﷺ، فإنه لم يستلم إلا إلىمانيين، ولم يقبل إلا الحجر الأسود. واتفقوا على أن الشاميين لا يستلمان ولا يقبلان.
واتفقوا على أن إليمانيين يستلمان، واتفقوا على تقبيل الأسود.
وتنازعوا في تقبيل إليماني؟ على ثلاثة أقوال معروفة. قيل: يقبل. وقيل: يستلم وتقبل اليد. وقيل: يستلم، ولا تقبل اليد. وهذا هو الصحيح، فإن الثابت عن النبي ﷺ أنه استلمه ولم يقبله، ولم يقبل يده لما استلمه، ولا أجر ولا ثواب فيما ليس بواجب ولا مستحب؛ فإن الأجر والثواب إنما يكون على الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة إما واجبة وإما مستحبة.
فإذا كان الاستلام والتقبيل لهذه الأجسام ليس بواجب ولا مستحب لم يكن في ذلك أجر ولا ثواب، ومن اعتقد أنه يؤجر على ذلك ويثاب فهو جاهل ضال مخطئ، كالذي يعتقد أنه يؤجر ويثاب إذا سجد لقبور الأنبياء والصالحين، والذي يعتقد أنه يؤجر ويثاب إذا دعاهم من دون الله، والذي يعتقد أنه يؤجر ويثاب إذا صور صورهم، كما يفعل النصارى ودعا تلك الصور، وسجد لها، ونحو ذلك من البدع التي ليست واجبة ولا مستحبة، بل هي إما كفر وإما جهل وضلال.
وليس شيء من هذا من الدين الذي بعث الله به محمدًا ﷺ باتفاق المسلمين. ومن اعتقد أن هذا من الدين وفعله وجب أن ينهى عنه، ولم يستحب هذا أحد من الأئمة الأربعة، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
ومن أمر الناس بشيء من ذلك أو رغبهم فيه أو أعانهم عليه من القوام أو غير القوام، فإنه يجب نهىه عن ذلك، ومنعه منه. ويثاب ولي الأمر على منع هؤلاء، ومن لم ينته عن ذلك فإنه يعزر تعزيرًا يردعه. وأقل ذلك أن يعزل عن القيامة، ولا يترك من يأمر الناس بما ليس من دين المسلمين.
والكسب الذي يكسب بمثل ذلك خبيث، من جنس كسب الذين يكذبون على الله ورسوله، ويأخذون على ذلك جُعْلا، ومن جنس كسب سَدَنة الأصنام الذين يأمرون بالشرك ويأخذون على ذلك جعلا؛ فإن هذه الأمور من جملة ما نهى عنه من أسباب الشرك ودواعيه وأجزائه، وقد قال ﷺ: (اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد). رواه مالك في الموطأ وغيره. وقال ﷺ: (لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني). رواه أبو داود وغيره. وفي الصحيحين عنه: أنه قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما فعلوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا. وفي الصحيح عنه: أنه قال قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك). وفي المسند وصحيح أبي حاتم عنه ﷺ: أنه قال: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد). والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة.
ولهذا لم يكن الصحابة يسافرون إلى قبر الخليل ولا غيره من قبور الصالحين، ولا سافروا إلى زيارة جبل طور سيناء وهو { الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ } [99]، والوادي المقدس الذي ذكره الله في كتابه، وكلم عليه كليمه موسى، بل ولا كان النبي ﷺ وأصحابه في حياته وبعد مماته يزورون جبل حِرَاء الذي نزل الوحي على رسول الله ﷺ فيه، ولم يكونوا يزورون بمكة غير المشاعر كالمسجد الحرام، ومني، ومزدلفة وعرفة في الحج. وكذلك لم يكن أحد من أصحاب النبي ﷺ، يقصد الدعاء عند قبر أحد من الأنبياء، لا قبر نبينا ﷺ، ولا قبر الخليل، ولا غيرهما.
ولهذا ذكر الأئمة كمالك وغيره أن هذا بدعة، بل كانوا إذا أتوا إلى قبر النبي ﷺ يسلمون عليه، ويصلون عليه، كما ذكر مالك في الموطأ: أن ابن عمر كان إذا أتي قبر النبي ﷺ صلى عليه، وعلى أبي بكر وعمر. وفي رواية عنه: كان يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت. ثم ينصرف.
ومن اكتسب مالا خبيثا؛ مثل هذا الذي يأمر الناس بالبدع ويأخذ على ذلك جُعْلا، فإنه لا يملكه، فإذا تعذر رده على صاحبه، فإن ولاة الأمور يأخذونه من هذا الذي أكل أموال الناس بالباطل، وصد عن سبيل الله، ويصرفها في مصالح المسلمين التي يحبها الله ورسوله، فيؤخذ المال الذي أنفق في طاعة الشيطان فينفق في طاعة الرحمن.
وأما السماع الذي يسمونه: نوبة الخليل، فبدعة باطلة لا أصل له، ولم يكن الخليل ﷺ يفعل شيئًا من هذا، ولا الصحابة لما فتحوا البلاد فعلوا عند الخليل شيئًا من هذا، ولا فعل شيئًا من هذا رسول الله ﷺ ولا خلفاؤه، بل هذا إما أن يكون من إحداث النصارى؛ فإنهم هم الذين نقبوا حجرة الخليل بعد أن كانت مسدودة لا يدخل أحد إليها. وإما أن يكون من إحداث بعض جهال المسلمين، ولا يجوز أن يقام هناك رقص ولا شبابة، ولا ما يشبه ذلك، بل يجب النهى عن ذلك، ومن أصر على حضور ذلك من مؤذن وغيره قدح ذلك في عدالته، والله أعلم.
سئل عمن يقول إن الدعاء المستجاب عند قبور أربعة
وَسُئِل قدس الله روحه عن حكم قول بعض العلماء والفقراء: إن الدعاء المستجاب عند قبور أربعة من أصحاب الأئمة الأربعة قبر الفندلاوي من أصحاب مالك، وقبر البرهان البلخي من أصحاب أبي حنيفة، وقبر الشيخ نصر المقدسي من أصحاب الشافعي، وقبر الشيخ أبي الفرج من أصحاب أحمد رضي الله عنهم. ومن استقبل القبلة عند قبورهم ودعا استجيب له. وقول بعض العلماء عن بعض المشائخ يوصيه: إذا نزل بك حادث أو أمر تخافه استوحني ينكشف عنك ما تجده من الشدة؛ حيًا كنت، أو ميتًا. ومن قرأ آية الكرسي واستقبل جهة الشيخ عبد القادر الجيلاني وسلم عليه سبع مرات يخطو مع كل تسليمة خطوة إلى قبره قضيت حاجته، أو كان في سماع فإنه يطيب ويكثر التواجد. وقول الفقراء: إن الله تعالى ينظر إلى الفقراء بتجليه عليهم في ثلاثة مواطن: عند مد السماط، وعند قيامهم في الاستغفار أو المجارات التي بينهم، وعند السماع. وما يفعله بعض المتعبدين من الدعاء عند قبر زكريا، وقبر هود، والصلاة عندهما، والموقف بين شرقي رواق الجامع بباب الطهارة بدمشق، والدعاء عند المصحف العثماني، ومن ألصق ظهره الموجوع بالعمود الذي عند رأس قبر معاوية عند الشهداء بباب الصغير.
فهل للدعاء خصوصية قبول أو سرعة إجابة بوقت مخصوص، أو مكان معين، عند قبر نبي، أو ولي، أو يجوز أن يستغيث إلى الله تعالى في الدعاء بنبي مرسل، أو ملك مقرب، أو بكلامه تعالى، أو بالكعبة، أو بالدعاء المشهور باحتىاط قاف، أو بدعاء أم داود، أو الخضر؟
وهل يجوز أن يقسم على الله تعالى في السؤال بحق فلان، بحرمة فلان، بجاه المقربين، بأقرب الخلق، أو يقسم بأفعاله وأعمالهم؟ وهل يجوز تعظيم مكان فيه خلوق وزعفران وسرج؛ لكونه رأي النبي ﷺ في المنام عنده، أو يجوز تعظيم شجرة يوجد فيها خرق معلقة، ويقال: هذه مباركة يجتمع إليها الرجال الأولياء؟ وهل يجوز تعظيم جبل، أو زيارته، أو زيارة ما فيه من المشاهد والآثار، والدعاء فيها والصلاة، كمغارة الدم، وكهف آدم، والآثار، ومغارة الجوع، وقبر شيث، وهابيل، ونوح، وإلىاس، وحزقيل، وشيبال الراعي، وإبراهيم ابن أدهم بجبلة، وعش الغراب ببعلبك، ومغارة الأربعين، وحمام طبرية، وزيارة عسقلان، ومسجد صالح بعكا وهو مشهور بالحرمات والتعظيم والزيارات؟
وهل يجوز تحري الدعاء عند القبور وأن تقبل، أو يوقد عندها القناديل والسرج؟ وهل يحصل للأموات بهذه الأفعال من الأحياء منفعة أو مضرة؟ وهل الدعاء عند القدم النبوي بدار الحديث الأشرافية بدمشق وغيره، وقدم موسى، ومهد عيسي، ومقام إبراهيم، ورأس الحسين، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي، وأويس القرني، وما أشبه ذلك كله في سائر البلاد، والقري، والسواحل والجبال، والمشاهد، والمساجد، والجوامع؟
وكذلك قولهم: الدعاء مستجاب عند برج باب كيسان بين بابي الصغير والشرقي مستدبرًا له متوجهًا إلى القبلة، والدعاء عند داخل باب الفرادين، فهل ثبت شيء في إجابة الأدعية في هذه الأماكن أم لا؟ وهل يجوز أن يستغاث بغير الله تعالى بأن يقول: يا جاه محمد، أو ياللست نفيسة، أو يا سيدي أحمد! أو إذا عثر أحد وتعسر أو قفز من مكان إلى مكان يقول: يآل على! أو يآل الشيخ فلان، أم لا؟ وهل تجوز النذور للأنبياء أو للمشائخ، مثل الشيخ جاكير، أو أبي الوفاء، أو نور الدين الشهيد، أو غيرهم أم لا؟ وكذلك هل تجوز النذور لقبور أحد من آل بيت النبوة، ومدركه، والأئمة الأربعة، ومشايخ العراق، والعجم، ومصر، والحجاز، وإلىمن، والهند، والمغرب، وجميع الأرض، وجبل قان وغيرها أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، أما قول القائل: إن الدعاء مستجاب عند قبور المشايخ الأربعة المذكورين رضي الله عنهم فهو من جنس قول غيره: قبر فلان هو الترياق المجرب، ومن جنس ما يقوله أمثال هذا القائل: من أن الدعاء مستجاب عند قبر فلان وفلان. فإن كثيرًا من الناس يقول مثل هذا القول عند بعض القبور، ثم قد يكون ذلك القبر قد علم أنه قبر رجل صالح من الصحابة أو أهل البيت أو غيرهم من الصالحين، وقد يكون نسبة ذلك القبر إلى ذلك كذبًا أو مجهول الحال؛ مثل أكثر ما يذكر من قبور الأنبياء، وقد يكون صحيحًا والرجل ليس بصالح فإن هذه الأقسام موجودة فيمن يقول مثل هذا القول، أو من يقول: إن الدعاء مستجاب عند قبر بعينه، وأنه استجيب له الدعاء عنده، والحال أن ذاك إما قبر معروف بالفسق والابتداع، وإما قبر كافر، كما رأينا من دعا فكشف له حال القبور فبهت لذلك، ورأينا من ذلك أنواعًا.
وأصل هذا: أن قول القائل: إن الدعاء مستجاب عند قبور الأنبياء والصالحين، قول ليس له أصل في كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا قاله أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا أحد من أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في الدين؛ كمالك، والثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيدة، ولا مشايخهم الذين يقتدي بهم؛ كالفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، وأمثالهم.
ولم يكن في الصحابة والتابعين والأئمة والمشايخ المتقدمين من يقول: إن الدعاء مستجاب عند قبور الأنبياء والصالحين، لا مطلقًا، ولا معينًا، ولا فيهم من قال: إن دعاء الإنسان عند قبور الأنبياء والصالحين أفضل من دعائه في غير تلك البقعة، ولا أن الصلاة في تلك البقعة أفضل من الصلاة في غيرها. ولا فيهم من كان يتحري الدعاء ولا الصلاة عند هذه القبور، بل أفضل الخلق، وسيدهم هو رسول الله ﷺ وليس في الأرض قبر اتفق الناس على أنه قبر نبي غير قبره، وقد اختلفوا في قبر الخليل وغيره، واتفق الأئمة على أنه يسلم عليه عند زيارته وعلى صاحبيه، لما في السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: (ما من رجل يسلم على إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام). وهو حديث جيد. وقد روي ابن أبي شيبة والدارقطني عنه: (من سَلَّم على عند قبري سمعته، ومن صلى على نائيا أبلغته). وفي إسناده لين. لكن له شواهد ثابتة؛ فإن إبلاغ الصلاة والسلام عليه من البعد قد رواه أهل السنن من غير وجه، كما في السنن عنه ﷺ أنه قال: (أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة، وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة على). قالوا: كيف تعرض صلاتنا عليك وقد رممت؟ أي: بليت. فقال: (إن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء). وفي النسائي وغيره عنه ﷺ أنه قال: (إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتى السلام ). ومع هذا لم يقل أحد منهم: إن الدعاء مستجاب عند قبره، ولا أنه يستحب أن يتحري الدعاء متوجها إلى قبره، بل نصوا على نقيض ذلك، واتفقوا كلهم على أنه لا يدعو مستقبل القبر.
وتنازعوا في السلام عليه. فقال الأكثرون كمالك وأحمد وغيرهما: يسلم عليه مستقبل القبر، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وأظنه منقولا عنه. وقال أبو حنيفة وأصحابه: بل يسلم عليه مستقبل القبلة، بل نص أئمة السلف على أنه لا يوقف عنده للدعاء مطلقا، كما ذكر ذلك إسماعيل بن إسحاق في كتاب المبسوط وذكره القاضي عياض. قال مالك: لا أري أن يقف عند قبر النبي ﷺ ويدعو، ولكن يسلم ويمضي. وقال أيضا في المبسوط: لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي ﷺ فيصلى عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر. فقيل له: فإن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك فى اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا فى الجمعة أو فى اليوم المرة والمرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة، فقال: لم يبلغنى هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدتنا، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغنى عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، إلا من جاء من سفر أو أراده. قال ابن القاسم: رأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوها أتوا القبر وسلموا. قال: وذلك دأبي.
فهذا مالك وهو أعلم أهل زمانه أى زمن تابع التابعين بالمدينة النبوية الذين كان أهلها فى زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أعلم الناس بما يشرع عند قبر النبي ﷺ يكرهون الوقوف للدعاء بعد السلام عليه. وبين أن المستحب هو الدعاء له ولصاحبيه، وهو المشروع من الصلاة والسلام، وأن ذلك أيضا لا يستحب لأهل المدينة كل وقت، بل عند القدوم من سفر أو إرادته؛ لأن ذلك تحية له، والمحيا لا يقصد بيته كل وقت لتحيته، بخلاف القادمين من السفر. وقال مالك فى رواية أبى وهب: إذا سلم على النبي ﷺ يقف وجهه إلى القبر، لا إلى القبلة، ويدنو ويسلم، ولا يمس القبر بيده.
وكره مالك أن يقال: زرنا قبر النبي ﷺ. قال القاضى عياض: كراهة مالك له لإضافته إلى قبر النبي ﷺ؛ لقوله: (اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). ينهى عن إضافة هذا اللفظ إلى القبر والتشبه بفعل ذلك؛ قطعا للذريعة، وحسما للباب.
قلت: والأحاديث الكثيرة المروية فى زيارة قبره كلها ضعيفة، بل موضوعة. لم يرو الأئمة ولا أهل السنن المتبعة كسنن أبى داود والنسائى ونحوهما فيها شيئا، ولكن جاء لفظ زيارة القبور فى غير هذا الحديث؛ مثل قوله ﷺ: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة)، وكان ﷺ يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية).
ولكن صار لفظ زيارة القبور فى عرف كثير من المتأخرين يتناول الزيارة البدعية والزيارة الشرعية، وأكثرهم لا يستعملونها إلا بالمعنى البدعى، لا الشرعى؛ فلهذا كره هذا الإطلاق.
فأما الزيارة الشرعية فهى من جنس الصلاة على الميت، يقصد بها الدعاء للميت، كما يقصد بالصلاة عليه، كما قال الله فى حق المنافقين: { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ } [100]، فلما نهى عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم، دل ذلك بطريق مفهوم الخطاب وعلة الحكم أن ذلك مشروع فى حق المؤمنين. والقيام على قبره بعد الدفن هو من جنس الصلاة عليه قبل الدفن، يراد به الدعاء له. وهذا هو الذى مضت به السنة، واستحبه السلف عند زيارة قبور الأنبياء والصالحين.
وأما الزيارة البدعية فهى من جنس الشرك والذريعة إليه، كما فعل اليهود والنصارى عند قبور الأنبياء والصالحين، قال ﷺ فى الأحاديث المستفيضة عنه فى الصحاح والسنن والمسانيد: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما صنعوا. وقال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك)، وقال: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد)، وقال: (لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج). فإذا كان قد لعن من يتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، امتنع أن يكون تحريها للدعاء مستحبا؛ لأن المكان الذى يستحب فيه الدعاء يستحب فىه الصلاة، لأن الدعاء عقب الصلاة أجوب. وليس فى الشريعة مكان ينهى عن الصلاة عنده مع أنه يستحب الدعاء عنده.
وقد نص الأئمة كالشافعى وغيره على أن النهى عن ذلك معلل بخوف الفتنة بالقبر، لا بمجرد نجاسته، كما يظن ذلك بعض الناس؛ ولهذا كان السلف يأمرون بتسوية القبور وتعفية ما يفتتن به منها، كما أمر عمر بن الخطاب بتعفية قبر دانيال لما ظهر بتستر، فإنه كتب إليه أبو موسى يذكر أنه قد ظهر قبر دانيال، وأنهم كانوا يستسقون به، فكتب إليه عمر يأمره أن يحفر بالنهار ثلاثة عشر قبرا ثم يدفنه بالليل فى واحد منها ويعفيه لئلا يفتتن به الناس.
والذى ذكرناه عن مالك وغيره من الأئمة كان معروفا عند السلف، كما رواه أبو يعلى الموصلى فى مسنده، وذكره الحافظ أبو عبد الله المقدسى في مختاره عن على بن الحسين ابن على بن أبى طالب المعروف بزين العابدين أنه رأى رجلا يجىء إلى فرجة كانت عند قبر النبي ﷺ فيدخل، فيدعو فيها فنهاه، فقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبى، عن جدى، عن رسول الله ﷺ؟ قال: (لا تتخذوا قبرى عيدا، ولا بيوتكم قبورا؛ فإن تسليمكم يبلغنى أينما كنتم). وهذا الحديث فى سنن أبى داود من حديث أبى هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ (لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبرى عيدا، وصلوا على، فإن صلاتكم تبلغنى حيث كنتم). وفى سنن سعيد بن منصور: حدثنا عبد العزيز بن محمد، أخبرنى سهيل بن أبى سهيل، قال: رآنى الحسن بن الحسين بن على بن أبى طالب عند القبر، فنادانى وهو فى بيت فاطمة يتعشى، فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده. فقال: ما لى رأيتك عند القبر؟! فقلت: سلمت على النبي ﷺ. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله ﷺ قال: (لا تتخذوا بيتى عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا على، فإن صلاتكم تبلغنى حيثما كنتم، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء). وقد بسط الكلام على هذا الأصل فى غير هذا الموضع.
فإذا كان هذا هو المشروع فى قبر سيد ولد آدم وخير الخلق وأكرمهم على الله، فكيف يقال فى قبر غيره؟! وقد تواتر عن الصحابة أنهم كانوا إذا نزلت بهم الشدائد كحالهم فى الجدب والاستسقاء وعند القتال والاستنصار يدعون الله ويستغيثونه فى المساجد والبيوت، ولم يكونوا يقصدون الدعاء عند قبر النبي ﷺ ولا غيره من قبور الأنبياء والصالحين، بل قد ثبت فى الصحيح أن عمر بن الخطاب قال: اللهم، إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون. فتوسلوا بالعباس، كما كانوا يتوسلون به، وهو أنهم كانوا يتوسلون بدعائه وشفاعته، وهكذا توسلوا بدعاء العباس وشفاعته، ولم يقصدوا الدعاء عند قبر النبي ﷺ، ولا أقسموا على الله بشىء من مخلوقاته، بل توسلوا إليه بما شرعه من الوسائل، وهى الأعمال الصالحة، ودعاء المؤمنين، كما يتوسل العبد إلى الله بالإيمان بنبيه، وبمحبته، وموالاته، والصلاة عليه والسلام، وكما يتوسلون فى حياته بدعائه وشفاعته كذلك يتوسل الخلق فى الآخرة بدعائه وشفاعته. ويتوسل بدعاء الصالحين، كما قال النبي ﷺ: (وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؛ بدعائهم، وصلاتهم واستغفارهم؟).
ومن المعلوم بالاضطرار أن الدعاء عند القبور لو كان أفضل من الدعاء عند غيرها، وهو أحب إلى الله وأجوب، لكان السلف أعلم بذلك من الخلف، وكانوا أسرع إليه؛ فإنهم كانوا أعلم بما يحبه الله ويرضاه، وأسبق إلى طاعته ورضاه، ولكان النبي ﷺ يبين ذلك، ويرغب فيه؛ فإنه أمر بكل معروف، ونهى عن كل منكر، وما ترك شيئا يقرب إلى الجنة إلا وقد حدث أمته به، ولا شيئًا يبعد عن النار إلا وقد حذر أمته منه، وقد ترك أمته على البيضاء، ليلها كنهارها، لا ينزوى عنها بعده إلا هلك. فكيف وقد نهى عن هذا الجنس وحسم مادته بلعنه ونهيه عن اتخاذ القبور مساجد؟! فنهى عن الصلاة لله مستقبلا لها، وإن كان المصلى لا يعبد الموتى ولا يدعوهم، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت الغروب؛ لأنها وقت سجود المشركين للشمس، وإن كان المصلى لا يسجد إلا لله؛ سدًا للذريعة، فكيف إذا تحققت المفسدة بأن صار العبد يدعو الميت ويدعو به، كما إذا تحققت المفسدة بالسجود للشمس وقت الطلوع ووقت الغروب.
وقد كان أصل عبادة الأوثان من تعظيم القبور، كما قال تعالى: { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } [101]، قال السلف كابن عباس وغيره: كان هؤلاء قوما صالحين فى قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم.
ثم من المعلوم أن بمقابر باب الصغير من الصحابة والتابعين وتابعيهم من هو أفضل من هؤلاء المشايخ الأربعة، فكيف يعين هؤلاء للدعاء عند قبورهم دون من هو أفضل منهم؟! ثم إن لكل شيخ من هؤلاء ونحوهم من يحبه ويعظمه بالدعاء دون الشيخ الآخر، فهل أمر الله بالدعاء عند واحد دون غيره، كما يفعل المشركون بهم؟! الذين ضاهوا الذين { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [102].
فصل فيما حكي أنه إذا نزل بك حادث أو أمر تخافه فاستوحنى
وأما ما حكى عن بعض المشائخ من قوله: إذا نزل بك حادث أو أمر تخافه فاستوحنى، فيكشف ما بك من الشدة حيا كنت أو ميتا، فهذا الكلام ونحوه إما أن يكون كذبا من الناقل أو خطأ من القائل؛ فإنه نقل لا يعرف صدقه عن قائل غير معصوم، ومن ترك النقل المصدق عن القائل المعصوم واتبع نقلا غير مصدق عن قائل غير معصوم، فقد ضل ضلالا بعيدا. ومن المعلوم أن الله لم يأمر بمثل هذا، ولا رسله أمروا بذلك، بل قال الله تعالى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [103]. ولم يقل: ارغب إلى الأنبياء والملائكة، وقال تعالى: { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [104]، قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون العزير، والمسيح، والملائكة، فأنزل الله هذه الآية.
وهذا رسول الله ﷺ، لم يقل لأحد من أصحابه: إذا نزل بك حادث فاستوحنى، بل قال لابن عمه عبد الله بن عباس وهو يوصيه: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله).
وما يرويه بعض العامة من أنه قال: (إذا سألتم الله فاسألوه بجاهى؛ فإن جاهى عند الله عظيم)، فهو حديث كذب موضوع، لم يروه أحد من العلم، ولا هو فى شىء من كتب المسلمين المعتمدة فى الدين؛ فإن كان للميت فضيلة، فرسول الله ﷺ أولى بكل فضيلة وأصحابه من بعده. وإن كان منفعة للحى بالميت، فأصحابه أحق الناس انتفاعا به حيا وميتا. فعلم أن هذا من الضلال، وإن كان بعض الشيوخ قال ذلك فهو خطأ منه، والله يغفر له إن كان مجتهدا مخطئا. وليس هو بنبى يجب اتباع قوله، ولا معصوم فيما يأمر به وينهى عنه. وقد قال الله تعالى: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [105].
فصل قول القائل من قرأ آية الكرسي واستقبل جهة الشيخ عبد القادر الجيلاني
وأما قول القائل: من قرأ آية الكرسي واستقبل جهة الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه وسلم عليه، وخطا سبع خطوات، يخطو مع كل تسليمة خطوة إلى قبره قضيت حاجته، أو كان فى سماع فإنه يطيب ويكثر تواجده، فهذا أمر القربة فيه شرك برب العالمين، ولا ريب أن الشيخ عبد القادر لم يقل هذا، ولا أمر به، ومن يقل مثل ذلك عنه فقد كذب عليه، وإنما يحدث مثل هذه البدع أهل الغلو والشرك؛ المشبهين للنصارى من أهل البدع الرافضة الغالية فى الأئمة، ومن أشبههم من الغلاة فى المشائخ. وقد ثبت فى الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها). فإذا نهى عن استقبال القبر فى الصلاة لله فكيف يجوز التوجه إليه والدعاء لغير الله مع بعد الدار؟! وهل هذا إلا من جنس ما يفعله النصارى بعيسى وأمه وأحبارهم ورهبانهم فى اتخاذهم إياهم أربابا وآلهة، يدعونهم ويستغيثونهم فى مطالبهم، ويسألونهم ويسألون بهم.
فصل قول من قال إن الله ينظر إلى الفقراء فى ثلاثة مواطن
وأما قول من قال: إن الله ينظر إلى الفقراء فى ثلاثة مواطن: عند الأكل، والمناصفة، والسماع، فهذا القول روى نحوه عن بعض الشيوخ قال: إن الله ينظر إليهم عند الأكل؛ فإنهم يأكلون بإيثار، وعند المجاراة فى العلم؛ لأنهم يقصدون المناصحة، وعند السماع؛ لأنهم يسمعون لله. أو كلامًا يشبه هذا. والأصل الجامع فى هذا: أن من عمل عملا يحبه الله ورسوله وهو ما كان لله بإذن الله فإن الله يحبه وينظر إليه فيه نظر محبة. والعمل الصالح هو الخالص الصواب. فالخالص ما كان لله، والصواب ما كان بأمر الله، ولا ريب أن كل واحد من المواكلة والمخاطبة والاستماع منها ما يحبه الله، ومنها ما لا يحبه الله، ومنها ما يشتمل على خير وشر، وحق وباطل، ومصلحة ومفسدة وحكم كل واحد بحسبه.
فصل وما يفعله بعض الناس من تحرى الصلاة والدعاء عند ما يقال إنه قبر نبي
وما يفعله بعض الناس من تحرى الصلاة والدعاء عند ما يقال: إنه قبر نبى، أو قبر أحد من الصحابة والقرابة، أو ما يقرب من ذلك، أو إلصاق بدنه أو شىء من بدنه بالقبر، أو بما يجاور القبر من عود وغيره، كمن يتحرى الصلاة والدعاء فى قبلى شرقى جامع دمشق عند الموضع الذى يقال: إنه قبر هود والذى عليه العلماء أنه قبر معاوية بن أبى سفيان أو عند المثال الخشب الذى يقال: تحته رأس يحيى بن زكريا، ونحو ذلك فهو مخطئ، مبتدع، مخالف للسنة؛ فإن الصلاة والدعاء بهذه الأمكنة ليس له مزية عند أحد من سلف الأمة وأئمتها، ولا كانوا يفعلون ذلك، بل كانوا ينهون عن مثل ذلك، كما نهاهم النبي ﷺ عن أسباب ذلك ودواعيه، وإن لم يقصدوا دعاء القبر والدعاء به، فكيف إذا قصدوا ذلك؟!
فصل هل للدعاء خصوصية قبول أو سرعة إجابة بوقت معين
وأما قوله: هل للدعاء خصوصية قبول، أو سرعة إجابة بوقت معين، أو مكان معين؛ عند قبر نبى، أو ولى، فلا ريب أن الدعاء فى بعض الأوقات والأحوال أجوب منه فى بعض. فالدعاء فى جوف الليل أجوب الأوقات، كما ثبت فى الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير وفى رواية: نصف الليل فيقول: من يدعونى فأستجيب له، من يسألنى فأعطيه، من يستغفرنى فأغفر له، حتى يطلع الفجر). وفى حديث آخر: (أقرب ما يكون الرب من عبده فى جوف الليل الأخير). والدعاء مستجاب عند نزول المطر، وعند التحام الحرب، وعند الأذان والإقامة، وفى أدبار الصلوات، وفى حال السجود، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم، وأمثال ذلك، فهذا كله مما جاءت به الأحاديث المعروفة فى الصحاح والسنن، والدعاء بالمشاعر، كعرفة، ومزدلفة، ومنى، والملتزم، ونحو ذلك من مشاعر مكة، والدعاء بالمساجد مطلقا. وكلما فضل المسجد كالمساجد الثلاثة كانت الصلاة والدعاء فيه أفضل.
وأما الدعاء لأجل كون المكان فيه قبر نبى أو ولى، فلم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها: إن الدعاء فيه أفضل من غيره، ولكن هذا مما ابتدعه بعض أهل القبلة؛ مضاهاة للنصارى وغيرهم من المشركين. فأصله من دين المشركين؛ لا من دين عباد الله المخلصين؛ كاتخاذ القبور مساجد؛ فإن هذا لم يستحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها، ولكن ابتدعه بعض أهل القبلة؛ مضاهاة لمن لعنهم رسول الله ﷺ من اليهود والنصارى.
فصل هل يجوز أن يستغيث إلى الله فى الدعاء بنبى مرسل
وأما قول السائل: هل يجوز أن يستغيث إلى الله فى الدعاء بنبى مرسل، أو ملك مقرب، أو بكلامه تعالى، أو بالكعبة، أو بالدعاء المشهور باحتياط قاف، أو بدعاء أم داود، أو الخضر، أو يجوز أن يقسم على الله فى السؤال بحق فلان، بحرمة فلان، بجاه المقربين، بأقرب الخلق، أو يقسم بأعمالهم وأفعالهم؟ فيقال:
هذا السؤال فيه فصول متعددة:
فأما الأدعية التى جاءت بها السنة، ففيها سؤال الله بأسمائه وصفاته، والاستعاذة بكلامه، كما فى الأدعية التى فى السنن، مثل قوله: (اللهم، إنى أسألك بأن لك الحمد، أنت الله، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حى يا قيوم)، ومثل قوله: (اللهم، إنى أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد، الذى لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد)، ومثل الدعاء الذى فى المسند: (اللهم إنى أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته فى كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به فى علم الغيب عندك).
وأما الأدعية التى يدعو بها بعض العامة، ويكتبها باعة الحروز من الطرقية، التى فيها: أسألك باحتياط قاف، وهو يوف المخاف، والطور، والعرش، والكرسى، وزمزم، والمقام، والبلد الحرام، وأمثال هذه الأدعية، فلا يؤثر منها شىء، لا عن النبي ﷺ، ولا عن الصحابة، ولا عن أئمة المسلمين، وليس لأحد أن يقسم بهذه بحال، بل قد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: (من كان حالفا فليحلف بالله، أو ليصمت)، وقال: (من حلف بغير الله فقد أشرك). فليس لأحد أن يقسم بالمخلوقات البتة، وقد قال النبي ﷺ: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)، لما قال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذى بعثك بالحق لا تكسر ثنية الربيع، وكما قال البراء بن مالك: أقسمت عليك أى رب، إلا فعلت كذا وكذا، وكلاهما كان ممن يبر الله قسمه.
والعبد يسأل ربه بالأسباب التى تقتضى مطلوبه، وهى الأعمال الصالحة التى وعد الثواب عليها، ودعا عباده المؤمنين الذين وعد إجابتهم كما كان الصحابة يتوسلون إلى الله تعالى بنبيه، ثم بعمه، وغير عمه من صالحيهم؛ يتوسلون بدعائه وشفاعته، كما فى الصحيح: أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس، فقال: اللهم، إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون. فتوسلوا بعد موته بالعباس، كما كانوا يتوسلون به، وهو توسلهم بدعائه وشفاعته. ومن ذلك ما رواه أهل السنن وصححه الترمذى: أن رجلا قال للنبى ﷺ: ادع الله أن يرد على بصرى، فأمره أن يتوضأ، ويصلى ركعتين، ويقول: (اللهم، إنى أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد، نبى الرحمة، يا محمد، يا رسول الله، إنى أتوجه بك إلى ربى فى حاجتى ليقضيها. اللهم، فشفعه فى)، فهذا طلب من النبي ﷺ، وأمره أن يسأل الله أن يقبل شفاعة النبي له فى توجهه بنبيه إلى الله هو كتوسل غيره من الصحابة به إلى الله، فإن هذا التوجه والتوسل هو توجه وتوسل بدعائه وشفاعته.
وأما قول القائل: أسألك أو أقسم عليك بحق ملائكتك، أو بحق أنبيائك أو بنبيك فلان أو برسولك فلان، أو بالبيت الحرام، أو بزمزم والمقام، أو بالطور والبيت المعمور، ونحو ذلك، فهذا النوع من الدعاء لم ينقل عن النبي ﷺ، ولا أصحابه، ولا التابعين لهم بإحسان، بل قد نص غير واحد من العلماء، كأبى حنيفة وأصحابه كأبى يوسف وغيره من العلماء على أنه لا يجوز مثل هذا الدعاء، فإنه أقسم على الله بمخلوق، ولا يصح القسم بغير الله، وإن سأله به على أنه سبب ووسيلة إلى قضاء حاجته.
أما إذا سأل الله بالأعمال الصالحة وبدعاء نبيه والصالحين من عباده فالأعمال الصالحة سبب للإثابة، والدعاء سبب للإجابة، فسؤاله بذلك سؤال بما هو سبب لنيل المطلوب، وهذا معنى ما يروى فى دعاء الخروج إلى الصلاة: (اللهم إنى أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاى هذا)، وكذلك أهل الغار الذين دعوا الله بأعمالهم الصالحة. فالتوسل إلى الله بالنبيين هو التوسل بالإيمان بهم، وبطاعتهم، كالصلاة والسلام عليهم، ومحبتهم، موالاتهم، أو بدعائهم وشفاعتهم. وأما نفس ذواتهم فليس فيها ما يقتضى حصول مطلوب العبد، وإن كان لهم عند الله الجاه العظيم والمنزلة العالية بسبب إكرام الله لهم وإحسانه إليهم وفضله عليهم. وليس فى ذلك ما يقتضى إجابة دعاء غيرهم، إلا أن يكون بسبب منه إليهم كالإيمان بهم والطاعة لهم، أو بسبب منهم إليه: كدعائهم له، وشفاعتهم فيه، فهذان الشيئان يتوسل بهما.
وأما الإقسام بالمخلوق فلا. وما يذكره بعض العامة من قوله: (إذا سألتم الله فاسألوه بجاهى، فإن جاهى عند الله عظيم)، حديث كذب موضوع.
فصل هل يجوز تعظيم مكان فيه خلوق وزعفران
وأما قول السائل: هل يجوز تعظيم مكان فيه خلوق وزعفران؛ لكون النبي ﷺ رؤى عنده؟ فيقال:
بل تعظيم مثل هذه الأمكنة واتخاذها مساجد ومزارات لأجل ذلك هو من أعمال أهل الكتاب، الذين نهينا عن التشبه بهم فيها. وقد ثبت أن عمر بن الخطاب كان فى السفر فرأى قوما يبتدرون مكانا، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مكان صلى فيه رسول الله ﷺ. فقال: ومكان صلى فيه رسول الله ﷺ؟! أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟! من أدركته فيه الصلاة فليصل وإلا فليمض، وهذا قاله عمر بمحضر من الصحابة.
ومن المعلوم أن النبي ﷺ كان يصلى فى أسفاره فى مواضع، وكان المؤمنون يرونه فى المنام فى مواضع، وما اتخذ السلف شيئا من ذلك مسجدا ولا مزارا. ولو فتح هذا الباب لصار كثير من ديار المسلمين أو أكثرها مساجد ومزارات؛ فإنهم لا يزالون يرون النبي ﷺ فى المنام وقد جاء إلى بيوتهم، ومنهم من يراه مرارا كثيرة، وتخليق هذه الأمكنة بالزعفران بدعة مكروهة.
وأما ما يزيده الكذابون على ذلك، مثل أن يرى فى المكان أثر قدم، فيقال: هذا قدمه، ونحو ذلك، فهذا كله كذب. والأقدام الحجارة التى ينقلها من ينقلها ويقول: إنها موضع قدمه كذب مختلق، ولو كانت حقا لسن للمسلمين أن يتخذوا ذلك مسجدا ومزارا، بل لم يأمر الله أن يتخذ مقام نبى من الأنبياء مصلى إلا مقام إبراهيم بقوله: { وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [106]، كما أنه لم يأمر بالاستلام والتقبيل لحجر من الحجارة إلا الحجر الأسود، ولا بالصلاة إلى بيت إلا البيت الحرام، ولا يجوز أن يقاس غير ذلك عليه باتفاق المسلمين، بل ذلك بمنزلة من جعل للناس حجا إلى غير البيت العتيق، أو صيام شهر مفروض غير صيام شهر رمضان، وأمثال ذلك.
فصخرة بيت المقدس لا يسن استلامها، ولا تقبيلها باتفاق المسلمين، بل ليس للصلاة عندها والدعاء خصوصية على سائر بقاع المسجد. والصلاة والدعاء فى قبلة المسجد الذى بناه عمر بن الخطاب للمسلمين أفضل من الصلاة والدعاء عندها، وعمر بن الخطاب لما فتح البلد قال لكعب الأحبار: أين ترى أن أبنى مصلى المسلمين؟ قال: ابنه خلف الصخرة. قال: خالطتك يهودية يابن اليهودية! بل أبنيه أمامها؛ فإن لنا صدور المساجد. فبنى هذا المصلى الذى تسميه العامة الأقصى. ولم يتمسح بالصخرة ولا قبلها ولا صلى عندها، كيف وقد ثبت عنه فى الصحيح أنه لما قبل الحجر الأسود قال: والله، إنى لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله ﷺ يقبلك لما قبلتك. وكان عبد الله بن عمر إذا أتى المسجد الأقصى يصلى فيه ولا يأتى الصخرة، وكذلك غيره من السلف. وكذلك حجرة نبينا ﷺ، وحجرة الخليل، وغيرهما من المدافن التى فيها نبى أو رجل صالح، لا يستحب تقبيلها ولا التمسح بها باتفاق الأئمة، بل منهى عن ذلك. وأما السجود لذلك فكفر، وكذلك خطابه بمثل ما يخاطب به الرب، مثل قول القائل: اغفر لى ذنوبى، أو انصرنى على عدوى، ونحو ذلك.
فصل الأشجار والأحجار والعيون ونحوها مما ينذر لها
وأما الأشجار والأحجار والعيون ونحوها مما ينذر لها بعض العامة، أو يعلقون بها خرقا، أو غير ذلك، أو يأخذون ورقها يتبركون به، أو يصلون عندها، أو نحو ذلك، فهذا كله من البدع المنكرة، وهو من عمل أهل الجاهلية، ومن أسباب الشرك بالله تعالى، وقد كان للمشركين شجرة يعلقون بها أسلحتهم يسمونها ذات أنواط، فقال بعض الناس: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال: (الله أكبر، قلتم كما قال قوم موسى لموسى: { اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [107]، إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم، وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته فى الطريق لفعلتموه). وقد بلغ عمر ابن الخطاب أن قوما يقصدون الصلاة عند (الشجرة) التى كانت تحتها بيعة الرضوان، التى بايع النبي ﷺ الناس تحتها فأمر بتلك الشجرة فقطعت. وقد اتفق علماء الدين على أن من نذر عبادة فى بقعة من هذه البقاع، لم يكن ذلك نذرا يجب الوفاء به، ولا مزية للعبادة فيها.
فصل ليس فى شريعة الإسلام بقعة تقصد لعبادة
وأصل هذا الباب أنه ليس فى شريعة الإسلام بقعة تقصد لعبادة الله فيها بالصلاة والدعاء والذكر والقراءة ونحو ذلك إلا مساجد المسلمين، ومشاعر الحج. وأما المشاهد التى على القبور، سواء جعلت مساجد أو لم تجعل، أو المقامات التى تضاف إلى بعض الأنبياء أو الصالحين، أو المغارات والكهوف، أو غير ذلك، مثل الطور الذى كلم الله عليه موسى، ومثل غار حراء الذى كان النبي ﷺ يتحنث فيه قبل نزول الوحى عليه، والغار الذى ذكره الله فى قوله: { ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ } [108]، والغار الذى بجبل قاسيون بدمشق، الذى يقال له مغارة الدم والمقامان اللذان بجانبيه الشرقى والغربى، يقال لأحدهما: مقام إبراهيم ويقال للآخر: مقام عيسى وما أشبه هذه البقاع والمشاهد فى شرق الأرض وغربها، فهذه لا يشرع السفر إليها لزيارتها، ولو نذر ناذر السفر إليها لم يجب عليه الوفاء بنذره باتفاق أئمة المسلمين؛ بل قد ثبت فى الصحيحين عن النبي ﷺ من حديث أبى هريرة وأبى سعيد وهو يروى عن غيرهما أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدى هذا).
وقد كان أصحاب النبي ﷺ لما فتحوا هذه البلاد بلاد الشام والعراق ومصر وخراسان والمغرب وغيرها لا يقصدون هذه البقاع، ولا يزورونها، ولا يقصدون الصلاة والدعاء فيها، بل كانوا مستمسكين بشريعة نبيهم، يعمرون المساجد التى قال الله فيها: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } [109]، وقال: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ } [110]، وقال تعالى: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [111]، وقال تعالى { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [112]. وأمثال هذه النصوص.
وفى الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (صلاة الرجل فى المسجد تفضل على صلاته فى بيته وسوقه بخمس وعشرين درجة، وذلك أن الرجل إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد، لا ينهزه إلا الصلاة فيه، كانت خطوتاه إحداهما ترفع درجة، والأخرى تحط خطيئة. فإذا جلس ينتظر الصلاة، كان فى صلاة مادام ينتظر الصلاة، فإذا قضى الصلاة فإن الملائكة تصلى على أحدهم مادام فى مصلاه: تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه).
وقد تنازع المتأخرون فيمن سافر لزيارة قبر نبى أو نحو ذلك من المشاهد. والمحققون منهم قالوا: إن هذا سفر معصية، ولا يقصر الصلاة فيه، كما لا يقصر فى سفر المعصية، كما ذكر ذلك ابن عقيل وغيره، وكذلك ذكر أبو عبد الله بن بطة: أن هذا من البدع المحدثة فى الإسلام، بل نفس قصد هذه البقاع للصلاة فيها والدعاء ليس له أصل فى شريعة المسلمين، ولم ينقل عن السابقين الأولين رضي الله عنهم وأرضاهم أنهم كانوا يتحرون هذه البقاع للدعاء والصلاة، بل لا يقصدون إلا مساجد الله، بل المساجد المبنية على غير الوجه الشرعى لا يقصدونها أيضا كمسجد الضرار الذى قال الله فيه: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } [113].
بل المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين لا تجوز الصلاة فيها، وبناؤها محرم، كما قد نص على ذلك غير واحد من الأئمة؛ لما استفاض عن النبي ﷺ فى الصحاح والسنن والمسانيد أنه قال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتحذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك). وقال فى مرض موته: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما فعلوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا.
وكانت حجرة النبي ﷺ خارجة عن مسجده، فلما كان فى إمرة الوليد بن عبد الملك كتب إلى عمر بن عبد العزيز عامله على المدينة النبوية أن يزيد فى المسجد. فاشترى حجر أزواج النبي ﷺ وكانت شرقى المسجد، وقبلته، فزادها فى المسجد، فدخلت الحجرة إذ ذاك فى المسجد، وبنوها مسنمة عن سمت القبلة لئلا يصلى أحد إليها.
وكذلك قبر إبراهيم الخليل لما فتح المسلمون البلاد كان عليه السور السليماني، ولا يدخل إليه أحد، ولا يصلى أحد عنده، بل كان مصلى المسلمين بقرية الخليل بمسجد هناك، وكان الأمر على ذلك على عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، إلى أن نقب ذلك السور، ثم جعل فيه باب، ويقال: إن النصارى هم نقبوه وجعلوه كنيسة، ثم لما أخذ المسلمون منهم البلاد جعل ذلك مسجدا؛ ولهذا كان العلماء الصالحون من المسلمين لا يصلون فى ذلك المكان. هذا إذا كان القبر صحيحا، فكيف وعامة القبور المنسوبة إلى الأنبياء كذب؟! مثل القبر الذى يقال: إنه (قبر نوح)، فإنه كذب لا ريب فيه، وإنما أظهره الجهال من مدة قريبة، وكذلك قبر غيره.
فصل عسقلان والاسكندرية ثغور
وأما عسقلان فإنها كانت ثغرا من ثغور المسلمين، كان صالحو المسلمين يقيمون بها لأجل الرباط فى سبيل الله، وهكذا سائر البقاع التى مثل هذا الجنس مثل جبل لبنان، والإسكندرية، ومثل عبادان ونحوها بأرض العراق، ومثل قزوين ونحوها من البلاد التى كانت ثغورا، فهذه كان الصالحون يقصدونها؛ لأجل الرباط فى سبل الله؛ فإنه قد ثبت فى صحيح مسلم عن سلمان الفارسى، عن النبي ﷺ أنه قال: (رباط يوم وليلة فى سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطا مات مجاهدا، وأجرى عليه رزقه من الجنة، وأمن الفتان). وفى سنن أبي داود وغيره عن عثمان، عن النبي ﷺ أنه قال: (رباط يوم فى سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل). وقال أبو هريرة: لأن أرابط ليلة فى سبيل الله أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود.
ولهذا قال العلماء: إن الرباط بالثغور أفضل من المجاورة بالحرمين الشريفين؛ لأن المرابطة من جنس الجهاد، والمجاورة من جنس الحج. وجنس الجهاد أفضل باتفاق المسلمين من جنس الحج، كما قال تعالى: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [114]. فهذا هو الأصل فى تعظيم هذه الأمكنة.
ثم من هذه الأمكنة ما سكنه بعد ذلك الكفار وأهل البدع والفجور، ومنها ما خرب وصار ثغرا غير هذه الأمكنة. والبقاع تتغير أحكامها بتغير أحوال أهلها. فقد تكون البقعة دار كفر إذا كان أهلها كفارا، ثم تصير دار إسلام إذا أسلم أهلها، كما كانت مكة شرفها الله فى أول الأمر دار كفر وحرب، وقال الله فيها: { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ } [115]، ثم لما فتحها النبي ﷺ صارت دار إسلام، وهى فى نفسها أم القرى، وأحب الأرض إلى الله. وكذلك الأرض المقدسة كان فيها الجبارون الذين ذكرهم الله تعالى، كما قال تعالى: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } الآيات [116]، وقال تعالى لما أنجى موسى وقومه من الغرق: { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } [117]، وكانت تلك الديار ديار الفاسقين لما كان يسكنها إذ ذاك الفاسقون، ثم لما سكنها الصالحون صارت دار الصالحين.
وهذا أصل يجب أن يعرف، فإن البلد قد تحمد أو تذم فى بعض الأوقات لحال أهله، ثم يتغير حال أهله فيتغير الحكم فيهم؛ إذ المدح والذم والثواب والعقاب إنما يترتب على الإيمان والعمل الصالح، أو على ضد ذلك من الكفر والفسوق والعصيان. قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ } [118]، وقال النبي ﷺ: (لا فضل لعربى على عجمى، ولا لعجمى على عربى، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى. الناس بنو آدم، وآدم من تراب ). وكتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسى وكان النبي ﷺ قد آخى بينهما، لما آخى بين المهاجرين والأنصار، وكان أبو الدرداء بالشام، وسلمان بالعراق نائبا لعمر بن الخطاب: أن هلم إلى الأرض المقدسة. فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحدا، وإنما يقدس الرجل عمله.
فصل قصد الصلاة والدعاء عندما يقال إنه قدم نبي
وقد تبين الجواب فى سائر المسائل المذكورة بأن قصد الصلاة والدعاء عندما يقال: إنه قدم نبي، أو أثر نبي، أو قبر نبي، أو قبر بعض الصحابة، أو بعض الشيوخ، أو بعض أهل البيت، أو الأبراج، أو الغيران؛ من البدع المحدثة، المنكرة فى الإسلام، لم يشرع ذلك رسول الله ﷺ ولا كان السابقون الأولون والتابعون لهم بإحسان يفعلونه، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين، بل هو من أسباب الشرك وذرائع الإفك. والكلام على هذا مبسوط فى غير هذا الجواب.
فصل قول القائل إذا عثر يا جاه محمد
وأما قول القائل إذا عثر: يا جاه محمد! يا للست نفيسة! أو يا سيدى الشيخ فلان! أو نحو ذلك مما فيه استغاثته وسؤاله، فهو من المحرمات، وهو من جنس الشرك؛ فإن الميت سواء كان نبيا أو غير نبى لا يدعى ولا يسأل ولا يستغاث به لا عند قبره، ولا مع البعد من قبره، بل هذا من جنس دين النصارى الذين { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [119]، ومن جنس الذين قال فيهم: { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [120]، وقد قال تعالى: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [121]. وقد بسط هذا فى غير هذا الموضع.
فصل النذر للقبور
وكذلك النذر للقبور أو لأحد من أهل القبور، كالنذر لإبراهيم الخليل، أو للشيخ فلان أو فلان، أو لبعض أهل البيت، أو غيرهم: نذر معصية، لا يجب الوفاء به باتفاق أئمة الدين، بل ولا يجوز الوفاء به، فإنه قد ثبت فى الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه). وفى السنن عنه ﷺ، أنه قال: (لعن اللّه زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج)، فقد لعن رسول الله ﷺ من يبنى على القبور المساجد، ويسرج فيها السرج؛ كالقناديل والشمع وغير ذلك.
وإذا كان هذا ملعونا، فالذى يضع فيها قناديل الذهب والفضة وشمعدان الذهب والفضة ويضعها عند القبور أولى باللعنة. فمن نذر زيتا أو شمعا، أو ذهبا، أو فضة، أو سترا، أو غير ذلك، ليجعل عند قبر نبى من الأنبياء، أو بعض الصحابة، أو القرابة، أو المشائخ، فهو نذر معصية، لا يجوز الوفاء به. وهل عليه كفارة يمين؟ فيه قولان للعلماء. وإن تصدق بما نذره على من يستحق ذلك من أهل بيت النبي ﷺ وغيرهم من الفقراء الصالحين، كان خيرا له عند الله وأنفع له؛ فإن هذا عمل صالح يثيبه الله عليه، فإن الله يجزى المتصدقين، ولا يضيع أجر المحسنين. والمتصدق يتصدق لوجه الله ولا يطلب أجره من المخلوقين، بل من الله تعالى، كما قال تعالى { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرضي } [122]، وقال تعالى: { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ } الآية [123]، وقال عن عباده الصالحين: { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا } [124].
ولهذا لا ينبغى لأحد أن يسأل بغير الله، مثل الذى يقول: كرامة لأبى بكر، ولعلى، أو للشيخ فلان، أو الشيخ فلان، بل لا يعطى إلا من سأل لله، وليس لأحد أن يسأل لغير الله، فإن إخلاص الدين لله واجب فى جميع العبادات البدنية والمالية كالصلاة، والصدقة، والصيام، والحج فلا يصلح الركوع والسجود إلا لله ولا الصيام إلا لله، ولا الحج إلا إلى بيت الله، ولا الدعاء إلا لله، قال تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } [125]، وقال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [126]، وقال تعالى: { تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ } [127].
وهذا هو أصل الإسلام، وهو ألا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع، كما قال تعالى: { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [128]، وقال تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [129]، قال الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا على، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة والكتاب.
هذا كله لأن دين الله بلغه عنه رسوله. فلا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، والله تعالى ذم المشركين لأنهم شرعوا فى الدين ما لم يأذن به الله فحرموا أشياء لم يحرمها الله؛ كالبحيرة والسائبة، والوصيلة، والحام. وشرعوا دينا لم يأذن به الله؛ كدعاء غيره وعبادته، والرهبانية التى ابتدعها النصارى.
والإسلام دين الرسل كلهم أولهم وآخرهم، وكلهم بعثوا بالإسلام كما قال نوح عليه السلام: { يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [130]، وقال تعالى: { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [131]، وقال تعالى: { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } [132]، وقال تعالى: { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } [133].
وقد ثبت فى الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد). فدين الرسل كلهم دين واحد، وهو دين الإسلام، وهو عبادة الله وحده لا شريك له بما أمر به وشرعه كما قال: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } [134]، وإنما يتنوع فى هذا الدين الشرعة والمنهاج، كما قال: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [135]، كما تتنوع شريعة الرسول الواحد. فقد كان الله أمر محمدا ﷺ فى أول الإسلام أن يصلى إلى بيت المقدس، ثم أمره فى السنة الثانية من الهجرة أن يصلى إلى الكعبة البيت الحرام، وهذا فى وقته كان من دين الإسلام، وكذلك شريعة التوراة فى وقتها كانت من دين الإسلام، وشريعة الإنجيل فى وقته كانت من دين الإسلام، ومن آمن بالتوراة ثم كذب بالإنجيل خرج من دين الإسلام وكان كافرا، وكذلك من آمن بالكتابين المتقدمين وكذب بالقرآن كان كافرا خارجا من دين الإسلام، فإن دين الإسلام يتضمن الإيمان بجميع الكتب وجميع الرسل، كما قال تعالى: { قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } الآية [136].
سئل عمن يأتي إلى قبر بعض الأنبياء فيدعوه لكشف كربته
ما قول السادة أئمة الدين في من ينزل به حاجة من أمر الدنيا أو الآخرة، ثم يأتى قبر بعض الأنبياء أو غيره من الصلحاء، ثم يدعو عنده في كشف كربته. فهل ذلك سنة أم بدعة؟ وهل هو مشروع أم لا؟ فإن كان ما هو مشروع فقد تقضى حوائجهم بعض الأوقات، فهل يسوغ لهم أن يفعلوا ذلك؟ وما العلة في قضاء حوائجهم؟ أفتونا.
فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله:
الحمد لله رب العالمين، ليس ذلك سنة، بل هو بدعة، لم يفعل ذلك رسول الله ﷺ ولا أحد من أصحابه، ولا من أئمة الدين الذين يقتدى بهم المسلمون في دينهم، ولا أمر بذلك ولا استحبه، لا رسول الله ﷺ، ولا أحد من أصحابه، ولا أئمة الدين، بل لا يعرف هذا عن أحد من أهل العلم والدين من القرون المفضلة التى أثنى عليها رسول الله ﷺ؛ من الصحابة والتابعين وتابعيهم، لا من أهل الحجاز، ولا من اليمن، ولا الشام، ولا العراق، ولا مصر، ولا المغرب، ولا خراسان، وإنما أحدثت بعد ذلك.
ومعلوم أن كل ما لم يسنه ولا استحبه رسول الله ﷺ ولا أحد من هؤلاء، الذين يقتدى بهم المسلمون في دينهم، فإنه يكون من البدع المنكرات، ولا يقول أحد في مثل هذا: إنه بدعة حسنة؛ إذ البدعة الحسنة عند من يقسم البدع إلى حسنة، وسيئة لابد أن يستحبها أحد من أهل العلم الذين يقتدى بهم، ويقوم دليل شرعى على استحبابها، وكذلك من يقول: البدعة الشرعية كلها مذمومة لقوله ﷺ في الحديث الصحيح: (كل بدعة ضلالة)، ويقول قول عمر في التراويح: (نعمت البدعة هذه) إنما أسماها بدعة؛ باعتبار وضع اللغة. فالبدعة في الشرع عند هؤلاء ما لم يقم دليل شرعى على استحبابه. ومآل القولين واحد؛ إذ هم متفقون على أن ما لم يستحب أو يجب من الشرع فليس بواجب ولا مستحب، فمن اتخذ عملا من الأعمال عبادة ودينا وليس ذلك في الشريعة واجبًا ولا مستحبًا فهو ضال باتفاق المسلمين.
وقصد القبور لأجل الدعاء عندها؛ رجاء لإجابة، هو من هذا الباب، فإنه ليس من الشريعة لا واجبًا ولا مستحبًا فلا يكون دينًا ولا حسنًا، ولا طاعة لله، ولا مما يحبه الله ويرضاه، ولا يكون عملا صالحًا، ولا قربة، ومن جعله من هذا الباب فهو ضال باتفاق المسلمين.
ولهذا كان أصحاب رسول الله ﷺ إذا نزلت بهم الشدائد، وأرادوا دعاء الله لكشف الضر، أو طلب الرحمة، لا يقصدون شيئًا من القبور، لا قبور الأنبياء، ولا غير الأنبياء، حتى إنهم لم يكونوا يقصدون الدعاء عند قبر النبي ﷺ، بل قد ثبت في صحيح البخارى عن أنس: أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، قال: اللهم، إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بِعَمِّ نبينا فاسقنا، فيسقون. وفي صحيح البخارى عن عبد الله بن دينار قال: سمعت ابن عمر يتمثل بشعر أبي طالب:
وأبيض يستسقى الغَمام بوجهه ** ثِمَال اليتأمي عِصْمة للأرامل
وفيه عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي ﷺ، يستسقى فما ينزل حتى يجيش له ميزاب:
وأبيض يستسقى الغَمام بوجهه ** ثِمَال اليتأمي عِصْمة للأرامل
وهو قول أبي طالب وكذلك معاوية بالشام استسقوا بيزيد بن الأسود الجرشى.
وكانوا في حياة النبي ﷺ، يأتون إليه ويطلبون منه الدعاء، يتوسلون به، ويستشفعون به إلى الله، كما أن الخلائق يوم القيامة يأتون إليه يطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله، ثم لما مات وأصابهم الجدب عام الرمادة في خلافة عمر، وكانت شدة عظيمة، أخذوا العباس فتوسلوا به، واستسقوا به بدلا عن النبي ﷺ، ولم يأتوا إلى قبر النبي ﷺ يدعون عنده، ولا استسقوا به ولا توسلوا به. وكذلك في الشام لم يذهبوا إلى ما فيها من القبور، بل استسقوا بمن فيهم من الصالحين ومعلوم أنه لو كان الدعاء عند القبور والتوسل بالأموات مما يستحب لهم لكان التوسل بالنبي ﷺ أفضل من التوسل بالعباس وغيره.
وقد كانوا يستسقون على ثلاثة أوجه؛ تارة يدعون عقب الصلوات، وتارة يخرجون إلى المصلى فيدعون من غير صلاة، وتارة يصلون ويدعون. والوجهان الأولان مشروعان باتفاق الأمة، والوجه الثالث مشروع عند الجمهور؛ كمالك، والشافعى، وأحمد، ولم يعرفه أبو حنيفة.
وقد أمروا، في الاستسقاء بأن يستسقوا بأهل الصلاح، لاسيما بأقارب النبي ﷺ، كما فعل الصحابة. وأمروا بالصلاة على النبي ﷺ فيه. ولم يأمر أحد منهم بالاستسقاء عند شىء من قبور الأنبياء، ولا غير الأنبياء، ولا الاستعانة بميت والتوسل به، ونحو ذلك مما يظنه بعض الناس دينا وقربة. وهذا فيه دلالة للمؤمن على أن هذه محدثات لم تكن عند الصحابة من المعروف بل من المنكر.
فصل النهي عن اتخاذ القبور مساجد
وهذا كافٍ لو لم يرد عن النبي ﷺ وأصحابه من النهى ما يدل على النهى عن ذلك؛ كيف وسنته المتواترة تدل على النهى عن ذلك. مثل ما في الصحيحين عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ في مرضه الذى لم يقم منه: (لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، ولولا ذلك أبرِز قبره؛ غير أنه خَشىَ، أو خُشىَ أن يتخذ مسجدًا. وهذا بعض ألفاظ البخارى، وفي الصحيحين أيضًا عن عائشة قالت: لما كان مرض رسول الله ﷺ، ذكر بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها: مارية، وذكرن من حسنها، وتصاوير فيها، فرفع النبي ﷺ رأسه وقال: (إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله).
وهذا المعنى مستفيض عنه في الصحاح والسنن والمسانيد من غير وجه. وفي صحيح مسلم عن جندب: أن النبي ﷺ قال قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور أو قال: قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك)، وفيه: (لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلا، لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله). وهذا المعنى في الصحيحين من وجوه، وفيه: (لا يبقين في المسجد خَوْخَة إلا سُدَّت؛ إلا خَوْخَة أبي بكر) بين هذين الأمرين اللذين تواترا عنه، وجمع بينهما قبل موته بخمسة أيام: من ذكر فضل أبي بكر الصديق، ومن نهيه عن اتخاذ القبور مساجد، فبهما حسم مادة الشرك التى أفسد بها الدين، وظهر بها دين المشركين. فإن الله قال في كتابه عن قوم نوح: { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا } [137].
وقد روى البخارى في صحيحه بإسناده عن ابن عباس قال: صارت الأوثان التى كانت في قوم نوح في العرب تعبد؛ أما ودّ: فكانت لكلب بدَوْمَة الجندل، وأما سُوَاع: فكانت لهُذَىْل، وأما يَغُوث: فكانت لمراد، ثم لبنى غُطَيْف بالجرف عند سبأ، وأما يَعُوق: فكانت لهمدان، وأما نَسْر: فكانت لحمير لآل ذى الكَلاع؛ وكانت أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا: أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التى كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونُسِخ العلم عُبِدت.
وقد ذكر قريبًا من هذا المعنى طوائف من السلف، في كتب التفسير، وقصص الأنبياء وغيرها: أن هؤلاء كانوا قومًا صالحين. ثم منهم من ذكر أنهم كانوا يعكفون على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ومنهم من ذكر أنهم كانوا يصحبون تماثيلهم معهم في السفر يدعون عندها، ولا يعبدونها، ثم بعد ذلك عبدت الأوثان.
ولهذا جمع النبي ﷺ بين القبور والصور، في غير حديث، كما في صحيح مسلم، عن أبي الهياج الأسدى قال: قال لى على بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثنى علىه رسول الله ﷺ؟ أمرنى ألا أدع قبرًا مُشْرِفًا إلا سويته، ولا تمثال إلا طمسته. فأمره بمحو الصور، وتسوية القبور، كما في الحديث الآخر الصحيح: (إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة).
والأحاديث عن النبي ﷺ في النهى عن اتخاذ القبور مساجد، والصلاة في المقبرة، كثيرة جدًا، مثل ما في الصحيحين والسنن، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وعن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد). رواه أحمد في المسند، وأبو حاتم ابن حبان، في صحيحه. وعن ابن عباس قال: لعن رسول الله ﷺ زورات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج. رواه أحمد في المسند وأهل السنن الأربعة وأبو حاتم ابن حبان في صحيحه.
وروى أيضًا في صحيحه عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: (لعن الله من اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا). وفي صحيح مسلم عن أبي مَرْثَد الغَنَوِىّ، أن النبي ﷺ قال: (لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها). وعن عبد الله بن عمرو قال: نهى رسول الله ﷺ عن الصلاة في المقبرة. رواه أبو حاتم في صحيحه. وروى أيضًا عن أنس: أن النبي ﷺ نهى أن يصلى بين القبور. وعن أبي سعيد: أن النبي ﷺ قال: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام). رواه أحمد وأهل الكتب الأربعة، وابن حبان في صحيحه. وقال الترمذى: فيه اضطراب؛ لأن سفيان الثورى أرسله. لكن غير الترمذى جزم بصحته؛ لأن غيره من الثقات أسندوه وقد صححه ابن حزم أيضًا. وفي سنن أبي داود عن على قال: إن خليلى نهانى أن أصلى في المقبرة، ونهانى أن أصلى في أرض بابل. والآثار في ذلك كثيرة جدًا.
وقد ظن طائفة من أهل العلم أن الصلاة في المقبرة نهى عنها من أجل النجاسة؛ لاختلاط تربتها بصديد الموتى، ولحومهم، وهؤلاء قد يفرقون بين المقبرة الجديدة والقديمة، وبين أن يكون هناك حائل أو لا يكون. والتعليل بهذا ليس مذكورًا في الحديث، ولم يدل عليه الحديث لا نَصا ولا ظاهرًا، وإنما هى علة ظنوها، والعلة الصحيحة عند غيرهم ما ذكره غير واحد من العلماء من السلف والخلف في زمن مالك والشافعى وأحمد وغيرهم: إنما هو ما في ذلك من التشبه بالمشركين، وأن تصير ذريعة إلى الشرك؛ ولهذا نهى عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد. وقال: (إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك التصاوير). وقال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد)، ونهى عن الصلاة إليها.
ومعلوم أن النهى لو لم يكن إلا لأجل النجاسة، فمقابر الأنبياء لا تنتن، بل الأنبياء لا يَبْلُون، وتراب قبورهم طاهر، والنجاسة أمام المصلى لا تبطل صلاته، والذين كانوا يتخذون القبور مساجد كانوا يفرشون عند القبور المفارش الطاهرة فلا يلاقون النجاسة، ومع أن الذين يعللون بالنجاسة لا ينفون هذه العلة، بل قد ذكر الشافعى وغيره النهى عن اتخاذ المساجد على القبور، وعلل ذلك بخشية التشبه بذلك. وقد نص على النهى عن بناء المساجد على القبور غير واحد من علماء المذاهب، من أصحاب مالك والشافعى وأحمد، ومن فقهاء الكوفة أيضًا، وصرح غير واحد منهم بتحريم ذلك، وهذا لا ريب فيه بعد لعن النبي ﷺ ومبالغته في النهى عن ذلك.
واتخاذها مساجد يتناول شيئين: أن يبنى عليها مسجدًا، أو يصلي عندها من غير بناء، وهو الذى خافه هو، وخافته الصحابة إذا دفنوه بارزًا؛ خافوا أن يصلي عنده فيتخذ قبره مسجدًا. وفي موطأ مالك عنه أنه قال: (اللهم لا تجعل قبري وَثَنًا يُعْبَد) روى ذلك مسندًا ومرسلا. وفي سنن أبي داود أنه قال: (لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغنى).
وما يرويه بعض الناس أنه ﷺ صلى بمسجد الخليل، أو صلى عند قبر الخليل، فإن هذا الحديث غير ثابت عند أهل العلم، وإن كان قد ذكر ذلك طائفة توصف بالصلاح، بل الذى في الصحيحين أنه صلى في بيت المقدس. وهذا باب واسع. فمن المعلوم أنه لو كان الدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين أفضل من الدعاء عند غيرها، لكان ينبغى أن تستحب الصلاة في تلك البقاع، واتخاذها مساجد؛ فإن الصلاة مقرونة بالدعاء؛ ولهذا لا يقول مسلم: إن الموضع الذى ينهى عن الصلاة فيه، كأعطان الإبل أو المقبرة والمواضع النجسة، يكون الدعاء فيه أفضل من الدعاء في غيره، بل من قال ذلك فقد راغم الرسول، وجعل ما نهى عنه من الشرك وأسباب الشرك مماثلا أو مفضلا على ما أمر به من التوحيد وعبادة الله وحده.
ومن هنا أدخل أهل النفاق في الإسلام ما أدخلوه، فإن الذى ابتدع دين الرافضة كان زنديقًا يهوديًا أظهر الإسلام وأبطن الكفر ليحتال في إفساد دين المسلمين كما احتال بولص في إفساد دين النصارى سعى في الفتنة بين المسلمين حتى قتل عثمان، وفي المؤمنين من يستجيب للمنافقين، كما قال تعالى: { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالا ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } [138]، ثم إنه لما تفرقت الأمة، ابتدع ما ادعاه في الإمامة، من النص والعصمة وأظهر التكلم في أبي بكر وعمر. وصادف ذلك قلوبًا فيها جهل وظلم وإن لم تكن كافرة؛ فظهرت بدعة التشيع التى هى مفتاح باب الشرك، ثم لما تمكنت الزنادقة أمروا ببناء المشاهد وتعطيل المساجد، محتجين بأنه لا تصلى الجمعة والجماعة إلا خلف المعصوم.
ورووا في إنارة المشاهد وتعظيمها والدعاء عندها من الأكاذيب ما لم أجد مثله فيما وقفت عليه من أكاذيب أهل الكتاب، حتى صنف كبيرهم ابن النعمان كتابًا في مناسك حج المشاهد وكذبوا فيه على النبي ﷺ وأهل بيته أكاذيب بدلوا بها دينه، وغيروا ملته. وابتدعوا الشرك المنافي للتوحيد، فصاروا جامعين بين الشرك والكذب، كما قرن الله بينهما في غير موضع، كقوله: { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } [139]، وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (عدلت شهادة الزور الإشراك بالله) مرتين، ثم قرأ هذه الآية وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } [140]، وقال تعالى: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [141].
وهذا الحق لله، كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال لمعاذ بن جبل: (يا معاذ، أتدرى ما حق الله على عباده؟) قال: الله ورسوله أعلم، قال: (حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. يا معاذ، أتدرى ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟) قال: الله ورسوله أعلم. قال: (حقهم عليه ألا يعذبهم). وقال تعالى: { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ } [142]، ومثل هذا في القرآن متعدد، يصف أهل الشرك بالفرية؛ ولهذا طالبهم بالبرهان والسلطان، كما في قوله: { وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ } [143]، وفي قوله: { قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [144]، وقال: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ ُشْرِكُونَ } [145]. وقوله تعالى: { وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا } [146] لأن التوحيد هو دين الله الذى بعث به الأولين والآخرين، كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [147]، وقال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [148]، وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [149]، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (إن الله يرضي لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم).
ولهذا كان المتخذون القبور مساجد لما كان فيهم من الشرك ما فيهم، قد فرقوا دينهم وكانوا شيعًا. فتجد كل قوم يعظمون متبوعهم أو نبيهم، ويقولون: الدعاء عند قبره يستجاب، وقلوبهم معلقة به دون غيره من قبور الأنبياء والصالحين وإن كان أفضل منه، كما أن عباد الكواكب والأصنام كل منهم قد اتخذ إلهه هواه، فهو يعبد ما يألهه، وإن كان غيره أفضل منه.
ثم إنهم يسمون ذلك زيارة وهو اسم شرعى وضعوه عل ىغير موضعه، ومعلوم أن الزيارة الشرعية التى سنها رسول الله ﷺ لأمته: تتضمن السلام على الميت والدعاء له، بمنزلة الصلاة على جنازته، فالمصلى على الجنازة قصده الدعاء للميت، والله تعالى يرحم الميت بدعائه، ويثيبه هو على صلاته، كذلك الذى يزور القبور على الوجه المشروع، فيسلم عليهم، ويدعو لهم، يرحمون بدعائه، ويثاب هو على إحسانه إليهم، وأين قصد النفع للميت من قصد الشرك به؟! ففي صحيح مسلم عن بُرَىْدة قال: كان رسول الله ﷺ يعلمهم إذا خرجوا للمقابر أن يقول قائلهم: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أنتم لنا فَرَط، ونحن لكم تَبَع، نسأل الله لنا ولكم العافية). وفي صحيح مسلم، عن عائشة: قلت: كيف أقول يا رسول الله؟ قال: (قولى: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون).
وتجوز زيارة قبر الكافر لأجل الاعتبار؛ دون الاستغفار له، كما في الصحيحين عن أبي هريرة قال: إن النبي ﷺ زار قبر أمه فبكى، وأبكى من حوله، وقال: (استأذنت ربى أن استغفر لها فلم يأذن لى، واستأذنته في أن أزورها فأذن لى، فزوروا القبور، فإنها تذكر الموت). وقد ثبت عنه في الصحيح من حديث أنس قال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها).
وأما زيارة القبور لأجل الدعاء عندها، أو التوسل بها، أو الاستشفاع بها، فهذا لم تأت به الشريعة أصلا، وكل ما يروى في هذا الباب، مثل قوله: (من زارني وزار قبر أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة) و(من حج ولم يزرنى فقد جفانى)، و(من زارني بعد مماتى فكأنما زارني في حياتى)، فهى أحاديث ضعيفة، بل موضوعة، لم يرو أهل الصحاح والسنن المشهورة والمسانيد منها شيئًا. وغاية ما يعزى مثل ذلك إلى كتاب الدارقطنى، وهو قصد به غرائب السنن؛ ولهذا يروى فيه من الضعيف، والموضوع، ما لا يرويه غيره، وقد اتفق أهل العلم بالحديث على أن مجرد العزو إليه لا يبيح الاعتماد عليه، ومن كتب من أهل العلم بالحديث فيما يروى في ذلك يبين أنه ليس فيها حديث صحيح.
بل قد كره مالك وغيره أن يقال: زرت قبر النبي ﷺ، ومالك أعلم الناس بهذا الباب، فإن أهل المدينة أعلم أهل الأمصار بذلك، ومالك إمام أهل المدينة. فلو كان في هذا سنة عن رسول الله ﷺ فيها لفظ زيارة قبره، لم يخف ذلك على علماء أهل مدينته وجيران قبره، بأبي هو وأمي.
ولهذا كانت السنة عند الصحابة، وأئمة المسلمين، إذا سلم العبد على النبي ﷺ وصاحبيه، أن يدعو الله مستقبل القبلة، ولا يدعو مستقبل الحجرة، والحكاية التى تروى في خلاف ذلك عن مالك مع المنصور باطلة لا أصل لها. ولم أعلم الأئمة تنازعوا في أن السنة استقبال القبلة وقت الدعاء، لا استقبال القبر النبوى. وإنما تنازعوا وقت السلام عليه. فقال الأكثرون: يسلم عليه مستقبل القبر. وقال أبو حنيفة: يسلم علىه مستقبل القبلة مستدبر القبر. وكان عبد الله بن عمر يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت. ثم ينصرف. فإذا كان الدعاء في مسجد رسول الله ﷺ أمر الأئمة فيه باستقبال القبلة، كما روى عن الصحابة، وكرهوا استقبال القبر، فما الظن بقبر غيره؟ وهذا مما يبين لك أن قصد الدعاء عند القبور ليس من دين المسلمين.
ومن ذكر شيئًا يخالف هذا من المصنفين في المناسك أو غيرها فلا حجة معه بذلك، ولا معه نقل عن إمام متبوع، وإنما هو شىء أخذه بعض الناس عن بعض؛ لأحاديث ظنوها صحيحة وهى باطلة، أو لعادات مبتدعة، ظنوها سنة بلا أصل شرعى.
ولم يكن في العصور المفضلة مشاهد على القبور، وإنما ظهر ذلك وكثر في دولة بنى بويه، لما ظهرت القرامطة بأرض المشرق والمغرب وكان بها زنادقة كفار، مقصودهم تبديل دين الإسلام، وكان في بنى بويه من الموافقة لهم على بعض ذلك، ومن بدع الجهمية، والمعتزلة، والرافضة، ما هو معروف لأهل العلم، فبنوا المشاهد المكذوبة، كمشهد علي رضي الله عنه وأمثاله. وصنف أهل الفرية الأحاديث في زيارة المشاهد والصلاة عندها، والدعاء عندها، وما يشبه ذلك. فصار هؤلاء الزنادقة وأهل البدع المتبعون لهم يعظمون المشاهد، ويهينون المساجد، وذلك ضد دين المسلمين ويستترون بالتشيع. ففي الأحاديث المتقدمة المتواترة عنه من تعظيم الصديق، ومن النهى عن اتخاذ القبور مساجد، ما فيه رد لهاتين البدعتين اللتين هما أصل الشرك وتبديل الإسلام.
ومما يبين ذلك أن الله لم يذكر المشاهد ولا أمر بالصلاة فيها، وإنما أمر بالمساجد، فقال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } [150]، ولم يقل: مشاهد الله بل قد أمر النبي ﷺ عليًا ألا يدع قبرًا مشرفًا إلا سواه، ولا تمثالا إلا طمسه. ونهى عن اتخاذ القبور مساجد، ولعن من فعل ذلك، فهذا أمر بتخريب المشاهد لا بعمارتها، سواء أريد به العمارة الصورية أو المعنوية، وقال تعالى: { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [151]، ولم يقل: في المشاهد! وقال تعالى: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } [152]، ولم يقل: عند كل مشهد. وقال تعالى: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } [153]، ولم يقل: مشاهد الله؛ إذ عمار المشاهد هم مشركون، أو متشبهون بالمشركين، إلى قوله: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ } [154]، ولم يقل: إنما يعمر مشاهد الله.
بل عمار المشاهد يخشون غير الله؛ فيخشون الموتى ولا يخشون الله؛ إذ عبدوه عبادة لم ينزل بها سلطانًا ولا جاء بها كتاب ولا سنة، كما قال الخليل عليه السلام في مناظرته للمشركين لما حاجوه، وخوفوه آلهتهم: { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [155]، قال تعالى: { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } [156]. وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ }، شق ذلك على أصحاب النبي ﷺ، وقالوا: يا رسول الله، أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي ﷺ: (إنما هو الشرك. ألم تسمعوا قول العبد الصالح: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [157]). قال تعالى: { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء } [158]. قال زيد بن أسلم وغيره: بالعلم، وقال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [159]. ولم يقل: وأن المشاهد لله، بل أهل المشاهد يدعون مع الله غيره.
ولهذا لما لم يكن بناء المساجد على القبور التى تسمى المشاهد وتعظيمها من دين المسلمين، بل من دين المشركين، لم يحفظ ذلك، فإن الله ضمن لنا أن يحفظ الذكر الذى أنزله، كما قال: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [160]، فما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة محفوظ، وأما أمر المشاهد فغير محفوظ، بل عامة القبور التى بنيت عليها المساجد، إما مشكوك فيها، وإما متيقن كذبها، مثل القبر الذى بكرك الذى يقال: إن به نوحًا، والذى بظاهر دمشق الذى يقال: إنه قبر أبي بن كعب، والذى من الناحية الأخرى، الذى يقال: إنه قبر أُوَىْس القَرَنى، والقبور التى هناك التى يظن أنها قبر عائشة أو أم سلمة زوج النبي ﷺ أو أم حبيبة، أو قبر على الذى بباطنة النَّجَف، أو المشهد الذى يقال: إنه على الحسين بالقاهرة، والمشهد الذى بحلب، وأمثال هذه المشاهد؛ فهذه كلها كذب باتفاق أهل العلم.
وأما القبر الذى يقال: إنه قبر خالد بن الوليد بحمص، والذى يقال: إنه قبر أبي مسلم الخولانى بداريا، وأمثال ذلك فهذه مشكوك فيها، وقد نعلم من حيث الجملة: أن الميت قد توفي بأرض ولكن لا يتعين أن تلك البقعة مكان قبره؛ كقبر بلال ونحوه بظاهر دمشق، وكقبر فاطمة بالمدينة وأمثال ذلك. وعامة من يصدق بذلك يكون علم به، إما منامًا، وإما نقلا لا يوثق به، وإما غير ذلك. ومن هذه القبور ما قد يتيقن، لكن لا يترتب على ذلك شىء من هذه الأحكام المبتدعة.
ولهذا كان السلف يسدون هذا الباب؛ فإن المسلمين لما فتحوا تُسْتَر، وجدوا هناك سرير ميت باق. ذكروا أنه دانيال، ووجدوا عنده كتابًا فيه ذكر الحوادث، وكان أهل تلك الناحية يستسقون به. فكتب في ذلك أبو موسى الأشعرى إلى عمر، فكتب إليه عمر: أن يحفر بالنهار ثلاثة عشر قبرًا، ثم يدفن بالليل في واحد منها، ويعفي قبره؛ لئلا يفتتن الناس به. وهذا كما نقلوا عن عمر أنه بلغه: أن أقوامًا يزورون الشجرة التى بويع تحتها بيعة الرضوان، ويصلون هناك، فأمر بقطع الشجرة. وقد ثبت عنه أنه كان في سفر، فرأى قومًا ينتابون بقعة يصلون فيها، فقال: ما هذا؟ فقالوا: هذا مكان صلى فيه رسول الله ﷺ، فقال: ومكان صلى به رسول الله ﷺ، أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟! إنما هلك بنو إسرائيل بهذا. من أدركته فيه الصلاة فليصل وإلا فليمض.
واعلم أنه ليس مع أحد من هؤلاء ما يعارض به ذلك، إلا حكاية عن بعضهم، أنه قال: إذا كانت لكم إلى الله حاجة، فادعوه عند قبري، أو قال: قبر فلان هو الترياق المجرب، وأمثال ذلك من هذه الحكايات التى قد تكون صدقًا، وقد تكون كذبًا. وبتقدير أن تكون صدقًا، فإن قائلها غير معصوم. وما يعارض النقل الثابت عن المعصوم بنقل غير ثابت عن غير معصوم إلا من يكون من الضالين، إخوان الشياطين، وهذا من أسباب الشرك، وتغيير الدين.
وأما قول القائل: إن الحوائج تقضى لهم بعض الأوقات، فهل يسوغ ذلك لهم قصدها؟ فيقال: ليس ذلك مسوغ قصدها لوجوه:
أحدها: أن المشركين وأهل الكتاب يقضى كثير من حوائجهم بالدعاء عند الأصنام، وعند تماثيل القديسين، والأماكن التى يعظمونها، وتعظيمها حرام في زمن الإسلام. فهل يقول مسلم: إن مثل ذلك سوغ لهم هذا الفعل المحرم بإجماع المسلمين؟! وما تجد عند أهل الأهواء والبدع من الأسباب التى بها ابتدعوا ما ابتدعوه إلا تجد عند المشركين وأهل الكتاب من جنس تلك الأسباب ما أوقعهم في كفرهم وأشد، ومن تدبر هذا وجده في عامة الأمور، فإن البدع مشتقة من الكفر، وكمال الإيمان هو فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله، فإذا ترك بعض المأمور، وعوض عنه ببعض المحظور كان في ذلك من نقص الإيمان بقدر ذلك.
والبدعة لا تكون حقًا محضًا؛ إذ لو كانت كذلك لكانت مشروعة، ولا تكون مصلحتها راجحة على مفسدتها؛ إذ لو كانت كذلك لكانت مشروعة، ولا تكون باطلا محضًا لا حق فيه؛ إذ لو كانت كذلك لما اشتبهت على أحد، وإنما يكون فيها بعض الحق وبعض الباطل. وكذلك دين المشركين وأهل الكتاب، فإنه لا يكون كل ما يخبرون به كذبًا، وكل ما يأمرون به فسادًا، بل لابد أن يكون في خبرهم صدق، وفي أمرهم نوع من المصلحة، ومع هذا فهم كفار بما تركوه من الحق، وأتوه من الباطل.
الوجه الثانى: أن هذا الباب يكثر فيه الكذب جدًا؛ فإنه لما كان الكذب مقرونًا بالشرك، كما دل عليه القرآن في غير موضع، والصدق مقرونا بالإخلاص، فالمؤمنون أهل صدق وإخلاص، والكفار أهل كذب وشرك، وكان في هذه المشاهد من الشرك ما فيها اقترن بها الكذب من وجوه متعددة:
منها: دعوى أن هذا قبر فلان المعظم أو رأسه، ففي ذلك كذب كثير.
والثانى: الإخبار عن أحواله بأمور يكثر فيها الكذب.
والثالث: الإخبار بما يقضى عنده من الحاجات، فما أكثر ما يحتال المعظمون للقبر بحيل يلبسون على الناس أنه حصل به خرق عادة، أو قضاء حاجة، وما أكثر من يخبر بما لا حقيقة له، وقد رأينا من ذلك أمورًا كثيرة جدًا.
الرابع: الإخبار بنسب المتصلين به، مثل كثير من الناس، يدعى الانتساب إلى قبر ذلك الميبت إما ببنوة، وإما بغير بنوة، حتى رأيت من يدعى أنه من ولد إبراهيم بن أدهم مع كذبه في ذلك؛ ليكون سَادِن قبره، وأما الكذب على العِتْرَة النبوية فأكثر من أن يوصف. فبنوا عبيد الذين يسمون القداح الذين كانوا يقولون: إنهم فاطميون، وبنوا القاهرة، وبقوا ملوكًا، يدعون أنهم علويون، نحو مائتى سنة، وغلبوا على نصف مملكة الإسلام حتى غلبوا في بعض الأوقات على بغداد، وكانوا كما قالوا فيهم أبو حامد الغزالى: ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض. وقد صنف القاضي أبو بكر بن الطيب كتابه الذي سماه كشف الأسرار، وهتك الأستار في كشف أحوالهم. وكذلك ما شاء الله من علماء المسلمين، كالقاضي أبي يعلى، وأبي عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني.
وأهل العلم كلهم يعلمون أنهم لم يكونوا من ولد فاطمة، بل كانوا من ذرية المجوس، وقيل: من ذرية يهودى، وكانوا من أبعد الناس عن رسول الله ﷺ في سنته ودينه، باطن دينهم مركب من دين المجوس والصابئين. وما يظهرون من دين المسلمين هو دين الرافضة. فخيار المتدينين منهم هم الرافضة. وهم جهالهم وعوامهم، وكل من دخل معهم يظن أنه مسلم، ويعتقد أن دين الإسلام حق وأما خواصهم من ملوكهم وعلمائهم فيعلمون أنهم خارجون من دين الملل كلهم، من دين المسلمين، واليهود، والنصارى، وأقرب الناس إليهم الفلاسفة؛ وإن لم يكونوا أيضًا على قاعدة فيلسوف معين.
ولهذا انتسب إليهم طوائف المتفلسفة، فابن سينا، وأهل بيته من أتباعهم، وابن الهيثم وأمثاله من أتباعهم، ومُبَشِّر بن فاتك ونحوه من أتباعهم، وأصحاب رسائل إخوان الصفا صنفوا الرسائل على نحو من طريقتهم، ومنهم الإسماعيلية، وأهل دار الدعوة في بلاد الإسلام. ووصف حالهم ليس هذا موضعه.
وإنما القصد أنهم كانوا من أكذب الناس، وأعظمهم شركًا، وأنهم يكذبون في النسب وغير النسب؛ ولذلك تجد أكثر المشهدية الذين يدعون النسب العلوى كذابين؛ إما أن يكون أحدهم مولى لبنى هاشم، أو لا يكون بينه وبينهم لا نسب ولا ولاء، ولكن يقول: أنا علوى، وينوى علوى المذهب، ويجعل عليا رضي الله عنه، وعن أهل بيته الطاهرين كان دينهم دين الرافضة، فلا يكفيه هذا الطعن في على حتى يظهر أنه من أهل بيته أيضًا، فالكذب فيما يتعلق بالقبور أكثر من أن يمكن سطره في هذه الفتوى.
الخامس: أن الرافضة، أكذب طوائف الأمة على الإطلاق، وهم أعظم الطوائف المدعية للإسلام غلوًا، وشركًا، ومنهم كان أول من ادعى الإلهية في القراء، وادعى نبوة غير النبي ﷺ، كمن ادعى نبوة على، وكالمختار ابن أبي عبيد الله ادعى النبوة، ثم يليهم الجهال كغلاة ضلال العباد وأتباع المشائخ؛ فإنهم أكثر الناس تعظيمًا للقبور بعد الرافضة، وأكثر الناس غلوًا بعدهم، وأكثر الطوائف كذبًا، وكل من الطائفتين فيها شبه من النصارى. وكذب النصارى وشركهم وغلوهم معلوم عند الخاص والعام، وعند هذه الطوائف من الشرك والكذب ما لا يحصيه إلا الله.
الوجه الثالث: أنه إذا قضيت حاجة مسلم، وكان قد دعا دعوة عند قبره، فمن أين له أن لذلك القبر تأثيرًا في تلك الحاجة؟ وهذا بمنزلة ما ينذرونه عند القبور أو غيرها من النذور، إذا قضيت حاجاتهم. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه: نهى عن النذر، وقال: (إنه لا يأتى بخير، وإنما يستخرج به من البخيل). وفي لفظ: (إن النذر لا يأتى ابن آدم بشىء لم يكن قدر له، ولكن يلقيه النذر إلى القدر قدرته). فإذا ثبت بهذا الحديث الصحيح: أن النذر ليس سببًا في دفع ما علق به من جلب منفعة، أو دفع مضرة، مع أن النذر جزاء تلك الحاجة، ويعلق بها، ومع كثرة من تقضى حوائجهم التى علقوا بها النذور، كانت القبور أبعد عن أن تكون سببًا في ذلك. ثم تلك الحاجة، إما أن تكون قد قضيت بغير دعائه، وإما أن تكون قضيت بدعائه. فإن كان الأول فلا كلام، وإن كان الثانى، فيكون قد اجتهد في الدعاء اجتهادًا لو اجتهده في غير تلك البقعة أو عند الصليب لقضيت حاجته، فالسبب هو اجتهاده في الدعاء، لا خصوص القبر.
الوجه الرابع: أنه إذا قدر أن للقبور نوع تأثير في ذلك سواء كان بها كما يذكره المتفلسفة ومن سلك سبيلهم في ذلك بأن الروح المفارقة تتصل بروح الداعى، فيقوى بذلك، كما يزعمه ابن سينا، وأبو حامد، وأمثالهما، في زيارة القبور، أو كان بسبب آخر. فيقال: ليس كل سبب نال به الإنسان حاجته يكون مشروعًا، بل ولا مباحًا، وإنما يكون مشروعًا إذا غلبت مصلحته على مفسدته. أما إذا غلبت مفسدته، فإنه لا يكون مشروعًا، بل محظورًا، وإن حصل به بعض الفائدة.
ومن هذا الباب تحريم السحر مع ما له من التأثير وقضاء بعض الحاجات، وما يدخل في ذلك من عبادة الكواكب ودعائها، واستحضار الجن. وكذلك الكهانة، والاستقسام بالأزلام، وأنواع الأمور المحرمة في الشريعة، مع تضمنها أحيانًا نوع كشف، أو نوع تأثير.
وفي هذا تنبيه على جملة الأسباب التى تقضى بها حوائجهم. وأما تفصيل ذلك فيحتاج إلى بسط طويل كما يحتاج تفصيل أنواع السحر، وسبب تأثيره، وما فيه من السيميا، وتفصيل أنواع الشرك وما دعا المشركين إلى عبادة الأصنام؛ فإن العاقل يعلم أن أمة من الأمم لم تجمع على أمر بلا سبب، والخليل عليه السلام يقول: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ } [161]، ومن ظن في عباد الأصنام أنهم كانوا يعتقدون أنها تخلق العالم، أو أنها تنزل المطر أو تنبت النبات، أو تخلق الحيوان، أو غير ذلك، فهو جاهل بهم، بل كان قصد عباد الأوثان لأوثانهم من جنس قصد المشركين بالقبور للقبور المعظمة عندهم، وقصد النصارى لقبور القديسين يتخذونهم شفعاء ووسائط ووسائل، بل قد ثبت عندنا بالنقل الصحيح أن من مساجدى القبور من يفعل بها أكثر مما يفعله كثير من عباد الأصنام. ويكفي المسلم أن يعلم أن الله لم يحرم شيئًا إلا ومفسدته محضة أو غالبة. وأما ما كانت مصلحته محضة أو راجحة فإن الله شرعه؛ إذ الرسل بعثت بتحصيل المصالح، وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها.
والشرك كما قرن بالكذب قرن بالسحر في مثل قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا } [162]، والجِبْت: السحر، والطاغوت: الشيطان والوَثَن. وهذه حال كثير من المنتسببين إلى الملة، يعظمون السحر والشرك، ويرجحون الكفار على كثير من المؤمنين، المتمسكين بالشريعة. والورقة لا تحتمل أكثر من هذا، والله أعلم.
وَسُئِل رحمه الله عن الدعاء عند القبر مثل الصالحين، والأولياء. هل هو جائز أم لا؟ وهل هو مستجاب أكثر من الدعاء عند غيرهم أم لا؟ وأى أماكن الدعاء فيها أفضل؟
فأجاب:
ليس الدعاء عند القبور بأفضل من الدعاء في المساجد وغيرها من الأماكن، ولا قال أحد من السلف والأئمة: إنه مستحب أن يقصد القبور لأجل الدعاء عندها، لا قبور الأنبياء ولا غيره، بل قد ثبت في صحيح البخارى: أن عمر بن الخطاب استسقى بالعباس عم النبي ﷺ وقال: اللهم، إنا كنا نستسقى إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون. فاستسقوا بالعباس كما كانوا يستسقون بالنبي ﷺ؛ لأنه عم النبي ﷺ.
وما كانوا يستسقون عند قبره، ولا يدعون عنده، بل قد ثبت عن النبي ﷺ في الصحاح أنه قال: (لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما فعلوا. وقال قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإنى أنهاكم عن ذلك). وفي السنن عنه ﷺ قال: (لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج). فإذا كان قد حرم اتخاذها مساجد والإيقاد عليها، علم أنه لم يجعلها محلا للعبادة لله والدعاء. وإنما سن لمن زار القبور أن يسلم على الميت، ويدعو له، كما سن أن يصلى عليه قبل دفنه ويدعو له. فالمقصود بما سنه ﷺ الدعاء للميت لا دعاؤه، والله أعلم.
فتيا ابن تيمية في السفر لزيارة قبور
وَقَالَ الشيخ محمد بن عبد الهادي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. أما بعد، فهذه فتيا أفتى بها الشيخ الإمام تقى الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه ثم بعد مدة نحو سبع عشرة سنة، أنكرها بعض الناس، وشنع بها جماعة عند بعض ولاة الأمور، وذكرت بعبارات شنيعة، ففهم منها جماعة غير ما هى علىه، وانضم إلى الإنكار والشناعة وتغير الألفاظ أمور أوجب ذلك كله مكاتبة السلطان سلطان الإسلام بمصر أيده الله تعالى فجمع قضاة بلده، ثم اقتضى الرأى حبسه، فحبس بقلعة دمشق المحروسة بكتاب ورد سابع شعبان المبارك، سنة ست وعشرين وسبعمائة.
وفي ذلك كله لم يحظر الشيخ المذكور بمجلس حكم، ولا وقف على خطه الذى أنكر، ولا ادعى عليه بشىء.
فكتب بعض الغرباء من بلده هذه الفتيا، وأوقف عليها بعض علماء بغداد، فكتبوا علىها بعد تأملها، وقراءة ألفاظها.
وسئل بعض مالكية دمشق عنها، فكتبوا كذلك. وبلغنا أن بمصر من وقف عليها فوافق.
ونبدأ الآن بذكر السؤال الذى كتب عليه أهل بغداد، وبذكر الفتيا، وجواب الشيخ المذكور عليها، وجواب الفقهاء بعده.
وهذه صورة السؤال والأجوبة:
المسؤول من إنعام السادة العلماء، والهداة الفضلاء، أئمة الدين وهداة المسلمين، وفقهم الله لمرضاته، وأدام بهم الهداية، أن ينعموا ويتأملوا الفتوى وجوابها المتصل بهذا السؤال المنسوخ عقبه، وصورة ذلك:
ما يقول السادة العلماء، أئمة الدين، نفع الله بهم المسلمين: في رجل نوى السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين مثل نبينا محمد ﷺ. وغيره فهل يجوز له في سفره أن يقصر الصلاة؟ وهل هذه الزيارة شرعية أم لا؟
وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال: (من حج ولم يزرنى فقد جفاني)، (ومن زارني بعد موتي، كمن زارني في حياتي)، وقد روي عنه ﷺ أيضًا أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى).
أفتونا مأجورين رحمكم الله
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، فهل يجوز له قصر الصلاة؟ على قولين معروفين:
أحدهما: وهو قول متقدمى العلماء الذين لايجوزون القصر في سفر المعصية، كأبي عبد الله بن بطة، وأبي الوفاء بن عقيل، وطوائف كثيرة من العلماء المتقدمين: أنه لا يجوز القصر في مثل هذا السفر؛ لأنه سفر منهى عنه. ومذهب مالك والشافعى وأحمد: أن السفر المنهى عنه في الشريعة لا يقصر فيه.
والقول الثاني: أنه يقصر، وهذا يقوله من يجوز القصر في السفر المحرم، كأبي حنيفة. ويقوله بعض المتأخرين من أصحاب الشافعى وأحمد، ممن يجوز السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين كأبي حامد الغزالى، وأبي الحسن ابن عبدوس الحرانى، وأبي محمد بن قدامة المقدسى. وهؤلاء يقولون: إن هذا السفر ليس بمحرم؛ لعموم قوله ﷺ: (زوروا القبور).
وقد يحتج بعض من لا يعرف الحديث بالأحاديث المروية في زيارة قبر النبي ﷺ، كقوله: (من زارني بعد مماتى، فكأنما زارني في حياتي). رواه الدارقطنى وابن ماجه.
وأما ما ذكره بعض الناس من قوله: (من حج ولم يزرنى فقد جفاني)، فهذا لم يروه أحد من العلماء. وهو مثل قوله: (من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على الله الجنة).
فإن هذا أيضًا باتفاق العلماء لم يروه أحد، ولم يحتج به أحد، وإنما يحتج بعضهم بحديث الدارقطنى ونحوه.
وقد احتج أبو محمد المقدسى على جواز السفر لزيارة القبور بأنه ﷺ كان يزور مسجد قباء.
وأجاب عن حديث: (لا تشد الرحال)، بأن ذلك محمول على نفي الاستحباب.
وأما الأولون، فإنهم يحتجون بما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى). وهذا الحديث مما اتفق الأئمة على صحته والعمل به. فلو نذر الرجل أن يشد الرحل ليصلى بمسجد، أو مشهد أو يعتكف فيه أو يسافر إليه، غير هذه الثلاثة، لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة.
ولو نذر أن يسافر ويأتى المسجد الحرام لحج أو عمرة. وجب عليه ذلك باتفاق العلماء.
ولو نذر أن يأتى مسجد النبي ﷺ، أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر، عند مالك والشافعى في أحد قوليه، وأحمد، ولم يجب عليه عند أبي حنيفة؛ لأنه لا يجب عنده بالنذر إلا ما كان جنسه واجبًا بالشرع.
أما الجمهور، فيوجبون الوفاء بكل طاعة، كما ثبت في صحيح البخارى عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه).
والسفر إلى المسجدين طاعة، فلهذا وجب الوفاء به.
وأما السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة، فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليه إذا نذره، حتى نص العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قباء؛ لأنه ليس من المساجد الثلاثة، مع أن مسجد قباء يستحب زيارته لمن كان في المدينة؛ لأن ذلك ليس بشد رحل، كما في الحديث الصحيح: (من تطهر في بيته، ثم أتى مسجد قباء، لا يريد إلا الصلاة فيه، كان كعمرة).
قالوا: ولأن السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة، لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أمر بها رسول الله ﷺ، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك عبادة، وفعله، فهو مخالف للسنة ولإجماع الأئمة.
وهذا مما ذكره أبو عبد الله بن بطة في الإبانة الصغرى من البدع المخالفة للسنة والإجماع.
وبهذا يظهر بطلان حجة أبي محمد المقدسى؛ لأن زيارة النبي ﷺ لمسجد قباء لم تكن بشد رحل، وهو يسلم لهم أن السفر إليه لا يجب بالنذر.
وقوله بأن الحديث الذى مضمونه (لا تشد الرحال): محمول على نفي الاستحباب، يجاب عنه بوجهين:
أحدهما: أن هذا تسليم منه أن هذا السفر ليس بعمل صالح، ولا قربة، ولا طاعة، ولا هو من الحسنات. فإذًا من اعتقد أن السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الإجماع. وإذا سافر لاعتقاد أن ذلك طاعة، كان ذلك محرمًا بإجماع المسلمين. فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة، ومعلوم أن أحدًا لا يسافر إليها إلا لذلك.
وأما إذا نذر الرجل أن يسافر إليها لغرض مباح، فهذا جائز، وليس من هذا الباب.
الوجه الثانى: أن هذا الحديث يقتضى النهى، والنهى يقتضى التحريم. وما ذكروه من الأحاديث في زيارة قبر النبي ﷺ فكلها ضعيفة، باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هى موضوعة، لم يرو أحد من أهل السنن المعتمدة شيئًا منها، ولم يحتج أحد من الأئمة بشىء منها، بل مالك إمام أهل المدينة النبوية الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة كره أن يقول الرجل: زرت قبره ﷺ، ولو كان هذا اللفظ معروفًا عندهم، أو مشروعًا، أو مأثورًا عن النبي ﷺ لم يكرهه عالم أهل المدينة.
والإمام أحمد أعلم الناس في زمانه بالسنة لما سئل عن ذلك لم يكن عنده ما يعتمد عليه في ذلك من الأحاديث، إلا حديث أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: (ما من رجل يسلم عَليَّ إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)، وعلى هذا اعتمد أبو داود في سنته. وكذلك مالك في الموطأ، روي عن عبد الله بن عمر: أنه كان إذا دخل المسجد قال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت. ثم ينصرف.
وفي سنن أبي داود عن النبي ﷺ أنه قال: (لا تتخذوا قبرى عيدًا، وصلوا على، فإن صلاتكم تبلغنى حيثما كنتم).
وفي سنن سعيد بن منصور: أن عبد الله بن حسن بن حسين بن على بن أبي طالب، رأى رجلا يختلف إلى قبر النبي ﷺ ويدعو عنده، فقال: يا هذا، إن رسول الله ﷺ قال: (لا تتخذوا قبرى عيدًا، وصلوا على، فإن صلاتكم حيثما كنتم تبلغنى). فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء.
وفي الصحيحين عن عائشة، عن النبي ﷺ أنه قال في مرض موته: (لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما فعلوا. ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا. وهم دفنوه ﷺ في حجرة عائشة رضي الله عنها خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحراء؛ لئلا يصلى أحد عند قبره ويتخذه مسجدًا، فيتخذ قبره وثنًا.
وكان الصحابة والتابعون لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد، إلى زمن الوليد ابن عبد الملك لا يدخل أحد إليه، لا لصلاة هناك، ولا تمسح بالقبر، ولا دعاء هناك، بل هذا جميعه إنما كانوا يفعلونه في المسجد.
وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلموا على النبي ﷺ، وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلى القبلة، ولم يستقبلوا القبر. وأما الوقوف للسلام عليه صلوات الله عليه وسلامه فقال أبو حنيفة: يستقبل القبلة أيضًا، ولا يستقبل القبر.
وقال أكثر الأئمة: بل يستقبل القبر عند السلام خاصة، ولم يقل أحد من الأئمة: إنه يستقبل القبر عند الدعاء.
وليس في ذلك إلا حكاية مكذوبة تروي عن مالك، ومذهبه بخلافها.
واتفق الأئمة على أنه لا يتمسح بقبر النبي ﷺ ولا يقبله.
وهذا كله محافظة على التوحيد، فإن من أصول الشرك بالله: اتخاذ القبور مساجد، كما قال طائفة من السلف في قوله تعالى: { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } [163]، قالوا: هؤلاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا على صورهم تماثيل، ثم طال عليهم الأمد فعبدوها. وقد ذكر البخارى في صحيحه هذا المعنى عن ابن عباس. وذكره محمد بن جرير الطبرى وغيره في التفسير عن غير واحد من السلف وذكره وَثِيمة وغيره في قصص الأنبياء من عدة طرق. وقد بسطت الكلام على أصول هذه المسائل في غير هذا الموضع.
وأول من وضع هذه الأحاديث في السفر لزيارة المشاهد التى على القبور، أهل البدع، من الرافضة ونحوهم، الذين يعطلون المساجد، ويعظمون المشاهد، يَدَعُون بيوت الله التى أمر أن يذكر فيها اسمه، ويعبد وحده لا شريك له، ويعظمون المشاهد التى يشرك فيها ويكذب، ويبتدع فيها دين لم ينزل الله به سلطانًا؛ فإن الكتاب والسنة إنما فيهما ذكر المساجد، دون المشاهد، كما قال تعالى: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } [164]، وقال تعالى: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [165]، وقال تعالى: { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [166]، وقال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [167]، وقال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } [168].
وقد ثبت عنه ﷺ في الصحيح أنه كان يقول: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك). والله أعلم.
هذا آخر ما أجاب به شيخ الإسلام والله سبحانه وتعالى أعلم. وله من الكلام في مثل هذا كثير، كما أشار إليه في الجواب.
ولما ظفروا في دمشق بهذا الجواب كتبوه، وبعثوا به إلى الديار المصرية وكتب عليه قاضى الشافعية: قابلت الجواب عن هذا السؤال، المكتوب على خط ابن تيمية. فصح إلى أن قال وإنما المحرف جعله زيارة قبر النبي ﷺ وقبور الأنبياء صلوات الله عليهم معصية بالإجماع مقطوع بها. هذا كلامه. فانظر إلى هذا التحريف على شيخ الإسلام، والجواب ليس فيه المنع من زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وإنما ذكر فيه قولين في شد الرحل، والسفر إلى مجرد زيارة القبور، وزيارة القبور من غير شد رحل إليها مسألة، وشد الرحل لمجرد الزيارة مسألة أخرى.
والشيخ لا يمنع الزيارة الخالية عن شد رحل، بل يستحبها، ويندب إليها. وكتبه ومناسكه تشهد بذلك، ولم يتعرض الشيخ إلى هذه الزيارة في الفتيا، ولا قال: إنها معصية، ولا حكى الإجماع على المنع منها. والله سبحانه وتعالى لا تخفي عليه خافية.
ولما وصل خط القاضى المذكور إلى الديار المصرية، كثر الكلام وعظمت الفتنة، وطلب القضاة بها، فاجتمعوا وتكلموا، وأشار بعضهم بحبس الشيخ. فرسم السلطان به، وجرى ما تقدم ذكره، ثم جرى بعد ذلك أمور على القائمين في هذه القضية لا يمكن ذكرها في هذا الموضع.
وقد وصل ما أجاب به الشيخ في هذه المسألة إلى علماء بغداد، فقاموا في الانتصار له، وكتبوا بموافقته، ورأيت خطوطهم بذلك.
وهذا صورة ما كتبوا:
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول العبد الفقير إلى الله تعالى بعد حمد الله السابغة نعمه، السابقة مننه، والصلاة على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين:
إنه حيث قد مَنَّ الله تعالى على عباده، وتفضل برحمته على بلاده بأن وسد أمور الأمة المحمدية، وأسند أزمة الملة الحنيفية، إلى من خصصه الله تعالى بأفضل الكمالات النفسانية، وخصص بأكمل السعادات الروحانية، محيى سنن العدل، ومبدى سنن الفضل، المعتصم بحبل الله، المتوكل على الله، المكتفي بنعم الله، القائم بأوامر الله، المستظهر بقوة الله، المستضىء بنور الله، أعز الله سلطانه، وأعلى على سائر الملوك شأنه، ولا زالت رقاب الأمم خاضعة لأوامره، وأعناق العباد طائعة لمراسمه، ولا زال موالى دولته بطاعته مجبورًا، ومعادى صولته بخزيه مذمومًا مدحورًا.
فالمرجو من ألطاف الحضرة المقدسة زادها الله تعالى علوًا وشرفًا أن يكون للعلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وصفوة الأصفياء، وعماد الدين، ومدار أهل اليقين، حظ من العناية السلطانية وافر، ونصيب من الرحمة والشفقة، فإنه مَنْقَبة لا يعادلها فضيلة، وحسنة لا يحيطها سيئة؛ لأنها حقيقة التعظيم لأمر الله تعالى، وخلاصة الشفقة على خلق الله تعالى.
ولا ريب أن المملوك وقف على ما سئل عنه الشيخ الإمام العلامة وحيد دهره، وفريد عصره، تقى الدين أبو العباس، أحمد بن تيمية وما أجاب به. فوجدته خلاصة ما قاله العلماء في هذا الباب حسبما اقتضاه الحال: من نقله الصحيح، وما أدى إليه البحث من الإلزام والالتزام، لا يداخله تحامل، ولا يعتريه تجاهل. وليس فيه والعياذ بالله ما يقتضى الإزراء والتنقيص بمنزلة الرسول صلى الله عليبه وسلم.
وكيف يجوز للعلماء أن تحملهم العصبية، أن يتفوهوا بالإزراء والتنقيص في حق الرسول ﷺ؟ وهل يجوز أن يتصور متصور أن زيارة قبره ﷺ تزيد في قدره، وهل تركها مما ينقص من تعظيمه؟ حاشا للرسول من ذلك.
نعم، لو ذكر ذلك ذاكر ابتداء، وكان هناك قرائن تدل على الإزراء والتنقيص، أمكن حمله على ذلك، مع أنه كان يكون كناية لا صريحًا، فكيف وقد قاله في معرض السؤال، وطريق البحث والجدل؟
مع أن المفهوم من كلام العلماء، وأنظار العقلاء، أن الزيارة ليست عبادة وطاعة لمجردها، حتى لو حلف أنه يأتى بعبادة أو طاعة لم يبر بها، لكن القاضى ابن كج من متأخرى أصحابنا ذكر أن نذر هذه الزيارة عنده قربة تلزم ناذرها. وهو منفرد به، لا يساعده في ذلك نقل صريح ولا قياس صحيح. والذى يقتضيه مطلق الخبر النبوى في قوله ﷺ: (لا تشد الرحال.... ) إلى آخره، أنه لا يجوز شد الرحال إلى غير ما ذكر أو وجوبه، أو ندبيته، فإن فعله كان مخالفًا لصريح النهى، ومخالفة النهى معصية إما كفر، أو غيره على قدر المنهى عنه، ووجوبه، وتحريمه، وصفة النهى، والزيارة أخص من وجه. فالزيارة بغير شد غير منهى عنها، ومع الشد منهى عنها.
وبالجملة، فما ذكره الشيخ تقى الدين على الوجه المذكور الموقوف عليه، لم يستحق عليه عقابًا، ولا يوجب عتابًا.
والمراحم السلطانية أحرى بالتوسعة، والنظر بعين الرأفة والرحمة إليه وللآراء الملكية علو المزيد.
حرره ابن الكتبى الشافعى، حامدًا لله على نعمه. ا ه.
جواب آخر:
الله الموفق.
ما أجاب به الشيخ الأجل الأوحد، بقية السلف، وقدوة الخلف، رئىس المحققين، وخلاصة المدققين، تقى الملة والحق والدين: من الخلاف في هذه المسألة: صحيح منقول في غير ما كتاب من كتب أهل العلم، لا اعتراض عليه في ذلك؛ إذ ليس في ذلك ثلب لرسول الله ﷺ، ولا غض من قدره ﷺ.
وقد نص الشيخ أبو محمد الجويني في كتبه على تحريم السفر لزيارة القبور. وهذا اختيار القاضى الإمام عياض بن موسى بن عياض في إكماله. وهو من أفضل المتأخرين من أصحابنا.
ومن المدونة: ومن قال: علىَّ المشى إلى المدينة، أو بيت المقدس، فلا يأتيهما أصلا، إلا أن يريد الصلاة في مسجديهما، فليأتهما. فلم يجعل نذر زيارة قبره ﷺ طاعة يجب الوفاء بها؛ إذ من أصلنا: أن من نذر طاعة لزمه الوفاء بها، كان من جنسها ما هو واجب بالشرع، كما هو مذهب أبي حنيفة، أو لم يكن.
قال القاضى أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق، عقيب هذه المسألة: ولولا الصلاة فيهما لما لزمه إتيانهما، ولو كان نذر زيارة طاعة لما لزمه ذلك.
وقد ذكر ذلك القيروانى في تقريبه، والشيخ ابن سيرين في تنبيهه. وفي المبسوط: قال مالك: ومن نذر المشى إلى مسجد من المساجد ليصلى فيه. قال: فإنى أكره ذلك له. لقوله ﷺ: (لا تعمل المطى إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد بيت المقدس، ومسجدي هذا). وروي محمد بن المواز في الموازية: إلا أن يكون قريبًا، فيلزمه الوفاء، لأنه ليس بشد رحل. وقد قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر في كتابه التمهيد: يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد.
وحيث تقرر هذا فلا يجوز أن ينسب من أجاب في هذه المسألة بأنه سفر منهى عنه إلى الكفر، فمن كفره بذلك من غير موجب، فإن كان مستبيحًا ذلك فهو كافر؛ وإلا فهو فاسق.
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن على المازرى في كتاب المعلم: من كفر أحدًا من أهل القبلة، فإن كان مستبيحًا ذلك فقد كفر، وإلا فهو فاسق. يجب على الحاكم إذا رفع أمره إليه أن يؤدبه، ويعزره بما يكون رادعًا لأمثاله، فإن ترك مع القدرة عليه فهو آثم، والله تعالى أعلم.
كتبه محمد بن عبد الرحمن البغدادى، الخادم للطائفة المالكية بالمدرسة الشريفة المستنصرية، رحمة الله على منشئها.
وأجاب غيره فقال:
الحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد، وعلى آله الطاهرين.
ما ذكره مولانا الإمام، العالم العامل، جامع الفضائل والفوائد، بحر العلوم، ومنشأ الفضل جمال الدين، كاتب خطه أمام خطى هذا، جمل الله به الإسلام، وأسبغ عليه سوابغ الإنعام، أتى فيه بالحق الجلى الواضح، وأعرض فيه عن إغضاء المشايخ؛ إذ السؤال والجواب اللذان تقدماه، لا يخفي على ذى فطنة وعقل أنه أتى في الجواب المطابق للسؤال بحكاية أقوال العلماء الذين تقدموه، ولم يبق عليه في ذلك إلا أن يعترضه معترض في نقله فيبرزه له من كتب العلماء الذين حكى أقوالهم. والمعترض له بالتشنيع، إما جاهل لا يعلم ما يقول، أو متجاهل يحمله حسده وحمية الجاهلية على رد ما هو عند العلماء مقبول، أعاذنا الله تعالى من غوائل الحسد، وعصمنا من مخائل النكد، بمحمد وآله الطيبين الطاهرين؛ والحمد لله رب العالمين.
كتبه الفقير إلى عفو ربه ورضوانه، عبد المؤمن بن عبد الحق الخطيب، غفر الله له وللمسلمين أجمعين.
وأجاب غيره فقال:
بعد حمد الله الذى هو فاتح كل كلام، والصلاة والسلام على رسوله محمد خير الأنام، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، أعلام الهدى ومصابيح الظلام، يقول أفقر عباد الله، وأحوجهم إلى عفوه:
ما حكاه الشيخ الإمام البارع الهمام، افتخار الأنام، جمال الإسلام، ركن الشريعة، ناصر السنة، قامع البدعة، جامع أشتات الفضائل، قدوة العلماء الأماثل، في هذا الجواب، من أقوال العلماء والأئمة النبلاء رحمة الله عليهم أجمعين بين لا يدفع، ومكشوف لا يتقنع، بل أوضح من النيرين، وأظهر من فرق الصبح لذى عينين. والعمدة في هذه المسألة: الحديث المتفق على صحته. ومنشأ الخلاف بين العلماء من احتمالى صيغته.
وذلك: أن صيغة قوله ﷺ: (لا تشد الرحال) ذات وجهين، نفي ونهى، لاحتمالهما؛ فإن لحظ معنى النفي فمقتضاه: نفي فضيلة واستحباب شد الرحال، وإعمال المطى إلى غير المساجد الثلاثة؛ إذ لو فرض وقوعهما لامتنع رفعهما. فتعين توجه النفي إلى فضيلتهما واستحبابهما دون ذاتهما، وهذا عام في كل ما يعتقد أن إعمال المطى وشد الرحال إليه قربة وفضيلة؛ من المساجد، وزيارة قبور الصالحين، وما جرى هذا المجرى، بل أعم من ذلك. وإثبات ذلك بدليل ضرورة إثبات ذلك المنفي المقدر في صدر الجملة لما بعد (إلا). وإلا لما افترق الحكم بين ما قبلها وما بعدها، وهو مفترق حينئذ؛ لا يلزم من نفي الفضيلة والاستحباب نفي الإباحة. فهذا وجه متمسك من قال بإباحة هذا السفر، بالنظر إلى أن هذه الصيغة نفي، وبنى على ذلك جواز القصر.
وإن كان النهي ملحوظًا. فالمعنى: نهيه عن إعمال المطى وشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة؛ إذ المقرر عند عامة الأصوليين أن النهى عن الشىء قاض بتحريمه أو كراهته، على حسب مقتضى الأدلة، فهذا وجه متمسك من قال بعدم جواز القصر في هذا السفر، لكونه منهيًا عنه. وممن قال بحرمته: الشيخ الإمام أبو محمد الجوينى من الشافعىة، والشيخ أبو الوفاء ابن عقيل من الحنابلة، وهو الذى أشار القاضى عياض من المالكية إلى اختياره.
وما جاء من الأحاديث في استحباب زيارة القبور، فمحمول على ما لم يكن فيه شد رحل وإعمال مطى، جمعًا بينهما.
ويحتمل أن يقال: لا يصلح أن يكون غير حديث: (لا تشد الرحال) معارضًا له، لعدم مساواته إياه في الدرجة، لكونه من أعلى أقسام الصحيح، والله أعلم.
وقد بلغنى أنه رزئ وضيق على المجيب. وهذا أمر يحار فيه اللبيب ويتعجب منه الأريب؛ ويقع به في شك مريب.
فإن جوابه في هذه المسألة قاض بذكر خلاف العلماء. وليس حاكمًا بالغض من الصالحين والأنبياء؛ فإن الأخذ بمقتضى كلامه صلوات الله وسلامه عليه في الحديث المتفق على صحة رفعه إليه، هو الغاية القصوى في تتبع أوامره ونواهيه، والعدول عن ذلك محذور، وذلك مما لا مرية فيه.
وإذا كان كذلك، فأى حرج على من سئل عن مسألة فذكر فيها خلاف الفقهاء، ومال فيها إلى بعض أقوال العلماء؟ فإن الأمر لم يزل كذلك على ممر العصور، وتعاقب الدهور.
وهل ذلك محمول من القادح إلا على امتطاء نضو الهوى المفضى بصاحبه إلى التوى؛ فإن من يقتبس من فوائده، ويلتقط من فرائده، لحقيق بالتعظيم، وخليق بالتكريم، ممن له الفهم السليم، والذهن المستقيم. وهل حكم المظاهر عليه في الظاهر، إلا كما قيل في المثل السائر: الشعير يؤكل ويذم. وقول الشاعر:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر**وحسن فعل كما يجزى سنمار
غيره:
وحديث ألذه، وهو مما**ينعت الناعتون يوزن وزنًا
منطق رائع. ويلحن أحيا**نا. وخير الحديث ما كان لحنًا
وقال الله تعالى: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [169]. وقال تعالى: { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [170]، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } [171]، وقال تعالى: { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [172].
ولولا خشية الملالة، لما نكبت عن الإطالة.
نسأل الله الكريم، أن يسلك بنا وبكم سبيل الهداية، وأن يجنبنا وإياكم مسلك الغواية، إنه على كل شىء قدير، وبالإجابة جدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل ونعم النصير.
والحمد لله رب العالمين، وصلوات الله وسلامه على سيد المرسلين، محمد النبي وآله الطاهرين، وأصحابه الكرام المنتخبين.
هذا جواب الشيخ الإمام العلامة جمال الدين يوسف بن عبد المحمود بن عبد السلام بن البتي الحنبلي رحمه الله تعالى.
قال المؤلف: ومن خطه نقلت.
جواب آخر لبعض علماء أهل الشام المالكية:
الحمد لله، وهو حسبي.
السفر إلى غير المساجد الثلاثة ليس بمشروع. وأما من سافر إلى مسجد النبي ﷺ ليصلى فيه، ويسلم على النبي ﷺ وعلى صاحبيه رضي الله عنهما فمشروع، كما ذكر باتفاق العلماء.
وأما لو قصد إعمال المطى لزيارته ﷺ، ولم يقصد الصلاة، فهذا السفر إذا ذكر رجل فيه خلافًا للعلماء؛ وأن منهم من قال: إنه منهى عنه. ومنهم من قال: إنه مباح. وأنه على القولين ليس بطاعة، ولا قربة، فمن جعله طاعة وقربة على مقتضى هذين القولين كان حرامًا بالإجماع، وذكر حجة كل قول منهما، أو رجح أحد القولين، لم يلزمه ما يلزم من تنقص؛ إذ لا تنقص ولا إزراء بالنبي ﷺ.
وقد قال مالك رحمه الله لسائل سأله: أنه نذر أن يأتى قبر النبي ﷺ؟ فقال: إن كان أراد مسجد النبي ﷺ فليأته، وليصل فيه. وإن كان أراد القبر فلا يفعل، للحديث الذى جاء: (لا تعمل المطى إلا إلى ثلاثة مساجد)، والله أعلم.
كتبه أبو عمرو بن أبي الوليد المالكى.
كذلك يقول عبد الله بن أبي الوليد المالكى.
قال المؤلف رحمه الله: نقلت هذه الأجوبة كلها من خط المفتين بها.
قال: ووقفت على كتاب ورد مع أجوبة أهل بغداد، وصورته:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ناصر الملة الإسلامية، ومعز الشريعة المحمدية، بدوام أيام الدولة المباركة السلطانية، المالكية، الناصرية، ألبسها الله تعالى لباس العز المقرون بالدوام، وحلاها بحلية النصر المستمر بمرور الليالى والأيام، والصلاة والسلام على النبي المبعوث إلى جميع الأنام، صلى الله عليه وعلى آله البررة الكرام.
اللهم إن بابك لم يزل مفتوحًا للسائلين، ورفدك ما برح مبذولا للوافدين، من عودته مسألتك وحدك لم يسأل أحدًا سواك، ومن منحته منائح رفدك، لم يفد على غيرك، ولم يحتم إلا بحماك. أنت الرب العظيم الكريم الأكرم، قصد باب غيرك على عبادك محرم. أنت الذى لا إله غيرك، ولا معبود سواك، عز جارك؛ وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، وعظم بلاؤك، ولا إله غيرك. ولم تزل سنتك في خلقك جارية بامتحان أوليائك وأحبابك، تفضلا منك عليهم، وإحسانًا من لدنك إليهم. ليزدادوا لك في جميع الحالات ذكرًا ولإنعامك في جميع التقلبات شكرًا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } [173].
اللهم وأنت العالم الذى لا تُعَلَّم، وأنت الكريم الذى لا تبخل، قد علمت يا عالم السر والعلانية، أن قلوبنا لم تزل ترفع إخلاص الدعاء صادقة، وألسنتا في حالتى السر والعلانية ناطقة. أن تسعفنا بإمداد هذه الدولة المباركة الميمونة السلطانية الناصرية، بمزيد العلا والرفعة والتمكين، وأن تحقق آمالنا فيها بإعلاء الكلمة في ذلك، برفع قواعد دعائم الدين، وقمع مكايد الملحدين؛ لأنها الدولة التى برئت من غشيان الجنف والحيف، وسلمت من طغيان القلم والسيف.
والذى ينطوى عليه ضمائر المسلمين، ويشتمل علىه سرائر المؤمنين: أن السلطان الملك الناصر للدين، ممن قال فيه رب العالمين، وإله السموات والأرضين: الذى بتمكينه في أرضه حصل التمكين لملوك الأرض، وعظماء السلاطين، في كتابه العزيز الذى يتلى، فمن شاء فليتدبر: { الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ } [174]، وهو ممن مكنه الله تعالى في الأرض تمكينًا، يقينا لا ظنًا، وهو ممن يعنى بقوله تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا } [175].
والذى عهده المسلمون، وتعوده المؤمنون، من المراحم الكريمة والعواطف الرحيمة، إكرام أهل الدين، وإعظام علماء المسلمين.
والذى حمل على رفع هذه الأدعية الصريحة إلى الحضرة الشريفة وإن كانت لم تزل مرفوعة إلى الله سبحانه بالنية الصحيحة قوله ﷺ: (الدين النصيحة) قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم). وقوله ﷺ: (إنما الأعمال بالنيات)، فهذان الحديثان مشهوران بالصحة، ومستفيضان في الأمة.
ثم إن هذا الشيخ المعظم الجليل، والإمام المكرم النبيل، أوحد الدهر، وفريد العصر، طراز المملكة الملكية، وعلم الدولة السلطانية لو أقسم مقسم بالله العظيم القدير، أن هذا الإمام الكبير، ليس له في عصره مماثل ولا نظير لكانت يمينه برة غنية عن التكفير، وقد خلت من وجود مثله السبع الأقاليم، إلا هذا الإقليم، يوافق على ذلك كل منصف جبل على الطبع السليم. ولست بالثناء عليه أطريه، بل لو أطنب مطنب في مدحه والثناء عليه لما أتى على بعض الفضائل التى هى فيه؛ أحمد بن تيمية، درة يتيمة يتنافس فيها، تشترى ولا تباع، ليس في خزائن الملوك درة تماثلها وتؤاخيها، انقطعت عن وجود مثله الأطماع.
لقد أصم الأسماع، وأوهى قوى المتبوعين والأتباع سماع رفع، أبي العباس أحمد بن تيمية إلى القلاع.
وليس يقع من مثله أمر ينقم منهم عليه، إلا أنه يكون أمرًا قد لبس عليه، ونسب إلى ما ينسب مثله إليه. والتطويل على الحضرة العالية، لا يليق، إن يكن في الدنيا قطب فهو القطب على التحقيق، قد نصب الله السلطان أعلى الله شأنه في هذا الزمان منصب يوسف الصديق، صلى الله على نبينا وعليه، لما صرف الله وجوه أهل البلاد إليه، حين أمحلت البلاد، واحتاج أهلها إلى القوت المدخر لديه. والحاجة بالناس والآن إلى قوت الأرواح، المشار في ذلك الزمان إليها، لا خفاء أنها للعلوم الشريفة، والمعانى اللطيفة.
وقد كانت في بلاد المملكة السلطانية حرسها الله تعالى تكال إلينا جزافًا بغير أثمان، منحة عظيمة من الله للسلطان، ونعمة جسيمة إذ خص بلاد مملكته وإقليم دولته بما لا يوجد في غيرها من الأقاليم والبلدان، وكان قد وفد الوافدون من سائر الأمصار إلى تلك الديار؛ فوجدوا صاحب صواع الملك قد رفع إلى القلاع، ومثل هذه الميرة لا توجد في غير تلك البلاد لتشترى أو تباع، فصادف ذلك جدب الأرض ونواحيها، جدبًا أعطب أهاليها، حتى صاروا من شدة حاجتهم إلى الأقوات كالأموات، والذى عرض للملك بالتضييق على صاحب صواعه، مع شدة الحاجة إلى غذاء الأرواح، لعله لم يتحقق عنده أن هذا الإمام من أكابر الأولياء وأعيان أهل الصلاح، وهذه نزغة من نزغات الشيطان، قال الله سبحانه: { وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا } [176].
وأما إزارء بعض العلماء عليه في فتواه، وجوابه عن مسألة شد الرحال إلى القبور، فقد حمل جواب علماء هذه البلاد، إلى نظرائهم من العلماء، وقرنائهم من الفضلاء، وكلهم أفتى: أن الصواب في الذى به أجاب.
والظاهر بين الأنام، أن إكرام هذا الإمام، ومعاملته بالتبجيل والاحترام، فيه قوام الملك، ونظام الدولة، وإعزاز الملة، واستجلاب الدعاء، وكبت الأعداء، وإذلال أهل البدع والأهواء، وإحياء الأمة وكشف الغمة، ووفور الأجر، وعلو الذكر، ورفع البأس، ونفع الناس، ولسان حال المسلمين تال قول الكبير المتعال: { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ } [177].
والبضاعة المزجاة: هى هذه الأوراق، المرقومة بالأقلام، والميرة المطلوبة: هى الإفراج عن شيخ الإسلام، والذى حمل على هذا الإقدام قوله عليه السلام: (الدين النصيحة)، والسلام.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الكرام، وسلم تسليما. هذا آخر هذا الكتاب.
قال المؤلف: ووقفت على كتاب آخر من بغداد أيضًا. صورته:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين.
اللهم فكما أيدت ملوك الإسلام وولاة الأمور بالقوة والأيد وشيدت لهم ذكرًا، وجعلتهم للمقهور اللائذ بجنابهم ذخرًا، وللمكسور العائذ بأكناف بابهم جبرًا، فاشدد اللهم منهم بحسن معونتك لهم إزرًا، وأعل لهم جدًا وارفع قدرًا، وزدهم عزًا، وزودهم على أعدائك نصرًا، وامنحهم توفيقًا مسددًا، وتمكينًا مستمرًا.
وبعد، فإنه لما قرع أسماع أهل البلاد المشرقية، والنواحى العراقية التضييق على شيخ الإسلام، تقى الدين أبي العباس أحمد بن تيمية، سلمه الله، عظم ذلك على المسلمين، وشق على ذوى الدين، وارتفعت رؤوس الملحدين، وطابت نفوس أهل الأهواء والمبتدعين، ولما رأى علماء أهل هذه الناحية عظم هذه النازلة، من شماتة أهل البدع وأهل الأهواء، بأكابر الأفاضل وأئمة العلماء، أنهوا حال هذا الأمر الفظيع والأمر الشنيع، إلى الحضرة الشريفة السلطانية، زادها الله شرفًا، وكتبوا أجوبتهم في تصويب ما أجاب به الشيخ، سلمه الله في فتاواه، وذكروا من علمه، وفضائله بعض ما هو فيه، وحملوا ذلك إلى بين يدى مولانا ملك الأمراء، أعز الله أنصاره وضاعف اقتداءه، غيرة منهم على هذا الدين، ونصيحة للإسلام وأمراء المؤمنين.
والآراء المولوية العالية أولى بالتقديم، لأنها ممنوحة بالهداية إلى الصراط المستقيم.
وأفضل الصلاة وأشرف التسليم، على النبي الأمي، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وسلم تسليما.
فصل مختصر في الرد على الأخنائي
وَقَال شيخ الإسلام قدسَ الله روحهُ:
فصل مختصر في التنبيه على ما في هذا المصنف من الجهل والكذب مع أنه في غاية الاختصار. وقبل ذلك نذكر لفظ الجواب؛ ليتبين ما في معارضته من الخطأ والصواب، ولفظ الجواب بعد لفظ السؤال. والسؤال سؤال مسترشد: يسأل عن السفر إلى قبور الأنبياء، وما جاء في ذلك من الأقوال المختلفة، والأحاديث المتعارضة. وقد سمع الاختلاف في ذلك، والأحاديث المتعارضة، ولم يعرف صحيحها من ضعيفها. فقال:
ما تقول السادة العلماء: في رجل نروي زيارة قبور الأنبياء والصالحين مثل نبينا ﷺ وغيره، فهل يجوز له في سفره أن يقصر الصلاة؟ وهل هذه الزيارة شرعية أم لا؟ وقد رروي عن النبي ﷺ أنه قال: (من حج ولم يزرني فقد جفاني)، و(من زارني بعد موتى فكأنما زارني في حياتى)، ورروي عنه أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا).
ولفظ الجواب:
الحمد لله، أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين: فهل يجوز له قصر الصلاة؟ على قولين معروفين:
أحدهما: وهو قول متقدمى العلماء الذين لا يجوزون القصر في سفر المعصية، ويقولون: إن هذا سفر معصية؛ كأبي عبد الله ابن بطة، وأبي الوفاء ابن عقيل، وطوائف كثيرين من العلماء المتقدمين: أنه لا يجوز القصر في مثل هذا السفر؛ لأنه سفر منهى عنه. ومذهب مالك والشافعي وأحمد: أن السفر المنهي عنه في الشريعة لا تقصر فيه الصلاة.
والقول الثانى: أنه تقصر الصلاة فيه. وهذا يقوله من يجوز القصر في السفر المحرم، كأبي حنيفة. ويقوله بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد ممن يجوز السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين، كأبي حامد الغزالى، وأبي محمد المقدسى، وأبي الحسن بن عبدوس الحرانى. وهؤلاء يقولون: إن هذا السفر ليس بمحرم؛ لعموم قوله: (فزوروا القبور).
وقد يحتج بعض من لا يعرف الحديث بالأحاديث المروية في زيارة قبر النبي ﷺ كقوله: (من زارني بعد مماتى فكأنما زارني في حياتى). رواه الدارقطنى.
وأما ما ذكره بعض الناس من قوله: (من حج ولم يزرني فقد جفاني)، فهذا لم يروه أحد من العلماء. وهو مثل قوله: (من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة)، فإن هذا أيضا باطل باتفاق العلماء، ولم يروه أحد، ولم يحتج به أحد، وإنما يحتج بعضهم بحديث الدارقطنى وقد زاد فيها المجيب حاشية بعد ذلك ولكن هذا وإن كان لم يروه أحد من العلماء في كتب الفقه والحديث لا محتجا ولا معتضدا به، وإن ذكره بعض المتأخرين فقد رواه أبو أحمد بن عدى في كتاب الضعفاء ليبين ضعف روايته. فذكره بحديث النعمان بن شبل الباهلي المصري، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله ﷺ قال: (من حج ولم يزرني فقد جفاني)، قال ابن عدى: لم يروه عن مالك غير هذا. يعني: وقد علم أنه ليس من حديث مالك، فعلم أن الآفة من جهته. قال يونس ابن هارون: كان النعمان هذا متهما. وقال أبو حاتم ابن حبان: يأتى عن الثقات بالطامات. وقد ذكر أبو الفرج ابن الجوزى هذا الحديث في الموضوعات. ورواه من طريق أبي حاتم ابن حبان: حدثنا أحمد بن عبيد، حدثنا محمد بن النعمان، حدثنا جدى، عن مالك. ثم قال أبو الفرج: قال أبو حاتم: النعمان يأتى عن الثقات بالطامات. وقال الدارقطنى: الطعن في هذا الحديث من محمد بن محمد، لا من نعمان.
وأما الحديث الآخر: (من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة)، فهذا ليس في شىء من الكتب لا بإسناد موضوع، ولا غير موضوع. وقد قيل: إن هذا لم يسمع في الإسلام حتى فتح المسلمون بيت المقدس في زمن صلاح الدين، فلهذا لم يذكر أحد من العلماء لا هذا ولا هذا، لا على سبيل الاعتضاد ولا على سبيل الاعتماد، بخلاف الحديث الذى قد تقدم، فإنه قد ذكره جماعة، ورووه، وهو معروف من حديث حفص بن سليمان الغاضرى صاحب عاصم، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله ﷺ: (من حج فزارني بعد موتى، كان كمن زارني في حياتى).
وقد اتفق أهل العلم بالحديث على الطعن في حديث حفص هذا دون قراءته. قال البيهقي في شعب الإيمان: رروي حفص بن أبي داود وهو ضعيف عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله ﷺ: (من حج فزارني بعد موتى كان كمن زارني في حياتى). قال يحيى بن معين عن حفص: هذا ليس بثقة، وهو أصح قراءة من أبي بكر بن عياش، وأبو بكر أوثق منه. وفي رواية عنه: كان حفص أقرأ من أبي بكر، وكان أبو بكر صدوقا، وكان حفص كذابا. وقال البخارى: تركوه. وقال مسلم بن الحجاج: متروك. وقال على بن المدينى: ضعيف الحديث، تركته على عمد. وقال النسائى: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه. وقال مرة: متروك، وقال صالح بن محمد البغدادى: لا يكتب حديثه، وأحاديثه كلها مناكير. وقال أبو زُرْعة: ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم الرازى: لا يكتب حديثه، وهو ضعيف الحديث، لا يصدق، متروك الحديث. وقال عبد الرحمن بن خراش: هو كذاب متروك، يضع الحديث. وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث. وقال ابن عدى: عامة أحاديثه عمن رروي عنه غير محفوظة.
وفي الباب حديث آخر رواه البزار والدارقطنى وغيرهما من حديث موسى بن هلال: حدثنا عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله ﷺ: (من زار قبرى وجبت له شفاعتى). قال البيهقى: وقد رروي هذا الحديث، ثم قال: وقد قيل عن موسى، عن عبد الله، قال: وسواء عبد الله أو عبيد الله فهو منكر عن نافع عن ابن عمر، لم يأت به غيره. وقال العقيلى في موسى بن هلال: هذا لا يتابع على حديثه. وقال أبو حاتم الرازى: هو مجهول. وقال أبو زكريا النواروي في شرح المهذب لما ذكر قول أبي إسحاق: وتستحب زيارة قبر رسول الله ﷺ؛ لما رروي عن ابن عمر، عن النبي ﷺ أنه قال: (من زار قبرى وجبت له شفاعتى). قال النواروي: أما حديث ابن عمر فرواه أبو بكر الرازى والدارقطنى والبيهقى بإسنادين ضعيفين جدا.
قال المجيب في تمام الجواب: وقد احتج أبو محمد المقدسى على جواز السفر لزيارة القبور والمساجد بأنه كان يزور قباء، وأنه كان يزور القبور، وأجاب عن حديث: (لا تشد الرحال)، بأن ذلك محمول على نفي الاستحباب.
وأما الأولون، فإنهم يحتجون بما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا)، وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحته والعمل به. فلو نذر الرجل أن يصلى بمسجد أو بمشهد أو يعتكف فيه أو يسافر إلى غير هذه الثلاثة، لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة. ولو نذر أن يسافر أو يأتى إلى المسجد الحرام لحج أو عمرة وجب عليه ذلك باتفاق العلماء. ولو نذر أن يأتى مسجد النبي ﷺ أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف، وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي في أحد قوليه وأحمد، ولم يجب عليه عند أبي حنيفة؛ لأنه لا يجب عنده بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع. وأما الجمهور فيوجبون الوفاء بكل طاعة، كما ثبت في صحيح البخارى عن عائشة أن النبي ﷺ قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه). والسفر إلى المسجدين طاعة؛ فلهذا وجب الوفاء به. وأما السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة، فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليها إذا نذره. حتى نص العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قباء؛ لأنه ليس من الثلاثة، مع أن مسجد قباء تستحب زيارته لمن كان بالمدينة؛ لأن ذلك ليس بشد رحل، كما في الحديث الصحيح: (من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان كعمرة). وفي الحاشية: وهذا الحديث رواه أهل السنن؛ كالنسائى وابن ماجه والترمذى وحسنه.
قال: وقالوا: ولأن السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أمر بها رسول الله ﷺ، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين. فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة ولإجماع الأئمة. وهذا مما ذكره أبو عبد الله ابن بطة في الإبانة الصغرى من البدع المخالفة للسنة. وبهذا يظهر ضعف حجة أبي محمد المقدسى؛ لأن زيارة النبي ﷺ لمسجد قباء لم تكن بشد رحل، والسفر إليه لا يجب بالنذر.
وقوله في قول النبي ﷺ: (لا تشد الرحال): إنه محمول على نفي الاستحباب، عنه جوابان:
أحدهما: أن هذا تسليم منه أن هذا السفر ليس بعمل صالح ولا قربة ولا طاعة ولا هو من الحسنات. فإذًا من اعتقد في السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين أنه قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الإجماع، وإذا سافر لاعتقاده أنها طاعة كان ذلك محرما بإجماع المسلمين، فصار التحريم من هذه الجهة. ومعلوم أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك. وأما إذا قدر أن الرجل سافر إليها لغرض مباح فهذا جائز، وليس من هذا الباب.
الوجه الثانى: أن هذا الحديث يقتضى النهى، والنهى يقتضى التحريم. وما ذكره السائل من الأحاديث في زيارة قبر النبي ﷺ فكلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هى موضوعة. لم يخرج أحد من أهل السنن المعتمدة شيئا منها، ولم يحتج أحد من الأئمة بشىء منها، بل مالك إمام أهل المدينة النبوية الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة كره أن يقول الرجل: زرت قبر النبي ﷺ، ولو كان هذا اللفظ معروفا عندهم أو مشروعا أو مأثورا عن النبي ﷺ لم يكرهه عالم المدينة.
والإمام أحمد أعلم الناس في زمانه بالسنة لما سئل عن ذلك لم يكن عنده ما يعتمد عليه في ذلك من الأحاديث إلا حديث أبي هريرة: أن النبي ﷺ قال: (ما من رجل يسلم علىَّ إلا رد الله علىَّ روحى حتى أرد عليه السلام). وعلى هذا اعتمد أبو داود في سننه. وكذلك مالك في الموطأ رروي عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا دخل المسجد قال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت. ثم ينصرف. وفي سنن أبي داود عن النبي ﷺ أنه قال: (لا تتخذوا قبرى عيدا، وصلوا على حيثما كنتم؛ فإن صلاتكم تبلغنى). وفي سنن سعيد بن منصور أن عبد الله بن الحسن بن الحسين رأى رجلا يختلف إلى قبر النبي ﷺ، فقال: إن رسول الله ﷺ قال: (لا تتخذوا قبرى عيدا، وصلوا على حيثما كنتم؛ فإن صلاتكم تبلغنى) ما أنتم ومن بالأندلس منه إلا سواء. وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال في مرض موته: (لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما فعلوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا. وهم دفنوه في حجرة عائشة خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحراء؛ لئلا يصلى أحد عند قبره ويتخذه مسجدا، فيتخذ قبره وثنا.
وكان الصحابة والتابعون لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد إلى زمن الوليد ابن عبد الملك لا يدخل عنده أحد، لا لصلاة هناك، ولا لتمسح بالقبر، ولا دعاء هناك، بل هذا جميعه إنما يفعلونه في المسجد، وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلموا على النبي ﷺ وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلى القبلة لم يستقبلوا القبر.
وأما وقوف المسلم عليه، فقال أبو حنيفة: يستقبل القبلة أيضا، لا يستقبل القبر. وقال أكثر الأئمة: بل يستقبل القبر عند السلام عليه خاصة. ولم يقل أحد من الأئمة: يستقبل القبر عند الدعاء أى الدعاء الذى يقصده لنفسه إلا في حكاية مكذوبة ترروي عن مالك ومذهبه بخلافها. واتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبي ﷺ ولا يقبله. وهذا كله محافظة على التوحيد.
فإن من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد، كما قال طائفة من السلف في قوله تعالى: { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } [178]، قالوا: هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. وقد ذكر بعض هذا المعنى البخارى في صحيحه، كما ذكر قول ابن عباس: أن هذه الأوثان صارت إلى العرب، وذكره ابن جرير الطبرى وغيره في التفسير عن غير واحد من السلف. وذكره غيره في قصص الأنبياء من عدة طرق. وقد بسطت الكلام على هذه المسائل في غير هذا الموضع.
وأول من وضع هذه الأحاديث في السفر لزيارة المشاهد التى على القبور هم أهل البدع من الرافضة وغيرهم الذين يعطلون المساجد ويعظمون المشاهد؛ التى يشرك فيها، ويكذب فيها، ويبتدع فيها دين لم ينزل الله به سلطانا، فإن الكتاب والسنة إنما فيه ذكر المساجد دون المشاهد، كما قال تعالى: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } [179]، وقال: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [180]، وقال: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } [181]، وقال تعالى: { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [182]، وقال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } [183]، وقد ثبت عنه ﷺ أنه كان يقول: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك)، والله تعالى أعلم.
فهذه ألفاظ المجيب.
فليتدبر الإنسان ما تضمنته وما عارض به هؤلاء المعارضون مما نقلوه عن الجواب، وما ادعوا أنه باطل: هل هم صادقون مصيبون في هذا، أو هذا، أو هم بالعكس؟ والمجيب أجاب بهذا من بضع عشر سنة، بحسب حال هذا السائل واسترشاده، ولم يبسط القول فيها، ولا سمى كل من قال بهذا القول، ومن قال بهذا القول، بحسب ما تيسر في هذا الوقت. وإلا فهذان القولان موجودان في كثير من الكتب المصنفة في مذهب مالك والشافعي وأحمد، وفي شروح الحديث، وغير ذلك. والقول بتحريم السفر إلى غير المساجد الثلاثة وإن كان قبر نبينا محمد ﷺ هو قول مالك وجمهور أصحابه، وكذلك أكثر أصحاب أحمد. الحديث عندهم معناه تحريم السفر إلى غير الثلاثة، لكن منهم من يقول: قبر نبينا لم يدخل في العموم. ثم لهذا القول مأخذان:
أحدهما: أن السفر إليه سفر إلى مسجده. وهذا المأخذ هو الصحيح. وهو موافق لقول مالك وجمهور أصحابه.
والمأخذ الثانى: أن نبينا لا يشبه بغيره من المؤمنين، كما قال طائفة من أصحاب أحمد: إنه يحلف به وإن كان الحلف بالمخلوقات منهيا عنه، وهو رواية عن أحمد. ومن أصحابه من قال في المسألتين: حكم سائر الأنبياء كحكمه؛ قاله بعضهم في الحلف بهم، وقاله بعضهم في زيارة قبورهم. وكذلك أبو محمد الجوينى ومن وافقه من أصحاب الشافعي على أن الحديث يقتضى تحريم السفر إلى غير الثلاثة.
وآخرون من أصحاب الشافعي ومالك وأحمد قالوا: المراد بالحديث نفي الفضيلة والاستحباب، ونفي الوجوب بالنذر، لا نفي الجواز. وهذا قول الشيخ أبي حامد، وأبي على، وأبي المعالى، والغزالى، وغيرهم. وهو قول ابن عبد البر، وأبي محمد المقدسى، ومن وافقهما من أصحاب مالك وأحمد. فهذان هما القولان الموجودان في كتب المسلمين: ذكرهما المجيب، ولم يعرف أحدا معروفا من العلماء المسلمين في الكتب قال: إنه يستحب السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين. ولو علم أن في المسألة قولا ثالثا لحكاه، لكنه لم يعرف ذلك، وإلى الآن لم يعرف أن أحدا قال ذلك، ولكن أطلق كثير منهم القول باستحباب زيارة قبر النبي ﷺ، وحكى بعضهم الإجماع على ذلك. وهذا مما لم يذكر فيه المجيب نزاعا في الجواب؛ فإنه من المعلوم أن مسجد النبي ﷺ يستحب السفر إليه بالنص والإجماع. فالمسافر إلى قبره لابد إن كان عالما بالشريعة أن يقصد السفر إلى مسجده، فلا يدخل ذلك في جواب المسألة؛ فإن الجواب إنما كان عمن سافر لمجرد زيارة قبورهم، والعالم بالشريعة لا يقع في هذا، فإنه يعلم أن الرسول قد استحب السفر إلى مسجده والصلاة فيه، وهو يسافر إلى مسجده. فكيف لا يقصد السفر إليه فكل من علم ما يفعله باختياره فلابد أن يقصده، وإنما ينتفي القصد مع الجهل. إما مع الجهل بأن السفر إلى مسجده مستحب لكونه مسجده لا لأجل القبر، وإما مع الجهل بأن المسافر إنما يصل إلى مسجده. فأما مع العلم بالأمرين فلابد أن يقصد السفر إلى مسجده؛ ولهذا كان لزيارة قبره حكم ليس لسائر القبور من وجوه متعددة، كما قد بسط في مواضع.
وأهل الجهل والضلال يجعلون السفر إلى زيارته كما هو المعتاد لهم من السفر إلى زيارة قبر من يعظمونه. يسافرون إليه ليدعوه، ويدعوا عنده، ويدخلوا إلى قبره، ويقعدوا عنده، ويكون عليه أو عنده مسجد نأبي لأجل القبر، فيصلون في ذلك المسجد تعظيما لصاحب القبر، وهذا مما لعن النبي ﷺ أهل الكتاب على فعله، ونهى أمته عن فعله، فقال في مرض موته: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وهو في الصحيحين من غير وجه، وقال قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك ). رواه مسلم.
فمن لم يفرق بين ما هو مشروع في زيارة القبور وما هو منهى عنه لم يعرف دين الإسلام في هذا الباب.
والمقصود التنبيه على ما في هذا المصنف الذى صنفه هذا المعترض على الجواب المذكور، وبيان ما فيه من الجهل والافتراء.
فمنها: أنه قال في الجواب: إنه ظهر لى من صريح ذلك الكلام وفحواه ومقصده إلىَّ ومغزاه: وهو تحريم زيارة قبور الأنبياء وسائر القبور والسفر إليها، ودعواه أن ذلك معصية محرمة مجمع عليها.
فيقال: معلوم لكل من رأى الجواب أنه ليس فيه تحريم لزيارة القبور؛ لا قبور الأنبياء ولا غيرهم؛ إذا لم يكن بسفر؛ ولا فيه دعروي الإجماع على تحريم السفر، بل قد صرح بالخلاف في ذلك. فكيف يحكى عنه أنه يقول: إن نفس زيارة القبور مطلقا معصية محرمة مجمع عليها، فهذا افتراء ظاهر على الجواب؛ ثم إنه تناقض في ذلك، فحكى بعد هذا عن المجيب أنه حكى الخلاف في جواز السفر.
ثم قال في آخر كلامه: إن ما ادعاه مجمع على أنه حرام، وأنه يناقض في ذلك، وهو الذى يناقض في هذه الحكاية. وأما المجيب فحكى قولهم في جواز السفر، وأنهم اتفقوا على أنه ليس بقربة ولا طاعة. فمن اعتقد ذلك فقد خالف الإجماع، وإذا فعله لاعتقاده أنه طاعة كان محرما بالإجماع، فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة. هذا لفظ الجواب.
ومعلوم في كل عمل تنازع المسلمون فيه هل هو محرم أو مباح ليس بقربة أن من جعله قربة فقد خالف الإجماع، وإذا فعله متقربا به كان ذلك حراما بالإجماع، كما لو تقرب بلعب النرد والشطرنج، وبيع الدرهم بالدرهمين، وإتيان النساء في الحشوش، واستماع الغناء والمعازف، ونحو ذلك مما للناس فيه قولان؛ التحريم والإباحة، لم يقل أحد: إنها قربة. فالذى يجعله عبادة يتقرب به كما يتقرب بالعبادات قد فعل محرما بالإجماع. وهذا يشبه التقرب بالملاهى والمعازف؛ فإن جمهور المسلمين على أنها محرمة، وبعضهم أباحها، ولم يقل أحد: إنها قربة. فقائل ذلك مخالف للإجماع؛ وإنما يقول ذلك زنديق؛ مثل ما حكى أبو عبد الرحمن السلمى عن ابن الراوندى أنه قال: اختلف الفقهاء في الغناء: هل هو حرام أو حلال، وأنا أقول: إنه واجب. ومعلوم أن هذا ليس من أقوال علماء المسلمين.
والذين يتقربون بسماع القصائد والتغبير ونحو ذلك هم مخطئون عند عامة الأئمة، مع أنه ليس في هؤلاء من يقول: إن الغناء قربة مطلقا، ولكن يقوله في صورة مخصوصة لبعض أهل الدين الذين يحركون قلوبهم بهذا السماع إلى الطاعات، فيحركون به وجد المحبة والترغيب في الطاعات، ووجد الحزن والخوف والترهيب من المخالفات. فهذا هو الذى يقول فيه طائفة من الناس: إنه قربة، مع أن الجمهور على أنهم مخطئون لو جعل هذا قربة؛ لكونه بدعة ليست واجبة ولا مستحبة، ولاشتماله على مفاسد راجحة على ما ظنوه من المصالح، كما في الخمر والميسر؛ فإنه وإن كان فيهما منافع للناس فإثمهما أكبر من نفعهما.
والشريعة تأمر بالمصالح الخالصة والراجحة، كالإيمان والجهاد؛ فإن الإيمان مصلحة محضة، والجهاد وإن كان فيه قتل النفوس فمصلحته راجحة، وفتنة الكفر أعظم فسادا من القتل، كما قال تعالى: { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } [184]، ونهى عن المفاسد الخالصة والراجحة، كما نهى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وعن الإثم، والبغى بغير الحق، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون. وهذه الأمور لا يبيحها قط في حال من الأحوال، ولا في شرعة من الشرائع. وتحريم الدم والميتة ولحم الخنزير والخمر وغير ذلك مما مفسدته راجحة. وهذا الضرب تبيحه عند الضرورة؛ لأن مفسدة فوات النفس أعظم من مفسدة الاغتذاء به.
والفقهاء إنما تنازعوا في الخمر: هل تشرب للعطش؛ لتنازعهم في كونها تذهب العطش، والناهى قال: لا تزيد الشارب إلا عطشا، فلا يحصل به بقاء المهجة. والمبيح يقول: بل قد ترطب رطوبة تبقى معها المهجة، وحينئذ فأى المأخذين كان هو الواقع، كان قول صاحبه أصوب. وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود أن ما اختلف فيه العلماء: هل هو حرام أو مباح، كان من جعله قربة مخالفا لإجماعهم، كما إذا اختلف الصحابة على قولين، فمن أحدث قولا ثالثا فقد خالف إجماعهم؛ ولهذا لم يكن في المسلمين من يقول: إن استماع الغناء قربة مطلقا، وإن قال: إن سماع القول الذى شرط له المكان والإمكان والإخوان وهو ترغيب في الطاعات وترهيب من المخالفات قربة، فلا يقول قط: إن كل من سمع الملاهى فهو متقرب، كما يقول القائل: إن السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين قربة، وأنه إذا نذر السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين أنه يفي بهذا النذر، فإن هذا القول لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين، وإن أطلقوا القول بأن السفر إلى زيارة قبر النبي ﷺ، قربة، أو قالوا: هو قربة مجمع عليها، فهذا حق إذا عرف مرادهم بذلك، كما ذكر ذلك القاضى عياض، وابن بطال وغيرهما، فمرادهم السفر المشروع إلى مسجده، وما يفعل فيه من العبادة المشروعة التى تسمى زيارة لقبره، ومالك وغيره يكرهون أن تسمى زيارة لقبره، فهذا الإجماع على هذا المعنى صحيح لا ريب فيه.
ولكن ليس هذا إجماعا على ما صرحوا بالنهى عنه، أو بأنه ليس بقربة ولا طاعة. والسفر لغير المساجد الثلاثة قد صرح مالك وغيره؛ كالقاضى إسماعيل، والقاضى عياض، وغيرهما: أنه منهى عنه، لا يفعله لا نادر ولا متطوع، وصرحوا بأن السفر إلى المدينة وإلى بيت المقدس لغير الصلاة في المسجدين هو من السفر المنهى عنه ليس له أن يفعله، وإن نذره، سواء سافر لزيارة أى نأبي من الأنبياء، أو قبر من قبورهم، أو قبور غيرهم، أو مسجد غير الثلاثة؛ فهذا كله عندهم من السفر المنهى عنه، فكيف يقولون: إنه قربة، ولكن الإجماع على تحريم اتخاذه قربة لا يناقض النزاع في الفعل المجرد.
وهذا الإجماع المحكى عن السلف والأئمة لا يقدح فيه خلاف بعض المتأخرين إن وجد، ولكن إن وجد أن أحدا من الصلحاء المعروفين من السلف قال: إنه يستحب السفر لمجرد زيارة القبور، أو لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، كان هذا قادحا في هذا الإجماع، ويكون في المسألة ثلاثة أقوال، ولكن الذى يحكى الإجماع لم يطلع على هذا القول، كما يوجد ذلك كثيرا لكثير من العلماء، ومع هذا فهذا القول يرد إلى الكتاب والسنة، لا يجوز إلزام الناس به بلا حجة، فإن هذا خلاف إجماع المسلمين.
فصل ظنه أن زيارة قبر الرسول من جنس الزيارة المعهودة في قبر غيره
ومنها: ظنه أن زيارة قبر الرسول ﷺ من جنس الزيارة المعهودة في قبر غيره، حتى يحتج عليها بزيارة البقيع، وشهداء أحد، وزيارة قبر أمه.
ومنها: أنه جعل من حرم السفر لزيارة قبره وسائر القبور مجاهرا بالعداوة للأنبياء، مظهرا لهم العناد. ومعلوم أن هذا قول أكثر المتقدمين: كمالك وأكثر أصحابه، والجوينى أبي محمد، وغيره من أصحاب الشافعي، وأكثر متقدمى أصحاب أحمد. فيلزمه أن يكون إمامه مالك وغيره من أئمة الدين مجاهرين للأنبياء بالعداوة، معاندين لهم. وهذا لو قاله فيما أخطؤوا فيه لاستحق العقوبة البليغة؛ فكيف إذا قاله فيما اتبعوا فيه الرسول، واتبعوا فيه سنته الصحيحة، فحرموا ما حرم. فقد جعل المطيع لله ورسوله الذى رضى الله ورسوله وأنبياؤه عمله مجاهرا لهم بالعداوة، معاندا لهم. فكفر من حكم الله ورسوله بإيمانه.
ومثل هذا يبين له الصواب، وأن هذا القول هو الذى جاء به الرسول، وكان عليه السابقون الأولون من الأمة وأئمتها، وعليه دل الكتاب والسنة، فإذا تبين له أن هذا هو الذى جاء به الرسول ثم أصر على مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
وكذلك إذا تبين أن هذا القول ليس بكفر، بل هو مما اتفق المسلمون على أنه قول سائغ، وقائله مجتهد مأجور على اجتهاده، سواء أصاب أو أخطأ، فإذا أصر على تكفير من تبين بالكتاب والسنة والإجماع أنه لا يكفر، وتبين له أنه يكفر، فأصر على مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، كمن جعل اعتقاد أن المسيح عبد الله معاداة للمسيح، أو اعتقد أن من قال: لا تحلف بالأنبياء فقد عاداهم وكفر، فإن مثل هذا يستتاب.
ومنها: أن هذه المسألة قد نص عليها مالك إمامه وجمهور أصحابه، وهو في كتبهم الكبار والصغار، وهو لم يعرف ما قالوا، بل يكفر ويلعن ويشتم من قال بنفس القول الذى قالواه، فيلزمه تكفيرهم، وسبهم، واستحلال دمائهم.
ومنها: أنه قال: ورد في زيارة قبره أحاديث صحيحة، وغيرها مما لم يبلغ درجة الصحيح؛ لكنها يجوز الاستدلال بها على الأحكام الشرعية. وهذا كلام من لا يعرف ما رروي في هذا الباب، ولا ما قاله فيه علماء المسلمين، بل هو بمنزلة الرافضى الذى يقول: قد رروي في النص عَلَى علِىٍّ أنه الإمام بعد رسول الله أحاديث صحيحة وأخر دونها. ومعلوم أن الأحاديث التى فيها ذكر زيارة قبره لم يخرج شيئا منها أهل الصحيح، ولا السنن المعتمد عليها؛ كسنن أبي داود، والترمذى؛ ولا المسانيد التى هى من هذا الجنس؛ كمسند أحمد. ولا استدل بشىء منها إمام، وهو مع ذلك لم يذكر منها حديثا واحدا فضلا عن أن يعزوه إلى كتاب.
وقوله: إن ما لم يبلغ درجة الصحيح منها يجوز الاستدلال بها، إنما يكون إذا كانت حسنة عند من قسم الحديث إلى ثلاثة أنواع، وهذا موقوف على العلم بحسنها، وأئمة الحديث لم يحكموا بذلك، وهو وأمثاله لا يعرفون ذلك. فالقول بذلك من أعظم القول بلا علم في الدين، والجرأة على سنة رسول رب العالمين، بأن يدخل فيها ما ليس منها بالجهل والضلال. فكيف إذا كان جميع ما رروي في هذا الباب مما ضعفه أهل المعرفة بالحديث، بل حكموا بأنه كذب موضوع، كما قد بسط الكلام على ما رروي في هذا الباب في غير هذا الكتاب.
ومنها: أنه لم يفرق بين الزيارة الشرعية التى كان النبي ﷺ يفعلها، ومقصودها الدعاء للميت؛ كالصلاة على جنازته، وبين ما ابتدعه الضالون من الإشراك بالميت، والحج إلى قبره، ودعائه من دون الله، ومقصوده بزيارته والسفر إليه أنه يدعوه من دون الله؛ لا أنه يدعو له. وهذه الزيارة لم يفعلها الرسول، ولا أذن فيها قط، فكيف بالسفر إليها؟! وهو من جنس الحج إلى الطواغيت.
ومنها: أنه جعل زيارة الميت كزيارته حيا، واستدل بحديث (الذى زار أخا له في الحياة) على أنه يستحب زيارة الميت، وهذه التسوية والقياس ما عرفت عن أحد من علماء المسلمين؛ فإنه من المعلوم أن الصحابة الذين سافروا إلى الرسول فساعدوه، وسمعوا كلامه، وخاطبوه وسألوه فأجابهم، وعلمهم، وأدبهم، وحملهم رسائل إلى قومهم، وأمرهم بالتبليغ عنه، لا يكون مثلهم أحد بالأعمال الفاضلة؛ كالجهاد، والحج. فكيف يكون بمجرد رؤية ظاهر حجرته مثلهم؟! أو تقاس هذه الزيارة بهذه الزيارة؟!
فقد ثبت بالسنة واتفاق الأمة أن كل ما يفعل من الأعمال الصالحة في المسجد عن حجرته من صلاة عليه، وسلام، وثناء، وإكرام، وذكر محاسن، وفضائل، ممكن فعله في سائر الأماكن، ويكون لصاحبه من الأجر ما يستحقه، كما قال: (لا تتخذوا بيتى عيدا، وصلوا على، فإن صلاتكم تبلغنى حيث كنتم). ولو كان للأعمال عند القبر فضيلة لفتح للمسلمين باب الحجرة؛ فلما منعوا من الوصول إلى القبر، وأمروا بالعبادة في المسجد، علم أن فضيلة العمل فيه لكونه في مسجده، كما أن صلاة في مسجده بألف صلاة فيما سواه، ولم يأمر قط بأن يقصد بعمل صالح أن يفعل عند قبره ﷺ.
ومنها: افتراؤه على المجيب في مواضع متعددة افتراء ظاهرا، وسبب افترائه عليه أنه ذكر قول علماء المسلمين، ورجح ما قاله مالك وغيره من السلف، لكون سنة رسول الله ﷺ الصحيحة الصريحة توافقهم، وهذا يستلزم معاداة الله ورسوله؛ إذ كان من عادى سنته وشريعته ودينه فقد عاداه، ومن عادى شخصا لأجل ذلك فإنما عادى الرسول في الحقيقة وإن لم يقصد ذلك. فكيف يجوز الكذب والافتراء مرة بعد مرة؟! وهو كذب ظاهر. ولو كان المجيب مخطئا لما جاز ذلك؛ فإن الكذب والافتراء حرام مطلقا، والله أوجب الصدق والعدل لكل أحد على كل أحد في كل حال.
فكيف إذا كان ما ذكره المجيب من الأقوال هى أقوال المتبعين للرسول ﷺ، والمعترض القادح فيهم وفيما قالوه الشاتم المكفر لمن آمن بالرسول وأطاعه واتبعه على نفس ما هو متابعة للرسول وإيمان به، قوله هذا المتضمن عداوة الرسول، وعداوة ما جاء به، وعداوة من اتبعه، وإن لم يكن عالما بما تضمنه قوله. فقوله مع عدم العلم من جنس أقوال المحادين لله ولرسوله، الموالين لأهل الإفك والشرك، المضاهين للنصارى وأمثالهم، مع أنهم لا يعلمون أن قولهم يتضمن ذلك؛ لقلة العلم، وسوء الفهم، والبعد عن أهلية الاجتهاد، والاستدلال بالأدلة الشرعية، ومعرفة ما قاله أئمة الدين.
بل هم في مثل هذه المسألة العظيمة يتكلمون بأنواع من الكلام صاحبها إلى الاستتابة والتعزير والتعليم والتفهيم أحوج منه إلى الرد عليه والمناظرة له، كما يوجد في جهال أهل البدع من الرافضة والخوارج وغيرهم من يسارع إلى تكفير من اتبع الرسول من السلف؛ لقلة علمه، وسوء فهمه لما جاء به الرسول. فهم مبتدعون بدعة بجهلهم، ويكفرون من خالفهم.
وأهل السنة والعلم والإيمان يعرفون الحق، ويتبعون سنة الرسول، ويرحمون الخلق، ويعدلون فيهم، ويعذرون من اجتهد في معرفة الحق فعجز عن معرفته؛ وإنما يذمون من ذمه الله ورسوله، وهو المفرط في طلب الحق لتركه الواجب، والمعتدى المتبع لهواه بلا علم، لفعله المحرم. فيذمون من ترك الواجب، أو فعل المحرم، ولا يعاقبونه إلا بعد إقامة الحجة عليه، كما قال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [185]، لاسيما في مسائل تنازع فيها العلماء، وخفي العلم فيها على أكثر الناس، ومن كان لا يتكلم بطريقة أهل العلم بل جازف في القول بلا علم.
فصاحب هذا الكلام لا يصلح للمناظرة، إلا كما يناظر جهال العوام المبتدعين، المضاهين للمشركين والنصارى، فإنهم يجعلون من قال الحق في المخلوق سابا له شاتما، وهم يسبون الله ويشتمونه ويؤذونه، ولا يخافون من سب الخالق وشتمه وأشرك به ما يخافونه من قول الحق في حق المخلوق، كما قال الخليل لهم: { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } [186]، وكما قال تعالى عن المشركين: { وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ } [187]، فلا يغضبون من ذكر الرحمن بالباطل كما يغضبون من ذكر آلهتهم بالحق. وقال تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفي بِاللّهِ وَكِيلا لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدا لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } [188].
وقد ذكر أهل التفسير: أن النصارى نصارى نجران لما قدموا على النبي ﷺ قالوا: يا محمد، لم تذكر صاحبنا؟ قال: (ومن صاحبكم؟). قالوا: عيسى. قال: (وأى شىء أقول له؟ هو عبد الله ). قالوا: بل هو الله. فقال: (إنه ليس بعار عليه أن يكون عبدا لله). فقالوا: بلى. فأنزل الله هذه الآية، وفي الصحيحين عن النبي ﷺ قال: (ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله؛ يجعلون له ولدا وشريكا وهو يعافيهم ويرزقهم)، وفي الصحيحين أيضا أنه قال: (يقول الله: شتمنى ابن آدم وما ينبغى له ذلك، وكذبنى ابن آدم وما ينبغى له ذلك. فأما شتمه إياى فقوله: إنى اتخذت ولدا، وأنا الأحد الصمد، الذى لم ألد ولم أولد. ولم يكن لى كفوا أحد. وأما تكذيبه إياى فقوله: لن يعيدنى كما بدأنى، وليس أول الخلق بأهون على من إعادته)، وكان معاذ بن جبل يقول عن النصارى: لا ترحموهم فلقد سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر.
فهؤلاء ينتقصون الخالق ويأنفون أن يذكر المخلوق بما يستحقه ويجعلون ذلك تنقيصا له، وإنما هو إعطاؤه حقه، وخفض له عن درجة الإلهية التى لا يستحقها إلا الله، وهذه حال من أشبههم من بعض الوجوه.
ومنها: ظنه أن كل ما كان قربة جاز التوسل إليه بكل وسيلة، وهذا من أظهر الخطأ.
ومنها: ظنه أن القول بتحريم السفر لم يقل به أحد من أهل العلم، بل إنما نقله المجيب إن صح نقله عمن لا يعتمد عليه، ولا يعتد بخلافه. وهو نص مالك الصريح في خصوص قبر الرسول، ومذهب جمهور أصحابه، وجمهور السلف والعلماء.
ومنها: زعمه أن الذين حكى المجيب قولهم وهم الغزالى وابن عبدوس وأبو محمد المقدسى لا يعتد بخلاف من سواهم، ولا يرجع في ذلك لمن عداهم، ومثل هذا الكلام لا يقال في أحد من الأئمة الكبار، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك، إلا صاحب الشرع، فكيف يسوغ أن يقال في مثل هؤلاء؟!
ومنها: أنه لما أراد أن يثبت أن النبي يسمع من القرب، ويبلغ الصلاة والسلام من البعد، لم يذكر ما في ذلك من الأحاديث الحسان التى في السنن، بل إنما اعتمد على حديث موضوع (من صلى على عند قبرى سمعته، ومن صلى على نائيا بلغته). وهذا إنما يرويه محمد بن مروان السدى، عن الأعمش. وهو كذاب بالاتفاق. وهذا الحديث موضوع على الأعمش بإجماعهم.
ثم قد غير لفظه. ففي النسخة التى رأيتها مصححا: (ومن صلى على نائيا سمعته)، وإنما لفظه: بلغته وهكذا ذكره القاضى عياض عن مسند بن أبي شيبة، وهو نقل منه. ومن يحتج بمثل هذا الحديث الموضوع ويعرض عن أحاديث أهل السنن الحسان فهو من أبعد الناس عن أهل العلم والعرفان. وإذا كان قد حرف لفظه فهو ظلمات بعضها فوق بعض، من جنس فعل الملاحدة في قوله: (أول ما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل) الحديث، فهو كذب موضوع. ومع هذا فحرفوا لفظه، فقالوا: أول بالضم، ولفظه: (أول ما خلق) بالنصب على الظرف، كما رروي: (لما خلق).
ومنها: أنه احتج بإجماع السلف والخلف على زيارة قبره، وظن أن الجواب يتضمن النهى عما أجمع عليه، وقد صرح في الجواب بأن السفر إلى مسجده طاعة مجمع عليها، وكذلك ما تضمنه مما يسمى بزيارة لقبره من الأمور المستحبة؛ مثل الصلاة عليه، والسلام عليه، والدعاء له بالوسيلة وغيرها، والشهادة له، والثناء عليه بما فضله الله به، ومحبته، وموالاته، وتعزيره، وتوقيره، وغير ذلك مما قد يدخل في مسمى الزيارة، فهذا كله مستحب. والمجيب يصرح باستحباب ذلك، وقد تنازع العلماء: هل يسمى هذا زيارة؟ وذكر تنازع العلماء فيما تنازعوا فيه من ذلك، وإجماعهم على ما أجمعوا عليه، فذكر جواز ما ثبت بالنص والإجماع من السفر إلى مسجده وزيارة قبره، وذكر بعض ما تنوزع فيه من ذلك. وهذا ظن أن السفر إلى زيارة نبينا كالسفر إلى غيره من الأنبياء والصالحين، وهو غلط من وجوه:
أحدها: أن مسجده عند قبره، والسفر إليه مشروع بالنص والإجماع، بخلاف غيره.
والثانى: أن زيارته كما يزار غيره ممتنعة، وإنما يصل الإنسان إلى مسجده، وفيه يفعل ما شرع له.
الثالث: أنه لو كان قبر نبينا يزار كما تزار القبور لكان أهل مدينته أحق الناس بذلك، كما أن أهل كل مدينة أحق بزيارة من عندهم من الصالحين، فلما اتفق السلف وأئمة الدين على أن أهل مدينته لا يزورون قبره، بل ولا يقفون عنده للسلام إذا دخلوا المسجد وخرجوا. وإن لم يسم هذا زيارة بل يكره لهم ذلك عند غير السفر، كما ذكر ذلك مالك، وبين أن ذلك من البدع التى لم يكن صدر هذه الأمة يفعلونه، علم أن من جعل زيارة قبره مشروعة كزيارة قبر غيره فقد خالف إجماع المسلمين.
الرابع: أنه قد نهى أن يتخذ قبره عيدا، وأمر الأمة أن تصلى عليه وتسلم حيثما كانت، وأخبر أن ذلك يبلغه. فلم يكن تخصيص البقعة بالدعاء له مشروعا، بل يدعى له في جميع الأماكن، وعند كل أذان، وفي كل صلاة، وعند دخول كل مسجد، والخروج منه، بخلاف غيره. وهذا لعلو قدره، وارتفاع درجته، فقد خصه الله من الفضيلة بما لم يشركه فيه غيره؛ لئلا يجعل قبره مثل سائر القبور، بل يفرق بينهما من وجوه متعددة، ويبين فضله على غيره، وما من الله به على أمته.
ومنها: أنه قال: لم يلزم من دعواه بأن ذلك مجمع على تحريمه أن يكون السادة الصحابة مع التابعين ومن بعدهم من العلماء المجتهدين للإجماع خارقين مصرين على تقرير الحرام، مرتكبين بأنفسهم وفتاويهم ما لا يجوز عليه الإقدام، مجمعين على الضلالة، سالكين طريق العماية والجهالة.
وفي هذا الكلام من الجهل بالشريعة، وما أجمع عليه المسلمون، والتسوية بين عبادة الرحمن التى أجمع عليها أهل الإيمان وبين عبادة الأوثان التى أجمعوا على تحريمها وغير ذلك، مما يبين اشتمال هذا الكلام على أنواع من مخالفة دين الإسلام، ولو كان صاحبه ممن يفهم ما قال ولوازمه لكان مرتدا يجب قتله، لكنه جاهل قد يتكلم بما لا يتصوره ويتصور لوازمه.
فيقال له ولأمثاله ممن ظن أن في الجواب ما يخالف الإجماع: الذى أجمع عليه المسلمون سلفا وخلفا، قرنا بعد قرن: هو السفر إلى مسجده ﷺ، والصلاة والسلام عليه فيه، ونحو ذلك مما يحبه الله ورسوله من الأعمال المتضمنة لعبادة الله وحده، والقيام بحق رسوله من أفضل العبادات لله، كشهادتنا له، وثنائنا عليه. وصلاتنا وسلامنا عليه من أفضل ما عبدنا الله به، وهذا ونحوه هو المشروع في مسجده، سواء سمى زيارة لقبره أو لم يسم.
فإن لفظ الزيارة لقبره واستحباب ذلك لا يعرف عن أحد من الصحابة، بل المنقول عن ابن عمر ومن وافقه؛ السلام عليه هناك، والصلاة. وهم لا يسمون هذا زيارة لقبره، فكيف بالذين لم يكونوا يقفون عند القبر بحال؟! وهم جمهور الصحابة.
وأما ما ابتدعه بعض الناس من الشرك والبدع وسمى ذلك زيارة لقبره، فهو من جنس الزيارة البدعية التى تفعل عند قبر غيره، ليس هو من الزيارة الشرعية.
وأما ما يدخل في الأعمال الشرعية، فهذا هو المستحب بسنته الثابتة عنه، وبإجماع أمته. ثم من أئمة العلم من لا يسمى هذا زيارة لقبره بل يكره هذه التسمية؛ فضلا عن أن يقول: إن ذلك سفر إلى قبره. وقد صرح من قال ذلك مثل مالك وغيره بأن المسافر إلى هناك إذا كان مقصوده القبر أنه سفر منهى عنه، داخل في قوله: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، وأن السفر الذى هو طاعة وقربة أن يقصد السفر لأجل الصلاة في المسجد، وأنه لو نذر أن يسافر إلى المدينة لغير الصلاة في المسجد، فإنه ينهى عن الوفاء بنذره؛ لأنه نذر معصية.
فإذا كان هذا من قولهم معروفا في الكتب الصغار والكبار، فكيف يظن أن السفر لمجرد زيارة القبور هو مجمع عليه بين الأئمة. وطائفة أخرى من العلماء يسمون هذا زيارة لقبره. ويقولون: تستحب زيارة قبره، أو السفر لزيارة قبره، ومقصودهم بالزيارة هو مقصود الأولين، وهو السفر إلى مسجده، وأن يفعل في مسجده ما يشرع من الصلاة والسلام عليه، والدعاء له والثناء عليه، وهذا عندهم يسمى زيارة لقبره مع اتفاق الجميع على أن أحدا لا يزور قبره الزيارة المعروفة في سائر القبور؟! فإن تلك قبور بارزة يوصل إليها، ويقعد عندها، أو يقام عندها ويمكن أن يفعل عندها ما يشرع؛ كالدعاء للميت، والاستغفار له، وما ينهى عنه؛ كدعائه، والشرك به، والنياحة عند قبره، والندب. فهذا هو المفهوم من زيارة القبور.
والرسول دفن في بيته في حجرته، ومنع الناس من الدخول إلى هناك، والوصول إلى قبره، فلا يقدر أحد أن يزور قبره كما يزور قبر غيره؛ لا زيارة شرعية، ولا بدعية، بل إنما يصل جميع الخلق إلى مسجده، وفيه يفعلون ما يشرع لهم، أو ما يكره لهم. والسفر إلى مسجده لما شرع سفر طاعة وقربة بالإجماع؛ وهو الذى أجمع عليه المسلمون.
والمجيب قد ذكر استحباب هذا السفر، وأنه يستحب بالنص والإجماع في مواضع كثيرة، وقد ذكر ذلك في هذا الجواب، وبين ما ثبت بالنص والإجماع من السفر إلى مسجده وزيارته الشرعية، وبين ما لم يشرع من السفر إلى زيارة قبر غيره مما في قبور الأنبياء والصالحين؛ فإن السفر إلى هناك ليس هو سفر إلى مسجد شرع السفر إليه، بل المساجد التى هناك إن كانت مما يشرع بناؤه والصلاة فيه كجوامع المسلمين التى في الأمصار فهذه ليس السفر إليها قربة ولا طاعة، لا عند الأئمة الأربعة، ولا عامة أئمة المسلمين. والسفر إليها داخل في قوله: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) باتفاق الناس؛ فإن هذا استثناء مفرغ. والتقدير فيه أحد أمرين:
إما أن يقال: (لا تشد الرحال) إلى مسجد (إلا المساجد الثلاثة) فيكون نهيا عنها باللفظ، ونهيا عن سائر البقاع التى يعتقد فضيلتها بالتنبيه والفحروي وطريق الأولى؛ فإن المساجد والعبادة فيها أحب إلى اللّه من العبادة في تلك البقاع بالنص والإجماع، فإذا كان السفر إلى البقاع الفاضلة قد نهى عنه، فالسفر إلى المفضولة أولى وأحرى.
وكذلك من جعل معنى الحديث: لا يستحب السفر إلا إلى الثلاثة. إن جعل معناه: لا يجب إلا إلى الثلاثة وأراد به الوجوب بالنذر كما ذكر ذلك طائفة فهؤلاء يقولون: ما سروي الثلاثة لا يستحب السفر إليه، ولا يجب بالنذر. ومن حمل معنى الحديث على نفي الاستحباب أو نفي الوجوب بالنذر فقولهما واحد في المعنى، فإذا لم يجب بالنذر إلا هذه الثلاثة فقد وجب بالنذر السفر إلى المسجدين، وليس واجبا بالشرع. فعلم أن وجوبه لكونه مستحبا بالشرع. فإذا لم يوجب إلا هذان مما ليس واجبا بالشرع علم أنه ليس مستحبا إلا هذان. وقد بسط هذا في موضع آخر.
وإما أن يقال: التقدير: لا تسافروا إلي بقعة ومكان غير الثلاثة. أو يكون المعني: لا يستحب إلي مكان غير الثلاثة، وهو معني كل من قال: لايجب بالنذر إلي غير الثلاثة، أي: لا تسافروا لقصد ذلك المكان والبقعة بعينه؛ بحيث يكون المقصود والعبادة في نفس تلك البقعة، كالسفر إلي المساجد الثلاثة، بخلاف السفر إلي الثغور، فإن المقصود السفر إلي مكان الرباط.
والثغر قد يكون مكانا ثم يفتح المسلمون ما جاورهم فينتقل الثغر إلي حد بلاد المسلمين؛ ولهذا يكون المكان تارة ثغرا، وتارة ليس بثغر؛ كما يكون تارة دار إسلام وبِرٍّ، وتارة دار كفر وفسق؛ كما كانت مكة دار كفر وحرب، وكانت المدينة دار إيمان وهجرة ومكانا للرباط، فلما فتحت مكة صارت دار إسلام، ولم تبق المدينة دار هجرة ورباط كما كانت قبل فتح مكة، بل قد قال ﷺ: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا)، وصارت الثغور أطراف أرض الحجاز المجاورة لأرض الحرب؛ أرض الشام، وأرض العراق. ثم لما فتح المسلمون الشام والعراق صارت الثغور بالشام سواحل البحر؛ كعسقلان، وعكة، وما جاور ذلك. وبالعراق عبادان ونحوها؛ ولهذا يكثر ذكر عسقلان، وعبادان في كلام المتقدمين؛ لكونهما كانا ثغرين، وكانت أيضا طرطوس ثغرا لما كانت للمسلمين، ولما أخذها الكفار صار الثغر ما يجاور أرض العدو من البلاد الحلبية.
فالمسافر إلي الثغور أو طلب العلم أو التجارة أو زيارة قريبه، ليس مقصوده مكانا معينا إلا بالعرض إذا عرف أن مقصوده فيه، ولو كان مقصوده في غيره لذهب إليه. فالسفر إلي مثل هذا لم يدخل في الحديث باتفاق العلماء، وإنما دخل فيه من يسافر لمكان معين لفضيلة ذلك بعينه، كالذي يسافر إلي المساجد، وآثار الأنبياء: كالطور الذي كلم اللّه عليه موسي، وغار حراء الذي نزل فيه الوحي ابتداء على الرسول، وغار ثَوْر المذكور في القرآن في قوله: { إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ } [189]، وما هو دون ذلك من المغارات والجبال؛ كالسفر إلي جبل لبنان، ومغارة الدم، ونحو ذلك. فإن كثيرا من الناس يسافر إلي ما يعتقد فضله من الجبال والغيران. فإذا كان الطور الذي كلم اللّه عليه موسي وسماه البقعة المباركة والوادي المقدس لا يستحب السفر إليه، فغير ذلك من الجبال أولي ألا يسافر إليه.
وقولي: بالإجماع؛ أعني به إجماع السلف والأئمة؛ فإن الصحابة كابن عمر وأبي سعيد وأبي بصرة وغيرهم فهموا من قول النبي ﷺ: (لا تشد الرحال إلا إلي ثلاثة مساجد) أن الطور الذي كلم اللّه عليه موسي، وسماه: الوادي المقدس والبقعة المباركة داخل في النهي، ونهوا الناس عن السفر إليه، ولم يخصوا النهي بالمساجد. ولهذا لم يوجب أحد ذلك بالنذر، وما علمت في هذا نزاعا قديما، ولا رأيت أحدا صرح بخلاف ذلك؛ إلا ابن حزم الظاهري، فإنه يحرم السفر إلي مسجد غير الثلاثة إذا نذره كقول الجمهور، وإذا نذر السفر إلي أثر من آثار الأنبياء أوجب الوفاء به؛ لأنه لا يقول بفحوي الخطاب وتنبيهه، وهذا هو إحدي الروايتين عن داود، فلا يجعل قوله: { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } [190] دليلا على النهي عن السب والشتم والضرب، ولا نهيه عن أن يبال في الماء الدائم ثم يغتسل فيه نهيا عن صب البول ثم الاغتسال فيه، وجمهور العلماء يرون أن مثل هذا من نقص العقل والفهم، وأنه من باب السفسطة في جحد مراد المتكلم، كما هو مبسوط في موضع آخر.
وإذا كان غار حراء الذي كان أهل مكة يصعدون إليه للتعبد فيه، ويقال: إن عبد المطلب سن لهم ذلك، وكان النبي ﷺ قبل النبوة يتحنث فيه، وفيه نزل عليه الوحي أولا، لكن من حين نزل الوحي عليه ما صعد إليه بعد ذلك، ولا قربه، لا هو ولا أصحابه، وقد أقام بمكة بعد النبوة بضع عشرة سنة لم يزره ولم يصعد إليه، وكذلك المؤمنون معه بمكة. وبعد الهجرة أتي مكة مرارا في عمرة الحديبية، وعام الفتح، وأقام بها قريبا من عشرين يوما، وفي عمرة الجِعْرَانة، ولم يأت غار حِرَاء، ولا زاره. فإذا كان هذا الغار لا يسافر إليه ولا يزار فغيره من المغارات كمغارة الدم ونحوها أولي ألا تزار. فإن العبادات بعد مبعث الرسول ﷺ كالصلاة والذكر والدعاء مشروعة في كل مكان جعلت الأرض كلها له ولأمته مسجدا وطهورا.
والأماكن المفضلة هي المساجد، وهي أحب البقاع إلي اللّه؛ كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي ﷺ. وفيها الاعتكاف، فلا يكون الاعتكاف إلا في المساجد باتفاق العلماء، كما قال تعالى: { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [191]، لا يكون الاعتكاف لا بخلوة ولا غير خلوة، لا في غار ولا عند قبر، ولا غير ذلك مما يقصد الضالون السفر إليه والعكوف عنده، كعكوف المشركين على أوثانهم. قال الخليل: { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } [192]، وقال تعالى: { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَي اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [193]. وبسط هذا له موضع آخر.
وقد صح عن سعيد بن المسيب أنه قال: من نذر أن يعتكف في مسجد إيليا فاعتكف في مسجد النبي ﷺ بالمدينة أجزأ عنه، ومن نذر أن يعتكف في مسجد المدينة فاعتكف في المسجد الحرام أجزأ عنه، ومن نذر أن يعتكف على رؤوس الجبال فإنه لا ينبغي له ذلك، ليعتكف في مسجد جماعة. وهذا الذي نهي عنه سعيد متفق عليه عند عامة العلماء، وإن قدر أن الرجل لا يسمي ذلك اعتكافا، فمن فعل ما يفعل المعتكف في المسجد فهو معتكف في غير المسجد، وذلك منهي عنه بالاتفاق. وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أن السفر إلي غير المساجد الثلاثة من قبر، وأثر نبي، ومسجد وغير ذلك: ليس بواجب ولا مستحب بالنص والإجماع، والسفر إلي مسجد نبينا مستحب بالنص والإجماع، وهو مراد العلماء الذين قالوا: تستحب زيارة قبره بالإجماع. فهذا هو الذي أجمع عليه الصحابة والتابعون ومن بعدهم من المجتهدين، وللّه الحمد. والمجيب قد ذكر استحباب هذا بالنص والإجماع، فكلام المجيب يبين أنه متبع للصحابة والتابعين ومن بعدهم من العلماء المجتهدين، وأنهم منزهون عن تقرير الحرام، أو خرق الإجماع، منزهون أن يجمعوا على ضلالة، أو يسلكوا طريق العماية والجهالة.
وهذا المعترض وأشباهه من الجهال سووا بين هذا السفر الذي ثبت استحبابه بنص الرسول وإجماع أمته، وبين السفر الذي ثبت أنه ليس مستحبا بنص الرسول وإجماع أمته. وقاسوا هذا بهذا، والمجيب إنما ذكر القولين في النوع الثاني: في الذي لا يسافر إلا لقصد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وذكر أن الذي يسافر إلي مسجد الرسول وزيارته الشرعية يتسحب السفر إليه بالنص والإجماع. فحكوا عن المجيب أنه ينهي عن زيارة قبر الرسول والسفر إليه، ويحرم ذلك، ويحرم قصر الصلاة فيه، بحيث جعلوه ينهي عما يفعله الحجاج من السفر إلي مسجده، وأن من سافر إلي هناك لا يقصر الصلاة، وهذا كله افتراء وبهتان.
وذلك أنه لا حجة لهم على السفر إلي سائر قبور الأنبياء إلا السفر إلي نبينا. فلما كان السفر إلي ذلك المكان مشروعا في الجملة قاسوا عليه السفر إلي سائر القبور، فضلوا، وأضلوا، وخالفوا كتاب اللّه وسنة رسوله وإجماع المسلمين. وضلوا من وجوه كثيرة.
منها: أنه ليس في الأرض قبر نبي معلوم بالتواتر والإجماع إلا قبر نبينا، وما سواه ففيه نزاع.
ومنها: أن الذين استحبوا السفر إلي زيارة قبر نبينا مرادهم السفر إلي مسجده، وهذا مشروع بالإجماع، ولو قصد المسافر إليه فهو إنما يصل إلي المسجد، والمسجد منتهي سفره، لا يصل إلي القبر، بخلاف غيره فإنه يصل إلي القبر؛ إلا أن يكون متوغلا في الجهل والضلال، فيظن أن مسجده إنما شرع السفر إليه لأجل القبر، وأنه لذلك كانت الصلاة فيه بألف صلاة، وأنه لولا القبر لم يكن له فضيلة على غيره، أو يظن أن المسجد بني أو جعل تبعا للقبر، كما تبني المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، ويظن أن الصلاة في المسجد تبع، والمقصود هو القبر، كما يظن المسافرون إلي قبور الأنبياء والصالحين غير قبر نبينا، وكما أن الذي يذهب إلي الجمعة يصلى إذا دخل تحية المسجد ركعتين، ولكن هو إنما جاء لأجل الجمعة، لا لأجل ركعتي التحية. فمن ظن هذا في مسجد نبينا ﷺ فهو من أضل الناس وأجهلهم بدين الإسلام، وأجهلهم بأحوال الرسول وأصحابه، وسيرته، وأقواله وأفعاله، وهذا محتاج إلي أن يتعلم ما جهله من دين الإسلام حتى يدخل في الإسلام، ولا يأخذ بعض الإسلام ويترك بعضه؛ فإن مسجده أسس على التقوي في السنة الأولي من الهجرة، وهو أفضل مسجد على وجه الأرض إلا المسجد الحرام. وقيل: هو أفضل مطلقا.
فهل يقول عاقل: إن مساجد المسلمين مساجد الجوامع التي يصلى فيها الجمعة وغيرها فضيلتها واستحباب قصدها للصلاة فيها لأجل قبر عندها. فإذا لم يجز أن يقال هذا في مثل هذه المساجد فكيف يقال فيما هو خير منها كلها وأفضل.
والمسجد الحرام أفضل المساجد مطلقا عند الجمهور، والصلاة فيه بمائة ألف صلاة، كما في المسند والسنن. فهل يقول عاقل: إن فضيلته لقبر هناك.
والمسجد الأقصى أفضل المساجد بعد المسجد النبوي، وببيت المقدس من قبور الأنبياء ما لا يحصيه إلا اللّه. فهل يقول عاقل: إن فضيلته لأجل القبور ؟! نعم، هذا اعتقاد النصارى، يعتقدون أن فضيلة بيت المقدس لأجل الكنيسة التي يقال: إنها بنيت على قبر المصلوب، ويفضلونها على بيت المقدس. وهؤلاء من أضل الناس وأجهلهم، وهذا يضاهي ما كان المشركون عليه في المسجد الحرام لما كانت فيه الأوثان، وكانوا يقصدونه لأجل تلك الأوثان التي فيه، لم يكونوا يصلون فيه، بل كما قال تعالى: { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً } [194]، لكن كانوا يعظمون نفس البيت، ويطوفون به، كما كانوا يحجون كل عام، مع ما كانوا غيروه من شريعة إبراهيم، حتى بعث اللّه محمدا بالهدي ودين الحق، وأمره باتباع ملة إبراهيم، فأظهرها، ودعا إليها، وأقام الحج على ما شرعه اللّه لإبراهيم، ونفي الشرك عن البيت، وأنزل اللّه تعالى: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَإليوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَي الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَي أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [195].
فبين أن عمار المساجد هم الذين لا يخشون إلا اللّه، ومن لم يخش إلا اللّه فلا يرجو ويتوكل إلا عليه، فإن الرجاء والخوف متلازمان.
والذين يحجون إلي القبور يدعون أهلها، ويتضرعون لهم، ويعبدونهم، ويخشون غير اللّه، ويرجون غير اللّه، كالمشركين الذين يخشون آلهتهم ويرجونها؛ ولهذا لما قالوا لهود عليه السلام: { إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ على اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [196]، ولما حاجوا إبراهيم عليه السلام قال لهم: { وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ علىكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } [197]، ولما خوفوا محمدا عليه الصلاة والسلام بمن دون اللّه قال اللّه تعالى: { إليسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ إليسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عليه يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } [198]، وقال تعالى: { قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّي الصَّالِحِينَ ّ } [199].
فصل متى بنيت المساجد الثلاثة
والمسجد الأقصى صلت فيه الأنبياء من عهد الخليل، كما في الصحيحين عن أبي ذر قال: قلت يا رسول اللّه، أي مسجد وضع أولا؟ قال: (المسجد الحرام). قلت: ثم أي؟ قال: (المسجد الأقصى). قلت: كم بينهما ؟ قال: (أربعون سنة، ثم حيثما أدركتك الصلاة فَصَلِّ، فإنه مسجد)، وصلى فيه من أولياء اللّه ما لا يحصيه إلا اللّه، وسليمان بناه هذا البناء، وسأل ربه ثلاثا: سأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وسأله حكما يوافق حكمه، وسأله أنه لا يؤم هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا غفر له.
ولهذا كان ابن عمر يأتي من الحجاز، فيدخل، فيصلى فيه، ثم يخرج ولا يشرب فيه ماء، لتصيبه دعوة سليمان. وكان الصحابة ثم التابعون يأتون، ولا يقصدون شيئا مما حوله من البقاع، ولا يسافرون إلي قرية الخليل، ولا غيرها.
وكذلك مسجد نبينا، بناه أفضل الأنبياء، ومعه المهاجرون والأنصار، وهو أول مسجد أذن فيه في الإسلام، وفيه كان الرسول يصلى بالمسلمين الجمعة والجماعة، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وفيه كان يأمرهم بما يأمرهم به من المغازي، وغير المغازي. وفيه سنت السنة، والإسلام منه خرج، وكانت الصلاة فيه بألف، والسفر إليه مشروعا في حياة النبي ﷺ، وليس عنده قبر، لا قبره ولا قبر غيره، ثم لما دفن الرسول دفن في حجرته وبيته، لم يدفن في المسجد.
والفرق بين البيت والمسجد مما يعرفه كل مسلم؛ فإن المسجد يعتكف فيه والبيت لا يعتكف فيه، وكان إذا اعتكف يخرج من بيته إلي المسجد، ولا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، والمسجد لا يمكث فيه جنب ولا حائض، وبيته كانت عائشة تمكث فيه وهي حائض، وكذلك كل بيت مرسوم تمكث فيه المرأة وهي حائض، وكانت تصيبه فيه الجنابة فيمكث فيه جنبا حتى يغتسل، وفيه ثيابه، وطعامه، وسكنه، وراحته، كما جعل اللّه البيوت.
وقد ذكر اللّه بيوت النبي في كتابه، وأضافها تارة إلي الرسول، وتارة إلي أزواجه، وليس لتلك البيوت حرمة المسجد وفضيلته، وفضيلة الصلاة فيه، ولا تشد الرحال إليها، ولا الصلاة في شيء منها بألف صلاة. ومعلوم أنه ﷺ في حال حياته كان هو وأصحابه أفضل ممن جاء بعدهم، وعبادتهم أفضل من عبادة من جاء بعدهم، وهم لما ماتوا لم تكن قبورهم أفضل من بيوتهم التي كانوا يسكنونها في حال الحياة، ولا أبدانهم بعد الموت أكثر عبادة للّه وطاعة مما كانت في حال الحياة.
واللّه تعالى قد أخبر أنه جعل الأرض كفاتا، أحياء وأمواتا. تكفت الناس أحياء على ظهرها، وأمواتا في بطنها، وليس كفتهم أمواتا بأفضل من كفتهم أحياء؛ ولهذا تستحب زيارة أهل البقيع وأحد وغيرهم من المؤمنين. فيدعي لهم، ويستغفر لهم، ولا يستحب أن تقصد قبورهم لما تقصد له المساجد من الصلاة، والاعتكاف، ونحو ذلك، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (أحب البقاع إلي اللّه المساجد)، فليس في البقاع أفضل منها، وليست مساكن الأنبياء لا أحياء ولا أمواتا بأفضل من المساجد. هذا هو الثابت بنص الرسول، واتفاق علماء أمته.
وما ذكره بعضهم من أن قبور الأنبياء والصالحين أفضل من المساجد، وأن الدعاء عندها أفضل من الدعاء في المساجد، حتى في المسجد الحرام والمسجد النبوي، فقول يعلم بطلانه بالاضطرار من دين الرسول، ويعلم إجماع علماء الأمة على بطلانه إجماعا ضروريا، كإجماعهم على أن الاعتكاف في المساجد أفضل منه عند القبور. والمقصود بالاعتكاف: العبادة والصلاة، والقراءة، والذكر، والدعاء.
وما ذكره بعضهم من الإجماع على تفضيل قبر من القبور على المساجد كلها، فقول محدث في الإسلام، لم يعرف عن أحد من السلف، ولكن ذكره بعض المتأخرين، فأخذه عنه آخر وظنه إجماعا؛ لكون أجساد الأنبياء أنفسها أفضل من المساجد. فقولهم يعم المؤمنين كلهم، فأبدانهم أفضل من كل تراب في الأرض، ولا يلزم من كون أبدانهم أفضل أن تكون مساكنهم أحياء وأمواتا أفضل، بل قد علم بالاضطرار من دينهم أن مساجدهم أفضل من مساكنهم.
وقد يحتج بعضهم بما روي من: (أن كل مولود يذر عليه من تراب حفرته)، فيكون قد خلق من تراب قبره. وهذا الاحتجاج باطل لوجهين:
أحدهما: أن هذا لا يثبت، وما روي فيه كله ضعيف، والجنين في بطن أمه يعلم قطعا أنه لم يذر عليه تراب، ولكن آدم نفسه هو الذي خلق من تراب، ثم خلقت ذريته من سلالة من ماء مهين. ومعلوم أن ذلك التراب لا يتميز بعضه لشخص وبعضه لشخص آخر، فإنه إذا استحال وصار بدنا حيا لما نفخ في آدم الروح فلم يبق ترابا. وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا التنبيه على مثل هذه الإجماعات التي يذكرها بعض الناس، ويبنون عليها ما يخالف دين المسلمين؛ الكتاب والسنة والإجماع.
الوجه الثاني: أنه لو ثبت أن الميت خلق من ذلك التراب، فمعلوم أن خلق الإنسان من مني أبويه أقرب من خلقه من التراب، ومع هذا فاللّه يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي؛ يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، فيخلق من الشخص الكافر مؤمنا نبيا وغير نبي، كما خلق الخليل من آزر، وإبراهيم خير البرية هو أفضل الأنبياء بعد محمد ﷺ، وآزر من أهل النار، كما في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (يلقي إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، فيقول إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول له: فإليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: يا رب، ألم تعدني ألا تخزيني، وأي خزي أخزي من أبي الأبعد؟! فيقال له: التفت، فيلتفت، فإذا هو بذيخ عظيم، والذيخ ذكر الضباع، فيمسخ آزر في تلك الصورة، ويؤخذ بقوائمه فيلقي في النار، فلا يعرف أنه أبو إبراهيم). وكما خلق نبينا ﷺ من أبويه، وقد نهي عن الاستغفار لأمه، وفي الصحيح: أن رجلا قال له: أين أبي؟ قال: (إن أباك في النار)، فلما أدبر دعاه فقال: (إن أبي وأباك في النار). وقد أخرج من نوح وهو رسول كريم ابنه الكافر الذي حق عليه القول، وأغرقه، ونهي نوحا عن الشفاعة فيه. والمهاجرون والأنصار مخلوقون من آبائهم وأمهاتهم الكفار.
فإذا كانت المادة القريبة التي يخلق منها الأنبياء والصالحون لا يجب أن تكون مساوية لأبدانهم في الفضيلة؛ لأن اللّه يخرج الحي من الميت فأخرج البدن المؤمن من مني كافر، فالمادة البعيدة وهي التراب أولي ألا تساوي أبدان الأنبياء والصالحين، وهذه الأبدان عبدت اللّه وجاهدت فيه، ومستقرها الجنة. وأما المواد التي خلقت منها هذه الأبدان فما استحال منها وصار هو البدن فحكمه حكم البدن، وأما ما فضل منها فذاك بمنزلة أمثاله.
ومن هنا غلط من لم يميز بين ما استحال من المواد فصار بدنا، وبين ما لم يستحل، بل بقي ترابا أو ميتا. فتراب القبور إذا قدر أن الميت خلق من ذلك التراب فاستحال منه وصار بدن الميت، فهو بدنه، وفضله معلوم. وأما ما بقي في القبر فحكمه حكم أمثاله، بل تراب كان يلاقي جباههم عند السجود وهو أقرب ما يكون العبد من ربه المعبود أفضل من تراب القبور واللحود. وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أن مسجد الرسول وغيره من المساجد فضيلتها بكونها بيوت اللّه التي بنيت لعبادته، قال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [200]، وقال تعالى: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [201]، وقال تعالى: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنفُسِهِمْ } إلي قوله: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَإليوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَي الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَي أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [202]، وقال تعالى: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } [203].
والمساجد الثلاثة لها فضل على ما سواها، فإنها بناها أنبياء، ودعوا الناس إلي السفر إليها. فالخليل دعا إلي المسجد الحرام، وسليمان دعا إلي بيت المقدس، ونبينا دعا إلي الثلاثة، إلي مسجده، والمسجدين، ولكن جعل السفر إلي المسجد الحرام فرضا، والآخرين تطوعا. وإبراهيم وسليمان لم يوجبا شيئا، ولا أوجب الخليل الحج؛ ولهذا لم يكن بنو إسرائيل يحجون، ولكن حج موسي ويونس وغيرهما؛ولهذا لم يكن الحج واجبا في أول الإسلام؛ وإنما وجب في سورة آل عمران بقوله تعالى: { وَلِلّهِ على النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } [204]. هذا هو الذي اتفق عليه المسلمون، أنه يفيد إيجابه. وأما قوله: { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } [205] فقيل: إنه يفيد إيجابهما ابتداء، وإتمامهما بعد الشروع. وقيل: إنما يفيد وجوب إتمامهما بعد الشروع، لا إيجابهما ابتداء. وهذا هو الصحيح، فإن هذه الآية نزلت عام الحديبية بإجماع الناس بعد شروع النبي ﷺ في العمرة عمرة الحديبية لما صده المشركون، وأبيح فيها التحلل للمحصر، فحل النبي ﷺ وأصحابه لما صدهم المشركون، ورجعوا، والحج والعمرة يجب على الشارع فيهما إتمامهما باتفاق الأئمة. وتنازعوا في الصيام والصلاة والاعتكاف، على قولين مشهورين. ومذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه: أنه لا يجب الإتمام، ومذهب مالك وأبي حنيفة: أنه يجب، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع.
والمقصود أن مسجد الرسول فضيلة السفر إليه لأجل العبادة فيه، والصلاة فيه بألف صلاة؛ وليس شيء من ذلك لأجل القبر بإجماع المسلمين. وهذا من الفروق بين مسجد الرسول ﷺ وغيره، وبين قبره وغيره، فقد ظهر الفرق من وجوه.
وهذا المعترض وأمثاله جعلوا السفر إلي قبور الأنبياء نوعًا. ثم لما رأوا ما ذكره العلماء من استحباب زيارة قبر نبينا ظنوا أن سائر القبور يسافر إليها كما يسافر إليه. فضلوا من وجوه:
أحدها: أن السفر إليه إنما هو سفر إلي مسجده، وهو مستحب بالنص والإجماع.
الثاني: أن هذا السفر هو للمسجد في حياة الرسول وبعد دفنه، وقبل دخول الحجرة، وبعد دخول الحجرة فيه. فهو سفر إلي المساجد، سواء كان القبر هناك أو لم يكن. فلا يجوز أن يشبه به السفر إلي قبر مجرد.
الثالث: أن من العلماء من يكره أن يسمي هذا زيارة لقبره. والذين لم يكرهوه يسلمون لأولئك الحكم، وإنما النزاع في الاسم. وأما غيره، فهو زيارة لقبره بلا نزاع. فللمانع أن يقول: لا أسلم أنه يمكن أن يسافر إلي زيارة قبره أصلا، وكل ما سمي زيارة قبر فإنه لا يسافر إليه، والسفر إلي مسجد نبينا ليس سفرًا إلي زيارة قبره، بل هو سفر لعبادة في مسجده.
الرابع: أن هذا السفر مستحب بالنص والإجماع والسفر إلي قبور سائر الأنبياء والصالحين ليس مستحبًا لا بنص ولا إجماع بل هو منهي عنه عند الأئمة الكبار، كما دل عليه النص.
الخامس: أن المسجد الذي عند قبره مسجده الذي أسس على التقوي، وهو أفضل المساجد غير المسجد الحرام، والصلاة فيه بألف صلاة، والمساجد التي على قبور الأنبياء والصالحين نهي عن اتخاذها مساجد والصلاة فيها، كما تقدم. فكيف عن السفر إليها.
السادس: أن السفر إلي مسجده الذي يسمي السفر لزيارة قبره هو ما أجمع عليه المسلمون جيلا بعد جيل، وأما السفر إلي سائر القبور فلا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، بل ولا عن أتباع التابعين، ولا استحبه أحد من الأئمة الأربعة، ولا غيرهم. فكيف يقاس هذا بهذا؟! ومازال المسلمون من عهده وإلي هذا الوقت يسافرون إلي مسجده؛ إما مع الحج، وإما بدون الحج. فعلى عهد الصحابة لم يكونوا يأتونه مع الحج كما يسافرون إلي مكة فإن الطرقات كانت آمنة، وكان إنشاء السفر إليه أفضل من أن يجعل تبعًا لسفر الحج. وعمر بن الخطاب قد أمرهم أن يفرد للعمرة سفرًا وللحج سفرًا، وهذا أفضل باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من التمتع والقِران؛ فإن الذين فضلوا التمتع والقران كما فضل أحمد التمتع لمن لم يسق الهدي والقران لمن ساق الهدي في المنصوص عنه وصرح في غير موضع بأن النبي ﷺ كان قارنًا هو مع ذلك يقول: إن إفراد العمرة بسفر والحج بسفر أفضل من التمتع والقران، وكذلك مذهب أبي حنيفة فيما ذكره محمد ابن الحسن أن عمرة كوفية أفضل من التمتع والقران. وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود أن المسلمين ما زالوا يسافرون إلي مسجده ولا يسافرون إلي قبور الأنبياء؛ كقبر موسي، وقبر الخليل عليه السلام ولم يعرف عن أحد من الصحابة أنه سافر إلي قبر الخليل مع كثرة مجيئهم إلي الشام والبيت المقدس. فكيف يجعل السفر إلي مسجد الرسول الذي يسميه بعض الناس زيارة لقبره مثل السفر إلي قبور الأنبياء؟!
السابع: أن السفر المشروع إلي مسجده يتضمن أن يفعل في مسجده ما كان يفعل في حياته وحياة خلفائه الراشدين؛ من الصلاة والسلام عليه والثناء والدعاء، كما يفعل ذلك في سائر المساجد، وسائر البقاع؛ وإن كان مسجده أفضل، فالمشروع فيه عبادة لله مأمور بها، وأما الذي يفعله من سافر إلي قبر غيره فإنما هو من نوع الشرك، كدعائهم وطلب الحوائج منهم، واتخاذ قبورهم مساجد، وأعيادًا، وأوثانًا. وهذا محرم بالنص والإجماع.
فإن قلت: فقد يفعل بعض الناس عند قبره مثل هذا.
قلت لك: أما عند القبر فلا يقدر أحد على ذلك؛ فإن الله أجاب دعوته حيث قال: (اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد). وأما في مسجده فإنما يفعل ذلك بعض الناس الجهال، وأما من يعلم شرع الإسلام فإنما يفعل ما شرع، وهؤلاء ينهون أولئك بحسب الإمكان فلا يجتمع الزوار على الضلال، وأما قبر غيره فالمسافرون إليه كلهم جهال ضالون مشركون، ويصيرون عند نفس القبر، ولا أحد هناك ينكر عليهم.
الوجه الثامن: أن يقال: قبره معلوم متواتر، بخلاف قبر غيره.
ومما ينبغي أن يعلم أن الله تعالى حفظ عامة قبور الأنبياء ببركة رسالة محمد ﷺ، فلم يتمكن الناس مع ظهور دينه أن يتخذوا قبور الأنبياء مساجد، كما أظهر من الإيمان بنبوة الأنبياء وما جاؤوا به؛ من إعلان ذكرهم ومحبتهم، وموالاتهم، والتصديق لأقوالهم، والاتباع لأعمالهم، ما لم يكن هذا لأمة أخري. وهذا هو الذي ينتفع به من جهة الأنبياء، وهو تصديقهم فيما أخبروا، وطاعتهم فيما أمروا، والاقتداء بهم فيما فعلوا، وحب ما كانوا يحبونه، وبغض ما كانوا يبغضونه، وموالاة من يوالونه، ومعاداة من يعادونه ونحو ذلك مما لا يحصل إلا بمعرفة أخبارهم. والقرآن والسنة مملوء من ذكر الأنبياء. وهذا أمر ثابت في القلوب، مذكور بالألسنة، وأما نفس القبر فليس في رؤيته شيء من ذلك، بل أهل الضلال يتخذونها أوثانًا، كما كانت اليهود والنصارى يتخذون قبور الأنبياء والصالحين مساجد. فببركة رسالة محمد ﷺ أظهر الله من ذكرهم ومعرفة أحوالهم ما يجب الإيمان به، وتنتفع به العباد. وأبطل ما يضر الخلق من الشرك بهم واتخاذ قبورهم مساجد، كما كانوا يتخذونها في زمن من قبلنا.
ولم يكن على عهد الصحابة قبر نبي ظاهر يزار، لا بسفر ولا بغير سفر، لا قبر الخليل، ولا غيره. ولما ظهر بتُسْتَر قبر دانيالي وكانوا يستسقون به، كتب فيه أبو موسي الأشعري إلي عمر بن الخطاب، فكتب إليه يأمره أن يحفر بالنهار ثلاثة عشر قبرًا، ويدفنه بالليل في واحد منها، ويعفي القبور كلها لئلا يفتتن به الناس. وهذا قد ذكره غير واحد.
وممن رواه يونس بن بكر في زيادات مغازي بن إسحاق عن أبي خلدة خالد بن دينار. حدثنا أبو العإلية، قال: لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرًا عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف له، فأخذنا المصحف فحملناه إلي عمر بن الخطاب، فدعا له كعبا فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل من العرب قرأه، قرأته مثلما أقرأ القرآن هذا. فقلت: لأبي العإلية: ما كان فيه؟ قال: سيرتكم، وأموركم، ولحون كلامكم، وما هو كائن بعد. قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرًا متفرقة، فلما كان بالليل دفناه، وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه. قلت: وما يرجون فيه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون. فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له: دانيال فقلت: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة. قلت: ما كان تغير منه شيء؟ قال: لا، إلا شعيرات من قفاه؛ إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السباع.
ولم تدع الصحابة في الإسلام قبرًا ظاهرًا من قبور الأنبياء يفتتن به الناس، ولا يسافرون إليه ولا يدعونه، ولا يتخذونه مسجدًا، بل قبر نبينا ﷺ حجبوه في الحجرة، ومنعوا الناس منه بحسب الإمكان، وغيره من القبور عفوه بحسب الإمكان، إن كان الناس يفتتنون به، وإن كانوا لا يفتتنون به فلا يضر معرفة قبره، كما قال النبي ﷺ لما ذكر أن ملك الموت أتي موسي عليه السلام فقال: أجب ربك، فلطمه موسي ففقأ عينه! فرجع الملك إلي الله، فقال: أرسلتني إلي عبد لك لا يريد الموت، وقد فقأ عيني، قال: فرد الله عليه عينه، وقال: ارجع إلي موسي فقل له: الحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور، فما وارت يدك من شعره فإنك تعيش بكل شعرة سنة. قال: ثم ماذا؟ قال: الموت. قال: فمن الآن يا رب! ولكن ادنني من الأرض المقدسة رمية بحجر. قال النبي ﷺ: (فلو كنت ثَمَّ لأريتكم قبره إلي جانب الطريق عند الكثيب الأحمر). وقد مر به ﷺ ليلة الإسراء فرآه وهو قائم يصلى في قبره، ومع هذا لم يكن أحد من الصحابة والتابعين يسافر إليه، ولا ذهبوا إليه لما دخلوا الشام في زمن أبي بكر وعمر؛ كما لم يكونوا يسافرون إلي قبر الخليل ولا غيره، وهكذا كانوا يفعلون بقبور الأنبياء والصالحين. فقبر دانيال كما قيل كانوا يجدون منه رائحة المسك، فعفوه لئلا يفتتن به الناس.
وقبر الخليل عليه السلام كان عليه بناء. قيل: إن سليمان عليه السلام بناه فلا يصل أحد إليه، وإنما نقب البناء بعد زمان طويل، بعد انقراض القرون الثلاثة. وقد قيل: إنما نقبه النصارى لما استولوا على ملك البلاد، ومع هذا فلم يتمكن أحد من الوصول إلي قبر الخليل صلوات الله عليه وسلامه فكان السفر إلي زيارة قبور الأنبياء والصالحين ممتنعًا على عهد الصحابة والتابعين، وإنما حدث بعدهم. فالأنبياء كثيرون جدًا، وما يضاف إليهم من القبور قليل جدًا، وليس منها شيء ثابت عرفًا. فالقبور المضامة إليهم منها ما يعلم أنه كذب، مثل قبر نوح الذي في أسفل جبل لبنان. ومنها ما لا يعلم ثبوته بالإجماع إلا قبر نبينا والخليل وموسي فإن هذا من كرامة محمد وأمته؛ فإن الله صان قبور الأنبياء عن أن تكون مساجد صيانة لم يحصل مثلها في الأمم المتقدمة؛ لأن محمدًا وأمته أظهروا التوحيد إظهارًا لم يظهره غيرهم. فقهروا عباد الأوثان، وعباد الصلبان، وعباد النيران.
وكما أخفي الله بهم الشرك فأظهر الله بمحمد وأمته من الإيمان بالأنبياء وتعظيمهم وتعظيم ما جاؤوا به وإعلان ذكرهم بأحسن الوجوه ما لم يظهر مثله في أمة من الأمم، وفي القرآن يأمر بذكرهم كقوله تعالى: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا } [206]، { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَي إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا } [207] الآيات، وقوله: { اصْبِرْ على مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [208]، وذكر بعده سليمان إلي قوله: { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَي رَبَّهُ } [209]، إلي قوله: { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } إلي قوله: { وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَإليسَعَ وَذَا الْكِفْلِ } [210]، فأمر بذكر هؤلاء. وأما موسي وقبله نوح وهود وصالح فقد تقدم ذكرهم في قوله تعالى: { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الْأَحْزَابُ إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } [211]. وقد أمر بذكر موسي وغيره أيضا في سورة أخري، كما تقدم.
فالذي أظهره الله بمحمد وأمته من ذكر الأنبياء بأفضل الذكر، وإخبارهم، ومدحهم، والثناء عليهم، ووجوب الإيمان بما جاؤوا به، والحكم بالكفر على من كفر بواحد منهم، وقتله، وقتل من سب أحدا منهم، ونحو ذلك من تعظيم أقدارهم، ما لم يوجد مثله في ملة من الملل.
وأصل الإيمان: توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، والإيمان برسله، كما قال تعالى: { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [212]، قال أبو العإلية: خلتان تسأل العباد يوم القيامة عنهما: عما كانوا يعملون، وعما أجابوا الرسل. ولهذا يقرر الله هذين الأصلىن في غير موضع من القرآن، بل يقدمهما على كل ما سواهما؛ لأنهما أصل الأصول؛ مثلما ذكر في سورة البقرة، فإنه افتتحها بذكر أصناف الخلق، وهم ثلاثة: مؤمن، وكافر، ومنافق، وهذا التقسيم كان لما هاجر النبي ﷺ إلي المدينة؛ فإن مكة لم يكن بها نفاق بل إما مؤمن، وإما كافر. والبقرة مدنية من أوائل ما نزل بالمدينة، فأنزل الله أربع آيات في ذكر المؤمنين، وآيتين في ذكر الكافرين، وبضع عشرة آية في صفة المنافقين، وافتتحها بالإيمان بجميع الكتب والأنبياء، ووسطها بذلك، وختمها بذلك. قال في أولها: { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إليكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [213]
والصحيح في قوله: { والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إليكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } أنه والذي قبله صفة لموصوف واحد؛ فإنه لابد من الإيمان بما أنزل إليه وما أنزل من قبله، والعطف لتغاير الصفات، كقوله: { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } [214]، وقوله: { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى } [215]، وقوله: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } إلي قوله: { أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [216]، ومن قال: { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } أراد به مشركي العرب، وقوله: { والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إليكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ }، أن المراد به أهل الكتاب: فقد غلط؛ فإن مشركي العرب لم يؤمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله، فلم يكونوا مفلحين. وأهل الكتاب إن لم يؤمنوا بالغيب ويقيموا الصلاة ومما رزقناهم ينفقون لم يكونوا مفلحين؛ ولهذا قال تعالى: { أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }، فدل على أنهم صنف واحد.
وقال في وسط السورة: { قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إلينَا وَمَا أُنزِلَ إلي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [217]، فأمر بالإيمان بكل ما أوتي النبيون من ربهم، وقد قال في أثنائها: { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَإليوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } [218]، وختمها بقوله: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إليهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [219].
ثم إنه بعد تقسيم الخلق قرر أصول الدين. فقرر التوحيد أولا، ثم النبوة ثانيا بقوله: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشا وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [220]، ثم قرر النبوة بقوله: { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ } [221] فأخبر أنهم لا يفعلون ذلك، كما قال: { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } [222]. ثم ذكر الجنة، فقرر التوحيد، والنبوة، والمعاد، وهذه أصول الإيمان.
وفي آل عمران قال: { اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ } [223]. فذكر التوحيد أولا، ثم الإيمان بما جاءت به الرسل ثانيا، وذكر أنه أنزل الكتاب والفرقان، كما قال: { وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ } [224]. ولفظ الفرقان يتناول ما يفرق بين الحق والباطل مثل الآيات التي بعث بها الأنبياء، كالحية، وإليد البيضاء، وانفلاق البحر. والقرآن فرقان بين هذا الوجه؛ من جهة أنه آية عظيمة لنبوة محمد ﷺ وعلم عظيم. وهو أيضا فرقان باعتبار أنه فرق ببيانه بين الحق والباطل، كما قال: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } [225]، ولهذا فسر جماعة الفرقان هنا به. ولفظ الفرقان أيضا يتناول نصر الله لأنبيائه وعباده المؤمنين وإهلاك أعدائهم؛ فإنه فرق به بين أوليائه وأعدائه، وهو أيضا من الأعلام قال تعالى: { إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } [226]. والآيات التي يجعلها الله دلالة على صدق الأنبياء هي مما ينزله، كما قال: { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً ْ } [227]، وقال: { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [228]، وقال تعالى: { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } [229]. وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا التنبيه.
وكذلك في سورة يونس قال تعالى: { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إلي رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } [230]، ثم قال: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } [231].
وفي سورة الم السجدة قال تعالى: { الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } [232]، وقال: { تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَا إليكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلي اللَّهِ زُلْفَى } [233].
ومن هذا قوله تعالى: { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } [234]، وقوله: { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [235]، وقوله: { يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ } [236]، وقوله: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [237]، ثم قال: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } [238]، وقوله: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [239].
وكان النبي ﷺ يقرأ في ركعتي الفجر بسورتي الإخلاص تارة، وتارة قوله تعالى: { قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إلينَا وَمَا أُنزِلَ إلي إِبْرَاهِيمَ }، الآيات [240]. وفي الثانية: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إلي كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [241]. وهذا باب واسع؛ لأن الناس مضطرون إلي هذين الأصلىن، فلا ينجون من العذاب ولا يسعدون إلا بهما. فعليهم أن يؤمنوا بالأنبياء وما جاؤوا به، وأصل ما جاؤوا به ألا يعبدوا إلا الله وحده، كما قال: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إليهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [242]، وقال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [243]، وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [244].
والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه هم وسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ كلامه، وأمره، ونهيه، ووعده ووعيده، وأنبائه التي أنبأ بها عن أسمائه وصفاته وملائكته وعرشه وما كان وما يكون، وليسوا وسائط في خلقه لعباده، ولا في رزقهم، وإحيائهم، وإماتتهم، ولا جزائهم بالأعمال، وثوابهم، وعقابهم، ولا في إجابة دعواتهم وإعطاء سؤالهم، بل هو وحده خالق كل شيء، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وهو الذي يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [245]، وقال تعالى: { وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ } [246]، كما قال تعالى: { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلي رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [247]، وقال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [248].
فبين أن كل ما يدعي من دون الله من الملائكة والأنبياء وغيرهم لا يملكون مثقال ذرة، ولا لأحد منهم شرك معه، ولا له ظهير منهم فلم يبق إلا الشفاعة، { وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [249]، فالأمر في الشفاعة إليه وحده، كما قال تعالى: { قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } [250]، وقال: { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ } [251]، وقوله: { إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [252]، استثناء منقطع في أصح القولين.
فانقسم الناس فيهم ثلاثة أقسام: قوم أنكروا توسطهم بتبليغ الرسالة فكذبوا بالكتب والرسل، مثل قوم نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وقوم فرعون، وغيرهم ممن يخبر الله أنهم كذبوا المرسلين؛ فإنهم كذبوا جنس الرسل، لم يؤمنوا ببعضهم دون بعض. ومن هؤلاء منكرو النبوات من البراهمة، وفلاسفة الهند المشركين، وغيرهم من المشركين، وكلْ منْ كذبْ الرسلْ لاْ يكونْ إلاْ مشركًا، وكذلكْ منْ كذبْ ببعضهمْ دونْ بعض، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا } [253].
فكل من كذب محمدا، أو المسيح، أو داود، أو سليمان، أو غيرهم من الأنبياء الذين بعثوا بعد موسي، فهو كافر، قال تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ } [254]، وقال تعالى: { وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقا تَقْتُلُونَ } [255]، وقال تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقا لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [256].
والفلاسفة والملاحدة وغيرهم منهم من يجعل النبوات من جنس المنامات، ويجعل مقصودها التخييل فقط، قال تعالى: { بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ } [257]، فهؤلاء مكذبون بالنبوات. ومنهم من يجعلهم مخصوصين بعلم ينالونه بقوة قدسية بلا تعلم، ولا يثبت ملائكة تنزل بالوحي. ولا كلاما لله يتكلم به، بل يقولون: إنه لا يعلم الجزئيات، فلا يعلم لا موسي، ولا محمدا، ولا غيرهما من الرسل ويقولون: خاصية النبي هذه القوة العلمية القدسية قوة يؤثر بها في العالم، وعنها تكون الخوارق، وقوة تخيلية، وهو أن تمثل له الحقائق في صور خيالية في نفسه، فيري في نفسه أشكالا نورانية، ويسمع في نفسه كلاما، فهذا هو النبي عندهم، وهذه الثلاث توجد لكثير من آحاد العامة الذين غيرهم من النبيين أفضل منهم. وهؤلاء وإن كانوا أقرب من الذين قبلهم فهم من المكذبين للرسل.
وكثير من أهل البدع يقر بما جاؤوا به إلا في أشياء تخالف رأيه، فيقدم رأيه على ما جاؤوا به، ويعرض عما جاؤوا به، فيقول: إنه لا يدري ما أرادوا به، أو يحرف الكلم عن مواضعه. وهؤلاء موجودون في أهل الكتاب، وفي أهل القبلة؛ ولهذا ذكر الله في أول البقرة: المؤمنين، والكافرين، ثم ذكر المنافقين. وبسط القول فيهم.
وقسم ثان غَلَوْا في الأنبياء والصالحين وفي الملائكة أيضًا؛ فجعلوهم وسائط في العبادة، فعبدوهم ليقربوهم إلى الله زلفى، وصوروا تماثيلهم، وعكفوا على قبورهم. وهذا كثير في النصارى ومن ضاهاهم من ضلال أهل القبلة؛ ولهذا ذكر الله هذا الصنف في القرآن في آل عمران وفي براءة في ضمن الكلام على النصارى، وقال تعإلى: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [258]، وقال تعإلى: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [259]، وقال تعإلى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [260]، وهذا الذي أمره الله أن يقوله لهم هو الذي كتب إلى هرقل ملك الروم.
وهؤلاء قد يظنون أنهم إذا استشفعوا بهم شفعوا لهم، وأن من قصد معظمًا من الملائكة والأنبياء فاستشفع به شفع له عند الله، كما يشفع خواص الملوك عندهم. وقد أبطل الله هذه الشفاعة في غير موضع من القرآن، وبين الفرق بينه وبين خلقه، فإن المخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه، ويقبل الشفاعة لرغبة أو رهبة أو محبة أو نحو ذلك، فيكون الشفيع شريكًا للمشفوع إليه. وهذه الشفاعة منتفية في حق الله، قال تعإلى: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [261]، وقال تعإلى: { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَي } [262].
وهؤلاء يحجون إلى قبورهم، ويدعونهم، وقد يسجدون لهم، وينذرون لهم، وغير ذلك من أنواع العبادات. وهؤلاء أيضًا مشركون. وأكثر المشركين يجمعون بين التكذيب ببعض ما جاؤوا به وبين الشرك، فيكون فيهم نوع من الشرك بالخالق، وتكذيب رسله، ومنهم من يجمع بين الشرك والتعطيل. فيعطل الخالق أو بعض ما يستحقه من أسمائه وصفاته.
فأصحاب رسول الله ﷺ والتابعون لهم بإحسان إلى يوم القيامة، ليسوا من هؤلاء ولا من هؤلاء، بل يثبتون أنهم وسائط في التبليغ عن الله، ويؤمنون بهم، ويحبونهم، ولايحجون إلى قبورهم، ولا يتخذون قبورهم مساجد. وذلك تحقيق (شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله). فإظهار ذكرهم وما جاؤوا به هو من الإيمان بهم، وإخفاء قبورهم لئلا يفتن بها الناس هو من تمام التوحيد وعبادة الله وحده. والصحابة وأمة محمد قاموا بهذا.
ولهذا تجد عند علماء المسلمين من أخبار أهل العلم والدين، من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، من مشائخ العلم والدين، والعدل من ولاة الأمور ما يوجب معرفة ذلك الشخص، والثناء عليه، والدعاء له، وأن يكون له لسان صدق، وما ينتفع به؛ إما كلام له ينتفع به، وإما عمل صالح يقتدي به فيه، فإن العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء صلوات الله عليهم يقصد الانتفاع بما قالواه وأخبروا به وأمروا به والاقتداء بهم فيما فعلوه صلوات الله عليهم أجمعين.
وأما أهل الضلال كالنصارى وأهل البدع فهم مع غلوهم وتعظيمهم لقبورهم وتماثيلهم والاستشفاع بهم لا تجد عندهم من أخبارهم ما يعرف صدقه من كذبه، بل قد التبس هذا بهذا، ولا يكاد أحد من علمائهم يميز فيما هم عليه من الدين بين ما جاء عن المسيح وما جاء عن غيره، إما من الأنبياء، وإما من شيوخهم، بل قد لبسوا الحق بالباطل.
وكذلك أهل الضلال والبدع من أهل القبلة، تجدهم يعظمون شيخًا، أو إمامًا، أو غير ذلك ويشركون به، ويدعونه من دون الله ويستغيثون به، وينذرون له، ويحجون إلى قبره. وقد يسجدون له، وقد يعبدونه أعظم مما يعبدون الله، كما يفعل النصارى، وهم مع ذلك من أجهل الناس بأحواله؛ ينقلون عنه أخبارًا مسيبة ليس لها إسناد، ولا يعرف صدقها من كذبها، بل عامة ما يحفظونه ما فيه غلو وشطح للإشراك به. فأهل الإسلام الذين يعرفون دين الإسلام ولا يشوبونه بغيره يعرفون الله ويعبدونه وحده، ويعرفون أنبياءه فيقرون بما جاؤوا به، ويقتدون به، ويعرفون أهل العلم والدين، وينتفعون بأقوالهم وأفعالهم. وأهل الضلال في ظلمة لا يعرفون الله ولا أنبياءه ولا أولياءه، ولا يميزون بين ما أمر الله به وما نهي عنه، وبين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
ولا ريب أن في أهل القبلة من يشبه إليهود والنصارى في بعض الأمور، كما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، عن النبي ﷺ أنه قال: (لتتبعن سَنَن من كان قبلكم حَذْو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جحر ضَبٍّ لدخلتموه). قالوا: يا رسول الله، إليهود والنصارى؟ قال: (فمن!). وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة: أن النبي ﷺ قال: (لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع)، قالوا: يا رسول الله، فارس والروم؟ قال: (فمن الناس إلا هؤلاء).
ومشابهتهم في الشرك بقبور الأنبياء والصالحين هو من مشابهتهم التي حذر منها أمته قبل موته في صحته ومرضه، وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت رسول الله ﷺ قبل أن يموت بخمس وهو يقول: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله قد اتخذني خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك). وأما لعنه لمن فعل ذلك: ففي الصحيحين عن عائشة وابن عباس قالا: لما نزل برسول الله ﷺ طفق يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: (لعنة الله على إليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما صنعوا. وفي الصحيحين عن عائشة، قالت: قال رسول الله ﷺ في مرضه الذي لم يقم منه: (لعن الله إليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره؛ غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا. وفي لفظ: غير أنه خشي، أو خُشي. وفي الصحيح أيضا عن أبي هريرة: أن النبي ﷺ قال: (لعن الله إليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). هذا لفظ مسلم. وله وللبخاري: (قاتل الله إليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وفي الصحيحين عن عائشة: أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة فيها تصاوير لرسول الله ﷺ فقال رسول الله ﷺ: (إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة). وفي المسند وصحيح أبي حاتم عن ابن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد).
وهذا باب واسع لبسطه موضع آخر. وقد بسط الكلام في هذا الباب في الرد على من هو أفضل من هذا، وبين ما خالفوا فيه الكتاب والسنة والإجماع في هذا الباب وفي غيره. ولما كان أولئك أعلم وأفضل كان الرد عليهم بحسبهم، والله أعلم.
صورة خطوط القضاة الأربعة:
على ظهر فتيا الشيخ تقي الدين أبي العباس ابن تيمية في السفر لمجرد زيارة قبور الأنبياء.
هذا المنقول باطنها جوابًا عن السؤال أن زيارة الأنبياء بدعة، أو ما ذكره من نحو ذلك، وأنه لا يترخص في السفر إلى زيارة الأنبياء. هذا كلام باطل، مردود عليه. وقد نقل جماعة من العلماء والأئمة الكبار أن زيارة النبي ﷺ فضيلة وسنة مجمع عليها، وهذا المفتي المذكور ينبغي أن يزجر عن مثل هذه الفتاوي الباطلة عند العلماء والأئمة الكبار، ويمنع من الفتاوي الغريبة المردودة عند الأئمة الأربعة، ويحبس إذا لم يمتنع من ذلك، ويشهر أمره، ليتحفظ الناس من الاقتداء به.
كتبه العبد الفقير إلى الله محمد بن إبراهيم بن سعد بن جماعة. وتحته: يقول أحمد بن عمر المقدسي الحنبلي. وتحته: كذلك يقول محمد بن الجريري الحنفي، لكن يحبس الآن جزمًا مطلقًا. وتحته: كذلك يقول العبد الفقير إلى الله محمد بن أبي بكر المالكي، إن ثبت ذلك عليه، ويبالغ في زجره بحسب ما تندفع به هذه المفسدة وغيرها من المفاسد. فهذه صورة خطوطهم بمصر. والحمد لله رب العالمين وصلي الله على محمد سيدنا وآله وصحبه وسلم تسليمًا.
فصل في كتاب الجواب الباهر
قَالَ شَيخ الإسْلام أسْكَنَه الله الجَنّة آمين:
بسم الله الرحمن الرحيم، ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلي الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
فصل في الجواب عما كتب على نسخة جواب الفتيا، وبيان بطلان ذلك، وأن الحكم به باطل بإجماع المسلمين من وجوه كثيرة، قد بسطت في غير هذا الموضع. وهي خمسون وجهًا: تبين بطلان ما كتب به، وبطلان الحكم به.
الأول: أنه نقل عن الجواب ما ليس فيه، ورتب الحكم على ذلك النقل الباطل. ومثل هذا باطل بالإجماع؛ فإنه نقل أن المجيب قال: إن زيارة الأنبياء بدعة، أو أنه ذكر نحو ذلك، والمجيب لم يذكر ذلك، ولا نقل ذلك عن أحد من العلماء، وإنما في الجواب ذكر قول العلماء فيمن سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين: هل يحرم هذا السفر، أو يجوز، وأن الطائفتين اتفقوا على أنه غير مستحب، والطائفتان لم يقولا ذلك في الزيارة المطلقة، بل جمهورهم يقولون: إن زيارة القبور مستحبة، وهذا هو الصحيح، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، ولكن لا يقولون: إنه يستحب السفر إليها، كما اتفق المسلمون على أنه يشرع إتيان المساجد غير المساجد الثلاثة، وأن إتيانها قد يكون فرضًا، وقد يكون سنة؛ مثل إتيانها للجمعة والجماعة. واتفقوا على أن السفر إلى غير المساجد الثلاثة ليس بفرض ولا سنة، فهكذا زيارة القبور على الوجه الشرعي مستحبة، وهي سنة، والسفر إلى ذلك ليس بفرض ولا سنة عند الطائفتين.
والمجيب لم يذكر لنفسه في الجواب قولا، بل حكي أقوال علماء المسلمين، وأدلتهم، وهؤلاء نقلوا عنه ما لم يقله، واستدلوا بما لا ينازع فيه، وأخطؤوا فيما نقلوه وفهموه من كلام من نقل الإجماع، وفيما استدلوا به عليه، وذلك من وجوه كثيرة جدًا، ولكن مقصود هذا الوجه: أن الذي كتب على الجواب نقل عنه أنه هو القائل، وأنه قال: إن زيارة الأنبياء بدعة، وهذا باطل عنه. والحكم المرتب على النقل الباطل باطل بالإجماع.
الوجه الثاني: أن الطائفتين من علماء المسلمين اتفقوا على أن السفر لمجرد زيارة القبور ليس بفرض ولا سنة، وهؤلاء جعلوا السفر إلى زيارة القبور سنة سنها رسول الله ﷺ، والنبي ﷺ لم يسن لأمته السفر لذلك، ولا قال علماء شريعته: إن السفر إليها سنة. فقد حكموا بما يخالف السنة والإجماع، وهذا الحكم باطل بالإجماع. وذلك أن المجيب ذكر القولين فيمن لم يسافر إلا إلى القبور، ولم يقصد مع ذلك المسجد قول من جوز ذلك ولم يستحبه وقول من حرمه. وهم لم يقتصروا على رد أحد القولين، فإن هذا لا يناقض ما ذكره المجيب، بل قالوا: وهذا المفتي المذكور ينبغي أن يزجر عن مثل هذه الفتاوي الباطلة عند العلماء، ومتي ما بطل ما ذكره في الجواب بالقولين، تعين جعل السفر سنة مستحبة.
وأيضًا، فإنهم احتجوا بنقل من نقل الإجماع على استحباب السفر الذي ذكر فيه القولين.
الثالث: أنهم احتجوا بنقل من نقل من العلماء أن زيارة النبي ﷺ فضيلة مرغب فيها وسنة مجمع عليها. وهؤلاء نقلوا الإجماع على الزيارة، لا على السفر لمجرد القبر. ولو نقلوا الإجماع على السفر للزيارة فمعلوم أن المسلمين يقصدون المسجد والقبر، لا يقصد القبر دون المسجد إلا جاهل، وإذا قصد الزائر المسجد والقبر جميعًا فالمجيب لم يذكر القولين في هذه الصورة، وإنما ذكرهما فيمن لم يسافر إلا لمجرد زيارة القبور، والجواب لم يكن في خصوص قبر النبي ﷺ، بل كان في جنس القبور. وجعلوا ذلك إجماعًا على السفر إلى سائر قبور الأنبياء، فإن المجيب فرق بين الزيارة النبوية الشرعية التي أجمع المسلمون على استحبابها، وبين ما أجمعوا على أنه لا يستحب، وما تنازعوا فيه، وما نقلوه من الإجماع وإن كان عندهم لا يدل على مثل ما ذكره المجيب لم يكن حجة عليه، وهم جعلوه حجة على بطلان الجواب، وذلك إنما يكون إذا قيل باستحباب السفر مطلقًا فغلطوا على من نقل الإجماع فلم يفهموا مراده، وحكموا بناء على هذا الاعتقاد الباطل، ومثل ذلك باطل بالإجماع.
الرابع: أنهم جعلوا هذا النقل مخالفًا للجواب، وليس مخالفًا له، بل المفتي قد ذكر في الجواب استحباب العلماء لزيارة قبر النبي ﷺ، ولم يحك عن أحد أنه قال: زيارة قبر النبي ﷺ محرمة، والحكم المرتب على النقل الباطل باطل بالإجماع.
الخامس: أن هؤلاء جعلوا جنس الزيارة مستحبًا بالإجماع، ولم يفصلوا بين المشروع والمحرم، والزيارة بعضها مشروع وبعضها محرم بالإجماع، كما ذكر ذلك في جواب الفتيا، وهم أنكروا هذا التفصيل، وهذا مخالف للإجماع والحكم به باطل بالإجماع. فإن المجيب لم ينكر السفر للزيارة الشرعية بالإجماع، بل بين في الجواب ما أجمع عليه المسلمون من السفر، ومن الزيارة. وهذا مبسوط في مواضع كثيرة من كلامه، مشهور عنه. وذكر ما تنازعوا فيه، وما اتفقوا على النهي عنه. فلو وافقوا على التفصيل لم ينكروا الجواب، فلما جعلوا الجواب باطلا عند العلماء تبين أنهم لم يفصلوا.
السادس: أن الزيارة ثلاثة أنواع: نوع اتفق العلماء على استحبابه، ونوع اتفقوا على النهي عنه، ونوع تنازعوا فيه. وفي الجواب ذكر الأنواع الثلاثة. وهؤلاء لم يفصلوا بين ما أجمع عليه وبين ما تنازع العلماء فيه، ولا ذكروا أن ما تنازع فيه العلماء يرد إلى الله والرسول، بل جعلوه مردودًا بمجرد قولهم، وهذا باطل بالإجماع. والحكم بذلك باطل بالإجماع. والمجيب إنما ذكر اتفاق الطائفتين على أن السفر غير مستحب إذا سافر لمجرد زيارة قبر بعض الأنبياء والصالحين، وهذا منتف في الغالب في قبر النبي ﷺ؛ فإن من هو عارف بشريعة الإسلام لابد أن يقصد المسجد مع القبر، لاسيما مع علمه بأنه ﷺ قال: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام). ولهذا احتج طائفة من العلماء على استحباب زيارة قبره بهذا الحديث. وهذه الزيارة التي يفعلها من يعلم الشريعة لم يذكر المجيب أنها لا تستحب بالإجماع. وكيف يقول ذلك واستحبابها موجود في كلام العلماء؟!
السابع: أن الإجماع على أن الزيارة سنة وفضيلة ليس هو إجماعًا على كل ما يسمي زيارة، ولا على هذا اللفظ، بل هو إجماع على ما شرعه الله من حقوقه في مسجده. وهل يكره أن يسمي ذلك زيارة لقبره على قولين. وكثير مما يسمي زيارة لقبره فيه نزاع أو هو منهي عنه بالإجماع، وهؤلاء جعلوا الإجماع متناولا لما تنازع العلماء فيه، واحتجوا بالإجماع في موارد النزاع، وهذا خطأ.
الثامن: أن ما تنازع فيه العلماء يجب رده إلى الله والرسول، وهؤلاء لم يردوه إلى الله ولا إلى الرسول، بل قالوا: إنه كلام باطل مردود على قائله بلا حجة من كتاب الله ولا سنة رسوله وهذا باطل بالإجماع.
التاسع: أن الذين حكوا الإجماع على استحباب السفر لمجرد زيارة القبر بل الإجماع، إنما هو على استحباب السفر إلى مسجده. وأما السفر لمجرد القبر فهذا فيه النزاع المشهور. وما فيه نزاع يجب رده إلى الله والرسول، وهؤلاء لم يردوا ما تنازع العلماء فيه إلى الله والرسول، بل ادعوا فيه الإجماع وغلطوا على من حكوا عنه الإجماع، ومن زجر عن قول لكونه مخالفًا للإجماع ولم يكن مخالفًا للإجماع كان هو المخطئ بالإجماع.
العاشر: أن ما لا إجماع فيه يجب رده إلى الله والرسول بالإجماع، وإن احتج فيه بالكتاب والسنة كان هو المصيب، والجواب فيه ذكر النزاع والاحتجاج بالكتاب والسنة في موارد النزاع، وهؤلاء جعلوا ذلك مردودًا، ولم يردوه إلى الله والرسول، بل ردوا على من احتج بالكتاب والسنة في مسائل النزاع، وحكموا بهذا الرد المخالف للإجماع. والحكم بمثل ذلك باطل بالإجماع.
الحادي عشر: أن الذي ذكر في الفتيا ما أجمع عليه كالزيارة المستحبة، وما أجمعوا على النهي عنه، وما تنازعوا فيه، وهذا أقصي ما يكون عند المفتين. وهؤلاء جعلوا ذلك من الفتاوي الباطلة عند العلماء، وهذا التفصيل ليس باطلا عند أحد من علماء المسلمين، وهم جعلوه باطلا، وحكموا بذلك، ومثل هذا الحكم باطل بالإجماع.
الثاني عشر: أن ما تنازع فيه العلماء ليس لأحد من القضاة أن يفصل النزاع فيه بحكم، وإذا لم يكن لأحد من القضاة أن يقول: حكمت بأن هذا القول هو الصحيح، وأن القول الآخر مردود على قائله، بل الحاكم فيما تنازع فيه علماء المسلمين أو أجمعوا عليه، قوله في ذلك كقول آحاد العلماء إن كان عالمًا، وإن كان مقلدًا كان بمنزلة العامة المقلدين، والمنصب والولاية لا يجعل من ليس عالمًا مجتهدًا عالمًا مجتهدًا، ولو كان الكلام في العلم والدين بالولاية والمنصب لكان الخليفة والسلطان أحق بالكلام في العلم والدين، وبأن يستفتيه الناس ويرجعوا إليه فيما أشكل عليهم في العلم والدين. فإذا كان الخليفة والسلطان لا يدعي ذلك لنفسه، ولا يلزم الرعية حكمه في ذلك بقول دون قول إلا بكتاب الله وسنة رسوله. فمن هو دون السلطان في الولاية أولي بألا يتعدي طوره، ولا يقيم نفسه في منصب لا يستحق القيام فيه أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وهم الخلفاء الراشدون فضلا عمن هو دونهم؛ فإنهم رضي الله عنهم إنما كانوا يلزمون الناس باتباع كتاب ربهم وسنة نبيهم، وكان عمر رضي الله عنه يقول: إنما بعثت عمالي أي نوابي إليكم ليعلموكم كتاب ربكم، وسنة نبيكم، ويقسموا بينكم فيئكم. بل هذه يتكلم فيها من علماء المسلمين من يعلم ما دلت عليه الأدلة الشرعية؛ والكتاب والسنة. فكل من كان أعلم بالكتاب والسنة فهو أولي بالكلام فيها من غيره، وإن لم يكن حاكمًا، والحاكم ليس له فيها كلام لكونه حاكمًا، بل إن كان عنده علم تكلم فيها كآحاد العلماء. فهؤلاء حكموا فيما ليس لهم فيه الحكم بالإجماع وهذا من الحكم الباطل بالإجماع.
الثالث عشر: أن الأحكام الكلية التي يشترك فيها المسلمون سواء كانت مجمعًا عليها أو متنازعًا فيها ليس للقضاة الحكم فيها، بل الحاكم العالم كآحاد العلماء يذكر ما عنده من العلم، وإنما يحكم القاضي في أمور معينة. وأما كون هذا العمل واجبًا أو مستحبًا أو محرمًا فهذا من الأحكام الكلية التي ليس لأحد فيها حكم إلا لله ورسوله. وعلماء المسلمين يستدلون على حكم الله ورسوله بأدلة ذلك. وهؤلاء حكموا في الأحكام الكلية، وحكمهم في ذلك باطل بالإجماع.
الرابع عشر: أن الكلام في هذه المسائل الكلية، إنما يجوز لمن كان عالمًا بأقوال علماء المسلمين فيها، وما أجمعوا عليه، وما تنازعوا فيه، عالمًا بالكتاب والسنة، ووجه الاستدلال بهما. وكلام هؤلاء يتضمن أنهم لا يعرفون ما قاله علماء المسلمين في هذه المسائل، ولا يميزون بين ما أجمع عليه العلماء وتنازعوا فيه، ولا يعرفون سنة رسول الله ﷺ في هذه المسائل، ولا يفرقون بين ما رغب فيه وما نهي عنه ولم يسنه، ولا يعرفون الأحاديث الصحيحة والضعيفة في هذا الباب، بل ولا يعرفون مذهبهم في هذه المسائل، ولا عندهم نقل عن الأئمة الأربعة، ولا العلماء المشهورين من أتباعهم فيما قالوه وحكموا به، بل هم فيه بمنزلة آحاد المتفقهة الطلبة الذين ينبغي لهم طلب علم هذه المسائل، بل لا يجوز لأحدهم أن يفتي فيها، ولا يناظر، ولا يصنف، فضلا عن أن يحكم. ومعلوم أن من كان كذلك وحكم فيما ليس له الحكم فيه كان حكمه محرمًا بالإجماع، فكيف إذا حكم فيما ليس له فيه الحكم، وحكم بخلاف الإجماع؛ فإن الحاكم إذا حكم بغير اجتهاد ولا تقليد كان حكمه محرمًا بالإجماع.
الخامس عشر: أن القاضي يجب أن يكون مجتهدًا عند بعض العلماء، وعند بعضهم يجوز له التقليد للعلماء؛ وهؤلاء لو كانت هذه المسائل مما لهم فيه الحكم فهم لم يقلدوا فيما قالوه أحدًا من أئمة المسلمين، فضلا أن يكونوا فيه مجتهدين، بل حكموا بغير اجتهاد ولا تقليد، وهذا الحكم الباطل بالإجماع، ولو كان على يهودي عشرة دراهم معينة، فكيف إذا حكموا على علماء المسلمين في الأحكام الكلية التي لا حكم لهم فيها بالإجماع.
السادس عشر: لو كان لهم فيها الحكم وقد حكموا بالكتاب والسنة والإجماع، لم يكن لهم الحكم حتى يسمعوا كلام المحكوم عليه وحجته، ويعذروا إليه، وهل له جواب أم لا؟ فإن العلماء تنازعوا في الحقوق كالأموال هل يحكم فيها على غائب؟ على قولين. ومن جوز الحكم عليه قال: هو باق على حجته تسمع إذا حضر. فأما العقوبات والحدود فلا يحكم فيها على غائب، وهؤلاء حكموا على غائب في ذلك، ولم يمكنوه من سماع كلامه والإدلاء بحجته، وهذا لو كان على يهودي كان حكمًا باطلا بالإجماع. ولهذا كان جميع الناس أهل العلم والدين والعقل ينكرون مثل هذا الحكم، ويعلمون أنه حكم بغير حق.
السابع عشر: أنه لو كان الحاكم خصمًا لشخص في حق من الحقوق لم يجز أن يحكم الحاكم على خصمه بإجماع المسلمين، وكذلك المسائل العلمية إذا تنازع حاكم وغيره من العلماء في تفسير آية أو حديث أو بعض مسائل العلم لم يكن للحاكم أن يحكم عليه بالإجماع، فإنهما خصمان فيما تنازعا فيه، والحاكم لا يحكم على خصمه بالإجماع.
الثامن عشر: أن هذه المسائل منقولة في كتب أهل العلم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وهؤلاء حكموا فيها بخلاف مذاهب الأئمة الأربعة ولم يعرفوا مذاهب أئمتهم، ولا مذاهب غيرهم من الأئمة والعلماء ولا ما دلت عليه السنة والآثار. ومعلوم أن مثل هذا الحكم باطل بالإجماع، ومن ادعي منهم أن الذي حكم به هو قول العلماء فليكتب خطه بذلك، وليذكر ما ذكره العلماء فيها من إجماع ونزاع وأدلة ذلك؛ ليتبين أن الذي يقول بخلاف جواب المفتي قولا باطلا، وإلا فقد علم أنهم حكموا بغير الحق، وهذا باطل بالإجماع.
التاسع عشر: أنه لو كان أحدهم عارفًا بمذهبه لم يكن له أن يلزم علماء المسلمين بمذهبه، ولا يقول: يجب عليكم أنكم تفتون بمذهبي، وأنه أي مذهب خالف مذهبي كان باطلا، من غير استدلال على مذهبه بالكتاب والسنة. ولو قال: من خالف مذهبي فقوله مردود، ويجب منع المفتي به وحبسه لكان مردودًا عليه، وكان مستحقًا العقوبة على ذلك بالإجماع، فكيف إذا كان الذي حكم به ليس هو مذهب أحد من الأئمة الأربعة؟! بل الذي أفتي به المفتي هو موافق للإجماع، دون من أنكر قوله وخالف الإجماع.
الوجه العشرون: أنه لو قدر أن العالم الكثير الفتاوي أخطأ في مائة مسألة لم يكن ذلك عيبًا، وكل من سوي الرسول ﷺ يصيب ويخطئ. ومن منع عالمًا من الإفتاء مطلقًا، وحكم بحبسه لكونه أخطأ في مسائل، كان ذلك باطلا بالإجماع. فالحكم بالمنع والحبس حكم باطل بالإجماع. فكيف إذا كان المفتي قد أجاب بما هو سنة رسول الله ﷺ، وقول علماء أمته؟!
الحادي والعشرون: أن المفتي لو أفتي في المسائل الشرعية مسائل الأحكام بما هو أحد قولي علماء المسلمين، واستدل على ذلك بالكتاب والسنة، وذكر أن هذا القول هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة، دون القول الآخر في أي باب كان ذلك، من مسائل البيوع، والنكاح، والطلاق، والحج، والزيارة، وغير ذلك لم يكن لأحد أن يلزمه بالقول الآخر بلا حجة من كتاب أو سنة، ولا أن يحكم بلزومه، ولا منعه من القول الآخر بالإجماع. فكيف إذا منعه منعًا عامًا، وحكم بحبسه؟ فإن هذا من أبطل الأحكام بإجماع المسلمين.
الثاني والعشرون: أن الحاكم لو ظن الإجماع فيما ليس فيه إجماع، وألزم الناس بذلك القول لظنه أنه مجمع عليه، ولم يستدل على ذلك بكتاب أو سنة، وكان فيه نزاع لم يعلمه، لكان مخطئًا في إلزام الناس بذلك بالإجماع، إلا أن يدل عليه كتاب أو سنة.
الثالث والعشرون: أن الحاكم متي خالف نصًا أو إجماعًا نقض حكمه باتفاق الأئمة، وحكم هؤلاء خالف النص والإجماع من وجوه كثيرة فهو مستحق للنقض بالإجماع.
الرابع والعشرون: أن هذا الحكم وأمثاله هو مثل ما تقدم من الحكم مرة بعد مرة في بعض ما هو في نظيره هذه القضية، وكل واحد من تلك الأحكام باطل بالإجماع من وجوه كثيرة، فكذلك هذا.
الخامس والعشرون: أن هذه الأحكام مع أنها باطلة بالإجماع فإنها مثيرة للفتن، مفرقة بين قلوب الأمة، متضمنة للعدوان على المسلمين، وعلى ولاة أمورهم، مؤذية لهم، جالبة للفتن بين المسلمين. والحكم بما أنزل الله فيه صلاح الدنيا والآخرة، والحكم بغير ما أنزل الله فيه فساد الدنيا والآخرة. فيجب نقضه بالإجماع.
السادس والعشرون: أن ما يحصل به أذي للمسلمين إذا كان مما أمر الله به ورسوله كانوا مطيعين في ذلك لله ورسوله، وأجرهم فيه على الله، كالجهاد. أما إذا كان الذي يؤذيهم مما لم يأمر به الله ولا رسوله وجب رده بالإجماع. ومثل هذه الأحكام المؤذية للمسلمين وولاة أمورهم، وهي مخالفة للسنة والإجماع، فيجب ردها بالإجماع.
السابع والعشرون: أنهم قالوا: إن هذا المفتي ينبغي أن يزجر عن مثل هذه الفتاوي الباطلة عند العلماء والأئمة الكبار. وقولهم هو الباطل عند العلماء والأئمة الكبار. ومن ادعي أن قول العلماء والأئمة الكبار هو الباطل عند العلماء والأئمة الكبار كان قوله وحكمه به باطلا بالإجماع. فإن هذه الفتيا هي قول العلماء والأئمة الكبار؛ فيها قول مالك وغيره من الأئمة الكبار. والقول الآخر ليس للعلماء والأئمة الكبار، قول إلا ما ذكر فيها، وما ذكروه لا يعرف عن أحد من العلماء والأئمة الكبار.
الثامن والعشرون: أنهم قالوا: يمنع من الفتاوي الغريبة المردودة عند الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين. والحكم به باطل بالإجماع؛ فإن الأئمة الأربعة متفقون على أنه إنما ينقض حكم الحاكم إذا خالف كتابًا أو سنة أو إجماعًا أو معني ذلك. فأما ما وافق قول بعض المجتهدين في مسائل الاجتهاد فإنه لا ينقض لأجل مخالفته قول الأربعة، وما يجوز أن يحكم به الحاكم يجوز أن يفتي به المفتي بالإجماع، بل الفتيا أيسر؛ فإن الحاكم يلزم، والمفتي لا يلزم. فما سوغ الأئمة الأربعة للحاكم أن يحكم به فهم يسوغون للمفتي أن يفتي به بطريق الأولي والأحري، ومن حكم بمنع الإفتاء بذلك فقد خالف الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين. فما قالوه هو المخالف للأربعة وسائر أئمة المسلمين، فهو باطل بالإجماع.
التاسع والعشرون: أن جميع المذاهب فيها أقوال قالها بعض أهلها ليست قولا لصاحب المذهب، وفيها جميعها ما هو مخالف لقول الأربعة، وهم يحكون ذلك قولا في المذهب، ولا يحكمون ببطلانه إلا بالحجة، لاسيما إذا خرج على أصول صاحب المذهب وبين من نصوصهم ما يقتضي ذلك، كما يفعله أتباعهم في كثير من المسائل. والمجيب قد ذكر من كلام الأئمة الأربعة ومن قبلهم ممن يعظمونهم من العلماء وكلام من تقدمهم ما يعرف به أقوال علماء المسلمين. فإبطال القول لمجرد مخالفته للأربعة هو مخالف لأقوال الأربعة، ولأتباع الأئمة الأربعة، فهو باطل بالإجماع.
الوجه الموفي ثلاثين: أن ما أنكروه في مسائل الزيارة ومسائل الطلاق من فتاوي المفتي المدلول ليس فيها شيء يخرج عن المذاهب الأربعة، بل إما أن يكون ما أفتي به قول جميع أهل المذاهب الأربعة كالذي أفتي في هذه المسألة مسألة الزيارة فإن الذي قاله هو قول جميع أهل المذاهب الأربعة، بل وقول جميع علماء المسلمين قد ذكروا ما أجمعوا عليه وما تنازعوا فيه وإما أن يكون ما أفتي به فيها قول بعض الأئمة الأربعة، أو بعض المنتسبين إليهم، كمسائل الطلاق، فإن مسائل النزاع فيها قد تنازع فيها أهل المذاهب الأربعة، والمفتي المذكور لم يفت فيها إلا بما قاله بعضهم، وما يمكن الإفتاء فيها إلا بذلك. ومن أنكر ما لا يعلمه وحكم بلا علم وخالف النص والإجماع كان حكمه باطلا بالإجماع.
الحادي والثلاثون: أن قولهم: يحبس إذا لم يمتنع من ذلك، ويشهر أمره؛ ليتحفظ الناس من الاقتداء به. وإنما يستحق ذلك من أظهر البدعة في دين المسلمين، واستحبها، ودعا إليها الناس، وحكم بعقوبة من أمر بالسنة ودعا إليها، والسفر إلى زيارة القبور هي البدعة التي لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين. وكذلك جعل زيارة القبور جنسًا واحدًا لا يفرق بين الزيارة الشرعية والزيارة البدعية خطأ باتفاق المسلمين. وكذلك التسوية بين الزيارة النبوية الشرعية التي يسافر فيها المسلمون إلى مسجد رسول الله ﷺ وبين السفر إلى زيارة قبر غيره، كل ذلك مخالف لسنة رسول الله ﷺ، ولإجماع أمته. فمن أمر بذلك كان أحق بالمنع، ويشهر خطأه؛ ليتحفظ الناس من الاقتداء به، أولي ممن أفتي بالسنة والإجماع، مع أن الله سبحانه هو الفاعل لذلك، فهو الذي يظهر خطأ هؤلاء في مشارق الأرض ومغاربها في هذا الزمان وما بعده من الأزمنة، كما فعله في سائر من ابتدع في الدين، وخالف شريعة سيد المرسلين. فإن المفتي ذكر في الجواب ما اتفق المسلمون على استحبابه وما اتفقوا على النهي عنه. وما تنازعوا فيه، ولم ينه عن الزيارة مطلقًا، لا لفظًا، ولا معني. والإجماع الذي ذكروه هو موافق لما ذكره لا مخالف له. فالزيارة التي أجمع المسلمون عليها هو من أعظم القائلين باستحبابها، لا يجعل المستحب مسمي الزيارة ويسوي بين دين الرحمن ودين الشيطان، كما فعل هؤلاء، وأنكروا على من فرق بين دين الرحمن، ودين الشيطان.
الثاني والثلاثون: أن قبول قول الحاكم وغيره بلا حجة مع مخالفته للسنة مخالف لإجماع المسلمين، وإنما هو دين النصارى الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا، لا إله إلا هو، سبحانه عما يشركون. قال النبي ﷺ: (أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال، فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم إياهم). والمسلمون متفقون على أن ما تنازعوا فيه يجب رده إلى الله والرسول، وهؤلاء لم يردوا ما تنازع فيه المسلمون إلى الله والرسول، بل حكموا برده بقولهم، وهذا باطل بإجماع المسلمين.
وأيضًا، فحكموا بقول ثالث خلاف قولي علماء المسلمين فخرجوا وحكمهم عن إجماع المسلمين، وهذا باطل بإجماع المسلمين.
الثالث والثلاثون: أن كلامهم تضمن الاعتراف بأن ما أفتي به المفتي هو قول بعض علماء المسلمين. وحينئذ فما تنازع فيه المسلمون يجب رده إلى الله والرسول، ولا يحكم فيه إلا كتاب الله أو سنة نبيه، وهؤلاء حكموا فيما تنازع فيه المسلمون بغير كتاب الله ولا سنة رسوله. ومثل هذا الحكم باطل بإجماع المسلمين. وهذا لو كان ما أفتي به قول بعضهم، فكيف وهو ذكر القولين اللذين اتفق المسلمون عليهما. والقول الذي أنكروه هو قول الأئمة الكبار، وقولهم لم ينقله أحد من الأئمة الكبار ولا الصغار؟!
الرابع والثلاثون: أنه لو قدر أن المفتي أفتي بالخطأ، فالعقوبة لا تجوز إلا بعد إقامة الحجة، فالواجب أن تبين دلالة الكتاب والسنة على خطئه، ويجاب عما احتج به، فإنه لابد من ذكر الدليل والجواب عن المعارض، وإلا فإذا كان مع هذا حجة ومع هذا حجة لم يجز تعيين الصواب مع أحدهما إلا بمرجح، وهؤلاء لم يفعلوا شيئًا من ذلك، فلو كان المفتي مخطئًا لم يقيموا عليه، فكيف إذا كان هو المصيب وهم المخطئون؟! فحكم مثل هؤلاء الحكام باطل بالإجماع.
الخامس والثلاثون: أن المفتي إذا تبينت له الأدلة الشرعية، فإن تبين له الصواب وإلا كان له أسوة أمثاله من العلماء الذين يقولون قولا مرجوحًا. ومعلوم أن هؤلاء يستحقون العقوبة والحبس والمنع عن الفتيا مطلقًا بإجماع المسلمين، وهذا الحكم باطل بإجماع المسلمين.
السادس والثلاثون: أن إلزام الناس بما لم يلزمهم به الله ورسوله، ومنعهم أن يتبعوا ما جاء به الكتاب والسنة حرام بإجماع المسلمين، والحكم به باطل بإجماع المسلمين وهؤلاء لم يستدلوا على ما قالوه بكتاب الله ولا سنة رسوله، ولا أجابوا عن حجة من احتج بالكتاب والسنة، ومثل هذا الإلزام والحكم به باطل بالإجماع.
السابع والثلاثون: أن علماء المسلمين إذا تنازعوا في مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم إحداث قول ثالث، بل القول الثالث يكون مخالفًا لإجماعهم. والمسلمون تنازعوا في السفر لغير المساجد الثلاثة على قولين: هل هو حرام، أو جائز غير مستحب. فاستحباب ذلك قول ثالث مخالف للإجماع، وليس من علماء المسلمين من قال: يستحب السفر لزيارة القبور، ولا يستحب إلى المساجد، بل السفر إلى المساجد قد نقل عن بعضهم أنه قال: مستحب يجب بالنذر، وأما السفر إلى القبور لم يقل أحد منهم: إنه مستحب، ولا أنه يجب بالنذر، وكلهم متفقون على أن الذهاب إلى المساجد أفضل من الذهاب إلى القبور؛ فإن زيارة الأنبياء والصالحين حيث كانت مشروعة فلا تشرع في اليوم والليلة خمس مرات، والمسجد مشروع إتيانه في اليوم والليلة خمس مرات، فإتيانه أولي من إتيانها بالإجماع.
الثامن والثلاثون: أن إتيان مسجد رسول الله ﷺ، وقصد ذلك والسفر لذلك أولي من إتيان قبره لو كانت الحجرة مفتوحة والسفر إليه بإجماع المسلمين. فإن الصحابة كانوا يأتون مسجده في اليوم والليلة خمس مرات، والحجرة إلى جانب المسجد لم يدخلها أحد منهم؛ لأنهم قد علموا أنه نهاهم أن يتخذوا القبور مساجد، وأن يتخذوا قبره عيدًا، أو وثنا. وأنه قال لهم: (صلوا على حيثما كنتم). وكذلك قد علموا أن صلاتهم وسلامهم عليه في المسجد أولي من عند قبره. وكل من يسافر للزيارة فسفره إنما يكون إلى المسجد، سواء قصد ذلك أو لم يقصده، والسفر إلى المسجد مستحب بالنص والإجماع.
والمجيب قد ذكر في الجواب الزيارة المجمع عليها، والمتنازع فيها، وهؤلاء أعرضوا عن الأمر بما أمر الله به ورسوله وعلماء أمته، وعن استحباب ما أحبه الله ورسوله وجميع علماء أمته، وفهموا من كلام العلماء ما لم يقصدوه؛ فإن القاضي عياض الذي حكي ألفاظه قد صرح بما صرح به إمامه وجمهور أصحابه، أنه لا يجوز السفر إلى غير المساجد الثلاثة، وهو لم يذكر استحباب قصد القبر دون المسجد، بل ذكر ما نقله عن العلماء في فضل زيارة الرسول ما بين به مراده، وذكر عن مالك أنه كره أن يقف بعد السلام، وهذا كراهته لزيارة أكثر العامة. وهؤلاء جعلوا مسمي الزيارة مستحبًا، وأنكروا على من فصل بين الزيارة الشرعية والبدعية. وذكر أن أهل المدينة يكره لهم الوقوف عند القبر، وإن قصدوا مجرد السلام، إلا عند السفر. وذكر أيضًا أنه يستحب قصد المسجد، وأن هذا لم يزل المسلمون يفعلونه، فقال: (فصل في حكم زيارة قبره): وزيارة قبره سنة بين المسلمين مجمع عليها، وفضيلة مرغب فيها. قال: وكره مالك أن يقال: زرنا قبر النبي ﷺ. ثم قال: وقال إسحاق بن إبراهيم الفقيه: ومما لم يزل من شأن من حج المرور بالمدينة، والقصد إلى الصلاة في مسجد رسول الله ﷺ: التبرك برؤية روضته، ومنبره، وقبره، ومجلسه، وملامس يديه، ومواطئ قدميه، والعمود الذي كان يستند عليه وينزل جبرائيل بالوحي فيه عليه، وبمن عمره وقصده من الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين والاعتبار بذلك كله.
فقد بين أن الإجماع الذي حكوه يتضمن قصد الصلاة في مسجده وأن القبر من جملة آثاره. وهؤلاء زعموا أنه حكي الإجماع على السفر إلى مجرد القبر، وهو لم يذكر ذلك، ولا ما يدل عليه، بل ذكر خلاف ذلك من وجوه. وهؤلاء أخطؤوا عليه فيما نقله، ولم يعرفوا ما في ذلك من السنة والإجماع، وهذا الحكم باطل بالإجماع.
الوجه التاسع والثلاثون: أنه لو قدر أن العالم الكثير الفتاوي أفتي في عدة مسائل بخلاف سنة رسول الله ﷺ الثابتة عنه. وخلاف ما عليه الخلفاء الراشدون، لم يجز منعه من الفتيا مطلقًا، بل يبين له خطؤه فيما خالف فيه. فما زال في كل عصر من أعصار الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين من هو كذلك. فابن عباس رضي الله عنهما كان يقول في المتعة والصرف بخلاف السنة الصحيحة، وقد أنكر عليه الصحابة ذلك، ولم يمنعوه من الفتيا مطلقًا، بل بينوا له سنة رسول الله ﷺ المخالفة لقوله، فعلى رضي الله عنه روي له عن النبي ﷺ أنه حرم المتعة، وأبو سعيد الخدري رضي الله عنه وغيره رووا له تحريمه لربا الفضل، ولم يردوا فتياه لمجرد قولهم وحكمهم ويمنعوه من الفتيا مطلقًا ومثل هذا كثير. فالمنع العام حكم بغير ما أنزل الله، وهو باطل باتفاق المسلمين. لو كان ما نازعوه فيه مخالفًا للسنة، فكيف إذا كانت معه، بل ومعه إجماع علماء المسلمين فيما أنكروه من مسائل الزيارة، وهذا مما يبين أن هذا الحكم من أبطل حكم في الإسلام ومن أعظم التغيير لدين الإسلام بإجماع المسلمين.
الوجه الموفي أربعين: أن هذه المسائل يعرفها علماء المسلمين من زمن رسول الله ﷺ، وإلى هذا الوقت؛ فإن جميع المسلمين يحتاجون إليها، فيمتنع أن يعرف بعض الناس فيها الحق دون السلف والأئمة. والمجيب قد صنف فيها مجلدات؛ بين فيها أقوال الصحابة وأفعالهم، وأقوال علماء المسلمين، ما أجمعوا عليه، وما تنازعوا فيه، وبين الأحاديث النبوية صحيحها وضعيفها، وكلام العلماء فيها، وبين خطأ من نازعه ممن صنف في ذلك، وبسط القول في ذلك. وهؤلاء لو كانوا قد قالوا ببعض أقاويل العلماء، فلم يأتوا عليه بحجة، فكيف وقد قالوا ما يخالف سنة رسول الله ﷺ، وإجماع علماء المسلمين في مثل هذا الأمر العظيم الذي قد بينه الرسول لأمته، وعرف ذلك علماء أمته قرنًا بعد قرن إلى هذا الزمان، ومعلوم أن مثل هذا الحكم باطل بإجماع المسلمين.
الوجه الحادي والأربعون: أنهم لو قالوا ببعض أقوال العلماء فظنوا أنه لا تنازع فيه كانوا عددًا، مثل من يظن: أن السنة للزائر أن يقف عند القبر ويستقبله ويسلم عليه، وقد يظن ذلك إجماعًا، وهو غالط؛ فإن من العلماء من لم يستحب استقبال القبلة، ومنهم من لم يستحب الوقوف عند القبر، كما قد بين النقل عنهم في مواضعه. وأما هؤلاء فحكموا بقول لم يقله أحد من علماء المسلمين، وذلك باطل بالإجماع.
الثاني والأربعون: أن ما قالوه لو قاله مُفْتٍ لوجب الإنكار عليه، ومنعه وحبسه إن لم ينته عن الإفتاء به؛ لأنه مخالف للسنة والإجماع، فكيف إذا قاله حاكم يلزم الناس به؟! وهو أولي بالمنع والعقوبة على ذلك كأهل البدع؛ من الخوارج، والرافضة، وغيرهم والذين يبتدعون بدعة يلزمون بها الناس، ويعادون من خالفهم فيها، ويستحلون عقوبته. والبدع المتضمنة للشرك واتخاذ القبور أوثانًا، والحج إليها، ودعاء غير الله، وعبادته؛ من بدع الخوارج، والروافض، والله أعلم، والحمد لله وحده، وصلي الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
طلبه من السلطان النظر في فتواه وانصافه
وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الرحيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلي الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
أما بعد، يقول أحمد بن تيمية: إنني لما علمت مقصود ولي الأمر السلطان أيده الله وسدده فيما رسم به كتبت إذ ذاك كلامًا مختصرًا، لأن الحاضر استعجل بالجواب. وهذا فيه شرح الحال أيضًا مختصرًا، وإن رسم ولي الأمر أيده الله وسدده أحضرت له كتبًا كثيرة من كتب المسلمين قديمًا وحديثًا مما فيه كلام النبي ﷺ والصحابة والتابعين، وكلام أئمة المسلمين الأربعة، وغير الأربعة وأتباع الأربعة، مما يوافق ما كتبته في الفتيا؛ فإن الفتيا مختصرة، لا تحتمل البسط، ولا يقدر أحد أن يذكر خلاف ذلك، لا عن النبي ﷺ ولا عن الصحابة، ولا عن التابعين، ولا عن أئمة المسلمين؛ لا الأربعة، ولا غيرهم.
وإنما خالف ذلك من يتكلم بلا علم، وليس معه بما يقوله نقل، لا عن النبي ﷺ ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن أئمة المسلمين، ولا يمكنه أن يحضر كتابًا من الكتب المعتمدة عن أئمة المسلمين بما يقوله، ولا يعرف كيف كان الصحابة والتابعون يفعلون في زيارة قبر النبي ﷺ وغيره. وأنا خطي موجود بما أفتيت به، وعندي مثل هذا كثير كتبته بخطي، ويعرض على جميع من ينسب إلى العلم شرقًا وغربًا، فمن قال: إن عنده علمًا يناقض ذلك فليكتب خطه بجواب مبسوط، يعرف فيه من قال هذا القول قبله، وما حجتهم في ذلك، وبعد ذلك فولي الأمر السلطان أيده الله إذا رأي ما كتبته وما كتبه غيري فأنا أعلم أن الحق ظاهر مثل الشمس، يعرفه أقل غلمان السلطان، الذي ما رؤي في هذه الأزمان سلطان مثله، زاده الله علمًا وتسديدًا وتأييدًا. فالحق يعرفه كل أحد، فإن الحق الذي بعث الله به الرسل لا يشتبه بغيره على العارف كما لا يشتبه الذهب الخالص بالمغشوش على الناقد. والله تعالى أوضح الحجة، وأبان المحجة بمحمد خاتم المرسلين، وأفضل النبيين، وخير خلق الله أجمعين. فالعلماء ورثة الأنبياء، عليهم بيان ما جاء به الرسول ورد ما يخالفه.
فيجب أن يعرف أولا ما قاله الرسول ﷺ، فإن الأحاديث المكذوبة كثيرة، وبعض المنتسبين إلى العلم قد صنف في هذه المسألة وما يشبهها مصنفًا ذكر فيه من الكذب على رسول الله ﷺ وعلى الصحابة ألوانًا يغتر بها الجاهلون. وهو لم يتعمد الكذب، بل هو محب للرسول ﷺ معظم له، لكن لا خبرة له بالتمييز بين الصدق والكذب، فإذا وجد بعض المصنفين في فضائل البقاع وغيرها قد نسب حديثًا إلى النبي ﷺ أو إلى الصحابة اعتقده صحيحًا وبني عليه، ويكون ذلك الحديث ضعيفًا، بل كذبًا عند أهل المعرفة بسنته ﷺ.
ثم إذا ميز العالم بين ما قاله الرسول ﷺ وما لم يقله، فإنه يحتاج أن يفهم مراده، ويفقه ما قاله، ويجمع بين الأحاديث، ويضم كل شكل إلى شكله، فيجمع بين ما جمع الله بينه ورسوله، ويفرق بين ما فرق الله بينه ورسوله. فهذا هو العلم الذي ينتفع به المسلمون، ويجب تلقيه وقبوله، وبه ساد أئمة المسلمين كالأربعة وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.
وولي الأمر سلطان المسلمين أيده الله وسدده هو أحق الناس بنصر دين الإسلام، وما جاء به الرسول عليه السلام وزجر من يخالف ذلك ويتكلم في الدين بلا علم، ويأمر بما نهي عنه رسول الله ﷺ، ومن يسعي في إطفاء دينه إما جهلا وإما هوي. وقد نزه الله رسوله ﷺ عن هذين الوصفين فقال تعالى: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَي مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَي وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَي إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَي } [263]، وقال تعالى عن الذين يخالفونه: { إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَي الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَي } [264]، ويخالفون شريعته وما كان عليه الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين الذين يعرفون سنته ومقاصده، ويتحرون متابعته ﷺ، وبحسب جهدهم رضي الله عنهم أجمعين.
فولي الأمر السلطان أعزه الله إذا تبين له الأمر فهو صاحب السيف الذي هو أولي الناس بوجوب الجهاد في سبيل الله باليد، لتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، ويبين تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتظهر حقيقة التوحيد، ورسالة الرسول الذي جعله الله أفضل الرسل وخاتمهم، ويظهر الهدي ودين الحق الذي بعث به، والنور الذي أوحي إليه، ويصان ذلك عما يخلطه به أهل الجهل والكذب الذين يكذبون على الله ورسوله، ويجهلون دينه، ويحدثون في دينه من البدع ما يضاهي بدع المشركين، وينتقصون شريعته وسنته وما بعث به من التوحيد، ففي تنقيص دينه وسنته وشريعته من التنقص له والطعن عليه ما يستحق فاعله عقوبة مثله.
فولاة أمور المسلمين أحق بنصر الله ورسوله، والجهاد في سبيله، وإعلاء دين الله، وإظهار شريعة رسول الله ﷺ التي هي أفضل الشرائع التي بعث الله بها خاتم المرسلين وأفضل النبيين، وما تضمنته من توحيد الله وعبادته لا شريك له، وأن يعبد بما أمر وشرع، لا يعبد بالأهواء والبدع. وما من الله به على ولاة الأمر، وما أنعم الله به عليهم في الدنيا، وما يرجونه من نعمة الله في الآخرة، إنما هو باتباعهم للرسول ﷺ، ونصر ما جاء به من الحق.
وقد طلب ولي الأمر أيده الله وسدده المقصود بما كتبته. والمقصود طاعة الله عز وجل ورسوله ﷺ، وأن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا. ولا تكون العبادة إلا بشريعة رسول الله ﷺ وهو ما أوجبه الله تعالى؛ كالصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت، أو ندب إليه؛ كقيام الليل، والسفر إلى المسجد رسول الله ﷺ، والمسجد الأقصى للصلاة فيهما والقراءة والذكر والاعتكاف وغير ذلك، مع ما في ذلك من الصلاة والسلام على النبي ﷺ عند دخول المسجد والخروج منه وفي الصلاة، والاقتداء بالنبي ﷺ فيما كان يفعل في المساجد، وفي زيارة القبور، وغير ذلك. فإن الدين هو طاعته فيما أمر، والاقتداء به فيما سنه لأمته. فلا نتجاوز سنته فيما فعله في عبادته؛ مثل الذهاب إلى مسجد قباء، والصلاة فيه، وزيارة شهداء أحد، وقبور أهل البقيع.
فأما ما لا يحبه الله ورسوله ولا هو مستحب، فهذا ليس من العبادات والطاعات التي يتقرب بها إلى الله عز وجل؛ كعبادات أهل البدع من المشركين وأهل الكتاب ومن ضاهاهم؛ فإن لهم عبادات ما أنزل الله بها كتابا، ولا بعث بها رسولا، مثل عبادات المخلوقين، كعبادات الكواكب، أو الملائكة، أو الأنبياء، أو عبادة التماثيل التي صورت على صورهم، كما تفعله النصارى في كنائسهم، يقولون إنهم يستشفعون بهم. وفي الصحيح: أن النبي ﷺ كان يقول في خطبته: (خير الكلام كلام الله، وخير الهَدي هَدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة). أي ما كان بدعة في الشرع، وقد يكون مشروعا لكنه إذا فعل بعده سمي بدعة كقول عمر رضي الله عنه في قيام رمضان لما جمعهم على قارئ واحد فقال: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل. وقيام رمضان قد سنه رسول الله ﷺ فقال: (إن الله قد فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه). وكانوا على عهده ﷺ يصلون أوزاعا متفرقين. يصلي الرجل وحده، ويصلي الرجل ومعه جماعة جماعة. وقد صلي بهم النبي ﷺ جماعة مرة بعد مرة. وقال: (إن الرجل إذا صلي مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة). لكن لم يداوم على الجماعة كالصلوات الخمس، خشية أن يفرض عليهم، فلما مات أمنوا زيادة الفرض فجمعهم عمر على أبي بن كعب.
والنبي ﷺ يجب علينا أن نحبه حتى يكون أحب إلينا من أنفسنا وآبائنا وأبنائنا وأهلنا وأموالنا، ونعظمه ونوقره ونطيعه باطنا وظاهرًا، ونوالى من يواليه، ونعادي من يعاديه. ونعلم أنه لا طريق إلى الله إلا بمتابعته ﷺ. ولا يكون وليا لله بل ولا مؤمنا ولا سعيدًا ناجيا من العذاب إلا من آمن به واتبعه باطنا وظاهرًا. ولا وسيلة يتوسل إلى الله عز وجل بها إلا الإيمان به وطاعته. وهو أفضل الأولين والآخرين، وخاتم النبيين، والمخصوص يوم القيامة بالشفاعة العظمي التي ميزه الله بها على سائر النبيين، صاحب المقام المحمود، واللواء المعقود، لواء الحمد، آدم فمن دونه تحت لوائه. وهو أول من يستفتح باب الجنة، فيقول الخازن: من أنت؟ فيقول: أنا محمد. فيقول بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك. وقد فرض على أمته فرائض، وسن لهم سننا مستحبة، فالحج إلى بيت الله فرض، والسفر إلى مسجده والمسجد الأقصى للصلاة فيهما والقراءة والذكر والدعاء والاعتكاف مستحب باتفاق المسلمين. وإذا أتي مسجده فإنه يسلم عليه، ويصلي عليه، ويسلم عليه في الصلاة، ويصلي عليه فيها، فإن الله يقول: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [265]. ومن صلي عليه مرة صلي الله عليه عشرًا، ومن سلم عليه، سلم الله عليه عشرًا.
وطلب الوسيلة له كما ثبت في الصحيح أنه قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا على، فإنه من صلي على مرة صلي الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حَلَّت عليه شفاعتي يوم القيامة). رواه مسلم. وروي البخاري عنه ﷺ أنه قال: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد، حلت له شفاعتي يوم القيامة). وهذا مأمور به. والسلام عليه عند قبره المكرم جائز لما في السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (ما من أحد يسلم على إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام).
وحيث صلي الرجل وسلم عليه من مشارق الأرض ومغاربها، فإن الله يوصل صلاته وسلامه إليه، لما في السنن عن أوس بن أوس أن النبي ﷺ قال: (أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة على). قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ أي صرت رميما قال: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء).
ولهذا قال ﷺ: (لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا على حيثما كنتم؛ فإن صلتكم تبلغني). رواه أبو داود وغيره. فالصلاة تصل إليه من البعيد كما تصل إليه من القريب. وفي النسائي عنه ﷺ أنه قال: (إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام). وقد أمرنا الله أن نصلي عليه، وشرع ذلك لنا في كل صلاة أن نثني على الله بالتحيات ثم نقول: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته). وهذا السلام يصل إليه من مشارق الأرض ومغاربها. وكذلك إذا صلينا عليه فقلنا: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد).
وكان المسلمون على عهده وعهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلى يصلون في مسجده، ويسلمون عليه في الصلاة، وكذلك يسلمون عليه إذا دخلوا المسجد، وإذا خرجوا منه، ولا يحتاجون أن يذهبوا إلى القبر المكرم، ولا أن يتوجهوا نحو القبر ويرفعوا أصواتهم بالسلام كما يفعله بعض الحجاج بل هذا بدعة لم يستحبها أحد من العلماء، بل كرهوا رفع الصوت في مسجده، وقد رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلين يرفعان أصواتهما في مسجده ورآهما غريبين، فقال: أما علمتما أن الأصوات لا ترفع في مسجد رسول الله ﷺ؟ لو أنكما من أهل البلد لأوجعتكما ضربا. وعذرهما بالجهل فلم يعاقبهما.
وكان النبي ﷺ لما مات دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها وكانت هي وحجر نسائه في شرقي المسجد وقبليه، لم يكن شيء من ذلك داخلا في المسجد، واستمر الأمر على ذلك إلى أن انقرض عصر الصحابة بالمدينة. ثم بعد ذلك في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان بنحو من سنة من بيعته وسع المسجد، وأدخلت فيه الحجرة للضرورة؛ فإن الوليد كتب إلى نائبه عمر بن عبد العزيز أن يشتري الحجر من ملاكها ورثة أزواج النبي ﷺ، فإنهن كن قد توفين كلهن رضي الله عنهن فأمره أن يشتري الحجر ويزيدها في المسجد، فهدمها وأدخلها في المسجد، وبقيت حجرة عائشة على حالها، وكانت مغلقة لا يمكن أحد من الدخول إلى قبر النبي ﷺ لا لصلاة عنده ولا لدعاء ولا غير ذلك إلى حين كانت عائشة في الحياة، وهي توفيت قبل إدخال الحجرة بأكثر من عشرين أو ثلاثين سنة، فإنها توفيت في خلافة معاوية، ثم ولي ابنه يزيد، ثم ابن الزبير في الفتنة، ثم عبد الملك ابن مروان، ثم ابنه الوليد، وكانت ولايته بعد ثمانين من الهجرة وقد مات عامة الصحابة، قيل: إنه لم يبق بالمدينة إلا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فإنه آخر من مات بها في سنة ثمان وسبعين قبل إدخال الحجرة بعشر سنين.
ففي حياة عائشة رضي الله عنها كان الناس يدخلون عليها لسماع الحديث، ولاستفتائها، وزيارتها، من غير أن يكون إذا دخل أحد يذهب إلى القبر المكرم، لا لصلاة ولا لدعاء ولا غير ذلك بل ربما طلب بعض الناس منها أن تريه القبور فتريه إياهن، وهي قبور لا لاطئة ولا مشرفة، مبطوحة ببطحاء العرصة. وقد اختلف هل كانت مسنمة أو مسطحة، والذي في البخاري أنها مسنمة. قال سفيان التمار: إنه رأي قبر النبي ﷺ مسنما، لكن كان الداخل يسلم على النبي ﷺ لقوله: (ما من أحد يسلم على إلا رد الله عليه روحي حتى أرد عليه السلام). وهذا السلام مشروع لمن كان يدخل الحجرة. وهذا السلام هو القريب الذي يرد النبي ﷺ على صاحبه. وأما السلام المطلق الذي يفعل خارج الحجرة وفي كل مكان فهو مثل السلام عليه في الصلاة، وذلك مثل الصلاة عليه، والله هو الذي يصلي على من يصلي عليه مرة عشرًا، ويسلم على من يسلم عليه مرة عشرًا. فهذا هو الذي أمر به المسلمون خصوصا للنبي ﷺ، بخلاف السلام عليه عند قبره، فإن هذا قدر مشترك بينه وبين جميع المؤمنين، فإن كل مؤمن يسلم عليه عند قبره كما يسلم عليه في الحياة عند اللقاء وأما الصلاة والسلام في كل مكان والصلاة على التعيين فهذا إنما أمر به في حق النبي ﷺ، فهو الذي أمر الله العباد أن يصلوا عليه ويسلموا تسليما. صلي الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
فحجر نسائه كانت خارجة عن المسجد شرقيه وقبليه؛ ولهذا قال ﷺ: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة). هذا لفظ الصحيحين، ولفظ: (قبري) ليس في الصحيح، فإنه حينئذ لم يكن قبر.
ومسجده إنما فضل به ﷺ لأنه هو الذي بناه وأسسه على التقوي. وقد ثبت في الصحيحين عنه أنه قال: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام). وجمهور العلماء على أن المسجد الحرام أفضل المساجد والصلاة فيه بمائة ألف صلاة، هكذا روي أحمد والنسائي وغيرهما بإسناد جيد. والمسجد الحرام هو فضل به وبإبراهيم الخليل، فإن إبراهيم الخليل بني البيت ودعا الناس إلى حجه بأمره تعالى، ولم يوجبه على الناس ولهذا لم يكن الحج فرضا في أول الإسلام، وإنما فرض في آخر الأمر. والصحيح أنه إنما فرض سنة نزلت آل عمران لما وفد أهل نجران سنة تسع أو عشر. ومن قال: في سنة ست فإنما استدل بقوله تعالى: { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } [266]. فإن هذه نزلت عام الحديبية باتفاق الناس، لكن هذه الآية فيها الأمر بإتمامه بعد الشروع فيه، ليس فيها إيجاب ابتداء به، فالبيت الحرام كان له فضيلة بناء إبراهيم الخليل ودعاء الناس إلى حجه، وصارت له فضيلة ثانية، فإن محمدًا ﷺ هو الذي أنقذه من أيدي الشمركين ومنعه منهم. وهو الذي أوجب حجه على كل مستطيع. وقد حجه الناس من مشارق الأرض ومغاربها، فعبد الله فيه بسبب محمد ﷺ أضعاف ما كان يعبد الله فيه قبل ذلك، وأعظم مما كان يعبد، فإن محمدًا ﷺ سيد ولد آدم.
ولما مات دفن في حجرة عائشة، قالت: قال رسول الله ﷺ في مرض موته: (لعن الله إليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما فعلوا. قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا. وفي صحيح مسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك). وفي صحيح مسلم أيضا أنه قال: (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها). فنهى ﷺ عن اتخاذ القبور مساجد، وعن الصلاة إليها، ولعن إليهود والنصارى لكونهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ لأن هذا كان هو أول أسباب الشرك في قوم نوح، قال اللّه تعالى عنهم: { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا } [267]. قال ابن عباس وغيره من السلف: هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم. فهو ﷺ لكمال نصحه لأمته حذرهم أن يقعوا فيما وقع فيه المشركون وأهل الكتاب، فنهاهم عن اتخاذ القبور مساجد، وعن الصلاة إليها لئلا يتشبهوا بالكفار، كما نهاهم عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها لئلا يتشبهوا بالكفار.
ولهذا لما أدخلت الحجرة في مسجده المفضل في خلافة الوليد بن عبد الملك كما تقدم بنوا عليها حائطا وسنموه وحرفوه لئلا يصلي أحد إلى قبره الكريم ﷺ. وفي موطأ مالك عنه أنه قال: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). وقد استجاب الله دعوته فلم يتخذ ولله الحمد وثنًا، كما اتخذ قبر غيره، بل ولا يتمكن أحد من الدخول إلى حجرته بعد أن بنيت الحجرة. وقبل ذلك ما كانوا يمكنون أحدًا من أن يدخل إليه ليدعو عنده، ولا يصلي عنده، ولا غير ذلك مما يفعل عند قبر غيره. لكن من الجهال من يصلي إلى حجرته، أو يرفع صوته أو يتكلم بكلام منهى عنه، وهذا إنما يفعل خارجا عن حجرته لا عند قبره. وإلا فهو ولله الحمد استجاب الله دعوته فلم يمكن أحد قط أن يدخل إلى قبره فيصلي عنده أو يدعو أو يشرك به كما فعل بغيره اتخذ قبره وثنًا، فإنه في حياة عائشة رضي الله عنها ما كان أحد يدخل إلا لأجلها، ولم تكن تمكن أحدًا أن يفعل عند قبره شيئا مما نهى عنه، وبعدها كانت مغلقة إلى أن أدخلت في المسجد فسد بابها وبني عليها حائط آخر. كل ذلك صيانة له ﷺ أن يتخذ بيته عيدًا وقبره وثنا، وإلا فمعلوم أن أهل المدينة كلهم مسلمون، ولا يأتي إلى هناك إلا مسلم، وكلهم معظمون للرسول ﷺ، وقبور آحاد أمته في البلاد معظمة. فما فعلوا ذلك ليستهان بالقبر المكرم، بل فعلوه لئلا يتخذ وثنا يعبد، ولا يتخذ بيته عيدًا. ولئلا يفعل به كما فعل أهل الكتاب بقبور أنبيائهم. والقبر المكرم في الحجرة إنما عليه بطحاء وهو الرمل الغليظ ليس عليه حجارة ولا خشب، ولا هو مطين كما فعل بقبور غيره.
وهو ﷺ إنما نهى عن ذلك سدًا للذريعة، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، لئلا يفضي ذلك إلى الشرك. ودعا الله عز وجل ألا يتخذ قبره وثنا يعبد؛ فاستجاب الله دعاءه ﷺ، فلم يكن مثل الذين اتخذت قبورهم مساجد فإن أحدًا لا يدخل عنده قبره البتة، فإن من كان قبله من الأنبياء إذ ابتدع أممهم بدعة بعث الله نبيا ينهى عنها. وهو ﷺ خاتم الأنبياء لا نبي بعده، فعصم الله أمته أن تجتمع على ضلالة، وعصم قبره المكرم أن يتخذ وثنا، فإن ذلك والعياذ بالله لو فعل لم يكن بعده نبي ينهى عن ذلك، وكان الذين يفعلون ذلك قد غلبوا الأمة، وهو ﷺ قد أخبر أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة، فلم يكن لأهل البدع سبيل أن يفعلوا بقبره المكرم كما فعل بقبور غيره ﷺ.
فصل أن السفر إلى مسجده وزيارة قبره في مناسك الحج عمل صالح مستحب
قد ذكرت فيما كتبته من المناسك أن السفر إلى مسجده وزيارة قبره كما يذكره أئمة المسلمين في مناسك الحج عمل صالح مستحب. وقد ذكرت في عدة مناسك الحج السنة في ذلك، وكيف يسلم عليه، وهل يستقبل الحجرة، أم القبلة؟ على قولين: فالأكثرون يقولون: يستقبل الحجرة، كمالك والشافعي وأحمد. وأبو حنيفة يقول: يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره في قول، وخلفه في قول؛ لأن الحجرة المكرمة لما كانت خارجة عن المسجد، وكان الصحابة يسلمون عليه لم يكن يمكن أحد أن يستقبل وجهه ﷺ ويستدبر القبلة، كما صار ذلك ممكنا بعد دخولها في المسجد، بل كان إن استقبل القبلة صارت عن يساره، وحينئذ فإن كانوا يستقبلونه ويستدبرون الغرب فقول الأكثرين أرجح، وإن كانوا يستقبلون القبلة حينئذ ويجعلون الحجرة عن يسارهم فقول أبي حنيفة أرجح.
والصلاة تقصر في هذا السفر المستحب باتفاق أئمة المسلمين، لم يقل أحد من أئمة المسلمين: إن هذا السفر لا تقصر فيه الصلاة. ولا نهى أحد عن السفر إلى مسجده، وإن كان المسافر إلى مسجده يزور قبره ﷺ، بل هذا من أفضل الأعمال الصالحة ولا في شيء من كلامي وكلام غيري نهى عن ذلك، ولا نهى عن المشروع في زيارة قبور الأنبياء والصالحين، ولا عن المشروع في زيارة سائر القبور، بل قد ذكرت في غير موضع استحباب زيارة القبور كما كان النبي ﷺ يزور أهل البقيع وشهداء أحد، ويعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم: (السلام عليكم أهل الديار من المومنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية. اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم). وإذا كانت زيارة قبور عموم المؤمنين مشروعة فزيارة قبور الأنبياء والصالحين أولي، لكن رسول الله ﷺ له خاصية ليست لغيره من الأنبياء والصالحين، وهو أنا أُمرنا أن نصلي عليه وأن نسلم عليه في كل صلاة، ويتأكد ذلك في الصلاة، وعند الأذان، وسائر الأدعية، وأن نصلي ونسلم عليه عند دخول المسجد مسجده وغير مسجده وعند الخروج منه، فكل من دخل مسجده فلا بد أن يصلي فيه ويسلم عليه في الصلاة. والسفر إلى مسجده مشروع، لكن العلماء فرقوا بينه وبين غيره حتى كره مالك رحمه الله أن يقال: زرت قبر النبي ﷺ؛ لأن المقصود الشرعي بزيارة القبور السلام عليهم والدعاء لهم، وذلك السلام والدعاء قد حصل على أكمل الوجوه في الصلاة في مسجده وغير مسجده، وعند سماع الأذان، وعند كل دعاء. فتشرع الصلاة عليه عند كل دعاء، فإنه { أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } [268].
ولهذا يسلم المصلي عليه في الصلاة قبل أن يسلم على نفسه وعلى سائر عباد الله الصالحين، فيقول: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين). ويصلي عليه فيدعو له قبل أن يدعو لنفسه. وأما غيره فليس عنده مسجد يستحب السفر إليه كما يستحب السفر إلى مسجده، وإنما يشرع أن يزار قبره كما شرعت زيارة القبور. وأما هو ﷺ فشرع السفر إلى مسجده ونهى عما يوهم أنه سفر إلى غير المساجد الثلاثة.
ويجب الفرق بين الزيارة الشرعية التي سنها رسول الله ﷺ، وبين الزيارة البدعية التي لم يشرعها بل نهى عنها، مثل اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، والصلاة إلى القبر، واتخاذه وثنا. وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (لا تُشَدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى). حتى إن أبا هريرة سافر إلى الطور الذي كلم الله عليه موسي بن عمران عليه السلام فقال له بَصْرَة بن أبي بَصْرَة الغفاري: لو أدركتك قبل أن تخرج لما خرجت، سمعت رسول الله ﷺ يقول: (لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، ومسجد بيت المقدس). فهذه المساجد شرع السفر إليها لعبادة الله فيها بالصلاة والقراءة والذكر والدعاء والاعتكاف، والمسجد الحرام مختص بالطواف لا يطاف بغيره.
وما سواه من المساجد إذا أتاها الإنسان وصلي فيها من غير سفر كان ذلك من أفضل الأعمال، كما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (من تطهر في بيته ثم خرج إلى المسجد كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة، والأخري ترفع درجة، والعبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة، والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلي فيه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث). ولو سافر من بلد إلى بلد مثل إن سافر إلى دمشق من مصر لأجل مسجدها أو بالعكس، أو سافر إلى مسجد قباء من بلد بعيد لم يكن هذا مشروعا باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم. ولو نذر ذلك لم يف بنذره باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، إلا خلاف شاذ عن الليث بن سعد في المساجد، وقاله ابن مسلمة من أصحاب مالك في مسجد قباء خاصة. ولكن إذا أتي المدينة استحب له أن يأتي مسجد قباء ويصلي فيه لأن ذلك ليس بسفر ولا بشد رحل؛ لأن النبي ﷺ كان يأتي مسجد قباء راكبًا وماشيا كل سبت، ويصلي فيه ركعتين، وقال: (من تطهر في بيته ثم أتي مسجد قباء كان له كعمرة). رواه الترمذي وابن أبي شيبة، وقال سعد بن أبي وقاص وابن عمر: صلاة فيه كعمرة.
ولو نذر المشي إلى مكة للحج والعمرة لزمه باتفاق المسلمين. ولو نذر أن يذهب إلى مسجد المدينة أو بيت المقدس ففيه قولان: أحدهما: ليس عليه الوفاء، وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، لأنه ليس من جنسه ما يجب بالشرع. والثاني: عليه الوفاء، وهو مذهب مالك وأحمد بن حنبل والشافعي في قوله الآخر؛ لأن هذا طاعة لله. وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي ﷺ أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه).
ولو نذر السفر إلى غير المساجد أو السفر إلى مجرد قبر نبي أو صالح لم يلزمه الوفاء بنذره باتفاقهم، فإن هذا السفر لم يأمر به النبي ﷺ، بل قد قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى). وإنما يجب بالنذر ما كان طاعة، وقد صرح مالك وغيره بأن من نذر السفر إلى المدينة النبوية إن كان مقصوده الصلاة في مسجد رسول الله ﷺ وَفَّي بنذره، وإن كان مقصوده مجرد زيارة القبر من غير صلاة في المسجد لم يف بنذره؛ لأن النبي ﷺ قال: (لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد). والمسألة ذكرها القاضي إسماعيل بن إسحاق في المبسوط ومعناها في المدونة والخلاف وغيرهما من كتب أصحاب مالك. يقول: إن من نذر إتيان مسجد النبي ﷺ لزمه الوفاء بنذره؛لأن المسجد لا يؤتي إلا للصلاة، ومن نذر إتيان المدينة النبوية، فإن كان قصده الصلاة في المسجد وَفَّي بنذره، وإن قصد شيئًا آخر مثل زيارة مَنْ بالبقيع أو شهداء أحُد لم يف بنذره؛ لأن السفر إنما يشرع إلى المساجد الثلاثة. وهذا الذي قاله مالك وغيره ما علمت أحدًا من أئمة المسلمين قال بخلافه، بل كلامهم يدل على موافقته.
وقد ذكر أصحاب الشافعي وأحمد في السفر لزيارة القبور قولين: التحريم، والإباحة. وقدماؤهم وأئمتهم قالوا: إنه محرم. وكذلك أصحاب مالك وغيرهم. وإنما وقع النزاع بين المتأخرين؛ لأن قوله ﷺ: (لا تشد الرجال إلا إلى ثلاثة مساجد) صيغة خبر ومعناه النهي، فيكون حراما. وقال بعضهم: ليس بنهى وإنما معناه: أنه لا يشرع وليس بواجب ولا مستحب، بل مباح كالسفر في التجارة وغيرها.
فيقال له: تلك الأسفار لا يقصد بها العبادة، بل يقصد بها مصلحة دنيوية مباحة، والسفر إلى القبور إنما يقصد بها العبادة، والعبادة إنما تكون بواجب أو مستحب، فإذا حصل الاتفاق على أن السفر إلى القبور ليس بواجب ولا مستحب كان من فعله على وجه التعبد مبتدعا مخالفًا للإجماع، والتعبد بالبدعة ليس بمباح، لكن من لم يعلم أن ذلك بدعة فإنه قد يعذر، فإذا بينت له السنة لم يجز له مخالفة النبي ﷺ ولا التعبد بما نهى عنه، كما لا تجوز الصلاة عند طلوع الشمس ولا عند غروبها، وكما لا يجوز صوم يوم العيدين، وإن كانت الصلاة والصيام من أفضل العبادات؛ ولو فعل ذلك إنسان قبل العلم بالسنة لم يكن عليه إثم. فالطوائف متفقة على أنه ليس مستحبا، وما علمت أحدا من أئمة المسلمين قال: إن السفر إليها مستحب، وإن كان قاله بعض الأتباع فهو ممكن، وأما الأئمة المجتهدون فما منهم من قال هذا. وإذا قيل هذا كان قولا ثالثا في المسألة، وحينئذ فيبين لصاحبه أن هذا القول خطأ مخالف للسنة ولإجماع الصحابة، فإن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في خلافة أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلى ومن بعدهم إلى انقراض عصرهم لم يسافر أحد منهم إلى قبر نبي ولا رجل صالح.
لم يسافرأحد من الصحابة إلى قبر الخليل عليه السلام بالشام
وقبر الخليل عليه السلام بالشام لم يسافر إليه أحد من الصحابة. وكانوا يأتون البيت المقدس فيصلون فيه ولا يذهبون إلى قبر الخليل عليه السلام. ولم يكن ظاهرًا بل كان في البناء الذي بناه سليمان بن داود عليهما السلام. ولا كان قبر يوسف الصديق يعرف، ولكن أظهر ذلك بعد أكثر من ثلاثمائة سنة من الهجرة، ولهذا وقع فيه نزاع، فكثير من أهل العلم ينكره، ونقل ذلك عن مالك وغيره؛ لأن الصحابة لم يكونوا يزورونه فيعرف. ولما استولي النصارى على الشام نقبوا البناء الذي كان على الخليل عليه السلام واتخذوا المكان كنيسة. ثم لما فتح المسلمون البلد بقي مفتوحا. وأما على عهد الصحابة فكان قبر الخليل مثل قبر نبينا ﷺ. ولم يكن أحد من الصحابة يسافر إلى المدينة لأجل قبر النبي ﷺ، بل كانوا يأتون فيصلون في مسجده ويسلمون عليه في الصلاة، ويسلم من يسلم عند دخول المسجد والخروج منه، وهو ﷺ مدفون في حجرة عائشة رضي الله عنها فلا يدخلون الحجرة، ولا يقفون خارجا عنها في المسجد عند السور. وكان يقدم في خلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب أمداد اليمن الذين فتحوا الشام والعراق، وهم الذين قال الله فيهم: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [269] ويصلون في مسجده كما ذكرنا، ولم يكن أحد يذهب إلى القبر، ولا يدخل الحجرة، ولا يقوم خارجها في المسجد، بل السلام عليه من خارج الحجرة. وعمدة مالك وغيره فيه على فعل ابن عمر رضي الله عنهما.
وبكل حال فهذا القول لو قاله نصف المسلمين لكان له حكم أمثاله من الأقوال في مسائل النزاع. فأما أن يجعل هو الدين الحق، وتستحل عقوبة من خالفه، أو يقال بكفره، فهذا خلاف إجماع المسلمين، وخلاف ما جاء به الكتاب والسنة. فإن كان المخالف للرسول في هذه المسألة يكفر فالذي خالف سنته وإجماع الصحابة وعلماء أمته فهو الكافر. ونحن لا نكفر أحدا من المسلمين بالخطأ، لا في هذه المسائل ولا في غيرها. ولكن إن قدر تكفير المخطئ فمن خالف الكتاب والسنة والإجماع إجماع الصحابة والعلماء أولي بالكفر ممن وافق الكتاب والسنة والصحابة وسلف الأمة وأئمتها، فأئمة المسلمين فرقوا بين ما أمر به النبي ﷺ وبين ما نهى عنه في هذا وغيره، فما أمر به هو عبادة وطاعة وقربة، وما نهى عنه بخلاف ذلك، بل قد يكون شركا، كما يفعله أهل الضلال من المشركين وأهل الكتاب ومن ضاهاهم حيث يتخذون المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، ويصلون إليها، وينذرون لها، ويحجون إليها، بل قد يجعلون الحج إلى بيت المخلوق أفضل من الحج إلى بيت اللّه الحرام. ويسمون ذلك الحج الأكبر، وصنف لهم شيوخهم في ذلك مصنفات، كما صنف المفيد بن النعمان كتابا في مناسك المشاهد سماه مناسك حج المشاهد، وشبه بيت المخلوق ببيت الخالق.
وأصل دين الإسلام: أن نعبد اللّه وحده ولا نجعل له من خلقه ندا ولا كفوا ولا سَمِيا، قال تعالى: { فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [270]، وقال تعالى: { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [271]، وقال تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [272]، وقال تعالى: { فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [273]. وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قلت: يارسول اللّه، أي الذنب أعظم ؟ قال: (أن تجعل للّه ندا وهو خلقك). قلت: ثم أي؟ قال: (أن تقتل ولدك خَشْية أن يطعم معك). قلت: ثم أي؟ قال: (أن تزاني بحليلة جارك. فأنزل اللّه تصديق رسوله: { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } الآية [274]، وقال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ } [275]. فمن سوي بين الخالق والمخلوق في الحب له أو الخوف منه والرجاء له فهو مشرك.
والنبي ﷺ نهى أمته عن دقيق الشرك وجليله حتى قال ﷺ: (من حلف بغير اللّه فقد أشرك). رواه أبو داود وغيره. وقال له رجل: ما شاء اللّه وشئت، فقال: (أجعلتني للّه ندا؟ بل ما شاء اللّه وحده)، وقال: (لا تقولوا ما شاء اللّه وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء اللّه ثم شاء محمد)، وجاء معاذ بن جبل مرة فسجد له، فقال: (ماهذا يامعاذ؟) فقال: يا رسول اللّه، رأيتهم في الشام يسجدون لأساقفتهم. فقال: (يامعاذ، إنه لا يصلح السجود إلا للّه، ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها). فلهذا فرق النبي ﷺ بين زيارة أهل التوحيد وبين زيارة أهل الشرك، فزيارة أهل التوحيد لقبور المسلمين تتضمن السلام عليهم والدعاء لهم، وهي مثل الصلاة على جنائزهم؛ وزيارة أهل الشرك تتضمن أنهم يشبهون المخلوق بالخالق، ينذرون له ويسجدون له، ويدعونه، ويحبونه مثل ما يحبون الخالق، فيكونون قد جعلوه للّه ندا وسووه برب العالمين.
نهى الله أن يشرك به الملائكة والأنبياء وغيرهم
وقد نهى اللّه أن يشرك به الملائكة والأنبياء وغيرهم، فقال تعالى: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [276]، وقال تعالى: { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [277]. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الأنبياء كالمسيح وعزير ويدعون الملائكة، فأخبرهم تعالى أن هؤلاء عبيده، يرجون رحمته ويخافون عذابه ويتقربون إليه بالأعمال.
ونهى سبحانه أن يضرب له مثل بالمخلوق، فلا يشبه بالمخلوق الذي يحتاج إلى الأعوان والحجاب ونحو ذلك، قال تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [278]، وقال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [279].
ومحمد ﷺ سيد الشفعاء لديه، وشفاعته أعظم الشفاعات، وجاهه عند اللّه أعظم الجاهات، ويوم القيامة إذا طلب الخلق الشفاعة من آدم، ثم من نوح، ثم من إبراهيم، ثم من موسي، ثم من عيسي، كل واحد يحيلهم على الآخر، فإذا جاؤوا إلى المسيح يقول: اذهبوا إلى محمد، عَبْدٌ غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال: (فأذهب، فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا، وأحمد ربي بمحامد يفتحها على لا أحسنها الآن، فيقال: أي محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع). قال: (فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة) الحديث.
فمن أنكر شفاعة نبينا ﷺ في أهل الكبائر فهو مبتدع ضال؛ كما ينكرها الخوارج والمعتزلة. ومن قال: إن مخلوقا يشفع عند اللّه بغير إذنه فقد خالف إجماع المسلمين ونصوص القرآن، قال تعالى: { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [280]، وقال تعالى: { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } [281]، وقال تعالى: { وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى } [282]، وقال تعالى: { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } [283]، وقال تعالى: { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } [284]، وقال تعالى: { مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } [285]. ومثل هذا في القرآن كثير. فالدين هو متابعة النبي ﷺ بأن يؤمر بما أمر به، وينهى عما نهى عنه، ويحب ما أحبه اللّه ورسوله من الأعمال والأشخاص، ويبغض ما أبغضه اللّه ورسوله من الأعمال والأشخاص. واللّه سبحانه وتعالى قد بعث رسوله محمدا ﷺ بالفرقان، ففرق بين هذا وهذا، فليس لأحد أن يجمع بين ما فرق اللّه بينه.
فمن سافر إلى المسجد الحرام أو المسجد الأقصى أو مسجد الرسول ﷺ، فصلي في مسجده، وصلي في مسجد قباء، وزار القبور كما مضت به سنة رسول اللّه ﷺ فهذا هو الذي عمل العمل الصالح. ومن أنكر هذا السفر فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وأما من قصد السفر لمجرد زيارة القبر ولم يقصد الصلاة في مسجده، وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده ﷺ ولاسلم عليه في الصلاة، بل أتي القبر ثم رجع، فهذا مبتدع ضال، مخالف لسنة رسول اللّه ﷺ، ولإجماع أصحابه، ولعلماء أمته. وهو الذي ذكر فيه القولان: أحدهما: أنه محرم، والثاني: أنه لا شيء عليه ولا أجر له. والذي يفعله علماء المسلمين هو الزيارة الشرعية، يصلون في مسجده ﷺ، ويسلمون عليه في الدخول للمسجد وفي الصلاة، وهذا مشروع باتفاق المسلمين.
وقد ذكرت هذا في المناسك، وفي الفتيا، وذكرت أنه يسلم على النبي ﷺ وعلى صاحبيه. وهذا هو الذي لم أذكر فيه نزاعا في الفتيا، مع أن فيه نزاعا؛ إذ من العلماء من لا يستحب زيارة القبور مطلقا، ومنهم من يكرهها مطلقا، كما نقل ذلك عن إبراهيم النخعي والشعبي، ومحمد بن سيرين، وهؤلاء من أجلة التابعين. ونقل ذلك عن مالك. وعنه أنها مباحة ليست مستحبة. وهو أحد القولين في مذهب أحمد؛ لكن ظاهر مذهبه ومذهب الجمهور: أن الزيارة الشرعية مستحبة. وهو أن يزور قبور المؤمنين للدعاء لهم، فيسلم عليهم ويدعو لهم. وتزار قبور الكفار؛ لأن ذلك يذكر الآخرة.
وأما النبي ﷺ فله خاصة لا يماثله فيها أحد من الخلق، وهو أن المقصود عند قبر غيره من الدعاء له هو مأمور في حق الرسول في الصلوات الخمس، وعند دخول المساجد والخروج منها، وعند الأذان، وعند كل دعاء. وهو قد نهى عن اتخاذ القبور مساجد، ونهى أن يتخذ قبره عيدا، وسأل اللّه ألا يجعله وَثَنًا يعْبَد. فمنع أحد أن يدخل إلى قبره فيزوره كما يدخل إلى قبر غيره. وكل ما يفعل في مسجده وغير مسجده من الصلاة والسلام عليه أمر خصه اللّه وفضله به على غيره، وأغناه بذلك عما يفعل عند قبر غيره وإن كان جائزا.
وأما اتخاذ القبور مساجد فهذا ينهى عنه عند كل قبر، وإن كان المصلي إنما يصلي للّه ولا يدعو إلا اللّه. فكيف إذا كان يدعو المخلوق أو يسجد له وينذر له ونحو ذلك مما يفعله أهل الشرك والبدع والضلالة؟!
وأما إذا قدر أن من أتي المسجد فلم يصل فيه، ولكن أتي القبر ثم رجع، فهذا هو الذي أنكره الأئمة كمالك وغيره، وليس هذا مستحبا عند أحد من العلماء، وهو محل النزاع هل هو حرام أو مباح؟ وما علمنا أحدا من علماء المسلمين استحب مثل هذا، بل أنكروا إذا كان مقصوده بالسفر مجرد القبر من غير أن يقصد الصلاة في المسجد، وجعلوا هذا من السفر المنهى عنه. ولا كان أحد من السلف يفعل هذا، بل كان الصحابة إذا سافروا إلى مسجده صلوا فيه واجتمعوا بخلفائه مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلى، يسلمون عليه ويصلون عليه في الصلاة، ويفعل ذلك من يفعله منهم عند دخول المسجد والخروج منه. ولم يكونوا يذهبون إلى القبر. وهذا متواتر عنهم، لا يقدر أحد أن ينقل عنهم أو عن واحد منهم أنه كان إذا صلي خلف الخلفاء الراشدين يذهب في ذلك الوقت أو غيره يقف عند الحجرة خارجا منها. وأما دخول الحجرة فلم يكن يمكنهم.
فإذا كانوا بعد السفر إلى مسجده يفعلون ما سنه لهم في الصلاة والسلام عليه ولا يذهبون إلى قبره، فكيف يقصدون أن يسافروا إليه؟ أو يقصدون بالسفر إليه دون الصلاة في المسجد؟ ومن قال: إن هذا مستحب فلينقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين، ثم إذا نقله يكون قائله قد خالف أقوال العلماء كما خالف فاعله فعل الأمة، وخالف سنة رسول اللّه ﷺ وإجماع أصحابه وعلماء أمته. قال تعالى: { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا } [286]. و(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي).
وعلماء المسلمين قد ذكروا في مناسكهم استحباب السفر إلى مسجده، وذكروا زيارة قبره المكرم، وما علمت أحدا من المسلمين قال: إنه من لم يقصد إلا زيارة القبر يكون سفره مستحبا، ولو قالوا ذلك في قبر غيره، لكن هذا لم يقصده بعض الناس ممن لا يكون عارفا بالشريعة وبما أمر به النبي ﷺ ونهى عنه، وغايته أن يعذر بجهله، ويعفو اللّه عنه. وأما من يعرف ما أمر اللّه به ورسوله، وما نهى اللّه عنه ورسوله، فهؤلاء كلهم ليس فيهم من أمر بالسفر لمجرد زيارة قبر، لا نبي ولا غير نبي، بل صرح أكابرهم بتحريم مثل هذا السفر من أصحاب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم. وإنما قال: إنه مباح غير محرم طائفة من متأخري أصحاب الشافعي وأحمد.
وتنازعوا حينئذ فيمن سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، هل يقصر الصلاة؟ على قولين، كما ذكر في جواب الفتيا. وبعضهم فرق بين قبور الأنبياء وغيرهم، وقال: إن السفر لمجرد زيارة القبور محرم، كما هو مذهب مالك وأصحابه وقول المتقدمين من أصحاب الشافعي وأحمد. فهؤلاء عندهم أن العاصي بسفره لا يقصر الصلاة. فعلى قولهم لا تقصر الصلاة، لكن الذين يسافرون لا يعلمون أن هذا محرم، ومن علم أنه محرم لم يفعله، فإنه لا غرض لمسلم أن يتقرب إلى اللّه بالمحرم. وحينئذ فسفرهم الذي لم يعلموا أنه محرم إذا قصروا فيه الصلاة كان ذلك جائزا ولا إعادة عليهم، كما لو سافر الرجل لطلب العلم أو سماع الحديث من شخص فوجده كذابا أو جاهلا، فإن قصر الصلاة في مثل هذا السفر جائز.
وقد ذكر أصحاب أحمد في السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين هل تقصر فيها الصلاة؟ أربعة أقوال: قيل: لا يقصر مطلقا. وقيل: يقصر مطلقا. وقيل: لا يقصر إلا إلى قبر نبينا ﷺ. وقيل: لا يقصر إلا إلى قبره المكرم وقبور الأنبياء دون قبور الصالحين، والذين استثنوا قبر نبينا ﷺ لقولهم وجهان:
أحدهما وهو الصحيح: أن السفر المشروع إليه هو السفر إلى مسجده، وهذا السفر تقصر فيه الصلاة بإجماع المسلمين. وهؤلاء راعوا مطلق السفر، ولم يفصلوا بين قصد وقصد؛ إذ كان عامة المسلمين لابد أن يصلوا في مسجده، فكل من سافر إلى قبره المكرم فقد سافر إلى مسجده المفضل. وكذلك قال بعض أصحاب الشافعي. فمن نذر زيارة قبر النبي ﷺ أنه يوفي بنذره، وإن نذر قبر غيره فوجهان. وكذلك كثير من العلماء يطلق السفر إلى قبره المكرم، وعندهم أن هذا يتضمن السفر إلى مسجده؛ إذ كان كل مسلم لابد إذا أتي الحجرة المكرمة أن يصلي في مسجده، فهما عندهم متلازمان. ثم من هؤلاء من يقول: المسلم لابد أن يقصد في ابتداء السفر الصلاة في مسجده، فالسفر المأمور به لازم، وهؤلاء لم يسافروا لمجرد القبر. ومنهم من قال: بل السفر لمجرد قصد القبر جائز، وظن هؤلاء أن الاستثناء ليس لخصوصه بل لكونه نبيا فقال: تقصر الصلاة في السفر إلى قبور الأنبياء دون غيرهم.
وحقيقة الأمر: أن فعل الصلاة في مسجده من لوازم هذا السفر، فكل من سافر إلى قبره المكرم لابد أن تحصل له طاعة وقربة يثاب عليها بالصلاة في مسجده. وأما نفس القصد فأهل العلم بالحديث يقصدون السفر إلى مسجده، وإن قصد منهم من قصد السفر إلى القبر أيضا، إذا لم يعلم أنه منهى عنه. وأما من لم يعرف هذا فقد لا يقصد إلا السفر إلى القبر، ثم إنه لابد أن يصلي في مسجده فيثاب على ذلك. وما فعله وهو منهى عنه ولم يعلم أنه منهى عنه لا يعاقب عليه، فيحصل له أجر ولا يكون عليه وزر، بخلاف السفر إلى قبر غيره، فإنه ليس عنده شيء يشرع السفر إليه، لكن قد يفعل هذا طاعة يثاب عليها ويغفر له ما جهل أنه محرم.
والصلاة في المساجد المبنية على القبور منهى عنها مطلقا، بخلاف مسجده، فإن الصلاة فيه بألف صلاة؛ فإنه أسس على التقوي، وكان حرمته في حياته ﷺ وحياة خلفائه الراشدين قبل دخول الحجرة فيه، حين كان النبي ﷺ يصلي فيه والمهاجرون والأنصار، والعبادة فيه إذ ذاك أفضل وأعظم مما بقي بعد إدخال الحجرة فيه، فإنها إنما أدخلت بعد انقراض عصر الصحابة في إمارة الوليد بن عبد الملك، وهو تولي سنة بضع وثمانين من الهجرة النبوية، كما تقدم.
وظن بعضهم أن الاستثناء لكونه نبيا، فعدي ذلك فقالوا: يسافر إلى سائر قبور الأنبياء كذلك.
ولهذا تنازع الناس: هل يحلف بالنبي ﷺ؟ مع اتفاقهم بأنه لا يحلف بشيء من المخلوقات المعظمة كالعرش والكرسي والكعبة والملائكة. فذهب جمهور العلماء؛ كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد في أحد قوليه إلى أنه لا يحلف بالنبي، ولا تنعقد اليمين، كما لا يحلف بشيء من المخلوقات، ولا تجب الكفارة على من حلف بشيء من ذلك وحنث، فإنه ﷺ قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (لا تحلفوا إلا باللّه). وقال: (من كان حالفا فليحلف باللّه أو ليصمت). وفي السنن: (من حلف بغير اللّه فقد أشرك). وعن أحمد بن حنبل رواية أنه يحلف بالنبي ﷺ خاصة؛ لأنه يجب الإيمان به خصوصا، ويجب ذكره في الشهادتين والأذان. فللإيمان به اختصاص لا يشركه فيه غيره. وقال ابن عقيل: بل هذا لكونه نبيا. وطرد ذلك في سائر الأنبياء، مع أن الصواب الذي عليه عامة علماء المسلمين سلفهم وخلفهم أنه لا يحلف بمخلوق لا نبي ولا غير نبي، ولا ملك من الملائكة، ولا ملك من الملوك، ولا شيخ من الشيوخ.
والنهي عن ذلك نهى تحريم عند أكثرهم كمذهب أبي حنيفة وغيره، وهو أحد القولين في مذهب أحمد، كما تقدم، حتى إن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما يقول أحدهم: لأن أحلف باللّه كاذبا أحب اليمن أن أحلف بغير اللّه صادقا. وفي لفظ: لأن أحلف باللّه كاذبا أحب إلى من أن أضاهي. فالحلف بغير اللّه شرك، والشرك أعظم من الكذب. وغاية الكذب أن يشبه بالشرك. كما في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (عدلت شهادة الزور بالإشراك باللّه) قالها مرتين أو ثلاثا. وقرأ قوله تعالى: { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [287]، وهذا المنهى عنه، بل المحرم الذي هو أعظم من اليمين الفاجرة عند الصحابة رضوان اللّه عليهم قد ظن طائفة من أهل العلم أنه مشروع غير منهى عنه؛ ولهذا نظائر كثيرة، لكن قال اللّه تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } [288]، وما أمر اللّه ورسوله به فهو الحق.
وهو ﷺ نهى عن الحلف بغير الله، وعن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها، وعن اتخاذ القبور مساجد، واتخاذ قبره عيدًا، ونهى عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة، وأمثال ذلك لتحقيق إخلاص الدين للّه. وعبادة اللّه وحده لا شريك له. فهذا كله محافظة على توحيد اللّه عز وجل، وأن يكون الدين كله للّه، فلا يعبد غيره ولا يتوكل إلا عليه، ولا يدعي إلا هو، ولا يتقي إلا هو، ولا يصلي ولا يصام إلا له، ولا ينذر إلا له، ولا يحلف إلا به، ولا يحج إلا إلى بيته. فالحج الواجب ليس إلا إلى أفضل بيوته. وأقدمها، وهو المسجد الحرام. والسفر المستحب ليس إلا إلى مسجدين لكونهما بناهما نبيان. فالمسجد النبوي مسجد المدينة أسسه على التقوي خاتم المرسلين، ومسجد إيليا قد كان مسجدا قبل سليمان. ففي الصحيحين عن أبي ذر رضي اللّه عنه قلت: يا رسول اللّه، أي مسجد وضع أولا؟ قال: (المسجد الحرام). قال: قلت: ثم أي؟ قال: (المسجد الأقصى). قلت: كم بينهما ؟ قال: (أربعون سنة، ثم حيثما أدركتك الصلاة فَصَلِّ، فإنه لك مسجد). وفي لفظ البخاري: (فإن فيه الفضل). وهذه سنة رسول اللّه ﷺ، كان يصلي حيث أدركته الصلاة. فالمسجد الأقصى كان من عهد إبراهيم عليه السلام لكن سليمان عليه السلام بناه بناء عظيما. فكل من المساجد الثلاثة بناه نبي كريم ليصلي فيه هو والناس.
فلما كانت الأنبياء عليهم السلام تقصد الصلاة في هذين المسجدين شرع السفر إليهما للصلاة فيهما والعبادة، اقتداء بالأنبياء عليهم السلام وتأسيا بهم. كما أن إبراهيم الخليل عليه السلام لما بني البيت وأمره اللّه تعالى أن يؤذن في الناس بحجه، فكانوا يسافرون إليه من زمن إبراهيم عليه السلام ولم يكن ذلك فرضا على الناس في أصح القولين، كما لم يكن ذلك مفروضا في أول الإسلام، وإنما فرضه اللّه على محمد ﷺ في آخر الأمر لما نزلت سورة آل عمران. وفي البقرة أمر بإتمام الحج والعمرة لمن شرع فيهما؛ ولهذا كان التطوع بهما يوجب إتمامهما عند عامة العلماء. وقيل: إن الأمر بالإتمام إيجاب لهما ابتداء، والأول هو الصحيح. فكذلك المسجد الأقصى ومسجد النبي ﷺ بني كلا منهما رسول كريم، ودعا الناس إلى السفر إليهما للعبادة فيهما. ولم يبن أحد من الأنبياء عليهم السلام مسجدا ودعا الناس إلى السفر للعبادة فيه إلا هذه المساجد الثلاثة. ولكن كان لهم مساجد يصلون فيها، ولم يدعوا الناس إلى السفر إليها، كما كان إبراهيم عليه السلام يصلي في موضعه، وإنما دعا الناس إلى حج البيت. ولا دعا نبي من الأنبياء إلى السفر إلى قبره ولا بيته ولا مقامه ولا غير ذلك من آثاره، بل هم دعوا إلى عبادة اللّه وحده لا شريك له، قال تعالى لما ذكرهم: { ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَي اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } [289].
لا يجوز تغيير واحد من هذه المساجد الثلاثة عن موضعه
ولهذا لا يجوز تغيير واحد من هذه المساجد الثلاثة عن موضعه. وأما سائر المساجد ففضيلتها من أنها مسجد لله وبيت يصلى فيه، وهذا قدر مشترك بين المساجد، وإن كان بعضها تكثر العبادة فيه، أو لكونه أعتق من غيره ونحو ذلك، فهذه المزية موجودة في عامة المساجد، بعضها أكثر عبادة من بعض، وبعضها أعتق من بعض. فلو شرع السفر لذلك لسوفر إلى عامة المساجد.
والسفر إلى البقاع المعظمة هو من جنس الحج، ولكل أمة حج، فالمشركون من العرب كانوا يحجون إلى اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وغير ذلك من الأوثان؛ ولهذا لما قال الحبر الذي بشر بالنبي ﷺ لأمية بن أبي الصلت: إنه قد أظل زمان نبي يبعث، وهو من بيت يحجه العرب. فقال أمية: نحن معشر ثقيف، فينا بيت يحجه العرب، فقال الحبر: إنه ليس منكم، إنه من إخوانكم من قريش. فأخبر أمية أن العرب كانت تحج إلى اللات. وقد ذكر طائفة من السلف أن هذا كان رجلا يلت السويق للحاج ويطعمهم إياه، فلما مات عكفوا على قبره وصار وثنًا يحج إليه، ويصلى له، ويدعي من دون الله، وقرأ جماعة من السلف: ((أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَّ))، بتشديد التاء، وكانت اللات لأهل الطائف، والعزى لأهل مكة، ومَنَاة لأهل المدينة؛ ولهذا قال أبو سفيان يوم أحد، لما جعل يرتجز فقال: أعل هُبَل. فقال النبي ﷺ: (ألا تجيبوه؟) قالوا: وما نقول؟ قال: ( قولوا: الله أعلى وأجل). فقال أبو سفيان: إنا لنا العزى ولا عزي لكم. فقال النبي ﷺ: (ألا تجيبوه؟). قالوا: وما نقول؟ قال: (قولوا: الله مولانا ولا مولي لكم).
السفر إلى البقاع المعظمة من جنس الحج عند أهل الشرك
فالسفر إلى البقاع المعظمة من جنس الحج، والمشركون من أجناس الأمم يحجون إلى آلهتهم، كما كانت العرب تحج إلى اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى. وهم مع ذلك يحجون إلى البيت ويطوفون به ويقفون بعرفات؛ ولهذا كانوا تارة يعبدون الله، وتارة يعبدون غيره. وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، ولهذا قال تعالى: { ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } [290]، يقول تعالى: إذا كان أحدكم لا يرضي أن يكون مملوكه شريكًا له مثل نفسه فكيف تجعلون مملوكي شريكًا لي؟ وكل ما سوي الله من الملائكة والنبيين والصالحين وسائر المخلوقات هو مملوك له، وهو سبحانه ولا إله إلا هو، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. ولهذا جعل الشرك بالملائكة والأنبياء كفرًا، فقال تعالى: { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [291]. وذم النصارى على شركهم فقال تعالى: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [292].
والمشركون في هذه الأزمان من الهند وغيرهم يحجون إلى آلهتهم كما يحجون إلى سمناة وغيره من آلهتهم. وكذلك النصارى يحجون إلى قمامة وبيت لحم، ويحجون إلى القونة التي بصيدنايا، والقونة: الصورة وغير ذلك من كنائسهم التي بها الصور التي يعظمونها ويدعونها ويستشفعون بها. وقد ذكر العلماء من أهل التفسير والسير وغيرهم أن أبرهة ملك الحبشة، الذي ساق الفيل إلى مكة ليهدمها، حين استولت الحبشة على اليمن وقهروا العرب. ثم بعد هذا وفد سيف بن ذي يزن فاستنجد كسري ملك الفرس، فأنجده بجيش حتى أخرج الحبشة عنها وهو ممن بشر بالنبي ﷺ. وكانت آية الفيل التي أظهر الله تعالى بها حرمة الكعبة لما أرسل عليهم الطير الأبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، أي جماعات متفرقة، والحجارة من سجيل طين قد استحجر، وكان عام مولد النبي ﷺ. وهو من دلائل نبوته، وأعلام رسالته، ودلائل شريعته. والبيت الذي لا يحج ولا يصلى إليه إلا هو وأمته.
قالوا: كان أبرهة قد بني كنيسة بأرض اليمن، وأراد أن يصرف حج العرب إليها، فدخل رجل من العرب فأحدث في الكنيسة، فغضب لذلك أبرهة، وسافر إلى الكعبة ليهدمها، حتى جري ما جري. قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ } [293]. وهذا معروف عند عامة العلماء من أهل التفسير والسير وغيرهم، أنه بني كنيسة أراد أن يصرف حج العرب إليها. ومعلوم أنه إنما أراد أن يفعل فيها ما يفعله في كنائس النصارى. فدل على أن السفر إلى الكنائس عندهم هو من جنس الحج عند المسلمين وأنه يسمي حجًا، ويضاهي به البيت الحرام، و أن من قصد أن يجعل بقعة للعبادة فيها كما يسافر إلى المسجد الحرام فإنه قصد ما هو عبادة من جنس الحج. والنبي ﷺ نهي أن يحج أحد أو يسافر إلى غير المساجد الثلاثة، والحج الواجب الذي يسمي عند الإطلاق حجًا إنما هو إلى المسجد الحرام خاصة. والسفر إلى بقعة للعبادة فيها هو إلى المسجدين، وما سوي ذلك من الأسفار إلى مكان معظم هو من جنس الحج إليه، وذلك منهي عنه.
وكذلك في حديث أبي سفيان لما اجتمع بأمية بن أبي الصلت الثقفي، وذكر عن عالم من علماء النصارى أنه أخبره بقرب نبي يبعث من العرب، قال أمية: قلت: نحن من العرب. قال: إنه من أهل بيت يحجه العرب. قال: فقلت: نحن معشر ثقيف، فينا بيت يحجه العرب. قال: إنه ليس منكم، إنه من إخوانكم قريش، كما تقدم. وثقيف كان فيهم اللات المذكورة في القرآن في قوله تعالى: { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى } [294]، وقد ذكروا أنها مكان رجل كان يلت السويق ويسقيه للحجاج، فلما مات عكفوا على قبره، وصار ذلك وثنًا عظيمًا يعبد. والسفر إليه كان يسمونه حجًا، كما تقدم، فدل ذلك على أن السفر إلى المشاهد حج إليها، كما يقول من يقول من العامة: وحق النبي الذي تحج المطايا إليه.
قال عبد بن حميد في تفسيره: حدثنا قَبيصة، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى } [295]، قال: كان رجل يلت السويق فمات، فاتخذ قبره مصلى. وقال: حدثنا سليمان بن داود، عن أبي الأشهب، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس قال: (اللات) رجل يلت السويق للحجاج. وكذلك رواه ابن أبي حاتم عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: كان يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن، فعبدوه. وروي عن الأعمش قال: كان مجاهد يقرأ اللاتَّ مثقلة، ويقول: كان رجل يلت السويق على صخرة في طريق الطائف ويطعمه الناس فمات، فقبر، فعكفوا على قبره. وقال سليمان بن حرب: حدثنا حماد بن زيد، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء قال: اللات حجر كان يلت السويق عليه فسمي اللات. وقال: حدثنا عبيد الله بن موسي، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي صالح قال: اللات الذي كان يقوم على آلهتهم وكان يلت لهم السويق، والعزى نخلة كانوا يعلقون عليها الستور والعهن، ومناة حجر بقُدَيد. وقد قرأ طائفة من السلف اللات بتشديد التاء. وقيل: إنها اسم معدول عن اسم الله. قال الخطابي: المشركون يتعاطون الله اسمًا لبعض أصنامهم، فصرفه الله إلى اللات، صيانة لهذا الاسم وذبًا عنه.
قلت: ولا منافاة بين القولين والقراءتين، فإنه كان رجل يلت السويق على حجر، وعكفوا على قبره، وسموه بهذا الاسم، وخففوه، وقصدوا أن يقولوا هو الإله، كما كانوا يسمون الأصنام آلهة، فاجتمع في الاسم هذا وهذا. وكانت اللات لأهل الطائف، وكانوا يسمونها الربة. والعزى لأهل مكة. ولهذا قال أبو سفيان يوم أحد: إن لنا العزى ولاعزي لكم. فقال النبي ﷺ: (ألا تجيبوه؟). فقالوا: ما نقول؟ قال: (قولوا: الله مولانا ولا مولي لكم) الحديث، وقد تقدم. وكانت مناة لأهل المدينة. فكل مدينة من مدائن أهل الحجاز كان لها طاغوت تحج إليه وتتخذه شفيعًا وتعبده.
وما ذكره بعض المفسرين من أن العزى كانت لغطفان فذلك لأن غطفان كانت تعبدها وهي في جهتها. وأهل مكة يحجون إليها، فإن العزى كانت ببطن نخلة من ناحية عرفات. ومعلوم بالنقول الصحيحة أن أهل مكة كانوا يعبدون العزى. كما علم بالتواتر أن أهل الطائف كان لهم اللات، ومناة كانت حذو قدَيد، وكان أهل المدينة يهلون لها، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها.
وأما ما ذكره مَعْمَر بن المثني من أن هذه الثلاثة كانت أصناما في جوف الكعبة من حجارة، فهو باطل باتفاق أهل العلم بهذا الشأن، وإنما كان في الكعبة هُبَل الذي ارتجز له أبو سفيان يوم أحد وقال: أعل هبل أعل هبل. فقال النبي ﷺ: (ألا تجيبوه؟). قالوا: وما نقول؟ قال: (قولوا: الله أعلى وأجل). كما تقدم ذكره. هذا وكان إساف ونائلة على الصفا والمروة، وكان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا، وهذه الأسماء الثلاثة مؤنثة: اللات، والعزى، ومناة.
وبكل حال فقد قال أمية بن أبي الصلت: فينا بيت يحجه العرب، وأبو سفيان يوافقه على ذلك. فدل ذلك على أن البقاع التي يسافر إليها والسفر إليها حج، والحج نسك، وهو حج إلى غير بيت الله ونسك لغير الله، كما أن الدعاء لها صلاة لغير الله وقد قال تعالى: { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [296]، فالله تعالى أمر نبيه ﷺ أن تكون صلاته ونسكه لله، فمن سافر إلى بقعة غير يبوت الله التي يشرع السفر إليها ودعا غير الله فقد جعل نسكه وصلاته لغير الله عز وجل، والنبي ﷺ نهي عن السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة وإن كان بيتًا من بيوت الله؛ إذ لم تكن له خاصية تستحق السفر إليه، ولا شرع هو ﷺ ومن قبله من الأنبياء السفر إليه، بخلاف الثلاثة، فإن كل مسجد منها بناه نبي من الأنبياء ودعا الناس إلى السفر إليه، فلها خصائص ليست لغيرها.
فإذا كان السفر إلى بيوت الله غير الثلاثة ليس بمشروع باتفاق الأئمة الأربعة، بل قد نهي عنه الرسول ﷺ، فكيف بالسفر إلى بيوت المخلوقين الذين تتخذ قبورهم مساجد، وأوثانًا، وأعيادًا ويشرك بها، وتدعي من دون الله؟! حتى إن كثيرًا من معظميها يفضل الحج إليها على الحج إلى بيت الله، فيجعل الشرك وعبادة الأوثان أفضل من التوحيد وعبادة الرحمن، كما يفعل ذلك من يفعله من المشركين، وقال تعالى: { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلا بَعِيدًا إِن يَدْعُونَ } [297]، وكانت لها شياطين تكلمهم وتتراءي لهم. قال ابن عباس: في كل صنم شيطان يتراءي للسدنة ويكلمهم. وقال أبي ابن كعب: مع كل صنم جنية.
وقد قيل: الإناث هي الموات. وعن الحسن: كل شيء لا روح فيه كالخشب والحجر فهو إناث. قال الزجاج: والموات كلها يخبر عنها كما يخبر عن المؤنث. فتقول في ذلك: الأحجار تعجبني، والدراهم تنفعك وليس ذلك مختصًا بالموات، بل كل ما سوي الله تعالى يجمع بلفظ التأنيث، فيقال: الملائكة، ويقال لما يعبد من ودن الله: آلهة. قال تعالى: { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [298]، وقال تعالى: { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } [299]، هي أوثان وهي مؤنثة، قال تعالى: { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } [300]. فالآلهة المعبودة من دون الله كلها بهذه المثابة، وهي الأوثان التي تتخذ من دون الله، قال تعالى: { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [301]، وقال يوسف الصديق: { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [302]، وكل من عبد شيئًا من دون الله فإنما يعبد أسماء ما أنزل الله بها من سلطان.
وأيضًا، فالذين يعبدون الملائكة أو الأنبياء لا يرونهم، وإنما يعبدون تماثيل صوروها على مثال صورهم، وهي من تراب وحجر وخشب، فهم يعبدون الموات. وفي الصحيح صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ: بعثني ألا أدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرًا مشرفا إلا سويته. وقال تعالى: { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } [303]، وجميع الأموات لا يشعرون أيان يبعثون. فلا يعلم بقيام الساعة إلا الله عز وجل. وفي الصحيح: أنه لما توفي رسول الله ﷺ خطب الناس أبو بكر الصديق فقال: من كان يعبد محمدًا فإن محمد قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. وقرأ قوله تعالى: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ } [304]، وكأن الناس ما سمعوها حتى تلاها أبو بكر، فلا يوجد أحد من الناس إلا وهو يتلوها. والناس تغيب عنهم معاني القرآن عند الحوادث، فإذا ذكروا بها عرفوها. وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } [305].
وأما قوله تعالى: { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى } [306]، أي: قسمة جائرة عوجاء؛ إذ تجعلون لكم ما تحبون وهم الذكور وتجعلون لي الإناث! وهذا من قولهم: الملائكة بنات الله، حيث جعلوا له أولادا إناثًا وهم يكرهون أن يكون ولد أحدهم أنثي. كالنصارى الذين يجعلون لله ولدًا ويجلون الراهب الكبير أن يكون له ولد.
وأما اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، فلما قال تعالى: { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى } [307]، فسرها طائفة منهم الكلبي بأنهم كانوا يقولون: هذه الأصنام بنات الله، وهذا هو الذي ذكره طائفة من المتأخرين. وليس كذلك؛ فإنهم لم يكونوا يقولون عن هذه الأصنام أنها بنات الله. وإنما قالوا ذلك عن الملائكة، كما ذكر الله عنهم في قوله تعالى بعد هذا: { إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى } [308]، وقال: { وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ } [309]، وقال تعالى: { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ } [310]، فإن الولد يماثل أباه، وكذلك الشريك يماثل شريكه، فهم ضربوا الإناث مثلا، وهم جعلوا هذه شركاء لله سبحانه، فكانوا يجعلونها أندادًا لله، والشريك كالأخ، فجعلوا له أولادًا إناثًا، وشركاء إناثًا فجعلوا له بنات وأخوات، وهم لا يحبون أن تكون لأحدهم أنثي لا بنت ولا أخت، بل إذا كان الأب يكره أن تكون له بنت فالأخت أشد كراهة له منها. ولم يكونوا يورثون البنات والأخوات. فتبين فرط جهلهم وظلمهم؛ إذ جعلوا لله ما لا يرضونه لأنفسهم، فكانت أنفسهم عندهم أعظم من الله سبحانه.
وهذا كما ضرب لهم مثلا فقال تعالى: { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ } إلى قوله: { لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ العزيزُ الْحَكِيمُ } [311]، { ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [312]. فهم لا يرضون أن يكون مملوك أحدهم شريكه، وقد جعلوا مملوكي الرب شركاء له، فجعلوا لله ما لا يرضونه لأنفسهم من الشركاء ومن الأولاد؛ لا يرضون مملوكيهم أن يكونوا شركاء وقد جعلوهم لله شركاء، ولا يرضون من الأولاد بالإناث فلا يرضونها ولدًا ولا نظيرًا وهم جعلوا الإناث لله أولادًا ونظراء.
والنكتة أن الله أجل وأعظم وأعلى وأكبر من كل شيء، وهم قد جعلوا لله ما لا يرضونه لأنفسهم.
وهذا يتناول كل من وصف الله بصفة ينزه عنها المخلوق، كالذين قالوا: إنه فقير، وإنه بخيل. والذين قالوا: إنه لا يوصف إلا بالسلوب، أو لا يوصف لا بسلب ولا إثبات. والذين جعلوا بعض المخلوقات ممثالة له في شيء من الأشياء في عبادة له أو دعاء له أو توكل عليه أو حبها مثل حبه، والذين قالوا: يفعل لا لحكمة، بل عبثًا. والذين قالوا: إنه يجوز أن يضع الأشياء في غير مواضعها، فيعاقب خيار الناس، ويكرم شرارهم. والذين قالوا: لا يقدر أن يتكلم بمشيئته. والذين قالوا: إنه لا يسمع ولا يبصر. والذين قالوا: إنه يجوز أن يحب غيره كما يحب هو ويدعي ويسأل، فجعلوا مملوكه ندًا له. ونظائر ذلك كثيرة.
والقرآن ملآن من توحيد الله تعالى، وأنه ليس كمثله شيء. فلا يمثل به شيء من المخلوقات في شيء من الأشياء؛ إذ ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا فيما يستحقه من العبادة والمحبة والتوكل والطاعة والدعاء وسائر حقوقه. قال تعالى: { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [313]، فلا أحد يساميه، ولا يستحق أن يسمي بما يختص به من الأسماء، ولا يساويه في معني شيء من الأسماء، لا في معني الحي، ولا العليم، ولا القدير ولا غير ذلك من الأسماء، ولا في معني الذات والموجود، ونحو ذلك من الأسماء العامة، ولا يكون إلهًا، ولا ربًا، ولا خالقًا. فقال تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [314]، فلم يكن أحد يكافيه في شيء من الأشياء: فلا يساويه شيء ولا يماثله شيء، ولا يعادله شيء. قال تعالى: { الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ } [315]، وقال تعالى: { فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [316]، وقال تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [317].
وهذا الذي ذكرنا من أن السفر إلى الأماكن المعظمة القبور وغيرها عند أصحابه كالحج عند المسلمين هو أمر معروف عند المتقدمين والمتأخرين لفظًا ومعني، فإنهم يقصدون من دعاء المخلوق والخضوع له والتضرع إليه نظير ما يقصده المسلمون من دعاء الله تعالى والخضوع له والتضرع إليه، لكن كما قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ } [318]، وهم يسمون ذلك حجًا إليها، وهذا معروف عند متقدميهم ومتأخريهم. وكذلك أهل البدع والضلال من المسلمين كالرافضة وغيرهم يحجون إلى المشاهد وقبور شيوخهم وأئمتهم ويسمون ذلك حجًا. ويقول داعيتهم: السفر إلى الحج الأكبر. ويظهرون علمًا للحج إليه، ومعه مناد ينادي إليه، كما يرفع المسلمون علمًا للحج، لكن داعي أهل البدع ينادي: السفر إلى الحج الأكبر علانية في مثل بغداد، يعني السفر إلى مشهد من المشاهد، فيجعلون السفر إلى قبر بعض المخلوقين هو الحج الأكبر، والحج إلى بيت الله عندهم الأصغر. وقد ذكر ذلك أئمتهم في مصنفاتهم. ومن جهال الناس من يقول: وحق النبي الذي تحج المطايا إليه.
فلما كان المشركون يصلون ويدعون المخلوق ويحجون إلى قبره، قال تعالى: { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [319]. وقال تعالى: { وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ } [320]. وقوله تعالى: { وَنُسُكِي } قد ذكروا في تفسيره: الذبح لله، والحج إلى بيت الله، وذكروا أن لفظ (النسك) يتناول العبادة مطلقًا. والله سبحانه قد بين في القرآن أن الذبح والحج كلاهما منسك: قال تعالى: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } [321]، وقال النبي ﷺ: (من ذبح بعد الصلاة فقد أصاب النسك، ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو شاة لحم عجلها لأهله، ليس من النسك في شيء). وقال تعالى عن إبراهيم وإسماعيل: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [322]، فأري الله إبراهيم وابنه إسماعيل المواضع التي تقصد في الحج، والأفعال التي تفعل هناك: كالطواف والسعي والوقوف والرمى، كما ذكر ذلك غير واحد من السلف.
والصلاة تتناول الدعاء الذي هو بمعني العبادة، والذي هو بمعني السؤال. فالصلاة تجمع هذا وهذا، قال تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [323]، فقد فسر دعاءه بسؤاله، فالنبي ﷺ أمره الله أن يقول: { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [324]، فأمره تعالى أن يكون الدعاء لله والصلاة لله، ولا تبني المساجد إلا لله؛ لا تبني على قبر مخلوق، ولا من أجله، ولا يسافر إلى بيوت المخلوقين. وقد نهي أن يحج ويسافر إلى بيوت الله التي ليست لها تلك الخصائص.
وهذا ونحوه يعرف من كلام النبي ﷺ وسنته، وسنة خلفائه الراشدين، وما كان عليه الصحابة من بعده، والتابعون لهم بإحسان، وما ذكره أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم. ولهذا لا يقدر أحد أن ينقل عن إمام من أئمة المسلمين أنه يستحب السفر إلى زيارة قبر نبي أو رجل صالح. ومن نقل ذلك فليخرج نقله.
وإذا كان الأمر كذلك وليس في الفتيا إلا ما ذكره أئمة المسلمين وعلماؤهم، فالمخالف، لذلك مخالف لدين المسلمين وشرعهم، ولسنة نبيهم، وسنة خلفائه الراشدين، ولما بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، من توحيده وعبادته وحده لا شريك له، وأنه إنما يعبد بما شرعه من واجب ومستحب، لا يعبد بما نهي عنه ولم يشرعه. والله سبحانه بعث محمدا بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفي بالله شهيدًا. فبعثه بدين الإسلام الذي بعث به جميع الأنبياء، فإن الدين عند الله الإسلام، { $ّمّن يّبًتّغٌ غّيًرّ الإسًلامٌ دٌينْا فّلّن يٍقًبّلّ مٌنًهٍ } [325]، لا من الأولين ولا من الأخرين.
جميع الأنبياء كانوا على دين الإسلام
وجميع الأنبياء كانوا على دين الإسلام، كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، الأنبياء إخوة لعلات). وقد أخبر تعالى في القرآن عن نوح وإبراهيم وإسرائيل وأتباع موسي والمسيح وغيرهم أنهم كانوا مسلمين، متفقين على عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يعبد بما أمر هو، سبحانه وتعالى، فلا يعبد غيره، ولا يعبد هو بدين لم يشرعه. فلما أمر أن يصلى في أول الإسلام إلى بيت المقدس كان ذلك من دين الإسلام. ثم لما نسخ ذلك وأمر باستقبال البيت الحرام كان هذا من دين الإسلام. وذلك المنسوخ ليس من دين الإسلام. وقد قال تعالى: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [326]، فاللتوارة شرعة، وللإنجيل شرعة، وللقرآن شرعة. فمن كان متبعًا لشرع التوراة أو الإنجيل الذي لم يبدل ولم ينسخ فهو على دين الإسلام، كالذين كانوا على شريعة التوراة بلا تبديل قبل مبعث المسيح عليه السلام والذين كانوا على شريعة الإنجيل بلا تبديل قبل مبعث محمد ﷺ.
وأما من اتبع دينًا مبدلا ما شرعه الله، أو دينًا منسوخا، فهذا قد خرج عن دين الإسلام، كإليهود الذين بدلوا التوراة وكذبوا المسيح عليه السلام ثم كذبوا محمدًا ﷺ. والنصارى الذين بدلوا الإنجيل وكذبوا محمدًا ﷺ. فهؤلاء ليسوا على دين الإسلام الذي كان عليه الأنبياء، بل هم مخالفون لهم فيما كذبوا به من الحق وابتدعوه من الباطل. وكذلك كل مبتدع خالف سنة رسول الله ﷺ، وكذب ببعض ما جاء به من الحق، وابتدع من الباطل ما لم تشرعه الرسل. فالرسول بريء مما ابتدعه وخالفه فيه، قال تعالى: { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ } [327]، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } [328]، فالحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله. وقد ذم الله المشركين على أنهم حللوا وحرموا وشرعوا دينًا لم يأذن به الله، فقال تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } [329]، والسور المكية أنزلها الله تبارك وتعالى في الدين العام الذي بعث به جميع الرسل كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وإليوم الآخر.
ومحمد ﷺ خاتم المرسلين، لا نبي بعده. وأمته خير أمة أخرجت للناس. وقد بعثه الله بأفضل الكتب وأفضل الشرائع، وأكمل له ولأمته الدين. وأتم عليه النعمة. ورضي لهم الإسلام دينًا. وهو قد دعا إلى الصراط المستقيم، كما قال تعالى: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ } [330]. وقد أمرنا الله أن نتبع هذا الصراط المستقيم، ولا نعدل عنه إلى السبل المبتدعة، فقال تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [331]. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: خط لنا رسول الله ﷺ خطا، وخط خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال: هذا سبيل الله، وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } ولهذا أمرنا الله أن نقول في صلاتنا: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [332]. وقال النبي ﷺ: (اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون).
وهو ﷺ لم يمت حتى بين الدين، وأوضح السبيل، وقال: (تركتم على البيضاء النقية، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)، وقال ﷺ: (ما تركت من شيء يقربكم من الجنة إلا وقد حدثتكم به، ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به)، وقال (إنه من يَعِشْ منكم بعدي فسيري اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعَضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة). قال الترمذي: حديث صحيح. ولهذا كان أئمة المسلمين لا يتكلمون في الدين بأن هذا واجب أو مستحب أو حرام أو مباح إلا بدليل شرعي من الكتاب أو السنة، وما دل عليه.
ما اتفق عليه المسلمون فهو حق جاء به الرسول
وما اتفق عليه المسلمون فهو حق جاء به الرسول؛ فإن أمته ولله الحمد لا تجتمع على ضلالة، كما أخبر هو ﷺ فقال: (إن الله أجاركم على لسان نبيكم أن تجتمعوا على ضلالة). وما تنازعوا فيه ردوه إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } [333]، كما كان السلف يفعلون، فقد يكون عند هذا حديث سمعه أو معني فهمه خفي على الآخر، والآخر مأجور على اجتهاده أيضا. ولا إثم عليه فيما خفي عليه بعد اجتهاده، كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر). ولو صلى أربعة أنفس إلى أربع جهات إذا أغيمت السماء كل باجتهاده فكلهم مطيع لله عز وجل، وتبرأ ذمته، لكن الذي أصاب جهة الكعبة واحد، وله أجران. وقد قال تعالى: { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } [334]، فأثني تعالى على النبيين جميعًا، مع أنه خص أحدهما بفهم تلك الحكومة.
والدين كله مأخوذ عن الرسول ﷺ، ليس لأحد بعده أن يغير من دينه شيئًا. هذا دين المسلمين، بخلاف النصارى فإنهم يجوزون لعلمائهم وعبادهم أن يشرعوا شرعًا يخالف شرع الله، قال تعالى: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [335]، قال النبي ﷺ: (إنهم أحَلُّوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم إياهم). ولهذا كان أئمة المسلمين لا يتكلمون في شيء أنه عبادة وطاعة وقربة إلا بدليل شرعي واتباع لمن قبلهم، لا يتكلمون في الدين بلا علم، فإن الله حرم ذلك بقوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [336].
وقد اتفق أئمة الدين على أنه يشرع السفر إلى المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد الرسول ﷺ، والمسجد الأقصى، بخلاف غير هذه الثلاثة؛ لأن في الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى).
تنازع المسلمون في زيارة القبور
وتنازع المسلمون في زيارة القبور، فقال طائفة من السلف: إن ذلك كله منهي عنه لم ينسخ، فإن أحاديث النسخ لم يروها البخاري، ولم تشتهر. ولما ذكر البخاري زيارة القبور احتج بحديث المرأة التي بَكَتْ عند القبر. ونقل ابن بطال عن الشعبي أنه قال: لولا أن رسول الله ﷺ نهي عن زيارة القبور لزرت قبر ابني. وقال النخعي: كانوا يكرهون زيارة القبور، وعن ابن سيرين مثله. قال ابن بطال: وقد سئل مالك عن زيارة القبور فقال: قد كان نهي عنها عليه السلام ثم أذن فيها، فلو فعل ذلك إنسان ولم يقل إلا خيرًا لم أر بذلك بأسًا، وليس من عمل الناس. وروي عنه أنه كان يضعف زيارتها.
وكان النبي ﷺ قد نهي أولا عن زيارة القبور باتفاق العلماء. فقيل: لأن ذلك يفضي إلى الشرك. وقيل: لأجل النياحة عندها. وقيل: لأنهم كانوا يتفاخرون بها. وقد ذكر طائفة من العلماء في قوله تعالى: { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } [337]، أنهم كانوا يتكاثرون بقبور الموتي. وممن ذكره ابن عطية في تفسيره، قال: وهذا تأنيب على الإكثار من زيارة القبور. أي حتى جعلتم أشغالكم القاطعة لكم عن العبادة والعلم زيارة القبور تكثرًا بمن سلف، وإشادة بذكره. ثم قال النبي ﷺ: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هَجْرًا )، فكان نهيه في معني الآية. ثم أباح الزيارة بَعْدُ لمعني الاتعاظ لا لمعني المباهاة والتفاخر وتسنيمها بالحجارة الرخام، وتلوينها سرفًا، وبنيان النواويس عليها، هذا لفظ ابن عطية.
والمقصود أن العلماء متفقون على أنه كان نهي عن زيارة القبور. ونهي عن الانتباذ في الدُّبَّاء والحَنْتَم والمُزَفَّت والمقير.
واختلفوا هل نسخ ذلك؟ فقالت طائفة: لم ينسخ ذلك؛ لأن أحاديث النسخ ليست مشهورة. ولهذا لم يخرج أبو عبد الله البخاري ما فيه نسخ عام. وقال الآخرون: بل نسخ ذلك. ثم قالت طائفة منهم: إنما نسخ إلى الإباحة، فزيارة القبور مباحة لا مستحبة. وهذا قول في مذهب مالك وأحمد. قالوا: لأن صيغة افعل بعد الحظر إنما تفيد الإباحة. كما قال ﷺ في الحديث الصحيح: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، وكنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فانتبذوا ولا تشربوا مسكرًا). وروي (فزوروها، ولا تقولوا هجرًا). وهذا يدل على أن النهي كان لما كان يقال عندها من الأقوال المنكرة سدًا للذريعة، كالنهي عن الانتباذ في الأوعية أولا؛ لأن الشدة المطربة تدب فيها ولا يدري بذلك، فيشرب الشارب الخمر وهو لا يدري.
وقال الأكثرون: زيارة قبور المؤمنين مستحبة للدعاء للموتي مع السلام عليهم، كما كان النبي ﷺ يخرج إلى البقيع فيدعو لهم. وكما ثبت عنه ﷺ في الصحيحين أنه خرج إلى شهداء أُحد فصلى عليهم صلاته على الموتي كالمودع للأحياء والأموات. وثبت عنه ﷺ في الصحيح أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين. وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية. اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم). وهذا في زيارة قبور المؤمنين.
وأما زيارة قبر الكافر فرخص فيها لأجل تذكار الآخرة، ولا يجوز الاستغفار لهم. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه زار قبر أمه فبكي وأبكي من حوله. وقال: (استأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، فزوروا القبور؛ فإنها تذكركم الآخرة).
والعلماء المتنازعون كل منهم يحتج بدليل شرعي، ويكون عند بعضهم من العلم ما ليس عند الآخر فإن العلماء ورثة الأنبياء وقال تعالى: { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } [338].
والأقوال الثلاثة صحيحة باعتبار؛ فإن الزيارة إذا تضمنت أمرًا محرمًا، من شرك، أو كذب، أو ندب، أو نياحة وقول هجر، فهي محرمة بالإجماع، كزيارة المشركين بالله والساخطين لحكم الله، فإن هؤلاء زيارتهم محرمة، فإنه لا يقبل دين إلا دين الإسلام. وهو الاستسلام لخلقه وأمره. فيسلم لما قدره وقضاه، ويسلم لما يأمر به ويحبه. وهذا نفعله وندعو إليه، وذاكم نسلمه ونتوكل فيه عليه. فنرضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا. ونقول في صلاتنا: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [339]، مثل قوله تعالى: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [340]، وقوله تعالى: { اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [341] وقوله تعالى: { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [342].
والنوع الثاني: زيارة القبور لمجرد الحزن على الميت، لقرابته أو صداقته، فهذه مباحة كما يباح البكاء على الميت بلا ندب ولا نياحة. كما زار النبي ﷺ قبر أمه فبكي وأبكي من حوله، وقال: (زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة). فهذه الزيارة كان نهي عنها لما كانوا يفعلون من المنكر، فلما عرفوا الإسلام أذن فيها، لأن فيها مصلحة، وهو تذكر الموت. فكثير من الناس إذا رأي قريبه وهو مقبور ذكر الموت واستعد للآخرة، وقد يحصل منه جزع، فيتعارض الأمران. ونفس الحزن مباح، إن قصد به طاعة كان طاعة، وإن عمل معصية كان معصية.
والنوع الثالث: فهو زيارتها للدعاء لها كالصلاة على الجنازة، فهذا هو المستحب الذي دلت السنة على استحبابه؛ لأن النبي ﷺ فعله، وكان يعلم أصحابه ما يقولون إذا زاروا القبور.
وأما زيارة قباء، فيستحب لمن أتي المدينة أن يأتي قباء فيصلى في مسجدها. وكذلك يستحب له عند الجمهور أن يأتي البقيع وشهداء أحد، كما كان النبي ﷺ يفعل، فزيارة القبور للدعاء للميت من جنس الصلاة على الجنائز يقصد فيها الدعاء لهم، لا يقصد فيها أن يدعو مخلوقًا من دون الله، ولا يجوز أن تتخذ مساجد، ولا تقصد لكون الدعاء عندها أو بها أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت. والصلاة على الجنائز أفضل باتفاق المسلمين من الدعاء للموتي عند قبورهم. وهذا مشروع بل فرض على الكفاية متواتر متفق عليه بين المسلمين. ولو جاء إنسان إلى سرير الميت يدعوه من دون الله ويستغيث به، كان هذا شركًا محرمًا بإجماع المسلمين. ولو ندبه وناح لكان أيضًا محرمًا، وهو دون الأول.
فمن احتج بزيارة النبي ﷺ لأهل البقيع ولأهل أحد على الزيارة التي يفعلها أهل الشرك وأهل النياحة فهو أعظم ضلالا ممن يحتج بصلاتهم على الجنازة، على أنه يجوز أن يشرك بالميت، ويدعي من دون الله، ويندب ويناح عليه، كما يفعل ذلك بعض الناس يستدل بهذا الذي فعله الرسول ﷺ وهو عبادة لله وطاعة له يثاب عليه الفاعل وينتفع به المدعو له ويرضي به الرب عز وجل على أنه يجوز أن يفعل ما هو شرك بالله وإيذاء للميت وظلم من العبد لنفسه، كزيارة المشركين وأهل الجزع الذين لا يخلصون لله الدين، ولا يسلمون لما حكم به سبحانه وتعالى. فكل زيارة تتضمن فعل ما نهي عنه وترك ما أمر به كالتي تتضمن الجزع وقول الهجر وترك الصبر، أو تتضمن الشرك ودعاء غير الله وترك إخلاص الدين لله فهي منهي عنها. وهذه الثانية أعظم إثمًا من الأولي. ولا يجوز أن يصلى إليها، بل ولا عندها، بل ذلك مما نهي عنه النبي ﷺ فقال: (لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها). رواه مسلم في صحيحه.
فزيارة القبور على وجهين: وجه نهي عنه رسول الله ﷺ، واتفق العلماء على أنه غير مشروع، وهو أن نتخذها مساجد ونتخذها وثنًا ونتخذها عيدًا، فلا يجوز أن تقصد للصلاة الشرعية، ولا أن تعبد كما تعبد الأوثان، ولا أن تتخذ عيدًا يجتمع إليها في وقت معين كما يجتمع المسلمون في عرفة ومني. وأما الزيارة الشرعية فهي مستحبة عند الأكثرين. وقيل: مباحة. وقيل: كلها منهي عنها كما تقدم. والذي تدل عليه الأدلة الشرعية أن نحمل المطلق من كلام العلماء على المقيد، ونفصل الزيارة إلى ثلاثة أنواع: منهي عنه، ومباح، ومستحب وهو الصواب. قال مالك وغيره: لا نأتي إلا هذه الآثار: مسجد النبي ﷺ، ومسجد قباء، وأهل البقيع، وأحد. فإن النبي ﷺ لم يكن يقصد إلا هذين المسجدين وهاتين المقبرتين، كان يصلى يوم الجمعة في مسجده، ويوم السبت يذهب إلى قباء، كما في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ كان يأتي قباء كل سبت راكبًا وماشيًا فيصلى فيه ركعتين.
وأما أحاديث النهي فكثيرة مشهورة في الصحيحين وغيرهما، كقوله ﷺ: (لعن الله إليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن خشي أن يتخذ مسجدًا. رواه البخاري ومسلم. وفي صحيح مسلم أنه ﷺ قال قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك). وفي الصحيحين عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم قالوا: لما نزل برسول الله ﷺ طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم كشفها فقال وهو كذلك: (لعنة الله على إليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، يحذر ما صنعوا. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: (قاتل الله إليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). وفي لفظ: (لعن الله إليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
وفي الصحيحين عن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة فيها تصاوير، فقال رسول الله ﷺ: (إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة). وعائشة رضي الله عنها أم المؤمنين صاحبة الحجرة النبوية قد روت أحاديث هذا الباب مع مشاركة غيرها من الصحابة كابن عباس وأبي هريرة وجندب وابن مسعود وغيرهم. وقد قال ﷺ فيما رواه ابن مسعود: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد). رواه أبو حاتم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده. وفي سنن أبي داود عنه ﷺ أنه قال: (لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني). وفي موطأ مالك عن النبي ﷺ أنه قال: (اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
وفي سنن سعيد بن منصور: أن عبد الله بن حسن بن حسين بن على بن أبي طالب أحد الأشراف الحسنيين بل أجلهم قدرًا في عصر تابعي التابعين في خلافة المنصور وغيره رأي رجلا يكثر الاختلاف إلى قبر النبي ﷺ، فقال: يا هذا، إن رسول الله ﷺ قال: (لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني). فما أنت ورجل بالأندلس إلا سواء.
فلما أراد الأئمة اتباع سنته في زيارة قبره المكرم والسلام عليه طلبوا ما يعتمدون عليه من سنته. فاعتمد الإمام أحمد على الحديث الذي في السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: (ما من أحد يسلم على إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام). وعن أحمد أخذ ذلك أبو داود، فلم يذكر في زيارة قبره المكرم غير هذا الحديث، وترجم عليه باب زيارة القبر. مع أن دلالة الحديث على المقصود فيها نزاع وتفصيل، فإنه لا يدل على كل ما تسميه الناس زيارة باتفاق المسلمين.
ويبقي الكلام المذكور فيه: هل هو السلام عند القبر كما كان من دخل على عائشة رضي الله عنها يسلم عليه؟ أو يتناول هذا والسلام عليه من خارج الحجرة. فالذين استدلوا به جعلوه متناولا لهذا وهذا، وهو غاية ما كان عندهم في هذا الباب عنه ﷺ. وهو ﷺ يسمع السلام من القريب، وتبلغه الملائكة الصلاة والسلام عليه من البعيد، كما في النسائي عنه ﷺ أنه قال: (إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتى السلام). وفي السنن عن أوس بن أوس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: (أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة على). قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء). صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا. وذكر مالك في موطئه أن عبد الله بن عمر كان يأتي فيقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت. ثم ينصرف. وفي رواية: كان إذا قدم من سفر. رواه معمر عن نافع عنه. وعلى هذا اعتمد مالك رحمه الله فيما يفعل عند الحجرة؛ إذ لم يكن عنده إلا أثر ابن عمر رضي الله عنهما.
وأما ما زاد على ذلك مثل الوقوف للدعاء للنبي ﷺ، مع كثرة الصلاة والسلام عليه، فقد كرهه مالك، وقال: هو بدعة لم يفعلها السلف. ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
وأما السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين فهذا لم يكن موجودًا في الإسلام في زمن مالك، وإنما حدث هذا بعد القرون الثلاثة. قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم. فأما هذه القرون التي أثني عليها رسول الله ﷺ فلم يكن هذا ظاهرًا فيها، ولكن بعدها ظهر الإفك والشرك. ولهذا لما سأل سائل لمالك عن رجل نذر أن يأتي قبر النبي ﷺ. فقال: إن كان أراد المسجد فليأته وليصل فيه، وإن كان أراد القبر فلا يفعل، للحديث الذي جاء: (لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد). وكذلك من يزور قبور الأنبياء والصالحين ليدعوهم، أو يطلب منهم الدعاء، أو يقصد الدعاء عندهم لكونه أقرب إجابة في ظنه، فهذا لم يكن يعرف على عهد مالك، لا عند قبر النبي ﷺ ولا غيره.
وإذا كان مالك رحمه الله يكره أن يطيل الرجل الوقوف عنده ﷺ للدعاء، فكيف بمن لا يقصد لا السلام عليه ولا الدعاء له، وإنما يقصد دعاءه وطلب حوائجه منه، ويرفع صوته عنده فيؤذي الرسول، ويشرك بالله، ويظلم نفسه؟! ولم يعتمد الأئمة، لا الأربعة ولا غير الأربعة على شيء من الأحاديث التي يرويها بعض الناس في ذلك. مثل ما يروون أنه قال: (من زارني في مماتي فكأنما زارني في حياتي)، ومن قوله: (من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة) ونحو ذلك. فإن هذا لم يروه أحد من أئمة المسلمين، ولم يعتمد عليها. ولم يروها لا أهل الصحاح ولا أهل السنن التي يعتمد عليها كأبي داود والنسائي؛ لأنها ضعيفة، بل موضوعة، كما قد بين العلماء الكلام عليها. ومن زاره في حياته ﷺ كان من المهاجرين إليه، والواحد بعدهم لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه. وهو إذا أتي بالفرائض لا يكون مثل الصحابة فيكف يكون مثلهم بالنوافل، أو بما ليس بقربة، أو بما هو منهي عنه هنا.
وكره مالك رضي الله عنه أن يقول القائل: زرت قبر النبي ﷺ. كره هذا اللفظ؛ لأن السنة لم تأت به في قبره. وقد ذكروا في تعليل ذلك وجوهًا. ورخص غيره في هذا اللفظ للأحاديث العامة في زيارة القبور. ومالك يستحب ما يستحبه سائر العلماء من السفر إلى المدينة والصلاة في مسجده، وكذلك السلام عليه وعلى صاحبيه عند قبورهم اتباعًا لابن عمر. ومالك من أعلم الناس بهذا؛ لأنه قد رأي التابعين الذين رأوا الصحابة بالمدينة. ولهذا كان يستحب اتباع السلف في ذلك. ويكره أن يبتدع أحد هناك بدعة. فكره أن يطيل الرجل القيام والدعاء عند قبر النبي ﷺ؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم ما كانوا يفعلون ذلك. وكره مالك لأهل المدينة كلما دخل إنسان المسجد أن يأتي قبر النبي ﷺ؛ لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك. قال مالك رحمة الله عليه: ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، بل كانوا يأتون إلى مسجده فيصلون فيه خلف أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلى رضي الله عنهم أجمعين فإن هؤلاء الأربعة صلوا أئمة في مسجده والمسلمون يصلون خلفهم كما كانوا يصلون خلفه، وهم يقولون في الصلاة: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. كما كانوا يقولون ذلك في حياته. ثم إذا قضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا. ولم يكونوا يأتون القبر للسلام، لعلمهم بأن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل وهي المشروعة.
وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك أو الصلاة والدعاء، فإنه لم يشرعه لهم، بل نهاهم، وقال: (لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا على حيثما كنتم؛ فإن صلاتكم تبلغني)، فبين أن الصلاة تصل إليه من البعيد، وكذلك السلام. ومن صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا. ومن سلم عليه مرة سلم الله عليه عشرا. كما قد جاء في بعض الأحاديث. وتخصيص الحجرة بالصلاة والسلام جعل لها عيدا، وهو قد نهاهم عن ذلك، ونهاهم أن يتخذوا قبره أو قبر غيره مسجدا. ولعن من فعل ذلك ليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصاب غيرهم من اللعنة.
وكان أصحابه خير القرون وكانوا إذا دخلوا إلى مسجده لا يذهب أحد منهم إلى قبره
وكان أصحابه خير القرون، وهم أعلم الأمة بسنته، وأطوع الأمة لأمره، وكانوا إذا دخلوا إلى مسجده لا يذهب أحد منهم إلى قبره لا من داخل الحجرة ولا من خارجها. وكانت الحجرة في زمانهم يدخل إليها من الباب إذ كانت عائشة رضي الله عنها فيها، وبعد ذلك إلى أن بني الحائط الآخر. وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون إليه، لا لسلام، ولا لصلاة عليه، ولا لدعاء لأنفسهم، ولا لسؤال عن حديث أو علم، ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمعهم كلاما أو سلاما فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم وبين لهم الأحاديث، أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج، كما طمع الشيطان في غيرهم، فأضلهم عند قبره، وقبر غيره، حتى ظنوا أن صاحب القبر يحدثهم ويفتيهم ويأمرهم وينهاهم في الظاهر، وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجا من القبر، ويظنون أن نفس أبدان الموتي خرجت من القبر تكلمهم، وأن روح الميت تجسدت لهم فرأوها، كما رآهم النبي ﷺ ليلة المعراج يقظة لا مناما.
فإن الصحابة رضوان الله عليهم خير قرون هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس. وهم تلقوا الدين عن النبي ﷺ بلا واسطة، ففهموا من مقاصده ﷺ وعاينوا من أفعاله وسمعوا منه شفاها ما لم يحصل لمن بعدهم. وكذلك كان يستفيد بعضهم من بعض ما لم يحصل لمن بعدهم، وهم فارقوا جميع أهل الأرض وعادوهم، وهجروا جميع الطوائف وأديانهم، وجاهدوهم بأنفسهم وأموالهم، قال ﷺ في الحديث الصحيح: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه). وهذا قاله لخالد بن الوليد لما تشاجر هو وعبد الرحمن بن عوف؛ لأن عبد الرحمن بن عوف كان من السابقين الأولين، وهم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وهو فتح الحديبية وخالد هو وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة أسلموا في مدة الهدنة بعد الحديبية وقبل فتح مكة، فكانوا من المهاجرين التابعين، لا من المهاجرين الأولين. وأما الذين أسلموا عام فتح مكة فليسوا بمهاجرين، فإنه لا هجرة بعد الفتح، بل كان الذين أسلموا من أهل مكة يقال لهم: الطلقاء؛ لأن النبي ﷺ أطلقهم بعد الاستيلاء عليهم عنوة كما يطلق الأسير. والذين بايعوه تحت الشجرة هم ومن كان من مهاجرة الحبشة هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وفي الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال لنا رسول الله ﷺ يوم الحديبية: (أنتم خير أهل الأرض). وكنا ألفا وأربعمائة.
ولهذا لم يطمع الشيطان أن ينال منهم من الإضلال والإغواء ما ناله ممن بعدهم، فلم يكن فيهم من يتعمد الكذب على النبي ﷺ، وإن كان له أعمال غير ذلك قد تنكر عليه. ولم يكن فيهم أحد من أهل البدع المشهورة: كالخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة والجهمية. بل كل هؤلاء إنما حدثوا فيمن بعدهم. ولم يكن فيهم من طمع الشيطان أن يتراءي له في صورة بشر، ويقول: أنا الخضر، أو أنا إبراهيم، أو موسي، أو عيسي، أو المسيح، أو أن يكلمه عند قبر حتى يظن أن صاحب القبر كلمه، بل هذا إنما ناله فيمن بعدهم، وناله أيضا من النصارى حيث أتاهم بعد الصلب وقال: أنا هو المسيح، وهذه مواضع المسامير ولا يقول: أنا شيطان، فإن الشيطان لا يكون جسدا أو كما قال. وهذا هو الذي اعتمد عليه النصارى في أنه صلب، لا في مشاهدته؛ فإن أحدا منهم لم يشاهد الصلب، وإنما حضره بعض اليهود وعلقوا المصلوب وهم يعتقدون أنه المسيح. ولهذا جعله الله من ذنوبهم وإن لم يكونوا صلبوه. لكنهم قصدوا هذا الفعل وفرحوا به، قال تعالى: { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إليه وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [343]، وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يطمع الشيطان أن يضلهم كما أضل غيرهم من أهل البدع، الذين تأولوا القرآن على غير تأويله، أو جهلوا السنة، أو رأوا وسمعوا أمورا من الخوارق فظنوها من جنس آيات الأنبياء والصالحين وكانت من أفعال الشياطين. كما أضل النصارى وأهل البدع بمثل ذلك. فهم يتبعون المتشابه ويدعون المحكم. وكذلك يتمسكون بالمتشابه من الحجج العقلية والحسية فيسمع ويري أمورا فيظن أنه رحماني وإنما هو شيطاني، ويدعون البين الحق الذي لا إجمال فيه. وكذلك لم يطمع الشيطان أن يتمثل في صورته ويغيث من استغاث به. أو أن يحمل إليهم صوتا يشبه صوته؛ لأن الذين رأوه علموا أن هذا شرك لا يحل. ولهذا أيضا لم يطمع فيهم أن يقول أحد منهم لأصحابه: إذا كانت لكم حاجة فتعالوا إلى قبري، واستغيثوا بي، لا في محياه ولا في مماته، كما جري مثل هذا لكثير من المتأخرين. ولا طمع الشيطان أن يأتي أحدهم ويقول: أنا من رجال الغيب، أو من الأوتاد الأربعة، أو السبعة، أو الأربعين. أو يقول له: أنت منهم. إذ كان هذا عندهم من الباطل الذي لا حقيقة له. ولا طمع الشيطان أن يأتي أحدهم فيقول: أنا رسول الله، أو يخاطبه عند القبر، كما وقع لكثير ممن بعدهم عند قبره وقبر غيره وعند غير القبور. كما يقع كثير من ذلك للمشركين وأهل الكتاب، يرون بعد الموت من يعظمونه من شيوخهم.
فأهل الهند يرون من يعظمونه من شيوخهم الكفار وغيرهم. والنصارى يرون من يعظمونه، من الأنبياء والحواريين وغيرهم. والضلال من أهل القبلة يرون من يعظمونه؛ إما النبي ﷺ، وإما غيره من الأنبياء يقظة، ويخاطبهم ويخاطبونه. وقد يستفتونه ويسألونه عن أحاديث فيجيبهم. ومنهم من يخيل إليه أن الحجرة قد انشقت وخرج منها النبي ﷺ وعانقه هو وصاحباه. ومنهم من يخيل إليه أنه رفع صوته بالسلام حتى وصل مسيرة أيام وإلى مكان بعيد. وهذا وأمثاله أعرف ممن وقع له هذا وأشباهه عددا كثيرا. وقد حدثني بما وقع له في ذلك، وبما أخبر به غيره من الصادقين من يطول هذا الموضع بذكرهم. وهذا موجود عند خلق كثير كما هو موجود عند النصارى والمشركين، لكن كثير من الناس يكذب بهذا، وكثير منهم إذا صدق به يظن أنه من الآيات الإلهية، وأن الذي رأي ذلك رآه لصلاحه ودينه. ولم يعلم أنه من الشيطان، وأنه بحسب قلة علم الرجل يضله الشيطان. ومن كان أقل علما قال له ما يعلم أنه مخالف للشريعة خلافا ظاهرا. ومن عنده علم منها لا يقول له ما يعلم أنه مخالف للشريعة ولا مفيدا فائدة في دينه، بل يضله عن بعض ما كان يعرفه، فإن هذا فعل الشياطين، وهو وإن ظن أنه قد استفاد شيئا فالذي خسره من دينه أكثر.
ولهذا لم يقل قط أحد من الصحابة: إن الخضر أتاه، ولا موسي ولا عيسي، ولا أنه سمع رد النبي ﷺ. وابن عمر كان يسلم إذا قدم من سفر ولم يقل قط: إنه يسمع الرد. وكذلك التابعون وتابعوهم. وإنما حدث هذا من بعض المتأخرين.
وكذلك لم يكن أحد من الصحابة رضوان الله عليهم يأتيه فيسأله عند القبر عن بعض ما تنازعوا فيه وأشكل عليهم من العلم، لا خلفاؤه الأربعة ولا غيرهم. مع أنهم أخص الناس به ﷺ، حتى ابنته فاطمة رضي الله عنها لم يطمع الشيطان أن يقول لها: اذهبي إلى قبره فسليه: هل يورث أم لا يورث؟ كما أنهم أيضا لم يطمع الشيطان فيهم فيقول لهم: اطلبوا منه أن يدعو لكم بالمطر لما أجدبوا. ولا قال: اطلبوا منه أن يستنصر لكم. ولا أن يستغفر، كما كانوا في حياته يطلبون منه أن يستسقي لهم، وأن يستنصر لهم، فلم يطمع الشيطان فيهم بعد موته ﷺ أن يطلبوا منه ذلك. ولا طمع بذلك في القرون الثلاثة. وإنما ظهرت هذه الضلالات ممن قل علمه بالتوحيد والسنة، فأضله الشيطان، كما أضل النصارى في أمور؛ لقلة علمهم بما جاء به المسيح ومن قبله من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
وكذلك لم يطمع الشيطان أن يطير بأحدهم في الهواء، ولا أن يقطع به الأرض البعيدة في مدة قريبة، كما يقع مثل هذا لكثير من المتأخرين؛ لأن الأسفار التي كانوا يسافرونها كانت طاعات؛ كسفر الحج والعمرة والجهاد، وهذه يثابون على كل خطوة يخطونها فيه، وكلما بعدت المسافة كان الأجر أعظم؛ كالذي يخرج من بيته إلى المسجد، فخطواته إحداها ترفع درجة والأخري تحط خطيئة. فلم يمكن الشيطان أن يفوتهم ذلك الأجر بأن يحملهم في الهواء أو يؤزهم في الأرض أزا حتى يقطعوا المسافة البعيدة بسرعة. وقد علموا أن النبي ﷺ إنما أسري به الله عز وجل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليريه من آياته الكبري. وكان هذا من خصائصه. فليس لمن بعده مثل هذا المعراج، ولكن الشيطان يخيل إليه معاريج شيطانية كما خيلها لجماعة من المتأخرين.
وأما قطع النهر الكبير بالسير على الماء فهذا قد يحتاج إليه المؤمنون أحيانا مثل ألا يمكنهم العبور إلى العدو وتكميل الجهاد إلا بذلك. فلهذا كان الله يكرم من احتاج إلى ذلك من الصحابة والتابعين بمثل ذلك، كما أكرم به العلاء بن الحضرمى وأصحابه، وأبا مسلم الخولاني وأصحابه، وبسط هذا له موضع آخر غير هذا الكتاب.
لكن المقصود أن يعرف أن الصحابة خير القرون وأفضل الخلق بعد الأنبياء، فما ظهر فيمن بعدهم مما يظن أنها فضيلة للمتأخرين ولم تكن فيهم فإنها من الشيطان، وهي نقيصة لا فضيلة، سواء كانت من جنس العلوم، أو من جنس العبادات، أو من جنس الخوارق والآيات، أو من جنس السياسة والملك. بل خير الناس بعدهم أتبعهم لهم. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا. قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم. وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أن الصحابة رضوان الله عليهم تركوا البدع المتعلقة بالقبور كقبره المكرم وقبر غيره، لنهيه ﷺ لهم عن ذلك، ولئلا يتشبهوا بأهل الكتاب الذين اتخذوا قبور الأنبياء أوثانا. وإن كان بعضهم يأتي من خارج فيسلم عليه إذا قدم من سفر، كما كان ابن عمر يفعل. بل كانوا في حياته يسلمون عليه ثم يخرجون من المسجد لا يأتون إليه عند كل صلاة. وإذا جاء أحدهم يسلم عليه رد عليه النبي ﷺ السلام. وكذلك من يسلم عليه عند قبره رد عليه السلام، وكانوا يدخلون على عائشة، فكانوا يسلمون عليه كما كانوا يسلمون عليه في حياته، ويقول أحدهم: السلام على النبي ورحمة الله وبركاته. وقد جاء هذا عاما في جميع قبور المؤمنين، فما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله روحه عليه حتى يرد عليه السلام. فإذا كان رد السلام موجودا في عموم المؤمنين فهو في أفضل الخلق أولي. وإذا سلم المسلم عليه في صلاته، فإنه وإن لم يرد عليه لكن الله يسلم عليه عشرا. كما جاء في الحديث: (من سلم على مرة سلم الله عليه عشرا). فالله يجزيه على هذا السلام أفضل مما يحصل بالرد، كما أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا. وكان ابن عمر يسلم عليه ثم ينصرف. لا يقف لا لدعاء له ولا لنفسه. ولهذا كره مالك ما زاد على فعل ابن عمر من وقوف له أو لنفسه؛ لأن ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة، فكان بدعة محضة. قال مالك: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. مع أن فعل ابن عمر إذا لم يفعل مثله سائر الصحابة إنما يصلح للتسويغ، كأمثال ذلك فيما فعله بعض الصحابة رضوان الله عليهم.
وأما القول بأن هذا الفعل مستحب أو منهي عنه أو مباح، فلا يثبت إلا بدليل شرعي، فالوجوب والندب والإباحة والاستحباب والكراهة والتحريم لا يثبت شيء منها إلا بالأدلة الشرعية، والأدلة الشرعية مرجعها كلها إليه صلوات الله وسلامه عليه. فالقرآن هو الذي بلغه، والسنة هو الذي علمها. والإجماع بقوله عرف أنه معصوم. والقياس إنما يكون حجة إذا علمنا أن الفرع مثل الأصل، وأن علة الأصل في الفرع. وقد علمنا أنه ﷺ لا يتناقض، فلا يحكم في المتماثلين بحكمين متناقضين، ولا يحكم بالحكم لعلة تارة ويمنعه أخري مع وجود العلة إلا لاختصاص إحدي الصورتين بما يوجب التخصيص. فشرعه هو ما شرعه هو ﷺ، وسنته ما سنها هو، لا يضاف إليه قول غيره وفعله وإن كان من أفضل الناس إذا وردت سنته، بل ولا يضاف إليه إلا بدليل يدل على الإضافة؛ ولهذا كان الصحابة كأبي بكر وعمر وابن مسعود يقولون باجتهادهم ويكونون مصيبين موافقين لسنته، لكن يقول أحدهم: أقول في هذا برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه. فإن كل ما خالف سنته فهو شرع منسوخ أو مبدل، لكن المجتهدون وإن قالوا بآرائهم وأخطؤوا فلهم أجر، وخطؤهم مغفور لهم.
السلام على النبي نوعان
وكان الصحابة إذا أراد أحدهم أن يدعو لنفسه استقبل القبلة ودعا في مسجده، كما كانوا يفعلون في حياته. لا يقصدون الدعاء عند الحجرة ولا يدخل أحدهم إلى القبر. والسلام عليه قد شرع للمسلمين في كل صلاة، وشرع للمسلمين إذا دخل أحدهم المسجد أي مسجد كان.
فالنوع الأول: كل صلاة يقول المصلى: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ثم يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. قال النبي ﷺ: (فإذا قلتم ذلك أصابت كل عبد صالح لله في السماء والأرض). وقد شرع للمسلمين في كل صلاة أن يسلموا على النبي ﷺ خصوصا وعلى عباد الله الصالحين من الملائكة والإنس والجن عموما. وفي الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال: كنا نقول خلف رسول الله ﷺ في الصلاة: السلام على فلان وفلان. فقال النبي ﷺ: (إن الله هو السلام، فإذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله). وقد روي عنه التشهد بألفاظ أخر، كما رواه مسلم من حديث ابن عباس، وكما كان ابن عمر يعلم الناس التشهد. ورواه مسلم من حديث أبي موسي، لكن هو تشهد ابن مسعود. ولكن لم يخرج البخاري إلا تشهد ابن مسعود، وكل ذلك جائز، فإن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فالتشهد أولي.
والمقصود أنه ﷺ ذكر أن المصلى إذا قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أصابت كل عبد صالح لله في السماء والأرض. وهذا يتناول الملائكة وصالحي الإنس والجن، كما قال تعالى عنهم: { وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا } [344].
والنوع الثاني: السلام عليه عند دخول المسجد، كما في المسند والسنن عن فاطمة بنت رسول الله ﷺ ورضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: بسم الله، والسلام على رسول الله. اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج قال: بسم الله، والسلام على رسول الله. اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك). وقد روي مسلم في صحيحه الدعاء عند دخول المسجد بأن يفتح له أبواب رحمته، وعند خروجه يسأل الله من فضله. وهذا الدعاء مؤكد في دخول مسجد النبي ﷺ، ولهذا ذكره العلماء فيما صنفوه من المناسك لمن أتي إلى مسجده ﷺ أن يقول ذلك. فكان السلام عليه مشروعا عند دخول المسجد والخروج منه، وفي نفس كل صلاة. وهذا أفضل وأنفع من السلام عليه عند قبره وأدوم. وهذا مصلحة محضة لا مفسدة فيها تخشي، فبها يرضي الله ويوصل نفع ذلك إلى رسوله وإلى المؤمنين. وهذا مشروع في كل صلاة وعند دخول المسجد والخروج منه، بخلاف السلام عند القبر.
مع أن قبره من حين دفن لم يمكن أحد من الدخول إليه، لا لزيارة ولا لصلاة ولا لدعاء ولا غير ذلك. ولكن كانت عائشة فيه لأنه بيتها. وكانت ناحية عن القبور؛ لأن القبور في مقدم الحجرة، وكانت هي في مؤخر الحجرة. ولم يكن الصحابة يدخلون إلى هناك. وكانت الحجرة على عهد الصحابة خارجة عن المسجد متصلة به، وإنما أدخلت فيه في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان بعد موت العبادلة، ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وابن عمرو، بل بعد موت جميع الصحابة الذين كانوا بالمدينة، فإن آخر من مات بها جابر ابن عبد الله في بضع وسبعين سنة. ووسع المسجد في بضع وثمانين سنة. ولم يكن الصحابة يدخلون إلى عند القبر، ولا يقفون عنده خارجا، مع أنهم يدخلون إلى مسجده ليلا ونهارا. وقد قال ﷺ: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام). وقال ﷺ: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى). وكانوا يقدمون من الأسفار للاجتماع بالخلفاء الراشدين وغير ذلك فيصلون في مسجده، ويسلمون عليه في الصلاة، وعند دخول المسجد والخروج منه. ولا يأتون القبر، إذ كان هذا عندهم مما لم يأمرهم به، ولم يسنه لهم. وإنما أمرهم وسن لهم الصلاة والسلام عليه في الصلاة، وعند دخولهم المساجد، وغير ذلك.
ولكن ابن عمر كان يأتيه فيسلم عليه وعلى صاحبيه عند قدومه من السفر. وقد يكون فعله غير ابن عمر أيضا. فلهذا رأي من رأي من العلماء هذا جائزا اقتداء بالصحابة رضوان الله عليهم. وابن عمر كان يسلم ثم ينصرف، ولا يقف، يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت. ثم ينصرف. ولم يكن جمهور الصحابة يفعلون كما فعل ابن عمر، بل كان الخلفاء وغيرهم يسافرون للحج وغيره ويرجعون ولا يفعلون ذلك، إذ لم يكن هذا عندهم سنة سنها لهم. وكذلك أزواجه كن على عهد الخلفاء وبعدهم يسافرون إلى الحج، ثم ترجع كل واحدة إلى بيتها كما وصاهن بذلك. وكانت أمداد اليمن الذين قال الله تعالى فيهم: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [345]، على عهد أبي بكر الصديق وعمر يأتون أفواجًا من اليمن للجهاد في سبيل الله، ويصلون خلف أبي بكر وعمر في مسجده، ولا يدخل أحد منهم إلى داخل الحجرة، ولا يقف في المسجد خارجًا، لا لدعاء ولا لصلاة ولا سلام ولا غير ذلك. وكانوا عالمين بسنته كما علمتهم الصحابة والتابعون، وأن حقوقه لازمة لحقوق الله عز وجل، وأن جميع ما أمر الله به وأحبه من حقوقه وحقوق رسوله فإن صاحبها يؤمر بها في جميع المواضع والبقاع. فليست الصلاة والسلام عند قبره المكرم بأوكد من ذلك في غير ذلك المكان. بل صاحبها مأمور بها حيث كان: إما مطلقًا وإما عند الأسباب المؤكدة لها، كالصلاة والدعاء والأذان. ولم يكن شيء من حقوقه ولا شيء من العبادات هو عند قبره أفضل منه في غير تلك البقعة، بل نفس مسجده له فضيلة لكونه مسجده.
ومن اعتقد أنه قبل القبر لم تكن له فضيلة إذ كان النبي ﷺ يصلى فيه والمهاجرون والأنصار، وإنما حدثت له الفضيلة في خلافة الوليد بن عبد الملك لما أدخل الحجرة في مسجده، فهذا لا يقوله إلا جاهل مفرط في الجهل، أو كافر، فهو مكذب لما جاء به مستحق للقتل. وكان الصحابة يدعون في مسجده كما كانوا يدعون في حياته. لم تحدث لهم شريعة غير الشريعة التي علمهم إياها في حياته. وهو لم يأمرهم إذا كان لأحدهم حاجة أن يذهب إلى قبر نبي أو صالح فيصلى عنده ويدعوه، أو يدعو بلا صلاة، أو يسأل حوائجه، أو يسأله أن يسأل ربه. فقد علم الصحابة رضوان الله عليهم أن رسول الله ﷺ لم يكن يأمرهم بشيء من ذلك، ولا أمرهم أن يخصوا قبره أو حجرته لا بصلاة ولا دعاء، لا له ولا لأنفسهم، بل قد نهاهم أن يتخذوا بيته عيدًا. فلم يقل لهم كما يقول بعض الشيوخ الجهال لأصحابه: إذا كان لكم حاجة فتعالوا إلى قبري، بل نهاهم عما هو أبلغ من ذلك أن يتخذوا قبره أو قبر غيره مسجدًا يصلون فيه لله عز وجل، ليسد ذريعة الشرك. فصلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا، وجزاه أفضل ما جزي نبيا عن أمته، قد بلغ الرسالة، وأدي الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه. وكان إنعام الله به أفضل نعمة أنعم بها على العباد.
وقد دلهم ﷺ على أفضل العبادات وأفضل البقاع، كما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: (الصلاة على مواقيتها). قلت: ثم أي؟ قال: (بر الوالدين). قلت: ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله). قال: سألته عنهن ولو استزدته لزادني. وفي المسند وسنن ابن ماجه عن ثوبان، عن النبي ﷺ أنه قال: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن). والصلاة قد شرع للأمة أن تتخذ لها مساجد، وهي أحب البقاع إلى الله كما ثبت عنه ﷺ في صحيح مسلم وغيره أنه قال: (أحب البقاع إلى الله المساجد، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق).
ومع هذا فقد لعن من يتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد وهو في مرض موته، نصيحة للأمة، وحرصًا منه على هداها. كما نعته الله بقوله: { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عليه مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عليكم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [346]. ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله ﷺ في مرضه الذي لم يقم منه: (لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا. وفي رواية: ولكن خشي أن يتخذ مسجدًا. وفي رواية للبخاري: (غير أني أخشي أن يتخذ مسجدًا). وعن عائشة وابن عباس قالا: لما نزل برسول الله ﷺ طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: (لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما صنعوا. ومن حكمة الله أن عائشة أم المؤمنين صاحبة الحجرة التي دفن فيها ﷺ تروي هذه الأحاديث، وقد سمعتها منه، وإن كان غيرها من الصحابة أيضًا يرويها؛ كابن عباس، وأبي هريرة، وجندب بن عبد الله، وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). وفي الصحيحين عن عائشة: أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: (إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة).
وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ قبل أن يموت بخمس وهو يقول: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك). وفي صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي أن النبي ﷺ قال: (لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها). وفي المسند وصحيح أبي حاتم: أنه ﷺ قال: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد). وقد تقدم نهيه أن يتخذوا قبره عيدًا.
فلما علم الصحابة أنه قد نهاهم عن أن يتخذوه مصلى للفرائض التي يتقرب بها إلى الله عز وجل، لئلا يتشبهوا بالمشركين الذين يدعونها ويصلون لها وينذرون لها، كان نهيهم عن دعائها أعظم وأعظم. كما أنه لما نهاهم عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها لئلا يتشبهوا بمن يسجد للشمس، كان نهيهم عن السجود للشمس أولي وأحري. فكان الصحابة رضوان الله عليهم يقصدون الصلاة والدعاء والذكر في المساجد التي بنيت لله دون قبور الأنبياء والصالحين التي نهوا أن يتخذوها مساجد، وإنما هي بيوت المخلوقين. وكانوا يفعلون بعد موته ما كانوا يفعلون في حياته صلى الله عليه وآله وسلم تسليما.
ومما يدل على ما ذكره مالك وغيره من علماء المسلمين من الكراهة لأهل المدينة قصدهم القبر إذا دخلوا أو خرجوا منه ونحو ذلك وإن كان قصدهم مجرد السلام عليه والصلاة أن النبي ﷺ كان يأتي قباء راكبًا وماشيا كل سبت، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن عمر، قال: كان رسول الله ﷺ يأتي قباء كل سبت راكبًا وماشيا. وكان ابن عمر يفعله. زاد نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ: فيصلى فيه ركعتين. وهذا الحديث الصحيح يدل على أنه كان يصلى في مسجده يوم الجمعة، ويذهب إلى مسجد قباء فيصلى فيه يوم السبت، وكلاهما أسس على التقوي، وقد قال تعالى: { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ على التَّقْوَي مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } [347]، وقد روي عن النبي ﷺ من غير وجه أنه سأل أهل قباء عن هذا الطهور الذي أثني الله عليهم، فذكروا أنهم يستنجون بالماء. وفي سنن أبي داود وغيره قال: نزلت هذه الآية في مسجد أهل قباء { فٌيهٌ رٌجّالِ يحٌبٍَونّ أّن يتّطّهَّرٍوا }. قال: كانوا يستنجون بالماء، فنزلت فيهم هذه الآية. وقد ثبت في الصحيح عن سعد أنه سأل النبي ﷺ عن المسجد الذي أسس على التقوي وهو في بيت بعض نسائه، فأخذ كفًا من حصي، فضرب به الأرض ثم قال: (هو مسجدكم هذا)، لمسجد المدينة. فتبين أن كلا المسجدين أسس على التقوي، لكن مسجد المدينة أكمل في هذا النعت، فهو أحق بهذا الاسم. ومسجد قباء كان سبب نزول الآية؛ لأنه مجاور لمسجد الضرار الذي نهي عن القيام فيه.
والمقصود أن إتيان قباء كل أسبوع للصلاة فيه كان ابن عمر يفعله اتباعًا للنبي ﷺ، ولم يكن ابن عمر ولا غيره إذا كانوا مقيمين بالمدينة يأتون قبر النبي ﷺ لا في الأسبوع ولا في غير الأسبوع. وإنما كان ابن عمر يأتي القبر إذا قدم من سفر. وكثير من الصحابة أو أكثرهم كانوا يقدمون من الأسفار ولا يأتون القبر لا لسلام ولا لدعاء ولا غير ذلك. فلم يكونوا يقفون عنده خارج الحجرة في المسجد، كما كان ابن عمر يفعل. ولم يكن أحد منهم يدخل الحجرة لذلك، بل ولا يدخلونها إلا لأجل عائشة رضي الله عنها لما كانت مقيمة فيها. وحينئذ فكان من يدخل إليها يسلم على النبي ﷺ، كما كانوا يسلمون عليه إذا حضروا عنده. وأما السلام الذي لا يسمعه فذلك سلام الله عليهم به عشرًا، كالسلام عليه في الصلاة، وعند دخول المسجد، والخروج منه. وهذا السلام مأمور به في كل مكان وزمان. وهو أفضل من السلام المختص بقبره. فإن هذا المختص بقبره من جنس تحية سائر المؤمنين أحياء وأمواتًا.
وأما السلام المطلق العام فالأمر به من خصائصه كما أن الأمر بالصلاة من خصائصه. وإن كان في الصلاة والسلام على غيره عمومًا وفي الصلاة على غيره خصوصًا نزاع. وقد عدي بعضهم ذلك إلى السلام فجعله مختصًا به، كما اختص بالصلاة. وحكي هذا عن أبي محمد الجويني، لكن جمهور العلماء على أن السلام لا يختص به. وأما الصلاة ففيها نزاع مشهور. وذلك أن الله تعالى أمر في كتابه بالصلاة والسلام عليه مخصوصًا بذلك، فقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ على النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عليه وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [348]، فهنا أخبر وأمر. وأما في حق عموم المؤمنين فأخبر ولم يأمر، فقال تعالى: { هُوَ الَّذِي يُصلى عليكمْ وَمَلَائِكَتُهُ } [349]؛ ولهذا إذا ذكر الخطباء ذلك قالوا: إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثني بملائكته، وأيه بالمؤمنين من بريته، أي قال { يا أيها الذين آمنوا }. فإن صلاته تعالى على المؤمنين بدأ فيها بنفسه، وثني بملائكته، لكن لم يؤيه فيها بالمؤمنين من بريته. وقد جاء في الحديث: (إن الله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير).
وقد اتفق المسلمون على أنه تشرع الصلاة عليه في الصلاة قبل الدعاء
وقد اتفق المسلمون على أنه تشرع الصلاة عليه ﷺ في الصلاة قبل الدعاء، وفي غير الصلاة. وإنما تنازعوا في وجوب الصلاة عليه في الصلاة المكتوبة. وفي الخطب، فأوجب ذلك الشافعي ولم يوجبه أبو حنيفة ومالك. وعن الإمام أحمد روايتان. وإذا قيل بوجوبها فهل هي ركن أو تسقط بالسهو؟ على روايتين. وأظهر الأقوال أن الصلاة واجبة مع الدعاء فلا ندعو حتى نبدأ به ﷺ، والسلام عليه مأمور به في الصلاة، وهو في التشهد الذي هو ركن في الصلاة عند الشافعي وأحمد في المشهور عنه، فتبطل الصلاة بتركه عمدًا أو سهوًا. والتشهد الأخير عند مالك وأبي حنيفة، وعند مالك وأحمد في المشهور عنه: إذا ترك التشهد الأول عمدًا بطلت صلاته، وإن تركه سهوًا فعليه سجود السهو. وهذا يسميه الإمام أحمد واجبًا، ويسميه أصحاب مالك سنة واجبة. ويقولون: سنة واجبة. وليس في ذلك نزاع معنوي مع القول بأن من تعمد تركه يعيد ومن تركه سهوًا فعليه سجود السهو.
ومالك وأحمد عندهما الأفعال في الصلاة أنواع كأفعال الحج. وأبو حنيفة يجعلها ثلاثة أنواع، لكن عنده أن النوع الواجب يكون مسيئًا بتركه ولا إعادة عليه سواء تركه عمدًا أو سهوًا. وأما الشافعي فعنده الواجب فيها هو الركن، بخلاف الحج فإنه باتفاقهم فيه واجب يجبر بالدم غير الركن وغير المستحب.
ولا نزاع أنه هو ﷺ يصلى على غيره، كما قال تعالى: { وَصَلِّ عليهمْ } [350]، وكما ثبت في الصحيح أنه قال: (اللهم صل على آل أبي أوفي). وكما روي أنه قال لامرأة: (صلى الله عليك وعلى زوجك). وكانت قد طلبت منه أن يصلى عليها وعلى زوجها.
وأيضًا، لا نزاع أنه يصلى على آله تبعًا كما علم أمته أن يقولوا: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد).
أما صلاة غيره على غيره منفردا
وأما صلاة غيره على غيره منفردًا مثال أن يقال: صلى الله على أبي بكر أو عمر أو عثمان أو على. ففيها قولان:
أحدهما: أن ذلك جائز، وهو منصوص أحمد في غير موضع، واستدل على ذلك بأن عليا قال لعمر: صلى الله عليك. وعليه جمهور أصحابه كالقاضي أبي يعلي وابن عقيل والشيخ عبد القادر، ولم يذكروا في ذلك نزاعًا.
والثاني: المنع من ذلك، كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب مالك والشافعي ونقل ذلك عنهما، وهو الذي ذكره جدنا أبو البركات في كتابه الكبير، لم يذكر غيره، واحتج بما رواه جماعة عن ابن عباس قال: لا أعلم الصلاة تنبغي من أحد على أحد إلا على رسول الله ﷺ. وقال من منع: أما صلاته على غيره فإن الصلاة له فله أن يعطيها لغيره، وأما الصلاة على غيره تبعًا فقد يجوز تبعًا ما لا يجوز قصدًا. ومن جوز ذلك يحتج بالخليفتين الراشدين عمر وعلى، وبأنه ليس في الكتاب والسنة نهي عن ذلك، لكن لا يجب ذلك في حق أحد كما يجب في حق النبي ﷺ. فتخصيصه كان بالأمر والإيجاب لا بالجواز والاستحباب. قالوا: وقد ثبت أن الملائكة تصلي على المؤمنين كما في الصحيح: (إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه). فإذا كان الله وملائكته يصلون على المؤمن، فلماذا لا يجوز أن يصلى عليه المؤمنون؟
وأما قول ابن عباس فهذا ذكره لما صار أهل البدع يخصون بالصلاة عليا أو غيره، ولا يصلون على غيرهم. فهذا بدعة بالاتفاق. وهم لا يصلون على كل أحد من بني هاشم من العباسيين ولا على كل أحد من ولد الحسن والحسين ولا على أزواجه، مع أنه قد ثبت في الصحيح: (اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته). فحينئذ لا حجة لمن خص بالصلاة بعض أهل البيت دون سائر أهل البيت، ودون سائر المؤمنين.
ولما كان الله تعالى أمر بالصلاة والسلام عليه ثم قال من قال: إن الصلاة على غيره ممنوع منها، طرد ذلك طائفة منهم أبو محمد الجويني فقالوا: لا يسلم على غيره. وهذا لم يعرف عن أحد من المتقدمين، وأكثر المتأخرين أنكروه. فإن السلام على الغير مشروع، سلام التحية، يسلم عليه إذا لقيه، وهو إما واجب أو مستحب مؤكد، فإن في ذلك قولين للعلماء، وهما قولان في مذهب أحمد، والرد واجب بالإجماع إما على الأعيان، وإما على الكفاية. والمصلى إذا خرج من الصلاة يقول: السلام عليكم، السلام عليكم. وقد كان النبي ﷺ يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يسلموا عليهم فيقولوا: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين). فالذين جعلوا السلام من خصائصه لا يمنعون من السلام على الحاضر، لكن يقولون: لا يسلم على الغائب. فجعلوا السلام عليه مع الغيبة من خصائصه، وهذا حق. لكن الأمر بذلك وإيجابه هو من خصائصه كما في التشهد. فليس فيه سلام على معين إلا عليه. وكذلك عند دخول المسجد والخروج منه، وهذا يؤيد أن السلام كالصلاة كلاهما واجب له في الصلاة وغيرها. وغيره فليس واجبًا إلا سلام التحية عند اللقاء، فإنه مؤكد بالاتفاق.
وهل يجب أو يستحب؟ على قولين معروفين في مذهب أحمد وغيره. والذي تدل عليه النصوص أنه واجب. وقد روي مسلم في صحيحه عنه ﷺ أنه قال: (خمس تجب للمسلم على المسلم: يسلم عليه إذا لقيه، ويعوده إذا مرض، ويشيعه إذا مات ويجيبه إذا دعاه)، وروي: (ويشمته إذا عطس). وقد أوجب أكثر الفقهاء إجابة الدعوة. والصلاة على الميت فرض على الكفاية بإجماعهم، والسلام عند اللقاء أوكد من إجابة الدعوة. وكذلك عيادة المريض، والشر الذي يحصل إذا لم يسلم عليه عند اللقاء ولم يعده إذا مرض أعظم مما يحصل إذا لم يجب دعوته. والسلام أسهل من إجابة الدعوة ومن العيادة. وهذه المسائل لبسطها مواضع أخر.
والمقصود هنا أن سلام التحية عند اللقاء في المحيا
والمقصود هنا أن سلام التحية عند اللقاء في المحيا، وفي الممات إذا زار قبر مسلم مشروع في حق كل مسلم لكل من لقيه حيا أو زار قبره أن يسلم عليه. فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعرفون أن هذا السلام عليه عند قبره الذي قال فيه: (ما من أحد يسلم على إلا رد الله على روحي، حتى أرد عليه السلام)، ليس من خصائصه، ولا فيه فضيلة له على غيره. بل هو مشروع في حق كل مسلم حي وميت. وكل مؤمن يرد السلام على من سلم عليه. وهذا ليس مقصودًا بنفسه، بل إذا لقيه سلم عليه. وهكذا إذا زار القبر يسلم على الميت. لا أنه يتكلف قطع المسافة واللقاء لمجرد ذلك. والسلام عليه في الصلاة، وعند دخول المسجد والخروج منه، فهو من خصائصه، هو من السلام الذي أمر الله به في القرآن أن يسلم عليه، ومن سلم يسلم الله عليه عشرًا، كما يصلى عليه إذا صلى عليه عشرًا. فهو المشروع المأمور به الأفضل الأنفع الأكمل الذي لا مفسدة فيه. وذاك جهد لا يختص به ولا يؤمر بقطع المسافة لمجرده، بل قصد نية الصلاة والسلام والدعاء هو اتخاذ له عيدًا، وقد قال ﷺ: (لا تتخذوا بيتي عيدًا).
فلهذا كان العمل الشائع في الصحابة الخلفاء الراشدين والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار أنهم يدخلون مسجده ويصلون عليه في الصلاة، ويسلمون عليه كما أمرهم الله ورسوله، ويدعون لأنفسهم في الصلاة مما اختاروا من الدعاء المشروع كما في الصحيح من حديث ابن مسعود لما علمه التشهد قال: (ثم ليتخير بعد ذلك من الدعاء أعجبه إليه). ولم يكونوا يذهبون إلى القبر لا من داخل الحجرة ولا من خارجها، لا لدعاء ولا صلاة ولا سلام ولا غير ذلك من حقوقه المأمور بها في كل مكان فضلا عن أن يقصدوها لحوائجهم، كما يفعله أهل الشرك والبدع، فإن هذا لم يكن يعرف في القرون الثلاثة، لا عند قبره ولا قبر غيره، لا في زمن الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم.
فهذه الأمور إذا تصورها ذو الإيمان والعلم عرف دين الإسلام في هذه الأمور. وفرق بين من يعرف التوحيد والسنة والإيمان، ومن يجهل ذلك. وقد تبين أن الخلفاء الراشدين وجمهور الصحابة كانوا يدخلون المسجد ويصلون فيه على النبي ﷺ ولا يسلمون عليه عند الخروج من المدينة وعند القدوم من السفر، بل يدخلون المسجد فيصلون فيه ويسلمون على النبي ﷺ ولا يأتون القبر، ومقصود بعضهم التحية.
وأيضًا، فقد استحب لكل من دخل المسجد أن يسلم على النبي ﷺ فيقول: بسم الله، والسلام على رسول الله. اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك. وكذلك إذا خرج يقول: بسم الله، والسلام على رسول الله. اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك. فهذا السلام عند دخول المسجد كلما يدخل يغني عن السلام عليه عند القبر. وهو من خصائصه، ولا مفسدة فيه وهو يفعل ذلك في الصلاة، فيصلون ويسلمون عليه في الصلاة، ويصلون عليه إذا سمعوا الأذان ويطلبون له الوسيلة لما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله ﷺ: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا على، فإنه من صلى على مرة صلى الله عليه عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة).
وقد علموا أن الذي يستحب عند قبره المكرم من السلام عليه هو سلام التحية عند اللقاء، كما يستحب ذلك عند قبر كل مسلم وعند لقائه، فيشاركه فيه غيره كما قال: (ما من رجل يسلم على إلا رد الله على روحي، حتى أرد عليه السلام)، وقال: (ما من رجل يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فيسلم عليه، إلا عرفه ورد عليه السلام). وكان إذا أتي المقابر قال: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع، أسأل الله العافية لنا ولكم)، وكان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين). والسلام عليه في الصلاة أفضل من السلام عليه عند القبر، وهو من خصائصه، وهو مأمور به. والله يسلم على صاحبه كما يصلى على من صلى عليه، فإنه من صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشرًا، ومن سلم عليه واحدة سلم الله عليه عشرًا. وقد حصل مقصودهم ومقصوده من السلام عليه والصلاة عليه في مسجده وغير مسجده، فلم يبق في إتيان القبر فائدة لهم ولا له، بخلاف إتيان مسجد قباء فإنهم كانوا يأتونه كل سبت فيصلون فيه اتباعًا له ﷺ. فإن الصلاة فيه كعمرة. ويجمعون بين هذا وبين الصلاة في مسجده يوم الجمعة، إذ كان أحد هذين لا يغني عن الآخر، بل يحصل بهذا أجر زائد. وكذلك إذا خرج الرجل إلى البقيع وأهل أحد كما كان يخرج إليهم النبي ﷺ يدعو لهم كان حسنًا؛ لأن هذا مصلحة لا مفسدة فيها وهم لا يدعون لهم في كل صلاة حتى يقال: هذا يغني عن هذا.
ومع هذا فقد نقل عن مالك كراهة اتخاذ ذلك سنة. ولم يأخذ في هذا بفعل ابن عمر، كما لم يأخذ بفعله في التمسح بمقعده على المنبر، ولا باستحباب قصد الأماكن التي صلى فيها لكون الصلاة أدركته فيها، فكان ابن عمر يستحب قصدها للصلاة فيها، وكان جمهور الصحابة لا يسستحبون ذلك، بل يستحبون ما كان ﷺ يستحبه وهو أن يصلى حيث أدركته الصلاة، وكان أبوه عمر بن الخطاب ينهي من يقصدها للصلاة فيها، ويقول: إنما هلك من كان قبلكم بهذا، فإنهم اتخذوا آثار أنبيائهم مساجد، من أدركته الصلاة فيه فليصل وإلا فليذهب. فأمرهم عمر بن الخطاب بما سنه لهم رسول الله ﷺ؛ إذ كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباع سنتهم، وله خصوص الأمر بالاقتداء به وبأبي بكر حيث قال: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر). فالأمر بالاقتداء أرفع من الأمر بالسنة، كما قد بسط في مواضع.
وكذلك نقل عن مالك كراهة المجيء إلى بيت المقدس؛ خشية أن يتخذ السفر إليه سنة، فإنه كره ذلك لما جعل لهذا وقت معين كوقت الحج الذي يذهب إليه جماعة، فإن النبي ﷺ لم يفعل هذا، لا في قباء ولا في قبور الشهداء وأهل البقيع ولا غيرهم، كما فعل مثل ذلك في الحج وفي الجمع والأعياد. فيجب الفرق بين هذا وبين هذا. مع أنه صلى التطوع في جماعة مرات في قيام الليل ووقت الضحي وغيره، ولكن لم يجعل الاجتماع مثل تطوع في وقت معين سنة كالصلوات الخمس وكصلاة الكسوف والعيدين والجمعة. وأما إتيان القبر للسلام عليه فقد استغنوا عنه بالسلام عليه في الصلاة، وعند دخول المسجد والخروج منه، وفي إتيانه بعد الصلاة مرة بعد مرة ذريعة إلى أن يتخذ عيدًا ووثنًا، وقد نهو عن ذلك.
وهو ﷺ مدفون في حجرة عائشة، وكانت حجرة عائشة وسائر حجر أزواجه من جهة شرقي المسجد وقبلته، لم تكن داخلة في مسجده، بل كان يخرج من الحجرة إلى المسجد، ولكن في خلافة الوليد وسع المسجد، وكان يحب عمارة المساجد، وعمر المسجد الحرام ومسجد دمشق وغيرهما، فأمر نائبه عمر بن عبد العزيز أن يشتري الحجر من أصحابها الذين ورثوا أزواج النبي ﷺ ويزيدها في المسجد. فمن حينئذ دخلت الحجر في المسجد، وذلك بعد موت الصحابة. بعد موت ابن عمر، وابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وبعد موت عائشة، بل بعد موت عامة الصحابة، ولم يكن بقي في المدينة منهم أحد. وقد روي أن سعيد بن المسيب كره ذلك. وقد كره كثير من الصحابة والتابعبن ما فعله عثمان رضي الله عنه من بناء المسجد بالحجارة والقصة والساج، وهؤلاء لما فعله الوليد أكره. وأما عمر? رضي الله عنه فإنه وسعه، لكن بناه على ما كان من بنائه من اللبن وعمده جذوع النخل وسقفه الجريد. ولم ينقل أن أحدًا كره ما فعل عمر، وإنما وقع النزاع فيما فعله عثمان والوليد.
وكان من أراد السلام عليه على عهد الصحابة رضوان الله عليهم يأتيه ﷺ من غربي الحجرة فيسلم عليه، إما مستقبل الحجرة، وإما مستقبل القبلة. والآن يمكنه أن يأتي من جهة القبلة. فلهذا كان أكثر العلماء يستحبون أن يستقبل الحجرة ويسلم عليه، ومنهم من يقول: بل يستقبل القبلة ويسلم عليه كقول أبي حنيفة.
فإن الوليد بن عبد الملك تولي بعد موت أبيه عبد الملك سنة بضع وثمانين من الهجرة، وكان قد مات هؤلاء الصحابة كلهم، وتوفي عامة الصحابة في جميع الأمصار. ولم يكن بقي بالأمصار إلا قليل جدًا؛ مثل أنس بن مالك بالبصرة، فإنه توفي في خلافة الوليد سنة بضع وتسعين، وجابر بن عبد الله مات سنة ثمان وسبعين بالمدينة، وهو آخر من مات بها. والوليد أدخل الحجرة بعد ذلك بمدة طويلة نحو عشر سنين. وبناء المسجد كان بعد موت جابر فلم يكن قد بقي بالمدينة أحد. وأما عثمان بن عفان رضي الله عنه فزاد في المسجد والصحابة كثيرون، ولم يدخل فيه شيئًا من الحجرة بل ترك الحجرة النبوية على ما كانت عليه خارجة عن المسجد متصلة به من شرقيه، كما كانت على عهد النبي ﷺ وأبي بكر وعمر، وكانت عائشة رضي الله عنها فيها. ولم تزل عائشة فيها إلى أواخر خلافة معاوية، وتوفيت بعد موت الحسن بن على. وكان الحسن قد استأذنها في أن يدفن في الحجرة فأذنت له، لكن كره ذلك ناس آخرون، ورأوا أن عثمان رضي الله عنه لما لم يدفن فيها فلا يدفن غيره. وكادت تقوم فتنة. ولما احتضرت عائشة رضي الله عنها أوصت أن تدفن مع صواحباتها بالبقيع، ولا تدفن هناك. فعلت هذا تواضعًا أن تزكي به ﷺ.
فلهذا لم يتكلم فيما فعله الوليد هل هو جائز أو مكروه إلا التابعون؛ كسعيد بن المسيب وأمثاله. وكان سعيد إذ ذاك من أجل التابعين، قيل لأحمد بن حنبل: أي التابعين أفضل؟ قال: سعيد بن المسيب. فقيل له: فعلقمة والأسود؟ فقال: سعيد بن المسيب. وعلقمة والأسود هذان كان قد ماتا قبل ذلك بمدة. ومن ذلك الوقت دخلت في المسجد. وكان المسجد قبل دخول الحجرة فيه فاضلا، وكانت فضيلة المسجد بأن النبي ﷺ بناه لنفسه وللمؤمنين، يصلى فيه هو والمؤمنون إلى يوم القيامة، ففضل ببنائه له. قلت: قال مالك: بلغني أن جبريل هو الذي أقام قبلته للنبي ﷺ، وبأنه كان هو الذي يقصد فيه الجمعة والجماعة إلى أن مات، وما صلى جمعة بغيره قط لا في سفره ولا في مقامه. وأما الجماعة فكان يصليها حيث أدركته.
ونحن مأمورون باتباعه ﷺ، وذلك بأن نصدقه في كل ما أخبر به، ونطيعه في كل ما أوجبه وأمر به، لا يتم الإيمان به إلا بهذا وهذا. ومن ذلك أن نقتدي به في أفعاله التي يشرع لنا أن نقتدي به، فما فعله على وجه الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة نفعله على وجه الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة، وهو مذهب جماهير العلماء، إلا ما ثبت اختصاصه به. فإذا قصد عبادة في مكان شرع لنا أن نقصد تلك العبادة في ذلك المكان. فلما قصد السفر إلى مكة وقصد العبادة بالمسجد الحرام والصلاة فيه، والطواف به، وبين الصفا والمروة، والصعود على الصفا والمروة، والوقوف بعرفة وبالمشعر الحرام، ورمى الجمار، والوقوف للدعاء عند الجمرتين الأوليين دون الثالثة التي هي جمرة العقبة، كان ذلك كله مشروعًا لنا، إما واجبًا وإما مستحبًا. ولم يذهب بمكة إلى غير المسجد الحرام، ولا سافر إلى الغار الذي مكث فيه لما سافر سفر الهجرة، ولا صعد إلى غار حراء الذي كان يتحنث فيه قبل أن يأتيه الوحي، وكان ذلك عبادة لأهل مكة، قيل: إنه سنها لهم عبد المطلب، وصلى عقب الطواف ركعتين، ولم يصل عقب الطواف بالصفا والمروة شيئًا. وحين دخل المسجد الحرام طاف بالبيت، وكان الطواف تحية المسجد، لم يصل قبله تحية، كما تصلى في سائر المساجد، كما أنه افتتح برمى جمرة العقبة حين أتي مني، وتلك هي العبادة، وبعدها نحر هديه، ثم حلق رأسه، ثم طاف بالبيت.
ولهذا صارت السنة أن أهل مني يرمون ثم يذبحون، والرمى لهم بمنزلة صلاة العيد لغيرهم، وليس بمني صلاة عيد ولا جمعة، لا بها ولا بعرفة، فإن النبي ﷺ لم يصل بهما صلاة عيد، ولا صلى يوم عرفة جمعة، ولا كان في أسفاره يصلى جمعة ولا عيدًا. ولهذا كان عامة العلماء على أن الجمعة لا تصلى في السفر، وليس في ذلك إلا نزاع شاذ. وجمهور العلماء على أن العيد أيضًا لا يكون إلا حيث تكون الجمعة؛ فإن النبي ﷺ لم يصل عيدًا في السفر، ولا كان يصلى في المدينة على عهده إلا عيدًا واحدًا. ولم يكن أحد يصلى العيد منفردًا. وهذا قول جمهور العلماء، وفيه نزاع مشهور. ولهذا صار المسلمون بمني يرمون، ثم يذبحون النسك، اتباعًا لسنته ﷺ.
فما فعله على وجه التقرب كان عبادة تفعل على وجه التقرب، وما أعرض عنه ولم يفعله مع قيام السبب المقتضي لم يكن عبادة ولا مستحبًا. وما فعله على وجه الإباحة من غير قصد التعبد به كان مباحًا. ومن العلماء من يستحب مشابهته في هذا في الصورة كما كان ابن عمر يفعل، وأكثرهم يقول: إنما تكون المتابعة إذا قصدنا ما قصد، وأما المشابهة في الصورة من غير مشاركة في القصد والنية فلا تكون متابعة. فما فعله على غير العبادة فلا يستحب أن يفعل على وجه العبادة، فإن ذلك ليس بمتابعة، بل مخالفة. وقد ثبت في الصحيح أنه كان يصلى حيث أدركته الصلاة. وثبت في الصحيح أنه قال لأبي ذر حين سأله: أي مسجد وضع في الأرض أول؟ فقال: (المسجد الحرام، ثم المسجد الأقصى، ثم حيثما أدركتك الصلاة فصل، فإنه مسجد). وروي في الصحيح: (فإن فيه الفضل). فمن أدركته الصلاة هو وأصحابه بمكان، فتركوا الصلاة فيه، وذهبوا إلى مكان آخر؛ لكونه فيه أثر لبعض الأنبياء، فقد خالفوا السنة. وقد رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قومًا ينتابون مكانًا صلى فيه رسول الله ﷺ فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا مكان صلى فيه رسول الله ﷺ. فقال: ومكان صلى فيه رسول الله؟! أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟ إنما هلك بنو إسرائيل بمثل هذا، فمن أدركته الصلاة فيه فليصل فيه، وإلا فليذهب.
فمسجده المفضل لما كان يفضل الصلاة فيه كان مستحبًا، فكيف وقد قال: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)، وقال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا). وهذه الفضيلة ثابتة له قبل أن تدخل فيه الحجرة. بل كان حينئذ الذين يصلون فيه أفضل ممن صلى فيه إلى يوم القيامة. ولا يجوز أن يظن أنه بعد دخول الحجرة فيه صار أفضل مما كان في حياته وحياة خلفائه الراشدين، بل الفضيلة إن اختلفت الأزمنة والرجال، فزمنه وزمن الخلفاء الراشدين أفضل، ورجاله أفضل. فالمسجد حينئذ قبل دخول الحجرة فيه كان أفضل إن اختلفت الأمور، وإن لم تختلف فلا فرق. وبكل حال فلا يجوز أن يظن أنه صار بدخول الحجرة فيه أفضل مما كان. وهم لم يقصدوا دخول الحجرة فيه، وإنما قصدوا توسيعه بإدخال حجر أزواج النبي ﷺ، فدخلت فيه الحجرة ضرورة، مع كراهة من كره ذلك من السلف.
والمقصود أن ما بني الله من المساجد فضيلتها بعبادة الله فيها وحده لا شريك له، وبمن عبد الله فيها من الأنبياء والصالحين وببنائها لذلك. كما قال تعالى: { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ على التَّقْوَي مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تَقْوَي مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [351].
والأعمال تفضل بنيات أصحابها
والأعمال تفضل بنيات أصحابها، وطاعتهم لله تعالى، وما في قلوبهم من الإيمان بطاعتهم لله، كما ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم). وبذلك يثابون، وعلى ترك ما فرضه الله يعاقبون، وبذلك يندفع عنهم بلاء الدنيا والآخرة. وما أصابهم من المصائب فبذنوبهم. قال تعالى: { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [352]، وقال تعالى: { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [353]، قال العلماء: أي ما أصابك من نصر ورزق وعافية فهو من نعم الله عليك، وما أصابك من المصائب فبذنوبك. كما قال تعالى: { وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ } [354]، كما أنهم متفقون كلهم على أنه لا تكون العبادة إلا لله وحده، ولا يكون التوكل إلا عليه وحده، ولا تكون الخشية والتقوي إلا لله وحده.
والرسول ﷺ له حق لا يشركه فيه أحد من الأمة، مثل وجوب طاعته في كل ما يوجب ويأمر، قال تعالى: { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ } [355]، وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ } [356]. ولهذا كانت مبايعته مبايعة لله، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } [357]، فإنهم عاقدوه على أن يطيعوه في الجهاد ولا يفروا وإن ماتوا. وهذه الطاعة له هي طاعة الله.
وعلينا أن يكون الرسول أحب إلىنا من أنفسنا وآبائنا وأبنائنا وأهلينا وأموالنا، كما في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) رواه البخاري ومسلم، وفي لفظ لمسلم: (وأهله وماله). وفي البخاري عن عبد الله بن هشام أنه قال: كنا مع النبي ﷺ وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلى من كل شيء إلا من نفسي. فقال النبي ﷺ: (لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك). فقال له عمر: فإنك الآن والله لأنت أحب إلى من نفسي. فقال النبي ﷺ: (الآن يا عمر). وقد قال تعالى: { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إليكم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [358]، وقد قال تعالى: { النَّبِيُّ أَوْلَي بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } [359]، وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: (أنا أولي بكل مؤمن من نفسه).
وذلك أنه لا نجاة لأحد من عذاب الله، ولا وصول له إلى رحمة الله، إلا بواسطة الرسول؛ بالإيمان به ومحبته وموالاته واتباعه. وهو الذي ينجيه الله به من عذاب الدنيا والآخرة. وهو الذي يوصله إلى خير الدنيا والآخرة. فأعظم النعم وأنفعها نعمة الإيمان، ولا تحصل إلا به ﷺ، وهو أنصح وأنفع لكل أحد من نفسه وماله. فإنه الذي يخرج الله به من الظلمات إلى النور، لا طريق له إلا هو، وأما نفسه وأهله فلا يغنون عنه من الله شيئًا.
وهو دعا الخلق إلى الله بإذن الله، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إلى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا } [360]، والمخالف له يدعو إلى غير الله بغير إذن الله. ومن اتبع الرسول ﷺ فإنه إنما يدعو إلى الله ورسوله. وقوله تعالى: { بِإِذْنِهِ } أي: بأمره وما أنزله من العلم، كما قال تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلى اللّهِ على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي } [361]، فمن اتبع الرسول دعا إلى الله على بصيرة، أي على بينة وعلم يدعو إليه بمنزل من الله، بخلاف الذي يأمر بما لا يعلم، أو بما لم ينزل به وحيًا، كما قال تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ } [362]. ط
وكل ما أمر الله به أو ندب إليه من حقوقه ﷺ فإنه لا يختص بحجرته لا من داخل ولا من خارج، بل يفعل في جميع الأمكنة التي شرع فيها. فليس فعل شيء من حقوقه ﷺ كالإيمان به، ومحبته، وموالاته، وتبليغ العلم عنه، والجهاد على ما جاء به، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، والصلاة والسلام عليه، وكل ما يحبه الله ويتقرب إليه، ليس شيء من ذلك عند حجرته أفضل منه فيما بعد عن الحجرة، لا الصلاة والسلام عليه ولا غير ذلك من حقوقه، بل قد نهى هو ﷺ أن يجعل بيته عيدًا. فنهى أن يقصد بيته بتخصيص شيء من ذلك. فمن قصد أو اعتقد أن فعل ذلك عند الحجرة أفضل فهو مخالف له ﷺ. وهذا مما كان مشروعا كالإيمان به. والشهادة له بأنه رسول الله والصلاة والسلام عليه. وأما ما لم يشرعه الله ولم ينزل به سلطانا إليه، بل نهى عنه ﷺ، كدعاء غير الله وعبادتهم من جميع المخلوقات، الملائكة والأنبياء وغيرهم، والحج إلى المخلوقين وإلى قبورهم فهذه إنما يأمر بها من ليس معهم بذلك علم ولا وحي منزل من الله، فهم يضاهون الذين يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا، وما ليس لهم به علم، أو هم نوع منهم.
وقد ميز الله بين حقه وحق الرسول في مثل قوله: { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ } [363]، فالطاعة لله والرسول، والخشية لله وحده، والتقوي لله وحده، لا يخشي مخلوق ولا يتقي مخلوق، لا ملك ولا نبي ولا غيرهما. قال تعالى: { وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ } [364]، وقال تعالى: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَإلىوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَي الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَي أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [365]، وقال تعالى: { فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا } [366].
وكذلك ميز بين النوعين في قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إلى اللّهِ رَاغِبُونَ } [367]، ففي الإيتاء قال: (آتاهم الله ورسوله)؛ لأن الرسول هو الواسطة بيننا وبين الله في تبليغ أمره ونهىه وتحليله وتحريمه ووعده ووعيده. فالحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، قال تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } [368]، فلهذا قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ } [369]، ولم يقل هنا: (ورسوله)؛ لأن الله وحده حسب جميع عباده المؤمنين، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [370]، أي: هو حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين.
وقال تعالى: { إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّي الصَّالِحِينَ [371] ذكر هذا بعد قوله: { إ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } إلى قوله: { قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّي الصَّالِحِينَ } [372]. عن ابن عباس قال: هم الذين لا يعدلون بالله فيتولاهم وينصرهم، ولا تضرهم عداوة من عاداهم. كما قال تعالى: { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [373]. ثم قال تعالى مما يأمرهم: { سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إلى اللّهِ رَاغِبُونَ } [374]، فأمرهم أن يجعلوا الرغبة لله وحده كما قال تعالى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإلى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [375]؛ وهذا لأن المخلوق لا يملك للمخلوق نفعا ولا ضرا. وهذا عام في أهل السموات وأهل الأرض، قال تعالى: { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [376].
قال طائفة من السلف؛ ابن عباس وغيره: هذه الآية في الذين عبدوا الملائكة والأنبياء كالمسيح وعزير. وقال عبد الله بن مسعود: كان قوم من الإنس يعبدون قوما من الجن فأسلم الجن وبقي أولئك على عبادتهم. فالآية تتناول كل من دعا من دون الله من هو صالح عند الله من الملائكة والإنس والجن، قال تعالى: هؤلاء الذين دعوتموهم { فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [377]. قال أبو محمد عبد الحق ابن عطية في تفسيره: أخبر الله تعالى أن هؤلاء المعبودين يطلبون التقرب إليه، والتزلف إليه، وأن هذه حقيقة حالهم. والضمير في { ربهم } للمبتغين أو للجميع. و { الوسيلة } هي القربة وسبب الوصول إلى البغية، وتوسل الرجل إذا طلب الدنو والنيل لأمر ما، ومنه قول النبي ﷺ: (من سأل الله لي الوسيلة) الحديث، وهذا الذي ذكره ذكر سائر المفسرين نحوه إلا أنه برز به على غيره فقال: و { أيهم } ابتداء، وخبره { أقرب } و { أولئك } يراد بهم المعبودون، وهو ابتداء، وخبره { يبتغون }. والضمير في { يدعون } للكفار وفي يبتغون للمعبودين. والتقدير نظرهم وذكرهم أيهم أقرب. وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث الراية بخيبر: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، أي يتبارون في طلب القرب. قال رحمه الله: وطفف الزجاج في هذا الموضع فتأمله.
ولقد صدق في ذلك، فإن الزجاج ذكر في قوله: { أيهم أقرب } وجهين كلاهما في غاية الفساد. وقد ذكر ذلك عنه ابن الجوزي وغيره وتابعه المهدوي والبغوي وغيرهما. ولكن ابن عطية كان أقعد بالعربية والمعاني من هؤلاء، وأخبر بمذهب سيبويه والبصريين، فعرف تطفيف الزجاج مع علمه رحمه الله بالعربية وسبقه ومعرفته بما يعرفه من المعاني والبيان. وأولئك لهم براعة وفضيلة في أمور يبرزون فيها على ابن عطية. لكن دلالة الألفاظ من جهة العربية هو بها أخبر، وإن كانوا هم أخبر بشيء آخر من المنقولات أو غيرها.
وقد بين سبحانه وتعالى أن المسيح وإن كان رسولا كريما، فإنه عبد الله، فمن عبده فقد عبد ما لا ينفعه ولا يضره، قال تعالى: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عليه الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ إلىمٌ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّي يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعلىمُ } [378].
وقد أمر تعالى أفضل الخلق أن يقول: إنه لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعا، ولا يملك لغيره ضرا ولا رشدا، فقال تعالى: { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ } [379] وقال: { قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } [380]، يقول: لن يجيرني من الله أحد إن عصيته كما قال تعالى: { قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [381] ولن أجد من دونه ملتحدا، أي: ملجأ ألجأ إليه، إلا بلاغا من الله ورسالاته، أي لا يجيرني منه أحد إلا طاعته أن أبلغ ما أرسلت به إليكم، فبذلك تحصل الإجارة والأمن. وقيل أيضا: لا أملك لكم ضرا ولا رشدا: لا أملك إلا تبليغ ما أرسلت به منه. ومثل هذا في القرآن كثير.
فتبين أن الأمن من عذاب الله وحصول السعادة إنما هو بطاعته
فتبين أن الأمن من عذاب الله وحصول السعادة إنما هو بطاعته تعالى لقوله: { مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ } [382]، وقال تعالى: { قٍلً مّا يّعًبّأٍ بٌكٍمً رّبٌَي لّوًلا دٍعّاؤٍكٍمً } [383]، أي: لو لم تدعوه كما أمر فتطيعوه فتعبدوه وتطيعوا رسله، فإنه لا يعبأ بكم شيئا.
وهذه الوسيلة التي أمر الله أن تبتغي إليه، فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إليه الْوَسِيلَةَ } [384]، قال عامة المفسرين؛ كابن عباس ومجاهد وعطاء والفراء: الوسيلة: القربة. قال قتادة: تقربوا إلى الله بما يرضيه. قال أبو عبيدة: توسلت إليه: أي تقربت. وقال عبد الرحمن بن زيد: تحببوا إلى الله. والتحبب والتقرب إليه إنما هو بطاعة رسوله. فالإيمان بالرسول وطاعته هو وسيلة الخلق إلى الله، ليس لهم وسيلة يتوسلون بها البتة إلا الإيمان برسوله وطاعته. وليس لأحد من الخلق وسيلة إلى الله تبارك وتعالى إلا بوسيلة الإيمان بهذا الرسول الكريم وطاعته. وهذه يؤمر بها الإنسان حيث كان من الأمكنة، وفي كل وقت. وما خص من العبادات بمكان كالحج، أو زمان كالصوم والجمعة، فكل في مكانه وزمانه. وليس لنفس الحجرة من داخل فضلا عن جدارها من خارج اختصاص بشيء في شرع العبادات ولا فعل شيء منها. فالقرب من الله أفضل منه بالبعد منه باتفاق المسلمين. والمسجد خص بالفضيلة في حياته ﷺ قبل وجود القبر، فلم تكن فضيلة مسجده لذلك، ولا استحب هو ﷺ ولا أحد من أصحابه ولا علماء أمته أن يجاور أحد عند قبر، ولا يعكف عليه، لا قبره المكرم ولا قبر غيره ولا أن يقصد السكني قريبا من قبر، أي قبر كان.
وسكني المدينة النبوية هو أفضل في حق من تتكرر طاعته لله ورسوله فيها أكثر. كما كان الأمر لما كان الناس مأمورين بالهجرة إليها. فكانت الهجرة إليها والمقام بها أفضل من جميع البقاع، مكة وغيرها. بل كان ذلك واجبا من أعظم الواجبات. فلما فتحت مكة قال النبي ﷺ: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية)، وكان من أتي من أهل مكة وغيرهم ليهاجر ويسكن المدينة، يأمره أن يرجع إلى مدينته، ولا يأمره بسكناها. كما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر الناس عقب الحج أن يذهبوا إلى بلادهم لئلا يضيقوا على أهل مكة. وكان يأمر كثيرا من أصحابه وقت الهجرة أن يخرجوا إلى أماكن أخر لولاية مكان وغيره، وكانت طاعة الرسول بالسفر إلى غير المدينة أفضل من المقام عنده بالمدينة حين كانت دار الهجرة، فكيف بها بعد ذلك؟ إذ كان الذي ينفع الناس طاعة الله ورسوله. وأما ما سوي ذلك فإنه لا ينفعهم لا قرابة ولا مجاورة ولا غير ذلك، كما ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه قال: (يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا. يا عباس عم رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا). قال ﷺ: (إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما ولي الله وصالح المؤمنين)، وقال: (إن أوليائي المتقون، حيث كانوا ومن كانوا).
وقد قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا } [385]، فهو تبارك وتعالى يدافع عن المؤمنين حيث كانوا. فالله هو الدافع، والسبب هو الإيمان. وكان النبي ﷺ يقول في خطبته: (من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئا)، قال تعالى: { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عليهم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } [386].
وأما ما يظنه بعض الناس من أن البلاء يندفع عن أهل بلد أو إقليم بمن هو مدفون عندهم من الأنبياء والصالحين، كما يظن بعض الناس أنه يندفع عن أهل بغداد البلاء لقبور ثلاثة: أحمد بن حنبل، وبشر الحافي، ومنصور بن عمار، ويظن بعضهم أنه يندفع البلاء عن أهل الشام بمن عندهم من قبور الأنبياء: الخليل وغيره عليهم السلام وبعضهم يظن أنه يندفع البلاء عن أهل مصر بنفيسة أو غيرها. أو يندفع عن أهل الحجاز بقبر النبي ﷺ وأهل البقيع أو غيرهم، فكل هذا غلو مخالف لدين الإسلام، مخالف للكتاب والسنة والإجماع. فالبيت المقدس كان عنده من قبور الأنبياء والصالحين ما شاء الله، فلما عصوا الأنبياء وخالفوا ما أمر الله به ورسله سلط عليهم من انتقم منهم. والرسل الموتي ما عليهم إلا البلاغ المبين، وقد بلغوا رسالة ربهم. وكذلك نبينا ﷺ قال الله تعالى في حقه: { إِنْ عليك إِلَّا الْبَلَاغُ } [387]، وقال تعالى: { وَمَا على الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } [388].
وقد ضمن الله لكل من أطاع الرسول أن يهديه وينصره. فمن خالف أمر الرسول استحق العذاب ولم يغن عنه أحد من الله شيئا، كما قال النبي ﷺ: (يا عباس عم رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا. يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا. يا فاطمة بنت رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا). وقال ﷺ لمن ولاه من أصحابه: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول: يا رسول الله، أغثني. فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك). وكان أهل المدينة في خلافة أبي بكر وعمر وصدر من خلافة عثمان على أفضل أمور الدنيا والآخرة، لتمسكهم بطاعة الرسول. ثم تغيروا بعض التغير بقتل عثمان رضي الله عنه وخرجت الخلافة النبوية من عندهم، وصاروا رعية لغيرهم. ثم تغيروا بعض التغير فجري عليهم عام الحرة من القتل والنهب وغير ذلك من المصائب ما لم يجر عليهم قبل ذلك. والذي فعل بهم ذلك وإن كان ظالما معتديا فليس هو أظلم ممن فعل بالنبي ﷺ وأصحابه ما فعل، وقد قال الله تعالى: { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّي هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } [389]، وقد كان النبي ﷺ والسابقون الأولون مدفونين بالمدينة.
وكذلك الشام، كانوا في أول الإسلام في سعادة الدنيا والدين، ثم جرت فتن وخرج الملك من أيديهم، ثم سلط عليهم المنافقون الملاحدة والنصارى بذنوبهم، واستولوا على بيت المقدس وقبر الخليل، وفتحوا البناء الذي كان عليه وجعلوه كنيسة. ثم صلح دينهم فأعزهم الله ونصرهم على عدوهم لما أطاعوا الله ورسوله واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم. فطاعة الله ورسوله قطب السعادة وعليها تدور، { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عليهم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } [390]، وكان النبي ﷺ يقول في خطبته: (من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئا).
ومكة نفسها لا يدفع البلاء عن أهلها ويجلب لهم الرزق إلا بطاعتهم لله ورسوله. كما قال الخليل عليه السلام: { رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إليهمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [391]. وكانوا في الجاهلية يعظمون حرمة الحرم، ويحجون ويطوفون بالبيت، وكانوا خيرا من غيرهم من المشركين. والله لا يظلم مثقال ذرة. وكانوا يكرمون ما لا يكرم غيرهم، ويؤتون ما لا يؤتاه غيرهم، لكونهم كانوا متمسكين بدين إبراهيم بأعظم مما تمسك به غيرهم. وهم في الإسلام إن كانوا أفضل من غيرهم كان جزاؤهم بحسب فضلهم، وإن كانوا أسوأ عملا من غيرهم كان جزاؤهم بحسب سيئاتهم. فالمساجد والمشاعر إنما ينفع فضلها لمن عمل فيها بطاعة الله عز وجل. وإلا فمجرد البقاع لا يحصل بها ثواب ولا عقاب، وإنما الثواب والعقاب على الأعمال المأمور بها والمنهى عنها. وكان النبي ﷺ قد آخي بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء، وكان أبو الدرداء بدمشق وسلمان الفارسي بالعراق، فكتب أبو الدرداء إلى سلمان: هلم إلى الأرض المقدسة. فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تُقدس أحدا، وإنما يقدس الرجل عمله.
والمقام بالثغور للجهاد أفضل من سكني الحرمين
والمقام بالثغور للجهاد أفضل من سكني الحرمىن باتفاق العلماء. ولهذا كان سكني الصحابة بالمدينة أفضل للهجرة والجهاد.
والله تعالى هو الذي خلق الخلق، وهو الذي يهديهم ويرزقهم وينصرهم، وكل من سواه لا يملك شيئا من ذلك، كما قال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [392]، وقد فسروها بأنه يؤذن للشافع والمشفوع له جميعا، فإن سيد الشفعاء يوم القيامة محمد ﷺ إذا أراد الشفاعة قال: (فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا وأحمده بمحامد يفتحها على لا أحسنها الآن، فيقال لي: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع). قال: (فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة). وكذلك ذكر في المرة الثانية والثالثة.
ولهذا قال تعالى: { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [393]، فأخبر أنه لا يملكها أحد دون الله. وقوله: { إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } استثناء منقطع، أي: من شهد بالحق وهم يعلمون هم أصحاب الشفاعة منهم الشافع ومنهم المشفوع له. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه سأله أبو هريرة فقال: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول اللّه؟ فقال: (يا أبا هريرة، لقد ظننت ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله، خالصا من قلبه). رواه البخاري فجعل أسعد الناس بشفاعته أكملهم إخلاصا. وقال في الحديث الصحيح: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا على، فإنه من صلى على مرة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة). فالجزاء من جنس العمل، فقد أخبر ﷺ أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا. ومن سأل الله له الوسيلة حلت عليه شفاعته يوم القيامة. ولم يقل كان أسعد الناس بشفاعتي بل قال: (أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه).
فعلم أن ما يحصل للعبد بالتوحيد والإخلاص من شفاعة الرسول، وغيرها لا يحصل بغيره من الأعمال، وإن كان صالحا كسؤاله الوسيلة للرسول فكيف بما لم يأمر به من الأعمال، بل نهى عنه؟ فذاك لا ينال به خيرا لا في الدنيا ولا في الآخرة، مثل غلو النصارى في المسيح عليه السلام، فإنه يضرهم ولا ينفعهم. ونظير هذا ما في الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: (إن لكل نبي دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتى يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا). وكذلك في أحاديث الشفاعة كلها، إنما يشفع في أهل التوحيد، فبحسب توحيد العبد لله وإخلاصه دينه لله يستحق كرامة الشفاعة وغيرها.
وهو سبحانه علق الوعد والوعيد والثواب والعقاب والحمد والذم بالإيمان به وتوحيده وطاعته، فمن كان أكمل في ذلك كان أحق بتولي الله له بخير الدنيا والآخرة. ثم جميع عباده مسلمهم وكافرهم هو الذي يرزقهم، وهو الذي يدفع عنهم المكاره، وهو الذي يقصدونه في النوائب، قال تعالى: { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإليه تَجْأَرُونَ } [394]، وقال تعالى: { قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ } [395]، أي بدلا عن الرحمن. هذا أصح القولين، كقوله تعالى: { وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ } [396]، أي: لجعلنا بدلا منكم كما قاله عامة المفسرين، ومنه قول الشاعر:
فليت لنا من ماء زمزم شربة**مبردة باتت على طهيان
أي بدلا من ماء زمزم. فلا يكلأ الخلق بالليل والنهار فيحفظهم ويدفع عنهم المكاره إلا الله، قال تعالى: { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } [397].
ومن ظن أن أرضا معينة تدفع عن أهلها البلاء مطلقا لخصوصها، أو لكونها فيها قبور الأنبياء والصالحين، فهو غالط. فأفضل البقاع مكة، وقد عذب الله أهلها عذابا عظيما، فقال تعالى: { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ َأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } [398].
فصل ولاة الأمر أحق الناس بنصر دين الرسول
وولاة الأمر أحق الناس بنصر دين الرسول ﷺ، وما جاء به من الهدي ودين الحق، وبإنكار ما نهى عنه وما نسب إليه بالباطل من الكذب والبدع. إما جهلا من ناقله، وإما عمدا، فإن أصل الدين هو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. ورأس المعروف هو التوحيد، ورأس المنكر هو الشرك. وقد بعث الله محمدا ﷺ بالهدي ودين الحق، به فرق الله بين التوحيد والشرك، وبين الحق والباطل، وبين الهدي والضلال، وبين الرشاد والغي، وبين المعروف والمنكر. فمن أراد أن يأمر بما نهى عنه، وينهى عما أمر به، ويغير شريعته ودينه، إما جهلا وقلة علم، وإما لغرض وهوي، كان السلطان أحق بمنعه بما أمر الله به ورسوله. وكان هو أحق بإظهار ما جاء به الرسول من الهدي ودين الحق. فإن الله سبحانه لابد أن ينصر رسوله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. فمن كان النصر على يديه كان له سعادة الدنيا والآخرة، وإلا جعل الله النصر على يد غيره، وجازي كل قوم بعملهم، وما ربك بظلام للعبيد.
والله سبحانه قد وعد أنه لا يزال هذا الدين ظاهرا ولا يظهر إلا بالحق، وأنه من نكل عن القيام بالحق استبدل من يقوم بالحق، فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا إلىمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [399]، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ على الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ على الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ علىمٌ } [400]. وقد أري الله الناس في أنفسهم والآفاق ما علموا به تصديق ما أخبر به تحقيقا لقوله تعالى: { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [401]، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.
فصل في قبور الأنبياء
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
وأما قبور الأنبياء، فالذي اتفق عليه العلماء هو قبر النبي ﷺ فإن قبره منقول بالتواتر، وكذلك قبر صاحبيه، وأما قبر الخليل فأكثر الناس على أن هذا المكان المعروف هو قبره، وأنكر ذلك طائفة، وحكي الإنكار عن مالك، وأنه قال: ليس في الدنيا قبر نبي يعرف إلا قبر نبينا ﷺ، لكن جمهور الناس على أن هذا قبره، ودلائل ذلك كثيرة، وكذلك هو عند أهل الكتاب.
ولكن ليس في معرفة قبور الأنبياء بأعيانها فائدة شرعية، وليس حفظ ذلك من الدين، ولو كان من الدين لحفظه الله كما حفظ سائر الدين، وذلك أن عامة من يسأل عن ذلك إنما قصده الصلاة عندها، والدعاء بها، ونحو ذلك من البدع المنهى عنها. ومن كان مقصوده الصلاة والسلام على الأنبياء والإيمان بهم وإحياء ذكرهم فذاك ممكن له، وإن لم يعرف قبورهم صلوات الله عليهم. وقد تقدم أن النبي ﷺ لعن اليهود والنصارى الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وما يشبه هذا من الحديث.
سئل عن قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
وسئل رحمه الله عن قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هل هي هذه القبور التي تزورها الناس إلىوم؟ مثل قبر نوح، وقبر الخليل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، ويونس، وإلىاس، وإلىسع، وشعيب، وموسي، وزكريا، وهو بمسجد دمشق. وأين قبر على ابن أبي طالب؟ فهل يصح من تلك القبور شيء أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، القبر المتفق عليه هو قبر نبينا ﷺ، وقبر الخليل فيه نزاع، لكن الصحيح الذي عليه الجمهور أنه قبره. وأما يونس، وإلياس، وشعيب، وزكريا، فلا يعرف. وقبر على بن أبي طالب بقصر الإمارة الذي بالكوفة، وقبر معاوية هو القبر الذي تقول العامة: إنه قبر هود، والله أعلم.
سئل هل المشاهد المسماة باسم على بن أبي طالب وولده الحسين صحيحة
هل المشاهد المسماة باسم على بن أبي طالب وولده الحسين رضي الله عنهما صحيحة أم لا؟ وأين ثبت قبر على؟
فأجاب:
أما هذه المشاهد المشهورة، فمنها ما هو كذب قطعا، مثل المشهد الذي بظاهر دمشق المضاف إلى أبي بن كعب، والمشهد الذي بظاهرها المضاف إلى أويس القرني، والمشهد الذي بمصر المضاف إلى الحسين رضي الله عنه إلى غير ذلك من المشاهد التي يطول ذكرها بالشام والعراق ومصر وسائر الأمصار، حتى قال طائفة من العلماء؛ منهم عبد العزيز الكناني: كل هذه القبور المضافة إلى الأنبياء لا يصح شيء منها إلا قبر النبي ﷺ، وقد أثبت غيره أيضا قبر الخليل عليه السلام.
وأما مشهد علي، فعامة العلماء على أنه ليس قبره، بل قد قيل: إنه قبر المغيرة بن شعبة، وذلك أنه إنما أظهر بعد نحو ثلاثمائة سنة من موت على في إمارة بني بويه، وذكروا أن أصل ذلك حكاية بلغتهم عن الرشيد أنه أتي إلى ذلك المكان وجعل يعتذر إلى من فيه مما جري بينه وبين ذرية على، وبمثل هذه الحكاية لا يقوم شيء. فالرشيد أيضا لا علم له بذلك. ولعل هذه الحكاية إن صحت عنه فقد قيل له ذلك كما قيل لغيره، وجمهور أهل المعرفة يقولون: إن علىا إنما دفن في قصر الإمارة بالكوفة أو قريبا منه. وهكذا هو السنة؛ فإن حمل ميت من الكوفة إلى مكان بعيد ليس فيه فضيلة، أمر غير مشروع، فلا يظن بآل على رضي اللّه عنه أنهم فعلوا به ذلك، ولا يظن أيضا أن ذلك خفي على أهل بيته وللمسلمين ثلاثمائة سنة، حتى أظهره قوم من الأعاجم الجهال ذوي الأهواء.
وكذلك قبر معاوية الذي بظاهر دمشق، قد قيل: إنه ليس قبر معاوية، وأن قبره بحائط مسجد دمشق الذي يقال: إنه قبر هود.
وأصل ذلك أن عامة أمر هذه القبور والمشاهد مضطرب مختلق، لا يكاد يوقف منه على العلم إلا في قليل منها بعد بحث شديد. وهذا لأن معرفتها وبناء المساجد عليها ليس من شريعة الإسلام، ولا ذلك من حكم الذكر الذي تكفل الله بحفظه، حيث قال: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [402]، بل قد نهى النبي ﷺ عما يفعله المبتدعون عندها مثل قوله الذي رواه مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي ﷺ قبل أن يموت بخمس وهو يقول: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)، وقال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
وقد اتفق أئمة الإسلام علي أنه لا يشرع بناء هذه المشاهد علي القبور ولا يشرع اتخاذها مساجد، ولا يشرع الصلاة عندها، ولا يشرع قصدها لأجل التعبد عندها بصلاة أو اعتكاف أو استغاثة أو ابتهال أو نحو ذلك، وكرهوا الصلاة عندها، ثم إن كثيرًا منهم قال: إن الصلاة عندها باطلة، لأجل نهى النبي ﷺ عنها.
وإنما السنة لمن زار قبر مسلم ميت إما نبي أو رجل صالح أو غيرهما، أن يسلم عليه ويدعو له بمنزلة الصلاة علي جنازته، كما جمع الله بين هذه حيث يقول في المنافقين: { وَلاَ تُصَلِّ عَلَي أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَي قَبْرِهِ } [403] فكان دليل الخطاب أن المؤمنين يصلى عليهم ويقام علي قبورهم. وفي السنن أن النبي ﷺ إذا دفن الميت من أصحابه يقوم علي قبره ثم يقول: (سلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل). وفي الصحيح: أنه كان يعلم أصحابه أن يقولوا إذا زاروا القبور: (السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم).
وإنما دين الله تعظيم بيوت الله وحده لا شريك له، وهي المساجد التي تشرع فيها الصلوات جماعة وغير جماعة، والاعتكاف، وسائر العبادات البدنية، والقلبية؛ من القراءة والذكر والدعاء لله، قال الله تعإلى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [404]، وقال تعإلى: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [405]، وقال تعإلى: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَإلىوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَي الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَي أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [406]، وقال تعإلى: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } [407]. فهذا دين المسلمين الذين يعبدون الله مخلصين له الدين.
وأما اتخاذ القبور أوثانًا فهو دين المشركين الذي نهى عنه سيد المرسلين والله تعإلى يصلح حال جميع المسلمين. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله علي محمد.
سئل عن المشهد المنسوب إلى الحسين بمدينة القاهرة
وسئل شيخ الإسلام قدس الله روحه عن المشهد المنسوب إلى الحسين رضي الله عنه بمدينة القاهرة: هل هو صحيح أم لا ؟
وهل حمل رأس الحسين إلى دمشق، ثم إلى مصر، أم حمل إلى المدينة من جهة العراق؟
وهل لما يذكره بعض الناس من جهة المشهد الذي كان بعسقلان صحة أم لا؟
ومن ذكر أمر رأس الحسين، ونقله إلى المدينة النبوية دون الشام ومصر؟
ومن جزم من العلماء المتقدمين والمتأخرين بأن مشهد عسقلان ومشهد القاهرة مكذوب، وليس بصحيح؟
وليبسطوا القول في ذلك لأجل مسيس الضرورة والحاجة إليه، مثابين مأجورين إن شاء الله تعالى.
فأجاب:
الحمد لله، بل المشهد المنسوب إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما الذي بالقاهرة كذب مختلق، بلا نزاع بين العلماء المعروفين عند أهل العلم، الذين يرجع إليهم المسلمون في مثل ذلك لعلمهم وصدقهم. ولا يعرف عن عالم مسمى معروف بعلم وصدق أنه قال إن هذا المشهد صحيح. وإنما يذكره بعض الناس قولا عمن لا يعرف، علي عادة من يحكي مقالات الرافضة وأمثالهم من أهل الكذب.
فإنهم ينقلون أحاديث وحكايات، ويذكرون مذاهب ومقالات. وإذا طالبتهم بمن قال ذلك ونقله، لم يكن لهم عصمة يرجعون إليها. ولم يسموا أحدًا معروفا بالصدق في نقله، ولا بالعلم في قوله، بل غاية ما يعتمدون عليه أن يقولوا: أجمعت الطائفة الحقة. وهم عند أنفسهم الطائفة الحقة، الذين هم عند أنفسهم المؤمنون، وسائر الأمة سواهم كفار.
ويقولون: إنما كانوا علي الحق لأن فيهم الإمام المعصوم، والمعصوم عند الرافضة الإمامية الاثني عشرية: هو الذي يزعمون أنه دخل إلى سرداب سامرا بعد موت أبيه الحسن بن علي العسكري سنة ستين ومائتين، وهو إلى الآن غائب، لم يعرف له خبر، ولا وقع له أحد علي عين ولا أثر.
وأهل العلم بأنساب أهل البيت يقولون: إن الحسن بن علي العسكري لم يكن له نسل ولا عقب. ولا ريب أن العقلاء كلهم يعدون مثل هذا القول من أسفه السفه، واعتقاد الإمامة والعصمة في مثل هذا، مما لا يرضاه لنفسه إلا من هو أسفه الناس وأضلهم وأجهلهم وبسط الرد عليهم له موضع غير هذا.
والمقصود هنا بيان جنس المقولات والمنقولات عند أهل الجهل والضلالات.
فإن هؤلاء عند الجهال الضلال يزعمون أن هذا المنتظر كان عمره عند موت أبيه إما سنتين، أو ثلاثًا، أو خمسًا، علي اختلاف بينهم في ذلك.
وقد علم بنص القرآن والسنة المتواترة، وإجماع الأمة: أن مثل هذا يجب أن يكون تحت ولاية غيره في نفسه وماله. فيكون هو نفسه محضونًا مكفولا لآخر يستحق كفالته في نفسه، وماله تحت من يستحق النظر والقيام عليه من ذمي أو غيره. وهو قبل السبع طفل لا يؤمر بالصلاة. فإذا بلغ العشر ولم يصل، أدب علي فعلها. فكيف يكون مثل هذا إماما معصومًا، يعلم جميع الدين، ولا يدخل الجنة إلا من آمن به؟!
ثم بتقدير وجوده، وإمامته وعصمته، إنما يجب على الخلق أن يطيعوا من يكون قائما بينهم؛ يأمرهم بما أمرهم الله به ورسوله، وينهاهم عما نهاهم عنه الله ورسوله. فإذا لم يروه ولم يسمعوا كلامه، لم يكن لهم طريق إلى العلم بما يأمر به وما ينهى عنه. فلا يجوز تكليفهم طاعته؛ إذ لم يأمرهم بشيء سمعوه وعرفوه، وطاعة من لا يأمر ممتنعة لذاتها. وإن قدر أنه يأمرهم، ولكن لم يصل إليهم أمره، ولا يتمكنون من العلم بذلك، كانوا عاجزين غير مطيقين لمعرفة ما أمروا به، والتمكن من التعلم شرط في طاعة الأمر، ولا سيما عند الشيعة المتأخرين. فإنهم من أشد الناس منعًا لتكليف ما لا يطاق؛ لموافقتهم المعتزلة في القدر والصفات أيضا.
وإن قيل: إن ذلك بسبب ذنوبهم؛ لأنهم أخافوه أن يظهر.
قيل: هب أن أعداءه أخافوه، فأي ذنب لأوليائه ومحبيه؟ وأي منفعة لهم من الإيمان به، وهو لا يعلمهم شيئًا، ولا يأمرهم بشيء؟
ثم كيف جاز له مع وجوب الدعوة عليه أن يغيب هذه الغيبة التي لها الآن أكثر من أربعمائة وخمسين سنة.
وما الذي سوغ له هذه الغيبة، دون آبائه الذين كانوا موجودين قبل موتهم، كعلي والحسن والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسي بن جعفر، وعلي بن موسي، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي العسكري؟!
فإن هؤلاء كانوا موجودين يجتمعون بالناس. وقد أخذ عن علي والحسن والحسين وعلي ابن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد من العلم ما هو معروف عند أهله، والباقون لهم سير معروفة، وأخبار مكشوفة. فما باله استحل هذا الاختفاء هذه المدة الطويلة أكثر من أربعمائة سنة. وهو إمام الأمة، بل هو علي زعمهم هاديها وداعيها ومعصومها، الذي يجب عليها الإيمان به. ومن لم يؤمن به فليس بمؤمن عندهم؟
فإن قالوا: الخوف.
قيل: الخوف علي آبائه كان أشد، بلا نزاع بين العلماء. وقد حبس بعضهم، وقتل بعضهم. ثم الخوف إنما يكون إذا حارب. فأما إذا فعل كما كان يفعل سلفه من الجلوس مع المسلمين وتعليمهم لم يكن عليه خوف.
وبيان ضلال هؤلاء طويل.
وإنما المقصود بيانه هنا: أنهم يجعلون هذا أصل دينهم.
ثم يقولون: إذا اختلفت الطائفة الحقة علي قولين، أحدهما: يعرف قائله، والآخر: لا يعرف قائله، كان القول الذي لا يعرف قائله هو الحق، هكذا وجدته في كتب شيوخهم، وعللوا ذلك: بأن القول الذي لا يعرف قائله يكون من قائليه الإمام المعصوم. وهذا نهاية الجهل والضلال.
وهكذا كل ما ينقلونه من هذا الباب. ينقلون سيرًا أو حكايات وأحاديث، إذا ما طالبتهم بإسنادها لم يحيلوك علي رجل معروف بالصدق، بل حسب أحدهم أن يكون سمع ذلك من آخر مثله، أو قرأه في كتاب ليس فيه إسناد معروف، وإن سموا أحدًا، كان من المشهورين بالكذب والبهتان. لا يتصور قط أن ينقلوا شيئا مما لا يعرف عند علماء السنة إلا وهو عن مجهول لا يعرف، أو عن معروف بالكذب.
ومن هذا الباب نقل الناقل: أن هذا القبر الذي بالقاهرة مشهد الحسين رضي الله عنه بل وكذلك مشاهد غير هذا مضافة إلى قبر الحسين رضي الله عنه فإنه معلوم باتفاق الناس: أن هذا المشهد بني عام بضع وأربعين وخمسمائة، وأنه نقل من مشهد بعسقلان، وأن ذلك المشهد بعسقلان كان قد أحدث بعد التسعين والأربعمائة.
فأصل هذا المشهد القاهري: هو ذلك المشهد العسقلاني. وذلك العسقلاني محدث بعد مقتل الحسين بأكثر من أربعمائة وثلاثين سنة، وهذا القاهري محدث بعد مقتله بقريب من خمسمائة سنة. وهذا مما لم يتنازع فيه اثنان ممن تكلم في هذا الباب من أهل العلم، علي اختلاف أصنافهم، كأهل الحديث، ومصنفي أخبار القاهرة، ومصنفي التواريخ. وما نقله أهل العلم طبقة عن طبقة. فمثل هذا مستفيض عندهم. وهذا بينهم مشهور متواتر، سواء قيل: إن إضافته إلى الحسين صدق أو كذب، لم يتنازعوا أنه نقل من عسقلان في أواخر الدولة العبيدية.
وإذا كان أصل هذا المشهد القاهري منقول عن ذلك المشهد العسقلاني باتفاق الناس وبالنقل المتواتر، فمن المعلوم أن قول القائل: إن ذلك الذي بعسقلان هو مبني علي رأس الحسين رضي الله عنه قول بلا حجة أصلا. فإن هذا لم ينقله أحد من أهل العلم الذين من شأنهم نقل هذا. لا من أهل الحديث، ولا من علماء الأخبار والتواريخ، ولا من العلماء المصنفين في النسب؛ نسب قريش، أو نسب بني هاشم ونحوه.
وذلك المشهد العسقلاني، أحدث في آخر المائة الخامسة، لم يكن قديما، ولا كان هناك مكان قبله أو نحوه مضاف إلى الحسين، ولا حجر منقوش ولا نحوه مما يقال: إنه علامة علي ذلك.
فتبين بذلك أن إضافة مثل هذا إلى الحسين قول بلا علم أصلا. وليس مع قائل ذلك ما يصلح أن يكون معتمدًا، لا نقل صحيح ولا ضعيف، بل لا فرق بين ذلك وبين أن يجيء الرجل إلى بعض القبور التي بأحد أمصار المسلمين، فيدعي أن في واحد منها رأس الحسين، أو يدعي أن هذا قبر نبي من الأنبياء، أو نحو ذلك مما يدعيه كثير من أهل الكذب والضلال.
ومن المعلوم أن مثل هذا القول غير منقول باتفاق المسلمين.
وغالب ما يستند إليه الواحد من هؤلاء: أن يدعي أنه رأي منامًا، أو أنه وجد بذلك القبر علامة تدل علي صلاح ساكنه؛ إما رائحة طيبة، وإما توهم خرق عادة ونحو ذلك، وإما حكاية عن بعض الناس: أنه كان يعظم ذلك القبر.
فأما المنامات فكثير منها، بل أكثرها كذب، وقد عرفنا في زماننا بمصر والشام والعراق من يدعي أنه رأي منامات تتعلق ببعض البقاع أنه قبر نبي، أو أن فيه أثر نبي ونحو ذلك. ويكون كاذبًا. وهذا الشيء منتشر. فرائي المنام غالبا ما يكون كاذبًا، وبتقدير صدقه، فقد يكون الذي أخبره بذلك شيطان. والرؤيا المحضة التي لا دليل يدل علي صحتها لا يجوز أن يثبت بها شيء بالاتفاق. فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله، ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه، ورؤيا من الشيطان).
فإذا كان جنس الرؤيا تحته أنواع ثلاثة. فلابد من تمييز كل نوع منها عن نوع.
ومن الناس حتى من الشيوخ الذي لهم ظاهر علم وزهد من يجعل مستنده في مثل ذلك حكاية يحكيها عن مجهول، حتى إن منهم من يقول: حدثني أخي الخضر أن قبر الخضر بمكان كذا. ومن المعلوم الذي بيناه في غير هذا الموضع أن كل من ادعي أنه رأي الخضر، أو رأي من رأي الخضر أو سمع شخصا رأي الخضر أو ظن الرائي أنه الخضر: أن كل ذلك لا يجوز إلا علي الجهلة المخرفين، الذين لا حظ لهم من علم ولا عقل ولا دين، بل هم من الذين لا يفقهون ولا يعقلون.
وأما ما يذكر من وجود رائحة طيبة، أو خرق عادة أو نحو ذلك مما يتعلق بالقبر، فهذا لا يدل علي تعينه. وأنه فلان أو فلان، بل غاية ما يدل عليه إذا ثبت أنه دليل علي صلاح المقبور، وأنه قبر رجل صالح أو نبي.
وقد تكون تلك الرائحة مما صنعه بعض السوقة. فإن هذا مما يفعله طائفة من هؤلاء، كما حدثني بعض أصحابنا أنه ظهر بشاطئ الفرات رجلان، وكان أحدهما قد اتخذ قبرًا تجبي إليه أموال ممن يزوره وينذر له من الضلال، فعمد الآخر إلى قبر، وزعم أنه رأي في المنام أنه قبر عبد الرحمن بن عوف، وجعل فيه من أنواع الطيب ما ظهرت له رائحة عظيمة.
وقد حدثني جيران القبر الذي بجبل لبنان بالبقاع، الذي يقال: إنه قبر نوح، وكان قد ظهر قريبا في أثناء المائة السابعة، وأصله: أنهم شموا من قبر رائحة طيبة ووجدوا عظاما كبيرة، فقالوا: هذه تدل علي كبير خلق البنية. فقالوا بطريق الظن: هذا قبر نوح. وكان بالبقعة موتي كثيرون من جنس هؤلاء.
وكذلك هذا المشهد العسقلاني، قد ذكر طائفة أنه قبر بعض الحواريين أو غيرهم من أتباع عيسي ابن مريم. وقد يوجد عند قبور الوثنيين من جنس ما يوجد عند قبور المؤمنين، بل إن زعم الزاعم أنه قبر الحسين ظن وتخرص. وكان من الشيوخ المشهورين بالعلم والدين بالقاهرة من ذكروا عنه أنه قال: هو قبر نصراني.
وكذلك بدمشق بالجانب الشرقي مشهد يقال: إنه قبر أبي بن كعب. وقد اتفق أهل العلم علي أن أبيا لم يقدم دمشق. وإنما مات بالمدينة. فكان بعض الناس يقول: إنه قبر نصراني. وهذا غير مستبعد. فإن اليهود والنصارى هم السابقون في تعظيم القبور والمشاهد؛ ولهذا قال ﷺ في الحديث المتفق عليه: (لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما فعلوا.
والنصارى أشد غلوًا في ذلك من اليهود، كما في الصحيحين عن عائشة: أن النبي ﷺ ذكرت له أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما كنيسة بأرض الحبشة، وذكرتا من حسنها وتصاوير فيها. فقال: (إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح، فمات، بنوا علي قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة).
والنصارى كثيرًا ما يعظمون آثار القديسين منهم. فلا يستبعد أنهم ألقوا إلى بعض جهال المسلمين أن هذا قبر بعض من يعظمه المسلمون ليوافقوهم علي تعظيمه. كيف لا وهم قد أضلوا كثيرًا من جهال المسلمين، حتى صاروا يعَمِّدون أولادهم، ويزعمون أن ذلك يوجب طول العمر للولد، وحتى جعلوهم يزورون ما يعظمونه من الكنائس والبيع، وصار كثير من جهال المسلمين ينذرون للمواضع التي يعظمها النصارى، كما قد صار كثير من جهالهم يزورون كنائس النصارى ويلتمسون البركة من قسيسيهم ورهبانهم ونحوهم؟!
والذين يعظمون القبور والمشاهد لهم شبه شديد بالنصارى، حتى إني لما قدمت القاهرة اجتمع بي بعض معظميهم من الرهبان، وناظرني في المسيح ودين النصارى، حتى بينت له فساد ذلك، وأجبته عما يدعيه من الحجة، وبلغني بعد ذلك أنه صنف كتابا في الرد علي المسلمين، وإبطال نبوة محمد ﷺ، وأحضره إلى بعض المسلمين، وجعل يقرؤوه علي لأجيب عن حجج النصارى وأبين فسادها.
وكان من أواخر ما خاطبت به النصراني: أن قلت له: أنتم مشركون، وبينت من شركهم ما هم عليه من العكوف علي التماثيل والقبور وعبادتها، والاستغاثة بها.
قال لي: نحن ما نشرك بهم ولا نعبدهم. وإنما نتوسل بهم، كما يفعل المسلمون إذا جاؤوا إلى قبر الرجل الصالح، فيتعلقون بالشباك الذي عليه ونحو ذلك.
فقلت له: وهذا أيضا من الشرك، ليس هذا من دين المسلمين، وإن فعله الجهال، فأقر أنه شرك، حتى أن قسيسا كان حاضرًا في هذه المسألة. فلما سمعها قال: نعم، علي هذا التقدير نحن مشركون.
وكان بعض النصارى يقول لبعض المسلمين: لنا سيد وسيدة، ولكم سيد وسيدة، لنا السيد المسيح والسيدة مريم، ولكم السيد الحسين والسيدة نفيسة.
فالنصارى يفرحون بما يفعله أهل البدع والجهل من المسلمين مما يوافق دينهم ويشابهونهم فيه ويحبون أن يقوي ذلك ويكثر، ويحبون أن يجعلوا رهبانهم مثل عباد المسلمين، وقسيسيهم مثل علماء المسلمين. ويضاهئون المسلمين، فإن عقلاءهم لا ينكرون صحة دين الإسلام، بل يقولون: هذا طريق إلى الله، وهذا طريق إلى الله.
ولهذا يسهل إظهار الإسلام علي كثير من المنافقين الذين أسلموا منهم. فإن عندهم أن المسلمين والنصارى كأهل المذاهب من المسلمين، بل يسمون الملل مذاهب. ومعلوم أن أهل المذاهب، كالحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، دينهم واحد. وكل من أطاع الله ورسوله منهم بحسب وسعه كان مؤمنًا سعيدًا باتفاق المسلمين.
فإذا اعتقد النصارى مثل هذا في الملل يبقي انتقال أحدهم عن ملته كانتقال الإنسان من مذهب إلى مذهب. وهذا كثيرًا ما يفعله الناس لرغبة أو رهبة. وإذا بقي أقاربه وأصدقاؤه علي المذهب الأول لم ينكر ذلك، بل يحبهم ويودهم في الباطن؛ لأن المذهب كالوطن، والنفس تحن إلى الوطن، إذا لم تعتقد أن المقام به محرم أو به مضرة وضياع دنيا. فلهذا يوجد كثير ممن أظهر الإسلام من أهل الكتاب لا يفرق بين المسلمين وأهل الكتاب.
ثم منهم من يميل إلى المسلمين أكثر، ومنهم من يميل إلى ما كان عليه أكثر.
ومنهم من يميل إلى أولئك من جهة الطبع والعادة، أو من جهة الجنس والقرابة والبلد، والمعاونة على المقاصد ونحو ذلك.
وهذا كما أن الفلاسفة ومن سلك سبيلهم من القرامطة والاتحادية ونحوهم يجوز عندهم أن يتدين الرجل بدين المسلمين واليهود والنصارى.
ومعلوم أن هذا كله كفر باتفاق المسلمين.
فمن لم يقر باطنا وظاهرًا بأن الله لا يقبل دينًا سوي الإسلام، فليس بمسلم.
ومن لم يقر بأن بعد مبعث محمد ﷺ لن يكون مسلم إلا من آمن به واتبعه باطنًا وظاهرًا فليس بمسلم. ومن لم يحرم التدين بعد مبعثه ﷺ بدين اليهود والنصارى، بل من لم يكفرهم ويبغضهم، فليس بمسلم باتفاق المسلمين.
والمقصود هنا أن النصارى يحبون أن يكون في المسلمين ما يشابهونهم به ليقوي بذلك دينهم، ولئلا ينفر المسلمون عنهم وعن دينهم.
ولهذا جاءت الشريعة الإسلامية بمخالفة اليهود والنصارى، كما قد بسطناه في كتابنا (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم).
وقد حصل للنصاري من جهال المسلمين كثير من مطلوبهم، لا سيما من الغلاة من الشيعة وجهال النساك والغلاة في المشايخ. فإن فيهم شبهًا قريبا بالنصارى في الغلو والبدع في العبادات ونحو ذلك؛ فلهذا يلبسون علي المسلمين في مقابر تكون من قبورهم، حتى يتوهم الجهال أنها من قبور صالحي المسلمين ليعظموها.
وإذا كان ذلك المشهد العسقلاني قد قال طائفة: إنه قبر بعض النصارى، أو بعض الحواريين وليس معنا ما يدل علي أنه قبر مسلم، فضلا عن أن يكون قبرًا لرأس الحسين كان قول من قال: إنه قبر مسلم الحسين أو غيره قولا زورًا وكذبًا مردودًا علي قائله.
فهذا كافٍ في المنع من أن يقال: هذا مشهد الحسين.
فصل ليس رأسه في القاهرة ولا مشهد عسقلان
ثم نقول: بل نحن نعلم ونجزم بأنه ليس فيه رأس الحسين، ولا كان ذلك المشهد العسقلاني مشهدًا للحسين، من وجوه متعددة:
منها: أنه لو كان رأس الحسين هناك لم يتأخر كشفه وإظهاره إلى ما بعد مقتل الحسين بأكثر من أربعمائة سنة. ودولة بني أمية انقرضت قبل ظهور ذلك بأكثر من ثلاثمائة وبضع وخمسين سنة. وقد جاءت خلافة بني العباس. وظهر في أثنائها من المشاهد بالعراق وغير العراق ما كان كثير منها كذبا. وكانوا عند مقتل الحسين بكربلاء قد بنوا هناك مشهدًا. وكان ينتابه أمراء عظماء، حتى أنكر ذلك عليهم الأئمة. وحتى إن المتوكل لما تقدموا له بأشياء يقال: إنه بالغ في إنكار ذلك وزاد علي الواجب.
دع خلافة بني العباس في أوائلها، وفي حال استقامتها، فإنهم حينئذ لم يكونوا يعظمون المشاهد، سواء منها ما كان صدقا أو كذبًا، كما حدث فيما بعد؛ لأن الإسلام كان حينئذ ما يزال في قوته وعنفوانه. ولم يكن علي عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم من ذلك شيء في بلاد الإسلام، لا في الحجاز، ولا اليمن، ولا الشام، ولا العراق، ولا مصر، ولا خراسان، ولا المغرب، ولم يكن قد أحدث مشهد، لا علي قبر نبي، ولا صاحب، ولا أحد من أهل البيت، ولا صالح أصلا، بل عامة هذه المشاهد محدثة بعد ذلك. وكان ظهورها وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس، وتفرقت الأمة، وكثر فيهم الزنادقة الملبسون علي المسلمين، وفشت فيهم كلمة أهل البدع، وذلك من دولة المقتدر في أواخر المائة الثالثة، فإنه إذ ذاك ظهرت القرامطة العبيدية القداحية بأرض المغرب. ثم جاؤوا بعد ذلك إلى أرض مصر.
ويقال: إنه حدث قريبًا من ذلك المكوس في الإسلام.
وقريبًا من ذلك ظهر بنو بويه. وكان في كثير منهم زندقة وبدع قوية. وفي دولتهم قوي بنو عبيد القداح بأرض مصر، وقي دولتهم أظهر المشهد المنسوب إلى علي رضي الله عنه بناحية النجف، وإلا فقبل ذلك لم يكن أحد يقول: إن قبر علي هناك، وإنما دفن علي رضي الله عنه بقصر الإمارة بالكوفة، وإنما ذكروا أن بعضهم حكي عن الرشيد: أنه جاء إلى بقعة هناك، وجعل يعتذر إلى المدفون فيها، فقالوا: إنه علي، وأنه اعتذر إليه مما فعل بولده فقالوا: هذا قبر علي، وقد قال قوم: إنه قبر المغيرة بن شعبة، والكلام عليه مبسوط في غير هذا الموضع.
فإذا كان بنو بويه وبنو عبيد مع ما كان في الطائفتين من الغلو في التشيع، حتى إنهم كانوا يظهرون في دولتهم ببغداد يوم عاشوراء من شعار الرافضة ما لم يظهر مثله، مثل تعليق المسوح علي الأبواب، وإخراج النوائح بالأسواق، وكان الأمر يفضي في كثير من الأوقات إلى قتال تعجز الملوك عن دفعه. وبسبب ذلك خرج الخرقي صاحب المختصر في الفقه من بغداد، لما ظهر بها سب السلف. وبلغ من أمر القرامطة الذين كانوا بالمشرق في تلك الأوقات أنهم أخذوا الحجر الأسود، وبقي معهم مدة، وأنهم قتلوا الحجاج وألقوهم ببئر زمزم.
فإذا كان مع كل هذا لم يظهر حتى مشهد للحسين بعسقلان، مع العلم بأنه لو كان رأسه بعسقلان لكان المتقدمون من هؤلاء أعلم بذلك من المتأخرين، فإذا كان مع توفر الهمم والدواعي والتمكن والقدرة لم يظهر ذلك، علم أنه باطل مكذوب، مثل من يدعي أنه شريف علوي. وقد علم أنه لم يدع هذا أحد من أجداده، مع حرصهم علي ذلك لو كان صحيحًا، فإنه بهذا يعلم كذب هذا المدعي، وبمثل ذلك علمنا كذب من يدعي النص علي خلافة علي، أو غير ذلك مما تتوفر الهمم والدواعي علي نقله ولم ينقل.
الوجه الثاني: أن الذين جمعوا أخبار الحسين ومقتله مثل أبي بكر بن أبي الدنيا، وأبي القاسم البغوي وغيرهما لم يذكر أحد منهم أن الرأس حمل إلى عسقلان ولا إلى القاهرة.
وقد ذكر نحو ذلك أبو الخطاب بن دَحْية في كتابه الملقب ب (العلم المشهور في فضائل الأيام والشهور)، ذكر أن الذين صنفوا في مقتل الحسين أجمعوا أن الرأس لم يغترب، وذكر هذا بعد أن ذكر أن المشهد الذي بالقاهرة كذب مختلق، وأنه لا أصل له، وبسط القول في ذلك، كما ذكر في يوم عاشوراء ما يتعلق بذلك.
الوجه الثالث: أن الذي ذكره من يعتمد عليه من العلماء والمؤرخين: أن الرأس حمل إلى المدينة، ودفن عند أخيه الحسن.
ومن المعلوم: أن الزبير بن بكار، صاحب كتاب الأنساب ومحمد بن سعد كاتب الواقدي وصاحب الطبقات، ونحوهما من المعروفين بالعلم والثقة والاطلاع، أعلم بهذا الباب، وأصدق فيما ينقلونه من الجاهلين والكذابين، ومن بعض أهل التواريخ الذين لا يوثق بعلمهم ولا صدقهم، بل قد يكون الرجل صادقًا، ولكن لا خبرة له بالأسانيد حتى يميز بين المقبول والمردود، أو يكون سيئ الحفظ أو متهمًا بالكذب أو بالتزيد في الرواية، كحال كثير من الإخباريين والمؤرخين، لا سيما إذا كان مثل أبي مِخْنَف لوط بن يحيي وأمثاله.
ومعلوم أن الواقدي نفسه خير عند الناس من مثل هشام بن الكلبي، وأبيه محمد بن السائب وأمثالهما، وقد علم كلام الناس في الواقدي، فإن ما يذكره هو وأمثاله إنما يعتضد به، ويستأنس به، وأما الاعتماد عليه بمجرده في العلم فهذا لا يصلح.
فإذا كان المعتمد عليهم يذكرون أن رأس الحسين دفن بالمدينة، وقد ذكر غيرهم أنه إما أن يكون قد عاد إلى البدن، فدفن معه بكربلاء، وإما أنه دفن بحلب، أو بدمشق أو نحو ذلك من الأقوال التي لا أصل لها، ولم يذكر أحد ممن يعتمد عليه أنه بعسقلان علم أن ذلك باطل، إذ يمتنع أن يكون أهل العلم والصدق علي الباطل، وأهل الجهل والكذب علي الحق في الأمور النقلية، التي إنما تؤخذ عن أهل العلم والصدق، لا عن أهل الجهل والكذب.
الوجه الرابع: أن الذي ثبت في صحيح البخاري: أن الرأس حمل إلى قدام عبيد الله ابن زياد، وجعل ينكت بالقضيب علي ثناياه بحضرة أنس بن مالك. وفي المسند: أن ذلك كان بحضرة أبي برزة الأسلمي. ولكن بعض الناس روي بإسناد منقطع: أن هذا النكت كان بحضرة يزيد بن معاوية. وهذا باطل. فإن أبا برزة، وأنس بن مالك كانا بالعراق، لم يكونا بالشام، ويزيد بن معاوية كان بالشام، لم يكن بالعراق حين مقتل الحسين، فمن نقل أنه نكت بالقضيب ثناياه بحضرة أنس وأبي برزة قدام يزيد فهو كاذب قطعًا، كذبًا معلومًا بالنقل المتواتر.
ومعلوم بالنقل المتواتر: أن عبيد الله بن زياد كان هو أمير العراق حين مقتل الحسين، وقد ثبت بالنقل الصحيح: أنه هو الذي أرسل عمر بن سعد بن أبي وقاص مقدمًا علي الطائفة التي قاتلت الحسين، وكان عمر قد امتنع من ذلك، فأرغبه ابن زياد وأرهبه حتى فعل ما فعل.
وقد ذكر المصنفون من أهل العلم بالأسانيد المقبولة: أنه لما كتب أهل العراق إلى الحسين، وهو بالحجاز: أن يقدم عليهم، وقالوا: إنه قد أميتت السنة، وأحييت البدعة. وأنه، وأنه، حتى يقال: إنهم أرسلوا إليه كتبًا ملء صندوق وأكثر، وأنه أشار عليه الأحباء الألباء فلم يقبل مشورتهم فإنه كما قيل:
وما كل ذي لب بمؤتيك نصحه ** وما كل مؤت نصحه بلبيب
فقد أشار عليه مثل عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وغيرهما بألا يذهب إليهم، وذلك كان قد رآه أخوه الحسن واتفقت كلمتهم علي أن هذا لا مصلحة فيه، وأن هؤلاء العراقيين يكذبون عليه ويخذلونه؛ إذ هم أسرع الناس إلى فتنة، وأعجزهم فيها عن ثبات، وأن أباه كان أفضل منه وأطوع في الناس، وكان جمهور الناس معه. ومع هذا فكان فيهم من الخلاف عليه والخذلان له ما الله به عليم. حتى صار يطلب السلم، بعد أن كان يدعو إلى الحرب. وما مات إلا وقد كرههم كراهة الله بها عليم، ودعا عليهم وبرم بهم.
فلما ذهب الحسين رضي الله عنه وأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل إليهم، واتبعه طائفة. ثم لما قدم عبيد الله بن زياد الكوفة، قاموا مع ابن زياد، وقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وغيرهما. فبلغ الحسين ذلك، فأراد الرجوع، فوافته سرية عمر بن سعد، وطلبوا منه أن يستأسر لهم فأبي، وطلب أن يردوه إلى يزيد ابن عمه، حتى يضع يده في يده، أو يرجع من حيث جاء، أو يلحق ببعض الثغور، فامتنعوا من إجابته إلى ذلك بغيا وظلمًا وعدوانا. وكان من أشدهم تحريضًا عليه شمر بن ذي الجَوْشَن. ولحق بالحسين طائفة منهم. ووقع القتل حتى أكرم الله الحسين ومن أكرمه من أهل بيته بالشهادة رضي الله عنهم وأرضاهم. وأهان بالبغي والظلم والعدوان من أهانه بما انتهكه من حرمتهم، واستحله من دمائهم، { وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء } [408]. وكان ذلك من نعمة الله علي الحسين، وكرامته له لينال منازل الشهداء، حيث لم يجعل له في أول الإسلام من الابتلاء والامتحان ما جعل لسائر أهل بيته، كجده ﷺ وأبيه وعمه، وعم أبيه رضي الله عنهم. فإن بني هاشم أفضل قريش، وقريشًا أفضل العرب، والعرب أفضل بني آدم. كما صح ذلك عن النبي ﷺ، مثل قوله في الحديث الصحيح: (إن الله اصطفي من ولد إبراهيم بني إسماعيل، واصطفي كنانة من بني إسماعيل، واصطفي قريشًا من كنانة، واصطفي بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم).
وفي صحيح مسلم عنه أنه قال يوم غدِير خُمٍّ: (أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي).
وفي السنن أنه شكا إليه العباس: أن بعض قريش يحقرونهم، فقال: (والذي نفسي بيده، لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتي).
وإذا كانوا أفضل الخلق، فلا ريب أن أعمالهم أفضل الأعمال.
وكان أفضلهم رسول الله ﷺ الذي لا عدل له من البشر، ففاضلهم أفضل من كل فاضل من سائر قبائل قريش والعرب، بل ومن بني إسرائيل وغيرهم.
ثم علي وحمزة وجعفر وعبيدة بن الحارث هم من السابقين الأولين من المهاجرين. فهم أفضل من الطبقة الثانية من سائر القبائل. ولهذا لما كان يوم بدر أمرهم النبي ﷺ بالمبارزة لما برز عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. فقال النبي: (قم يا حمزة، قم يا عبيدة، قم يا علي). فبرز إلى الثلاثة ثلاثة من بني هاشم.
وقد ثبت في الصحيح أن فيهم نزل قوله: { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } الآية [409]. وإن كان في الآية عموم.
ولما كان الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وكانا قد ولدا بعد الهجرة في عز الإسلام، ولم ينلهما من الأذي والبلاء ما نال سلفهما الطيب، فأكرمهما الله بما أكرمهما به من الابتلاء ليرفع درجاتهما وذلك من كرامتهما عليه لا من هوانهما عنده، كما أكرم حمزة وعليا وجعفرًا وعمر وعثمان وغيرهم بالشهادة وفي المسند وغيره: عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين عن النبي ﷺ أنه قال: (ما من مسلم يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته، وإن قدمت، فيحدث لها استرجاعا، إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها).
فهذا الحديث رواه الحسين، وعنه بنته فاطمة التي شهدت مصرعه.
وقد علم الله أن مصيبته تذكر علي طول الزمان.
فالمشروع، إذا ذكرت المصيبة وأمثالها أن يقال: { إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إليه رَاجِعونَ } [410] (اللهم آجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيرًا منها). قال تعالى: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إليه رَاجِعونَ }، قال الله تعالى: { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [411].
والكلام في أحوال الملوك علي سبيل التفصيل متعسر أو متعذر، لكن ينبغي أن نعلم من حيث الجملة: أنهم هم وغيرهم من الناس ممن له حسنات وسيئات يدخلون بها في نصوص الوعد أو نصوص الوعيد.
وتناول نصوص الوعد للشخص مشروط بأن يكون عمله خالصا لوجه الله، موافقا للسنة. فإن النبي ﷺ قيل له: الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حَمِية، ويقاتل ليقال، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).
وكذلك تناول نصوص الوعيد للشخص مشروط بألا يكون متأولا ولا مجتهدًا مخطئًا. فإن الله عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان.
وكثير من تأويلات المتقدمين وما يعرض لهم فيها من الشبهات معروفة يحصل بها من الهوي والشهوات. فيأتون ما يأتونه بشبهة وشهوة. والسيئات التي يرتكبها أهل الذنوب تزول بالتوبة. وقد تزول بحسنات ماحية، ومصائب مكفرة، وقد تزول بصلاة المسلمين عليه، وبشفاعة النبي ﷺ يوم القيامة في أهل الكبائر، فلهذا كان أهل العلم يختارون فيمن عرف بالظلم ونحوه مع أنه مسلم له أعمال صالحة في الظاهر كالحجاج بن يوسف وأمثاله أنهم لا يلعنون أحدًا منهم بعينه، بل يقولون كما قال الله تعالى: { أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَي الظَّالِمِينَ } [412] فيلعنون من لعنه الله ورسوله عامًا، كقوله ﷺ: (لعن الله الخمر وعاصرها ومعتصرها، وبائعها ومشتريها، وساقيها وشاربها، وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها)، ولا يلعنون المعين. كما ثبت في صحيح البخاري وغيره: أن رجلا كان يدعي حمارا، وكان يشرب الخمر. وكان النبي ﷺ يجلده. فأتي به مرة. فلعنه رجل. فقال النبي ﷺ: (لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله).
وذلك لأن اللعنة من باب الوعيد، والوعيد العام لا يقطع به للشخص المعين لأحد الأسباب المذكورة؛ من توبة، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة، وغير ذلك.
وطائفة من العلماء يلعنون المعين، كيزيد. وطائفة بإزاء هؤلاء يقولون: بل نحبه، لما فيه من الإيمان الذي أمرنا الله أن نوإلى عليه؛ إذ ليس كافرًا.
والمختار عند الأمة: أنا لا نلعن معينا مطلقًا، ولا نحب معينًا مطلقًا، فإن العبد قد يكون فيه سبب هذا وسبب هذا إذا اجتمع فيه من حب الأمرين.
إذ كان من أصول أهل السنة التي فارقوا بها الخوارج: أن الشخص الواحد تجتمع فيه حسنات وسيئات، فيثاب علي حسناته، ويعاقب علي سيئاته. ويحمد علي حسناته ويذم علي سيئاته. وأنه من وجه مرضي محبوب، ومن وجه بغيض مسخوط؛ لهذا كان لأهل الأحداث هذا الحكم.
وأما أهل التأويل المحض الذين يسوغ تأويلهم، فأولئك مجتهدون مخطئون، خطؤهم مغفور لهم. وهم مثابون علي ما أحسنوا فيه من حسن قصدهم واجتهادهم في طلب الحق واتباعه. كما قال النبي ﷺ: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر).
ولهذا كان الكلام في السابقين الأولين ومن شهد له النبي ﷺ بالجنة، كعثمان وعلي وطلحة والزبير ونحوهم، له هذا الحكم، بل ومن هو دون هؤلاء، كأبر أهل الحديبية الذين بايعوا تحت الشجرة، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: ( لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة).
فنقول في هؤلاء ونحوهم فيما شجر بينهم: إما أن يكون عمل أحدهم سعيا مشكورًا، أو ذنبا مغفورًا، أو اجتهادًا قد عفي لصاحبه عن الخطأ فيه، فلهذا كان من أصول أهل العلم: أنه لا يمكن أحد من الكلام في هؤلاء بكلام يقدح في عدالتهم وديانتهم، بل يعلم أنهم عدول مرضيون، وأن هؤلاء رضي الله عنهم لا سيما والمنقول عنهم من العظائم كذب مفتري، مثلما كان طائفة من شيعة عثمان يتهمون عليا بأنه أمر بقتل عثمان، أو أعان عليه. وكان بعض من يقاتله يظن ذلك به. وكان ذلك من شبههم التي قاتلوا عليا بها. وهي شبهة باطلة. وكان علي يحلف وهو الصادق البار: أني ما قتلت عثمان، ولا أعنت علي قتله. ويقول: اللهم شتت قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل. وكانوا يجعلون امتناعه من تسليم قتلة عثمان من شبههم في ذلك. ولم يكن ممكنا من أن يعمل كل ما يريده من إقامة الحدود، ونحو ذلك، لكون الناس مختلفين عليه، وعسكره وأمراء عسكره غير مطيعين له في كل ما كان يأمرهم به. فإن التفرق والاختلاف يقوم فيه من أسباب الشر والفساد وتعطيل الأحكام ما يعلمه من يكون من أهل العلم العارفين بما جاء من النصوص في فضل الجماعة والإسلام.
ويزيد بن معاوية: قد أتي أمورا منكرة. منها: وقعة الحرة. وقد جاء في الصحيح عن علي رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: (المدينة حرام ما بين عير إلى كذا. من أحدث فيها حدثا أو آوي محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل)، وقال: (من أراد أهل المدينة بسوء أماعه الله، كما ينماع الملح في الماء).
ولهذا قيل للإمام أحمد: أتكتب الحديث عن يزيد؟ فقال: لا، ولا كرامة أو ليس هو الذي فعل بأهل الحرة ما فعل؟!
وقيل له أي في ما يقولون: أما تحب يزيد؟ فقال: وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر؟ فقيل: فلماذا لا تلعنه؟ فقال: ومتى رأيت أباك يلعن أحدًا.
ومذهب أهل السنة والجماعة: أنهم لا يكفرن أهل القبلة بمجرد الذنوب، ولا بمجرد التأويل، بل الشخص الواحد إذا كانت له حسنات وسيئات فأمره إلى الله.
وهذا الذي ذكرناه هو المتفق عليه بين الناس في مقتل الحسين رضي الله عنه.
وقد رويت زيادات، بعضها صحيح، وبعضها ضعيف، وبعضها كذب موضوع.
والمصنفون من أهل الحديث في ذلك؛ كالبغوي، وابن أبي الدنيا، ونحوهما؛ كالمصنفين من أهل الحديث في سائر المنقولات، هم بذلك أعلم وأصدق بلا نزاع بين أهل العلم لأنهم يسندون ما ينقلونه عن الثقات، أو يرسلونه عمن يكون مرسله يقارب الصحة، بخلاف الأخباريين. فإن كثيرًا مما يسندونه عن كذاب أو مجهول. وأما ما يرسلونه فظلمات بعضها فوق بعض. وهؤلاء لعمري ممن ينقل عن غيره مسندًا أو مرسلا.
وأما أهل الأهواء ونحوهم، فيعتمدون علي نقل لا يعرف له قائل أصلا، لا ثقة ولا معتمد. وأهون شيء عندهم الكذب المختلق. وأعلم من فيهم لا يرجع فيما ينقله إلى عمدة، بل إلى سماعات عن الجاهلين والكذابين، وروايات عن أهل الإفك المبين.
فقد تبين أن القصة التي يذكرون فيها حمل رأس الحسين إلى يزيد ونكته إياها بالقضيب كذبوا فيها، وإن كان الحمل إلى ابن زياد وهو الثابت بالقصة فلم ينقل بإسناد معروف أن الرأس حمل إلى قدام يزيد.
ولم أر في ذلك إلا إسنادًا منقطعًا، قد عارضه من الروايات ما هو أثبت منه وأظهر. نقلوا فيها أن يزيد لما بلغه مقتل الحسين أظهر التألم من ذلك، وقال: لعن الله أهل العراق. لقد كنت أرضي من طاعتهم بدون هذا. وقال في ابن زياد: أما إنه لو كان بينه وبين الحسين رحم لما قتله. وأنه ظهر في داره النوح لمقتل الحسين، وأنه لما قدم عليه أهله وتلاقي النساء تباكين، سوأنه خير ابنه عليا بين المقام عنده والسفر إلى المدينة، فاختار السفر إلى المدينة. فجهزه إلى المدينة جهازًا حسنا.
فهذا ونحوه ما نقلوا بالأسانيد التي هي أصح وأثبت من ذلك الإسناد المنقطع المجهول، تبين أن يزيد لم يظهر الرضي بقتل الحسين، وأنه أظهر الألم لقتله، والله أعلم بسريرته.
وقد علم أنه لم يأمر بقتله ابتداء، لكنه مع ذلك ما انتقم من قاتليه، ولا عاقبهم علي ما فعلوا؛ إذ كانوا قتلوه لحفظ ملكه الذي كان يخاف عليه من الحسين وأهل البيت رضي الله عنهم أجمعين.
والمقصود هنا أن نقل رأس الحسين إلى الشام لا أصل له في زمن يزيد. فكيف بنقله بعد زمن يزيد؟ وإنما الثابت هو نقله من كربلاء إلى أمير العراق عبيد الله بن زياد بالكوفة. والذي ذكر العلماء: أنه دفن بالمدينة.
وأما ما يرويه من لا عقل له يميز به ما يقول، ولا له إلمام بمعرفة المنقول: من أن أهل البيت سبوا، وأنهم حملوا علي البخاتي، وأن البخاتي نبت لها من ذلك الوقت سنامان، فهذا من الكذب الواضح الفاضح لمن يقوله. فإن البخاتي قد كانت من يوم خلقها الله قبل ذلك ذات سنامين، كما كان غيرها من أجناس الحيوان، والبخاتي لا تستر امرأة، ولا سبي أهل البيت أحد، ولا سبي منهم أحد، بل هذا كما يقولون: إن الحجاج قتلهم.
وقد علم أهل النقل كلهم أن الحجاج لم يقتل أحدًا من بني هاشم، كما عهد إليه خليفته عبد الملك، وأنه لما تزوج بنت عبد الله بن جعفر شق ذلك علي بني أمية وغيرهم من قريش، ورأوه ليس بكفء لها. ولم يزالوا به حتى فرقوا بينه وبينها، بل بنو مروان علي الإطلاق لم يقتلوا أحدًا من بني هاشم، لا آل علي، ولا آل العباس، إلا زيد بن علي المصلوب بكناسة الكوفة وابنه يحيي.
الوجه الرابع: أنه لو قدر أنه حمل إلى يزيد، فأي غرض كان لهم في دفنه بعسقلان، وكانت إذ ذاك ثغرًا يقيم به المرابطون؟ فإن كان قصدهم تعفية خبره فمثل عسقلان تظهره لكثرة من ينتابها للرباط. وإن كان قصدهم بركة البقعة فكيف يقصد هذا من يقال: إنه عدو له، مستحل لدمه، ساعٍ في قتله؟
ثم من المعلوم: أن دفنه قريبًا عند أمه وأخيه بالبقيع أفضل له.
الوجه الخامس: أن دفنه بالبقيع هو الذي تشهد له عادة القوم. فإنهم كانوا في الفتن، إذا قتلوا الرجل لم يكن منهم سلموا رأسه وبدنه إلى أهله، كما فعل الحجاج بابن الزبير لما قتله وصلبه، ثم سلمه إلى أمه.
وقد علم أن سعي الحجاج في قتل ابن الزبير، وأن ما كان بينه وبينه من الحروب أعظم بكثير مما كان بين الحسين وبين خصومه. فإن ابن الزبير ادعي الخلافة بعد مقتل الحسين، وبايعه أكثر الناس، وحاربه يزيد حتى مات وجيشه محاربون له بعد وقعة الحرة.
ثم لما تولي عبد الملك غلبه على العراق مع الشام، ثم بعث إليه الحجاج بن يوسف، فحاصره الحصار المعروف، حتى قتل، ثم صلبه، ثم سلمه إلى أمه.
وقد دفن بدن الحسين بمكان مصرعه بكربلاء، ولم ينبش، ولم يمثل به. فلم يكونوا يمتنعون من تسليم رأسه إلى أهله، كما سلموا بدن ابن الزبير إلى أهله، وإذا تسلم أهله رأسه، فلم يكونوا ليدعوا دفنه عندهم بالمدينة المنورة عند عمه وأمه وأخيه، وقريبًا من جده ﷺ ويدفنونه بالشام، حيث لا أحد إذ ذاك ينصرهم على خصومهم، بل كثير منهم كان يبغضه ويبغض أباه. هذا لا يفعله أحد.
والقبة التي على العباس بالبقيع، يقال: إن فيها مع العباس الحسن وعلي بن الحسين، وأبو جعفر محمد بن على، وجعفر بن محمد. ويقال: إن فاطمة تحت الحائط، أو قريبًا من ذلك، وأن رأس الحسين هناك أيضًا.
الوجه السادس: أنه لم يعرف قط أن أحدًا، لا من أهل السنة، ولا من الشيعة، كان ينتاب ناحية عسقلان لأجل رأس الحسين، ولا يزورونه ولا يأتونه. كما أن الناس لم يكونوا ينتابون الأماكن التي تضاف إلى الرأس في هذا الوقت، كموضع بحلب.
فإذا كانت تلك البقاع لم يكن الناس ينتابونها ولا يقصدونها، وإنما كانوا ينتابون كربلاء؛ لأن البدن هناك، كان هذا دليلا على أن الناس فيما مضي لم يكونوا يعرفون أن الرأس في شيء من هذه البقاع، ولكن الذي عرفوه واعتقدوه هو وجود البدن بكربلاء، حتى كانوا ينتابونه في زمن أحمد وغيره، حتى إن في مسائله، مسائل فيما يفعل عند قبره، ذكرها أبو بكر الخلال في جامعه الكبير في زيارة المشاهد.
ولم يذكر أحد من العلماء أنهم كانوا يرون موضع الرأس في شيء من هذه البقاع غير المدينة.
فعلم أن ذلك لو كان حقا لكان المتقدمون به أعلم. ولو اعتقدوا ذلك لعملوا ما جرت عادتهم بعمله، ولأظهروا ذلك وتكلموا به، كما تكلموا في نظائره.
فلما لم يظهر عن المتقدمين بقول ولا فعل ما يدل على أن الرأس في هذه البقاع علم أن ذلك باطل، واللّه أعلم.
الوجه السابع: أن يقال: مازال أهل العلم في كل وقت وزمان يذكرون في هذا المشهد القاهري المنسوب إلى الحسين: أنه كذب ومِينٌ، كما يذكرون ذلك في أمثاله من المشاهد المكذوبة؛ مثل المشاهد المنسوبة بدمشق إلى أُبي بن كعب، وأويس القرني، أو هود، أو نوح، أو غيرهما، والمشهد المنسوب بحران إلى جابر بن عبد اللّه، وبالجزيرة إلى عبد الرحمن بن عوف وعبد اللّه بن عمر ونحوهما، وبالعراق إلى علي رضي اللّه عنه ونحوه، وكذلك ما يضاف إلى الأنبياء غير قبر نبينا محمد ﷺ وإبراهيم الخليل عليه السلام.
فإنه لما كان كثير من المشاهد مكذوبا مختلقا كان أهل العلم في كل وقت يعلمون أن ذلك كذب مختلق، والكتب والمصنفات المعروفة عن أهل العلم بذلك مملوءة من مثل هذا. يعرف ذلك من تتبعه وطلبه.
ومازال الناس في مصنفاتهم ومخاطباتهم يعلمون أن هذا المشهد القاهري من المكذوبات المختلقات. ويذكرون ذلك في المصنفات، حتى من سكن هذا البلد من العلماء بذلك.
فقد ذكر أبو الخطاب بن دحية في كتابه العلم المشهور في هذا المشهد فصلا مع ما ذكره في مقتل الحسين من أخبار ثابتة وغير ثابتة، ومع هذا فقد ذكر أن المشهد كذب بالإجماع، وبين أنه نقل من عسقلان في آخر الدول العبيدية، وأنه وضع لأغراض فاسدة، وأنه بعد ذلك بقليل أزال اللّه تلك الدولة وعاقبها بنقيض قصدها.
ومازال ذلك مشهورا بين أهل العلم حتى أهل عصرنا، من ساكني الديار المصرية، القاهرة وما حولها.
فقد حدثني طائفة من الثقات: عن الشيخ أبي عبد اللّه محمد بن على الغنوي، المعروف بابن دقيق العيد، وطائفة عن الشيخ أبي محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي، وطائفة عن الشيخ أبي محمد بن القسطلاني، وطائفة عن الشيخ أبي عبد اللّه محمد القرطبي صاحب التفسير وشرح أسماء اللّه الحسني، وطائفة عن الشيخ عبد العزيز الديريني كل من هؤلاء حدثني عنه من لا أتهمه، وحدثني عن بعضهم عدد كثير، كل يحدثني عمن حدثني من هؤلاء: أنه كان ينكر أمر هذا المشهد، ويقول: إنه كذب، وإنه ليس فيه الحسين ولا غيره. والذين حدثوني عن ابن القسطلاني ذكروا عنه أنه قال: إن فيه نصرانيا، بل القرطبي والقسطلاني ذكرا بطلان أمر هذا المشهد في مصنفاتهما. وبينا فيها أنه كذب. كما ذكره أبو الخطاب بن دحية.
وابن دحية هو الذي بني له الكامل دار الحديث الكاملية. وعنه أخذ أبو عمرو بن الصلاح ونحوه كثيرا مما أخذوه من ضبط الأسماء واللغات. وليس الاعتماد في هذا على واحد بعينه، بل هو الإجماع من هؤلاء. ومعلوم أنه لم يكن بهذه البلاد من يعتمد عليه في مثل هذا الباب أعلم ولا أدق من هؤلاء ونحوهم.
فإذا كان كل هؤلاء متفقين على أن هذا كذب ومين، علم أن اللّه قد برأ منه الحسين.
وحدثني من حدثني من الثقات: أن من هؤلاء من كان يوصي أصحابه بألا يظهروا ذلك عنه خوفا من شر العامة بهذه البلاد، لما فيهم من الظلم والفساد؛ إذ كانوا في الأصل دعاة للقرامطة الباطنيين. الذين استولوا عليها مائتي سنة. فزرعوا فيهم من أخلاق الزنادقة المنافقين، وأهل الجهل المبتدعين، وأهل الكذب الظالمين، ما لم يمكن أن ينقلع إلا بعد حين. فإنه قد فتحها بإزالة ملك العبيديين أهل الإيمان والسنة في الدولة النورية والصلاحية، وسكنها من أهل الإسلام والسنة من سكنها، وظهرت بها كلمة الإيمان والسنة نوعا من الظهور، لكن كان النفاق والبدعة فيها كثيرا مستورا، وفي كل وقت يظهر اللّه فيها من الإيمان والسنة ما لم يكن مذكورا، ويطغي فيها من النفاق والجهل ما كان مشهورا.
واللّه هو المسؤول أن يظهر بسائر البلاد ما يحبه ويرضاه، من الهدي والسداد. ويعظم على عباده الخير بظهور الإسلام والسنة، ويحقق ما وعد به في القرآن من علو كلمته وظهور أهل الإيمان.
وكثير من الناس قد اعتقد وتخلق بعقائد وبأخلاق هي في الأصل من أخلاق الكفار والمنافقين، وإن لم يكن بذلك من العارفين، كما أن كثيرا منهم يشارك النصارى في أعيادهم، ويعظم ما يعظمونه من الأمكنة والأزمنة والأعمال، وهو قد لا يقصد بذلك تعظيم الكفر، بل ولا يعرف أن ذلك من خصائصهم، فإذا عرف ذلك انتهي عنه وتاب منه.
وكذلك كثير من الناس تخلق بشيء من أخلاق أهل النفاق، وهو لا يعرف أنها من أخلاق المنافقين، وإذا عرف ذلك كان إلى اللّه من التائبين، واللّه يتوب علينا وعليه وعلى جميع المذنبين من المؤمنين.
وهذا كله كلام في بطلان دعوي وجود رأس الحسين رضي اللّه عنه في القاهرة أو عسقلان، وكذبه.
ثم نقول: سواء كان صحيحا أو كذبا، فإن بناء المساجد على القبور ليس من دين المسلمين، بل هو منهى عنه بالنصوص الثابتة عن النبي ﷺ، واتفاق أئمة الدين، بل لا يجوز اتخاذ القبور مساجد، سواء كان ذلك ببناء المسجد عليها، أو بقصد الصلاة عندها، بل أئمة الدين متفقون على النهى عن ذلك، وأنه ليس لأحد أن يقصد الصلاة عند قبر أحد، لا نبي ولا غير نبي، وكل من قال: إن قصد الصلاة عند قبر أحد، أو عند مسجد بني على قبر، أو مشهد، أو غير ذلك أمر مشروع، بحيث يستحب ذلك، ويكون أفضل من الصلاة في المسجد الذي لا قبر فيه، فقد مرق من الدين، وخالف إجماع المسلمين. والواجب أن يستتاب قائل هذا ومعتقده، فإن تاب وإلا قتل.
بل ليس لأحد أن يصلي في المساجد التي بنيت على القبور، ولو لم يقصد الصلاة عندها. فلا يفعل ذلك لا اتفاقا ولا ابتغاء؛ لما في ذلك من التشبه بالمشركين، والذريعة إلى الشرك، ووجوب التنبيه عليه وعلى غيره، كما قد نص على ذلك أئمة الإسلام من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم. منهم من صرح بالتحريم، ومنهم من أطلق الكراهة، وليست هذه المسألة عندهم مسألة الصلاة في المقبرة العامة. فإن تلك منهم من يعلل النهى عنها بنجاسة التراب، ومنهم من يعلله بالتشبه بالمشركين.
وأما المساجد المبنية على القبور، فقد نهوا عنه، معللين بخوف الفتنة بتعظيم المخلوق، كما ذكر ذلك الشافعي وغيره من سائر أئمة المسلمين.
وقد نهى النبي ﷺ عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها وعند وجودها في كبد السماء، وقال: (إنه حينئذ يسجد لها الكفار)، فنهى عن ذلك لما فيه من المشابهة لهم، وإن لم يقصد المصلي السجود إلا للواحد المعبود.
فكيف بالصلاة في المساجد التي بنيت لتعظيم القبور ؟
وهذه المسألة قد بسطناها في غير هذا الجواب.
وإنما كان المقصود تحقيق مكان رأس الحسين رضي اللّه عنه وبيان أن الأمكنة المشهورة عند الناس بمصر والشام، أنها مشهد الحسين، وأن فيها رأسه، فهي كذب واختلاق، وإفك وبهتان، واللّه أعلم، وكتبه أحمد بن تيمية.
سئل عن الزيارة إلى قبر الحسين وإلى السيدة نفيسة
وَسئل رحمه اللّه أيضا عن الزيارة إلى قبر الحسين، وإلى السيدة نفيسة، والصلاة عند الضريح. وإذا قال: إن السيدة نفيسة تخلص المحبوس، وتجير الخائف، وباب الحوائج إلى اللّه: هذا جائز أم لا ؟
فأجاب:
أما الحسين فلم يحمل رأسه إلى مصر باتفاق العلماء، وكذلك لم يحمل إلى الشام. ومن قال: إن ميتا من الموتي نفيسة أو غيرها تجير الخائف، وتخلص المحبوس، وهي باب الحوائج، فهو ضال مشرك. فإن اللّه سبحانه هو الذي يجير ولا يجار عليه، وباب الحوائج إلى اللّه هو دعاؤه بصدق وإخلاص، كما قال تعإلى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ } [413]، واللّه أعلم.
سئل عن نسبة بعض القبور لأصحابها
وَقَالَ رحمَهُ اللّه:
وأما بنت يزيد بن السكن فهذه توفيت بالشام فهذه قبرها محتمل. وأما قبر بلال فممكن؛ فإنه دفن بباب الصغير بدمشق، فيعلم أنه دفن هناك. وأما القطع بتعيين قبره ففيه نظر؛ فإنه يقال: إن تلك القبور حرثت.
ومنها: القبر المضاف إلى أويس القرني غربي دمشق؛ فإن أويسا لم يجئ إلى الشام، وإنما ذهب إلى العراق.
ومنها: القبر المضاف إلى هود عليه السلام بجامع دمشق كذب باتفاق أهل العلم؛ فإن هودا لم يجئ إلى الشام، بل بعث بإلىمن، وهاجر إلى مكة. فقيل: إنه مات بإلىمن. وقيل: إنه مات بمكة، وإنما ذلك تلقاء قبر معاوية بن أبي سفيان، وأما الذي خارج باب الصغير الذي يقال: إنه قبر معاوية، فإنما هو معاوية بن يزيد بن معاوية الذي تولي الخلافة مدة قصيرة ثم مات ولم يعهد إلى أحد. وكان فيه دين وصلاح.
ومنها: قبر خالد بحمص. يقال: إنه قبر خالد بن يزيد بن معاوية أخو معاوية هذا، ولكن لما اشتهر أنه خالد، والمشهور عند العامة خالد بن الوليد؛ ظنوا أنه خالد بن الوليد، وقد اختلف في ذلك هل هو قبره أو قبر خالد بن يزيد. وذكر أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب أن خالد بن الوليد توفي بحمص. وقيل: بالمدينة، سنة إحدي وعشرين أو اثنين وعشرين في خلافة عمر بن الخطاب، وأوصي إلى عمر، واللّه أعلم.
ومنها: قبر أبي مسلم الخولاني الذي بداريا، اختلف فيه.
ومنها: قبر علي بن الحسين الذي بمصر، فإنه كذب قطعا. فإن على بن الحسين توفي بالمدينة بإجماع الناس، ودفن بالبقيع.
ومنها: مشهد الرأس الذي بالقاهرة، فإن المصنفين في قتل الحسين اتفقوا على أن الرأس ليس بمصر، ويعلمون أن هذا كذب. وأصله أنه نقل من مشهد بعسقلان، وذاك المشهد بني قبل هذا بنحو من ستين سنة في أواخر المائة الخامسة، وهذا بني في أثناء المائة السادسة بعد مقتل الحسين بنحو من خمسمائة عام، والقاهرة بنيت بعد مقتل الحسين بنحو ثلاثمائة عام. قد بين كذب هذا المشهد ابن دحية في العلم المشهور، وأن الرأس دفن بالمدينة، كما ذكره الزبير بن بكار. والذي صح من أمر حمل الرأس ما ذكره البخاري في صحيحه: أنه حمل إلى عبيد اللّه بن زياد، وجعل ينكت بالقضيب على ثناياه، وقد شهد ذلك أنس بن مالك. وفي رواية: أبو برزة الأسلمي، وكلاهما كان بالعراق، وقد ورد بإسناد منقطع أو مجهول: أنه حمل إلى يزيد. وجعل ينكت بالقضيب على ثناياه، وأن أبا برزة كان حاضرا وأنكر هذا. وهذا كذب؛ فإن أبا برزة لم يكن بالشام عند يزيد وإنما كان بالعراق.
وأما بدن الحسين فبكربلاء بالاتفاق. قال أبو العباس: وقد حدثني الثقات طائفة عن ابن دقيق العيد، وطائفة عن أبي محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي، وطائفة عن أبي بكر محمد بن أحمد بن القسطلاني، وطائفة عن أبي عبد اللّه القرطبي صاحب التفسير، كل هؤلاء حدثني عنه من لا أتهمه، وحدثني عن بعضهم عدد كثير كل حدثني عمن حدثه من هؤلاء أنه كان ينكر أمر هذا المشهد، ويقول: إنه كذب، وأنه ليس فيه قبر الحسين ولا شيء منه، والذين حدثوني عن ابن القسطلاني ذكروا عنه أنه قال: إنما فيه نصراني.
ومنها: قبر على رضي اللّه عنه الذي بباطن النجف؛ فإن المعروف عند أهل العلم أن علىا دفن بقصر الإمارة بالكوفة، كما دفن معاوية بقصر الإمارة من الشام، ودفن عمرو بقصر الإمارة؛ خوفا عليهم من الخوارج أن ينبشوا قبورهم، ولكن قيل: إن الذي بالنجف قبر المغيرة بن شعبة، ولم يكن أحد يذكر أنه قبر على، ولا يقصده أحد أكثر من ثلاثمائة سنة.
ومنها: قبر عبد اللّه بن عمر في الجزيرة، والناس متفقون على أن عبد اللّه بن عمر مات بمكة عام قتل ابن الزبير، وأوصي أن يدفن بالحل؛ لكونه من المهاجرين، فشق ذلك عليهم فدفنوه بأعلى مكة.
ومنها قبر جابر الذي بظاهر حران، والناس متفقون على أن جابرا توفي بالمدينة النبوية، وهو آخر من مات من الصحابة بها.
ومنها قبر ينسب إلى أم كلثوم ورقية بالشام، وقد اتفق الناس على أنهما ماتتا في حياة النبي ﷺ بالمدينة تحت عثمان، وهذا إنما هو سبب اشتراك الأسماء؛ لعل شخصا يسمي باسم من ذكر توفي ودفن في موضع من المواضع المذكورة، فظن بعض الجهال أنه أحد من الصحابة.
سئل عمن يأخذون أضحيتهم فيذبحونها بالقرافة
وَسئل رَحمه اللّه عن أناس ساكنين بالقاهرة، ثم إنهم يأخذون أضحيتهم فيذبحونها بالقرافة.
فأجاب:
لا يشرع لأحد أن يذبح الأضحية ولا غيرها عند القبور، بل ولا يشرع شيء من العبادات الأصلية كالصلاة والصيام والصدقة عند القبور، فمن ظن أن التضحية عند القبور مستحبة، وأنها أفضل، فهو جاهل ضال مخالف لإجماع المسلمين، بل قد نهى رسول اللّه ﷺ عن العقر عند القبر، كما كان يفعل بعض أهل الجاهلية إذا مات لهم كبير ذبحوا عند قبره. والنبي ﷺ نهى أن تتخذ القبور مساجد، فلعن الذين يفعلون ذلك؛ تحذيرا لأمته أن تتشبه بالمشركين الذين يعظمون القبور حتى عبدوهم، فكيف يتخذ القبر منسكا يقصد النسك فيه ؟! فإن هذا أيضا من التشبه بالمشركين. وقد قال الخليل صلاة اللّه وسلامه عليه: { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [414].
فيجب الإخلاص والصلاة والنسك للّه، وإن لم يقصد العبد الذبح عند القبر، لكن الشريعة سدت الذريعة، كما نهى النبي ﷺ عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها؛ لأنه حينئذ يسجد لها الكفار، وإن كان المصلي للّه لم يقصد ذلك. وكذلك اتخاذ القبور مساجد قد نهى عنها وإن كان المصلي لا يصلي إلا للّه وقال: (ليس منا من تشبه بغيرنا)، وقال: (من تشبه بقوم فهو منهم). واللّه أعلم.
سئل عن رجل غدا إلى التكروري يتفرج فغرق هل هو عاص أم شهيد
وَسُئِلَ عن رجل غدا إلى التكروري يتفرج، فغرق. هل هو عاص أم شهيد؟
فأجاب:
إن قصد الذهاب إلى هذا القبر للصلاة عنده، والدعاء به، والتمسح بالقبر، وتقبيله، ونحو ذلك مما نهى عنه، أو أن يعمل بشيء نهى اللّه عنه من الفواحش، والخمر، والزمر، أو التفرج على هؤلاء، ورؤية أهل المعاصي من غير إنكار، فهم عصاة للّه في هذا السفر، وأمرهم إلى اللّه تعإلى، ويرجي لهم بالغرق رحمة اللّه، واللّه أعلم.
سئل هل في هذه الأمة أقوام صالحون غيبهم الله عن الناس لا يراهم إلا من أرادوا
وَسئل رَحمه اللّه:
هل في هذه الأمة أقوام صالحون غيبهم اللّه عن الناس لا يراهم إلا من أرادوا؟ ولو كانوا بين الناس فهم محجوبون بحالهم؟ وهل في جبل لبنان أربعين رجلا غائبين عن أعين الناظرين، كلما مات منهم واحد أخذوا من الناس واحدا غيره، يغيب معهم كما يغيبون؟ وكل أولئك تطوي بهم الأرض، ويحجون، ويسافرون ما مسيرته شهرا أو سنة في ساعة، ومنهم قوم يطيرون كالطيور، ويتحدثون عن المغيبات قبل أن تأتي، ويأكلون العظام والطين، ويجدونه طعاما وحلاوة وغير ذلك ؟
فأجاب:
الحمد للّه رب العالمين، أما وجود أقوام يحتجبون عن الناس دائما فهذا باطل، لم يكن لأحد من الأنبياء ولا الأولياء ولا السحرة، ولكن قد يحتجب الرجل بعض الأوقات عن بعض الناس، إما كرامة لولي، وإما على سبيل السحر. فإن هذه الأحوال منها ما هو حال رحماني، وهو كرامات أولياء اللّه المتبعين للكتاب والسنة، وهم المؤمنون المتقون. ومنه ما هو حال نفساني أو شيطاني، كما يحصل لبعض الكفار أن يكاشف أحيانا، وكما يحصل لبعض الكهان أن تخبره الشياطين بأشياء. وأحوال أهل البدع هي من هذا الباب.
ومن هؤلاء من تحمله الشياطين فتطير به في الهواء. ومنهم من يرقص في الهواء. ومنهم من يلبسه الشيطان فلا يحس بالضرب ولا بالنار إذا ألقي فيها، لكنها لا تكون عليه بردا أو سلاما، فإن ذلك لا يكون إلا لأهل الأحوال الرحمانية وأهل الإشارات التي هي فسادات، من اللاذن، والزعفران، وماء الورد، وغير ذلك هم من هؤلاء. فجمهورهم أرباب محال بهتاني، وخواصهم لهم حال شيطاني، وليس فيهم ولي للّه، بل هم من إخوان الشياطين من جنس التتر.
وليس في جبل لبنان ولا غيره أربعون رجلا يقيمون هناك، ولا هناك من يغيب عن أبصار الناس دائما، والحديث المروي في أن الأبدال أربعون رجلا حديث ضعيف؛ فإن أولياء اللّه المتقين يزيدون وينقصون بحسب كثرة الإيمان والتقوي، وبحسب قلة ذلك، كانوا في أول الإسلام أقل من أربعين، لما انتشر الإسلام كانوا أكثر من ذلك.
وأما قطع المسافة البعيدة فهذا يكون لبعض الصالحين ويكون لبعض إخوان الشياطين، وليس هذا من أعظم الكرامات، بل الذي يحج مع المسلمين أعظم ممن يحج في الهواء؛ ولهذا اجتمع الشيخ إبراهيم الجعبري ببعض من كان يحج في الهواء، فطلبوا منه أن يحج معهم فقال: هذا الحج لا يجزي عنكم حتى تحجوا كما يحج المسلمون. وكما حج رسول اللّه ﷺ وأصحابه. فوافقوه على ذلك، وقالوا بعد قضاء الحج: ما حججنا حجة أبرك من هذه الحجة، ذقنا فيها طعم عبادة اللّه وطاعته. وهذا يكون بعض الأوقات، ليس هذا للإنسان كل ما طلبه.
وكذلك المكاشفات تقع بعض الأحيان من أولياء اللّه، وأحيانا من إخوان الشياطين.
وهؤلاء الذين أحوالهم شيطانية قد يأكل أحدهم المآكل الخبيثة، حتى يأكل العذرة وغيرها من الخبائث بالحال الشيطاني، وهم مذمومون على هذا. فإن أولياء اللّه هم الذين يتبعون الرسول النبي الأمي، الذي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث. فمن أكل الخبائث كانت أحواله شيطانية. فإن الأحوال نتائج الأعمال. فالأكل من الطيبات والعمل الصالح يورث الأحوال الرحمانية، من المكاشفات، والتأثيرات التي يحبها اللّه ورسوله. وأكل الخبائث وعمل المنكرات يورث الأحوال الشيطانية التي يبغضها اللّه ورسوله، وخفراء التتر هم من هؤلاء.
وإذا اجتمعوا مع من له حال رحماني بطلت أحوالهم، وهربت شياطينهم. وإنما يظهرون عند الكفار والجهال، كما يظهر أهل الإشارات عند التتر والأعراب والفلاحين ونحوهم من الجهال الذين لا يعرفون الكتاب والسنة. وأما إذا ظهر المحمديون أهل الكتاب والسنة فإن حال هؤلاء يبطل، واللّه أعلم.
سئل عن تعبد النبي ما هو وكيف كان قبل مبعثه
ما قول أئمّة الدّين في تعبد النبي ﷺ ماهو، وكيف كان قبل مبعثه ؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب:
الحمد للّه، هذه المسألة مما لا يحتاج إليها في شريعتنا. فإنما علينا أن نطيع الرسول فيما أمرنا به، ونقتدي به بعد إرساله إلينا. وأما ما كان قبل ذلك مثل تحنثه بغار حراء، وأمثال ذلك، فهذا ليس سنة مسنونة للأمة؛ فلهذا لم يكن أحد من الصحابة بعد الإسلام يذهب إلى غار حراء، ولا يتحري مثل ذلك؛ فإنه لا يشرع لنا بعد الإسلام أن نقصد غيران الجبال، ولا نتخلي فيها، بل يسن لنا العكوف بالمساجد سنة مسنونة لنا.
وأما قصد التخلي في كهوف الجبال وغيرانها، والسفر إلى الجبل للبركة، مثل جبل الطور وجبل حراء، وجبل يثرب، أو نحو ذلك، فهذا ليس بمشروع لنا، بل قد قال ﷺ: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد). وقد كان ﷺ قبل البعثة يحج، ويتصدق، ويحمل الكَلَّ، ويُقْرِي الضَّيْفَ، ويعين على نوائب الحق، ولم يكن على دين قومه المشركين، صلي اللّه عليه وعلى أصحابه وسلم تسليما كثيرا.
فصل قصد الصلاة والدعاء والعبادة في مكان لم يقصد الأنبياء فيه الصلاة والعبادة
وَقَال: وأما قصد الصلاة والدعاء والعبادة في مكان لم يقصد الأنبياء فيه الصلاة والعبادة، بل روي أنهم مروا به ونزلوا فيه أو سكنوه، فهذا كما تقدم لم يكن ابن عمر ولا غيره يفعله؛ فإنه ليس فيه متابعتهم، لا في عمل عملوه، ولا قصد قصدوه، ومعلوم أن الأمكنة التي كان النبي ﷺ يحل فيها؛ إما في سفره، وإما في مقامه؛ مثل طرقه في حجه وغزواته، ومنازله في أسفاره، ومثل بيوته التي كان يسكنها والبيوت التي كان يأتي إليها أحيانا من... فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك).
فهذه نصوصه الصريحة توجب تحريم اتخاذ قبورهم مساجد مع أنهم مدفونون فيها، وهم أحياء في قبورهم، ويستحب إتيان قبورهم للسلام عليهم، ومع هذا يحرم إتيانها للصلاة عندها واتخاذها مساجد.
ومعلوم أن هذا إنما نهى عنه لأنه ذريعة إلى الشرك، وأراد أن تكون المساجد خالصة للّه تعإلى تبني لأجل عبادته فقط لا يشركه في ذلك مخلوق، فإذا بني المسجد لأجل ميت كان حراما، فكذلك إذا كان لأثر آخر، فإن الشرك في الموضعين حاصل.
ولهذا كانت النصارى يبنون الكنائس على قبر النبي والرجل الصالح وعلى أثره وباسمه. وهذا الذي خاف عمر رضي اللّه عنه أن يقع فيه المسلمون وهو الذي قصد النبي ﷺ منع أمته منه، كما قال اللّه تعإلى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [415]، وقال تعإلى: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [416]، وقال تعإلى: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَاليوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَي الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَي أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [417].
ولو كان هذا مستحبا لكان يستحب للصحابة والتابعين أن يصلوا في جميع حجر أزواجه، وفي كل مكان نزل فيه في غزواته أو أسفاره. ولكان يستحب أن يبنوا هناك مساجد، ولم يفعل السلف شيئا من ذلك.
ولم يشرع اللّه تعإلى للمسلمين مكانا يقصد للصلاة إلى المسجد. ولا مكانا يقصد للعبادة إلا المشاعر. فمشاعر الحج كعرفة ومزدلفة ومني تقصد بالذكر والدعاء والتكبير، لا الصلاة، بخلاف المساجد، فإنها هي التي تقصد للصلاة، وما ثم مكان يقصد بعينه إلا المساجد والمشاعر وفيها الصلاة والنسك، قال تعإلى: { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ } [418]، وما سوي ذلك من البقاع فإنه لا يستحب قصد بقعة بعينها للصلاة، ولا الدعاء، ولا الذكر، إذ لم يأت في شرع اللّه ورسوله قصدها لذلك، وإن كان مسكنا لنبي أو منزلا أو ممرا.
فإن الدين أصله متابعة النبي ﷺ وموافقته بفعل ما أمرنا به وشرعه لنا وسنه لنا، ونقتدي به في أفعاله التي شرع لنا الاقتداء به فيها، بخلاف ما كان من خصائصه.
فأما الفعل الذي لم يشرعه هو لنا، ولا أمرنا به، ولا فعله فعلا سَنَّ لنا أن نتأسي به فيه، فهذا ليس من العبادات والقرب، فاتخاذ هذا قربة مخالفة له ﷺ. وما فعله من المباحات على غير وجه التعبد يجوز لنا أن نفعله مباحا كما فعله مباحا، ولكن هل يشرع لنا أن نجعله عبادة وقربة؟ فيه قولان، كما تقدم. وأكثر السلف والعلماء على أنا لا نجعله عبادة وقربة، بل نتبعه فيه؛ فإن فعله مباحا فعلناه مباحا، وإن فعله قربة فعلناه قربة. ومن جعله عبادة رأي أن ذلك من تمام التأسي به والتشبه به، ورأي أن في ذلك بركة لكونه مختصا به نوع اختصاص.
فصل في مناقب الشام وأهلها
وَقَالَ رحَمهُ اللّه:
ثبت للشام وأهله مناقب بالكتاب والسنة وآثار العلماء، وهي أحد ما اعتمدته في تحضيضي المسلمين على غزو التتار وأمري لهم بلزوم دمشق، ونهىي لهم عن الفرار إلى مصر، واستدعائي العسكر المصري إلى الشام، وتثبيت الشامي فيه. وقد جرت في ذلك فصول متعددة. وهذه المناقب أمور:
أحدها: البركة فيه. ثبت ذلك بخمس آيات من كتاب اللّه تعإلى: قوله تعإلى في قصة موسي: { قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَي رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } إلى قوله: { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إلى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي اليمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَي على بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ } [419]. ومعلوم أن بني إسرائيل إنما أورثوا مشارق أرض الشام ومغاربها بعد أن أغرق فرعون في إلىم. وقوله تعإلى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَي بِعَبْدِهِ لَيْلا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الأقصى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [420] و { حوله } أرض الشام، وقوله تعإلى في قصة إبراهيم: { وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إلى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } [421]. ومعلوم أن إبراهيم إنما نجاه اللّه ولوطا إلى أرض الشام من أرض الجزيرة والفرات. وقوله تعإلى: { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إلى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } [422]. وإنما كانت تجري إلى أرض الشام التي فيها مملكة سليمان. وقوله تعإلى في قصة سبأ: { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَي الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًي ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ } [423] وهما كانا بين إلىمن مساكن سبأ وبين منتهي الشام من العمارة القديمة، كما قد ذكره العلماء.
فهذه خمس نصوص حيث ذكر اللّه أرض الشام في هجرة إبراهيم إليها، ومسري الرسول إليها، وانتقال بني إسرائيل إليها، ومملكة سليمان بها، ومسير سبأ إليها، وصفها بأنها الأرض التي باركنا فيها.
وأيضا، ففيها الطور الذي كلم اللّه عليه موسي. والذي أقسم اللّه به في سورة الطور وفي التين والزيتون وطور سينين وفيها المسجد الأقصى، وفيها مبعث أنبياء بني إسرائيل، وإليها هجرة إبراهيم، وإليها مسري نبينا، ومنها معراجه، وبها ملكه وعمود دينه، وكتابه، وطائفة منصورة من أمته، وإليها المحشر والمعاد، كما أن من مكة المبدأ. فمكة أم القري من تحتها دحيت الأرض، والشام إليها يحشر الناس، كما في قوله: { لِأَوَّلِ الْحَشْرِ } [424] نبه على الحشر الثاني، فمكة مبدأ، وإيليا معاد في الخلق، وكذلك في الأمر، فإنه أسري بالرسول من مكة إلى إيليا. ومبعثه ومخرج دينه من مكة، وكمال دينه وظهوره وتمامه، حتى مملكة المهدي بالشام، فمكة هي الأول والشام هي الآخر، في الخلق والأمر في الكلمات الكونية والدينية.
ومن ذلك: أن بها طائفة منصورة إلى قيام الساعة التي ثبت فيها الحديث في الصحاح من حديث معاوية وغيره: (لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعة). وفيهما عن معاذ بن جبل، قال: (وهم في الشام) وفي تاريخ البخاري مرفوعا قال: (وهم بدمشق)، وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: (لا يزال أهل المغرب ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة). قال أحمد بن حنبل: أهل المغرب هم أهل الشام، وهم كما قال لوجهين:
أحدهما: أن في سائر الحديث بيان أنهم أهل الشام.
الثاني: أن لغة النبي ﷺ وأهل مدينته في أهل المغرب هم أهل الشام، ومن يغرب عنهم. كما أن لغتهم في أهل المشرق هم أهل نجد والعراق؛ فإن التغريب والتشريق من الأمور النسبية، فكل بلد له غرب قد يكون شرقا لغيره، وله شرق قد يكون غربا لغيره. فالاعتبار في كلام النبي ﷺ بما كان غربا وشرقا له حيث تكلم بهذا الحديث وهي المدينة.
ومن علم حساب الأرض كطولها وعرضها، علم أن حران والرقة وسيمسياط على سمت مكة، وأن الفرات وما على جانبيها بل أكثره على سمت المدينة، بينهما في الطول درجتين. فما كان غربي الفرات فهو غربي المدينة وما كان شرقيها فهو شرقي المدينة.
فأخبر أن أهل الغرب لا يزالون ظاهرين، وأما أهل الشرق فقد يظهرون تارة ويغلبون أخري. وهكذا هو الواقع؛ فإن جيش الشام ما زال منصورا، وكان أهل المدينة يسمون الأوزاعي إمام أهل المغرب، ويسمون الثوري شرقيا، ومن أهل المشرق.
ومن ذلك: أنها خيرة اللّه من الأرض. إن أهلها خيرة اللّه وخيار أهل الأرض، واستدل أبو داود في سننه على ذلك بحديثين: حديث عبد اللّه بن حَوَالة الأزدي عن النبي ﷺ قال: (ستجندون أجنادا، جندا بالشام، وجندا بإلىمن، وجندا بالعراق). فقال الخَوَإلى: يا رسول اللّه، اختر لي. قال: (عليك بالشام؛ فإنها خيرة اللّه من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده. فمن أبي فليلحق بيمنه، وليتق من غدره، فإن اللّه قد تكفل لي بالشام وأهله). وكان الخوإلى يقول: ومن تكفل اللّه به فلا ضعية عليه. ففي هذا الحديث مناقب أنها خيرة.
وحديث عبد اللّه بن عمرو عن النبي ﷺ قال: (ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقي في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم، تقذرهم نفس الرحمن، تحشرهم النار مع القردة والخنازير، تبيت معهم حيثما باتوا، وتقيل معهم حيثما قالوا). فقد أخبر أن خير أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم؛ بخلاف من يأتي إليه أو يذهب عنه، ومهاجر إبراهيم هي الشام. وفي هذا الحديث بشري لأصحابنا الذين هاجروا من حران وغيرها إلى مهاجر إبراهيم، واتبعوا ملة إبراهيم ودين نبيهم محمد ﷺ تسليما، وبيان أن هذه الهجرة التي لهم بعد هجرة أصحاب رسول اللّه ﷺ إلى المدينة؛ لأن الهجرة إلى حيث يكون الرسول وآثاره، وقد جعل مهاجر إبراهيم يعدل لنا مهاجر نبينا ﷺ؛ فإن الهجرة إلى مهاجره انقطعت بفتح مكة.
ومن ذلك: أمر النبي ﷺ بها في حديث الترمذي. ومن ذلك: أن اللّه قد تكفل بالشام وأهله، كما في حديث الخوإلى. ومن ذلك: أن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها على الشام. كما في الصحيح من حديث عبد اللّه بن عمر. ومن ذلك: أن عمود الكتاب والاسلام بالشام، كما قال النبي ﷺ: (رأيت كأن عمود الكتاب أخذ من تحت رأسي فأتبعته بصري فذهب به إلى الشام). ومن ذلك أنها عقر دار المؤمنين، كما قال النبي ﷺ: (وعقر دار المؤمنين الشام).
ومن ذلك: أن منافقيها لا يغلبوا أمر مؤمنيها، كما رواه أحمد في المسند في حديث. وبهذا استدللت لقوم من قضاة القضاة وغيرهم في فتن قام فيها علينا قوم من أهل الفجور والبدع، الموصوفين بخصال المنافقين لما خوفونا منهم، فأخبرتهم بهذا الحديث، وأن منافقينا لا يغلبوا مؤمنينا.
وقد ظهر مصداق هذه النصوص النبوية على أكمل الوجوه في جهادنا للتتار، وأظهر اللّه للمسلمين صدق ما وعدناهم به، وبركة ما أمرناهم به، وكان ذلك فتحا عظيما، ما رأي المسلمون مثله منذ خرجت مملكة التتار التي أذلت أهل الإسلام؛ فإنهم لم يهزموا ويغلبوا كما غلبوا على باب دمشق في الغزوة الكبري، التي أنعم اللّه علينا فيها من النعم بما لا نحصيه؛ خصوصا وعموما. والحمد للّه رب العالمين، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضاه، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله.
آخر المجلد السابع والعشرين
هامش
- ↑ [الجن: 6]
- ↑ [آل عمران: 81]
- ↑ [البقرة: 61]
- ↑ [التوبة: 19: 22]
- ↑ [نوح: 23]
- ↑ [البقرة: 177]
- ↑ [التوبة: 19، 20]
- ↑ [الأعراف: 137]
- ↑ [الإسراء: 1]
- ↑ [الأنبياء: 71]
- ↑ [الأنبياء: 81]
- ↑ [سبأ: 18]
- ↑ [الأعراف: 145]
- ↑ [البقرة: 62]
- ↑ [البقرة: 111، 112]
- ↑ [النساء: 125]
- ↑ [الفاتحة: 5]
- ↑ [هود: 123]
- ↑ [الشورى: 10]
- ↑ [طه: 105: 107]
- ↑ [التوبة: 19- 22]
- ↑ [التوبة: 97]
- ↑ [التوبة: 34]
- ↑ [يونس: 62، 63]
- ↑ [سبأ: 28]
- ↑ [الأعراف: 158]
- ↑ [الشورى: 21]
- ↑ [النور: 36]
- ↑ [التوبة: 18]
- ↑ [الزمر: 1 - 3]
- ↑ [الجن: 18]
- ↑ [الأعراف: 29]
- ↑ [الإسراء: 56، 57]
- ↑ [الكهف: 102]
- ↑ [سبأ: 22، 23]
- ↑ [البقرة: 255]
- ↑ [النجم: 26]
- ↑ [الزمر: 43، 44]
- ↑ [السجدة: 4]
- ↑ [الأنعام: 51]
- ↑ [آل عمران: 79: 80]
- ↑ [المائدة: 116]
- ↑ [التوبة: 31]
- ↑ [الشرح: 7، 8]
- ↑ [التوبة: 84]
- ↑ [الزمر: 3]
- ↑ [الزمر: 43، 44]
- ↑ [السجدة: 4]
- ↑ [البقرة: 255]
- ↑ [الشرح: 7، 8]
- ↑ [البقرة: 40]
- ↑ [المائدة: 44]
- ↑ [البقرة: 186]
- ↑ [الفاتحة: 5]
- ↑ [الزمر: 3]
- ↑ [البقرة: 114]
- ↑ [البقرة: 187]
- ↑ [الأعراف: 29]
- ↑ [التوبة: 18]
- ↑ [ الجن: 18 ]
- ↑ [نوح: 23]
- ↑ [المائدة: 117]
- ↑ [الحج: 30: 31]
- ↑ [الأعراف: 152]
- ↑ [الصافات: 86: 87]
- ↑ [الروم: 47]
- ↑ [الفرقان: 16]
- ↑ [الشورى: 21]
- ↑ [الأعراف: 55]
- ↑ [يونس: 107]
- ↑ [فاطر: 2]
- ↑ [الأنعام: 40: 41]
- ↑ [الإسراء: 56: 57]
- ↑ [آل عمران173، 174]
- ↑ [إبراهيم: 35، 36]
- ↑ [النساء: 17]
- ↑ [الأعراف: 157]
- ↑ [نوح: 23، 24]
- ↑ [البينة: 5]
- ↑ [آل عمران: 64]
- ↑ [يونس: 12]
- ↑ [الإسراء: 67]
- ↑ [الأنعام: 40: 43]
- ↑ [غافر: 78]
- ↑ [الأنعام: 50]
- ↑ [الأعراف: 188]
- ↑ [ آل عمران: 154]
- ↑ [آل عمران: 127، 128]
- ↑ [القصص: 56]
- ↑ [النساء: 80]
- ↑ [آل عمران: 31]
- ↑ [الأحزاب: 6]
- ↑ [التوبة: 24]
- ↑ [النور: 25]
- ↑ [التوبة: 59]
- ↑ [الحشر: 7]
- ↑ [التوبة: 59]
- ↑ [الأنفال: 64]
- ↑ [القصص: 30]
- ↑ [التوبة: 84]
- ↑ [نوح: 23]
- ↑ [التوبة: 31]
- ↑ [الشرح: 7، 8]
- ↑ [الإسراء: 56، 57]
- ↑ [النساء: 59]
- ↑ [البقرة: 125]
- ↑ [الأعراف: 138]
- ↑ [التوبة: 40]
- ↑ [البقرة: 114]
- ↑ [التوبة: 18]
- ↑ [الأعراف: 29]
- ↑ [الجن: 18]
- ↑ [التوبة: 107، 108]
- ↑ [التوبة: 19 22]
- ↑ [محمد: 13]
- ↑ [المائدة: 20 22]
- ↑ [الأعراف: 145]
- ↑ [النساء: 1]
- ↑ [التوبة: 31]
- ↑ [الإسراء: 56، 57]
- ↑ [آل عمران: 79، 80]
- ↑ [الليل: 17: 21]
- ↑ [البقرة: 265]
- ↑ [الإنسان: 9]
- ↑ [الأنفال: 39]
- ↑ [الزخرف: 45]
- ↑ [الزمر: 1، 2]
- ↑ [الكهف: 110]
- ↑ [الملك: 2]
- ↑ [يونس: 71، 72]
- ↑ [البقرة: 130: 132]
- ↑ [يونس: 84]
- ↑ [المائدة: 111]
- ↑ [الشورى: 13]
- ↑ [المائدة: 48]
- ↑ [البقرة: 136]
- ↑ [نوح: 23، 24]
- ↑ [التوبة: 47]
- ↑ [الحج: 30: 31]
- ↑ [الأعراف: 152]
- ↑ [القصص: 74، 75]
- ↑ [هود: 50]
- ↑ [المؤمنون: 117]
- ↑ [الأحقاف: 4]
- ↑ [الروم: 30: 35]
- ↑ [الروم: 31، 32]
- ↑ [الأنبياء: 25]
- ↑ [الزخرف: 45]
- ↑ [النحل: 36]
- ↑ [البقرة: 114]
- ↑ [البقرة: 187]
- ↑ [الأعراف: 29]
- ↑ [التوبة: 17]
- ↑ [التوبة: 18]
- ↑ [الأنعام: 81]
- ↑ [الأنعام: 82]
- ↑ [لقمان: 13]
- ↑ [الأنعام: 83]
- ↑ [الجن: 18]
- ↑ [الحجر: 9]
- ↑ [إبراهيم: 35، 36]
- ↑ [النساء: 51، 52]
- ↑ [نوح: 23]
- ↑ [الأعراف: 29]
- ↑ [التوبة: 18]
- ↑ [البقرة: 187]
- ↑ [الجن: 18]
- ↑ [البقرة: 114]
- ↑ [المائدة: 8]
- ↑ [المائدة: 2]
- ↑ [الأحزاب: 70، 71]
- ↑ [الحج: 40]
- ↑ [العنكبوت: 43]
- ↑ [الحج: 41]
- ↑ [النور: 55]
- ↑ [الإسراء: 53]
- ↑ [يوسف: 88]
- ↑ [نوح: 23]
- ↑ [الأعراف: 29]
- ↑ [الجن: 18]
- ↑ [التوبة: 18]
- ↑ [البقرة: 187]
- ↑ [البقرة: 114]
- ↑ [البقرة: 217]
- ↑ [الإسراء: 15]
- ↑ [الأنعام: 81، 82]
- ↑ [الأنبياء: 36]
- ↑ [النساء: 171، 172]
- ↑ [التوبة: 40]
- ↑ [الإسراء: 23]
- ↑ [البقرة: 187]
- ↑ [الأنبياء: 52]
- ↑ [الأعراف: 138، 139]
- ↑ [الأنفال: 35]
- ↑ [التوبة: 17، 18]
- ↑ [هود: 54: 56]
- ↑ [الأنعام: 80: 82]
- ↑ [الزمر: 36: 38]
- ↑ [الأعراف: 195، 196]
- ↑ [الجن: 18]
- ↑ [الأعراف: 29]
- ↑ [التوبة: 17، 18]
- ↑ [النور: 36: 38]
- ↑ [آل عمران: 97]
- ↑ [البقرة: 196]
- ↑ [مريم: 41]
- ↑ [مريم: 51]
- ↑ [ص: 17]
- ↑ [ص: 41]
- ↑ [ص: 45: 48]
- ↑ [ص: 12: 14]
- ↑ [الحجر: 92، 93]
- ↑ [البقرة: 1 - 5]
- ↑ [الحديد: 3]
- ↑ [الأعلى: 2 - 4]
- ↑ [المؤمنون: 1 - 11]
- ↑ [البقرة: 136]
- ↑ [البقرة: 177]
- ↑ [البقرة: 285]
- ↑ [البقرة: 21، 22]
- ↑ [البقرة: 23، 24]
- ↑ [الإسراء: 88]
- ↑ [آل عمران: 2- 4]
- ↑ [البقرة: 53]
- ↑ [الفرقان: 1]
- ↑ [الأنفال: 41]
- ↑ [الأنعام: 37]
- ↑ [الشعراء: 4]
- ↑ [البقرة: 59]
- ↑ [يونس: 2]
- ↑ [يونس: 3]
- ↑ [السجدة: 1 - 4]
- ↑ [الزمر: 1 - 3]
- ↑ [هود: 1، 2]
- ↑ [هود: 14]
- ↑ [النحل: 2]
- ↑ [القصص: 62]
- ↑ [القصص: 65]
- ↑ [النحل: 36]
- ↑ [البقرة: 136]
- ↑ [آل عمران: 64]
- ↑ [الأنبياء: 25]
- ↑ [الزخرف: 45]
- ↑ [النحل: 36]
- ↑ [النحل: 53]
- ↑ [النحل: 51، 52]
- ↑ [الإسراء: 56، 57]
- ↑ [سبأ: 22، 23]
- ↑ [سبأ: 23]
- ↑ [الزمر: 44]
- ↑ [الزخرف: 86]
- ↑ [الزخرف: 86]
- ↑ [النساء: 150، 151]
- ↑ [البقرة: 87]
- ↑ [البقرة: 87]
- ↑ [البقرة: 91]
- ↑ [الأنبياء: 5]
- ↑ [آل عمران: 79، 80]
- ↑ [التوبة: 31]
- ↑ [آل عمران: 64]
- ↑ [البقرة: 255]
- ↑ [الأنبياء: 28]
- ↑ [النجم: 1 4]
- ↑ [النجم: 23]
- ↑ [الأحزاب: 56]
- ↑ [البقرة: 196]
- ↑ [نوح: 23، 24]
- ↑ [الأحزاب: 6]
- ↑ [المائدة: 54]
- ↑ [مريم: 65]
- ↑ [الإخلاص: 4]
- ↑ [الشوري: 11]
- ↑ [البقرة: 22]
- ↑ [الفرقان: 68]
- ↑ [البقرة: 165]
- ↑ [آل عمران: 79، 80]
- ↑ [الإسراء: 56، 57]
- ↑ [البقرة: 186]
- ↑ [سبأ: 22، 23]
- ↑ [البقرة: 255]
- ↑ [الأنبياء: 28]
- ↑ [النجم: 26]
- ↑ [طه: 108، 109]
- ↑ [يونس: 3]
- ↑ [السجدة: 4]
- ↑ [النساء: 115]
- ↑ [الحج: 30، 31]
- ↑ [النساء: 59]
- ↑ [الأنعام: 88 - 90]
- ↑ [الروم: 28]
- ↑ [آل عمران: 80]
- ↑ [التوبة: 31]
- ↑ [الفيل: 1 - 5]
- ↑ [النجم: 19: 21]
- ↑ [النجم: 19]
- ↑ [الأنعام: 161: 163]
- ↑ [النساء: 116، 117]
- ↑ [الأنعام: 19]
- ↑ [الأعراف: 138: 140]
- ↑ [الزمر: 38]
- ↑ [آل عمران: 80]
- ↑ [يوسف: 39، 40]
- ↑ [النحل: 17: 21]
- ↑ [آل عمران: 144]
- ↑ [الأعراف: 201، 202]
- ↑ [النجم: 21، 22]
- ↑ [النجم: 21]
- ↑ [النجم: 27]
- ↑ [الزخرف: 19]
- ↑ [النحل: 58]
- ↑ [النحل: 56 - 60]
- ↑ [الروم: 28]
- ↑ [مريم: 65]
- ↑ [سورة الإخلاص]
- ↑ [الأنعام: 1]
- ↑ [الشعراء: 94: 98]
- ↑ [النحل: 73، 74]
- ↑ [البقرة: 165]
- ↑ [الأنعام: 161: 163]
- ↑ [القصص: 88]
- ↑ [الحج: 34]
- ↑ [البقرة: 127، 128]
- ↑ [غافر: 60]
- ↑ [الأنعام: 162]
- ↑ [آل عمران: 58]
- ↑ [المائدة: 48]
- ↑ [الشعراء: 216]
- ↑ [الأنعام: 159]
- ↑ [الشوري: 21]
- ↑ [الشوري: 52، 53]
- ↑ [الأنعام: 153]
- ↑ [الفاتحة: 6، 7]
- ↑ [النساء: 59]
- ↑ [الأنبياء: 78، 79]
- ↑ [التوبة: 31]
- ↑ [الأعراف: 33]
- ↑ [التكاثر: 1، 2]
- ↑ [الأنبياء: 78، 79]
- ↑ [الفاتحة: 5]
- ↑ [هود: 123]
- ↑ [البقرة: 153]
- ↑ [هود: 114، 115]
- ↑ [النساء: 156: 158]
- ↑ [الجن: 11]
- ↑ [المائدة: 54]
- ↑ [التوبة: 128]
- ↑ [التوبة: 108]
- ↑ [الأحزاب: 56]
- ↑ [الأحزاب: 43]
- ↑ [التوبة: 103]
- ↑ [التوبة: 108، 109]
- ↑ [الإسراء: 7]
- ↑ [النساء: 79]
- ↑ [الشوري: 30]
- ↑ [النساء: 80]
- ↑ [النساء: 64]
- ↑ [الفتح: 10]
- ↑ [التوبة: 24]
- ↑ [الأحزاب: 6]
- ↑ [الأحزاب: 45، 46]
- ↑ [يوسف: 108]
- ↑ [الحج: 71]
- ↑ [النور: 52]
- ↑ [النحل: 51، 52]
- ↑ [التوبة: 18]
- ↑ [المائدة: 44]
- ↑ [التوبة: 59]
- ↑ [الحشر: 7]
- ↑ [التوبة: 59]
- ↑ [الأنفال: 64]
- ↑ [الأعراف: 196]
- ↑ [الأعراف: 194: 196]
- ↑ [غافر: 51]
- ↑ [التوبة: 59]
- ↑ [الشرح: 7، 8]
- ↑ [الإسراء: 56، 57]
- ↑ [الإسراء: 56، 57]
- ↑ [المائدة: 72: 76]
- ↑ [الأعراف: 188]
- ↑ [الجن: 21: 23]
- ↑ [الأنعام: 15]
- ↑ [النساء: 147]
- ↑ [الفرقان: 77]
- ↑ [المائدة: 35]
- ↑ [الحج: 38]
- ↑ [النساء: 69]
- ↑ [الشوري: 48]
- ↑ [العنكبوت: 18]
- ↑ [آل عمران: 165]
- ↑ [النساء: 69]
- ↑ [إبراهيم: 37]
- ↑ [سبأ: 22، 23]
- ↑ [الزخرف: 86]
- ↑ [النحل: 53]
- ↑ [الأنبياء: 42]
- ↑ [الزخرف: 60]
- ↑ [الملك: 20، 21]
- ↑ [النحل: 112، 113]
- ↑ [التوبة: 38، 39]
- ↑ [المائدة: 54]
- ↑ [فصلت: 53]
- ↑ [الحجر: 9]
- ↑ [التوبة: 84]
- ↑ [الجن: 18]
- ↑ [الأعراف: 29]
- ↑ [التوبة: 18]
- ↑ [النور: 36: 38]
- ↑ [الحج: 18]
- ↑ [الحج: 19]
- ↑ [البقرة: 156]
- ↑ [البقرة: 155: 157]
- ↑ [هود: 18]
- ↑ [البقرة: 186]
- ↑ [الأنعام: 162]
- ↑ [الجن: 18]
- ↑ [الأعراف: 29]
- ↑ [التوبة: 17، 18]
- ↑ [الأنعام: 162، 163]
- ↑ [الأعراف: 129: 137]
- ↑ [الإسراء: 1]
- ↑ [الأنبياء: 70، 71]
- ↑ [الأنبياء: 81]
- ↑ [سبأ: 18]
- ↑ [الحشر: 2]