→ فصل في ذكر بعض جهالات اللفظية | مجموع فتاوى ابن تيمية – التفسير فصل رد الإمام أحمد على اللفظية ابن تيمية |
فصل فيمن أدرك من درجات الكلام بعض الحق ← |
فصل رد الإمام أحمد على اللفظية
ومن تأمل نصوص الإمام أحمد في هذا الباب، وجدها من أسد الكلام وأتم البيان، ووجد كل طائفة منتسبة إلى السنة قد تمسكت منها بما تمسكت، ثم قد يخفي عليها من السنة في موضع آخر ما ظهر لبعضها فتنكره.
ومنشأ النزاع بين أهل الأرض، والاضطراب العظيم الذي لا يكاد ينضبط في هذا الباب، يعود إلى أصلين: مسألة تكلم الله بالقرآن وسائر كلامه، ومسألة تكلم العباد بكلام الله.
وسبب ذلك أن التكلم والتكليم له مراتب ودرجات، وكذلك تبليغ المبلغ لكلام غيره له وجوه وصفات، ومن الناس من يدرك من هذه الدرجات والصفات بعضها، وربما لم يدرك إلا أدناها، ثم يكذب بأعلاها، فيصيرون مؤمنين ببعض الرسالة، كافرين ببعضها، ويصير كل من الطائفتين مصدقة بما أدركته، مكذبة بما مع الآخرين من الحق.
وقد بين الله في كتابه وسنة رسوله ذلك، فقال: تعالى: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } [1]، وقال تعالى: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [2]،
وقال: { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } [3].
ففي هذه الآية خص بالتكليم بعضهم، وقد صرح في الآية الأخرى بأنه كلم موسى تكليمًا، واستفاضت الآثار بتخصيص موسى بالتكليم، فهذا التكليم الذي خص به موسى على نوح وعيسى ونحوهما، ليس هو التكليم العام الذي قال فيه: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } [4]، فإن هذه الآية قد جمع فيها جميع درجات التكليم، كما ذكر ذلك السلف.
فروينا في كتاب الإبانة لأبي نصر السجزي، وكتاب البيهقي، وغيرهما عن عقبة، قال: سئل ابن شهاب عن هذه الآية: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } ، قال ابن شهاب: نزلت هذه الآية تعم من أوحى الله إليه من البشر، فكلام الله الذي كلم به موسى من وراء حجاب، والوحي ما يوحى الله إلى النبي من أنبيائه عليهم السلام ليثبت الله عز وجل ما أراد من وحيه في قلب النبي، ويكتبه، وهو كلام الله، ووحيه، ومنه ما يكون بين الله وبين رسله، ومنه ما يتكلم به الأنبياء ولا يكتبونه لأحد، ولا يأمرون بكتابته، ولكنهم يحدثون به الناس حديثًا، ويبينونه لهم؛ لأن الله أمرهم أن يبينوه للناس، ويبلغوهم إياه، ومن الوحي ما يرسل الله به من يشاء ممن اصطفاه من ملائكته فيكلمون به أنبياءه من الناس، ومن الوحي ما يرسل الله به من يشاء من الملائكة فيوحيه وحيًا في قلب من يشاء من رسله.
قلت: فالأول: الوحي، وهو الإعلام السريع الخفي؛ إما في اليقظة وإما في المنام؛ فإن رؤيا الأنبياء وحي، ورؤيا المؤمنين جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ في الصحاح، وقال عبادة بن الصامت ويروي مرفوعًا: رؤيًا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام.
وكذلك في اليقظة، فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثُون، فإن يكن في أمتي فعُمَرُ»، وفي رواية في الصحيح: «مكلمون»، وقد قال تعالى: { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } [5]، وقال تعالى: { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ } [6]، بل قد قال تعالى: { وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا } [7]، وقال تعالى: { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ } [8].
فهذا الوحي يكون لغير الأنبياء، ويكون يقظة، ومنامًا، وقد يكون بصوت هاتف، يكون الصوت في نفس الإنسان، ليس خارجًا عن نفسه يقظة ومنامًا، كما قد يكون النور الذي يراه أيضا في نفسه.
فهذه الدرجة من الوحي التي تكون في نفسه من غير أن يسمع صوت ملك- في أدنى المراتب وآخرها، وهي أولها باعتبار السالك، وهي التي أدركتها عقول الإلهيين من فلاسفة الإسلام الذين فيهم إسلام وصُبُوء [9]، فآمنوا ببعض صفات الأنبياء والرسل وهو قدر مشترك بينهم وبين غيرهم ولكن كفروا بالبعض، فتجد بعض هؤلاء يزعم أن النبوة مكتسبة، أو أنه قد استغنى عن الرسول، أو أن غير الرسول قد يكون أفضل منه، وقد يزعمون: أن كلام الله لموسى كان من هذا النمط، وأنه إنما كلمه من سماء عقله، وأن الصوت الذي سمعه كان في نفسه، أو أنه سمع المعنى فائضًا من العقل الفعال، أو أن أحدهم قد يصل إلى مقام موسى.
ومنهم من يزعم أنه يرتفع فوق موسى، ويقولون: إن موسى سمع الكلام بواسطة ما في نفسه من الأصوات، ونحن نسمعه مجردًا عن ذلك. ومن هؤلاء من يزعم أن جبريل الذي نزل على محمد ﷺ هو الخيال النوراني، الذي يتمثل في نفسه، كما يتمثل في نفس النائم، ويزعمون أن القرآن أخذه محمد عن هذا الخيال المسمى بجبريل عندهم؛ ولهذا قال ابن عربى صاحب الفصوص و الفتوحات المكية: إنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك، الذي يوحى به إلى الرسول. وزعم أن مقام النبوة دون الولاية، وفوق الرسالة، فإن محمدا بزعمهم الكاذب يأخذ عن هذا الخيال النفساني الذي سماه ملكا وهو يأخذ عن العقل المجرد الذي أخذ منه هذا الخيال.
ثم هؤلاء لا يثبتون لله كلامًا اتصف به في الحقيقة، ولا يثبتون أنه قصد إفهام أحد بعينه، بل قد يقولون: لا يعلم أحدًا بعينه، إذ علمه وقصده عندهم إذا أثبتوه لم يثبتوه إلا كليًا لا يعين أحدًا، بناء على أنه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات إلا على وجه كلي، وقد يقرب أو يقرب من مذهبهم من قال باسترسال علمه على أعيان الأعراض، وهذا الكلام مع أنه كفر باتفاق المسلمين فقد وقع في كثير منه من له فضل في الكلام والتصوف ونحو ذلك، ولولا أنى أكره التعيين في هذا الجواب لعينت أكابر من المتأخرين.
وقد يكون الصوت الذي يسمعه خارجا عن نفسه من جهة الحق تعالى على لسان ملك من ملائكته أو غير ملك، وهو الذي أدركته الجهمية من المعتزلة ونحوهم، واعتقدوا أنه ليس لله تكليم إلا ذلك، وهو لا يخرج عن قسم الوحي الذي هو أحد أقسام التكليم، أو قسيم التكليم بالرسول، وهو القسم الثاني، حيث قال تعالى: { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء } [10] فهذا إيحاء الرسول، وهو غير الوحي الأول من الله الذي هو أحد أقسام التكليم العام.
وإيحاء الرسول أيضا أنواع؛ ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أن الحارث بن هشام سأل النبي ﷺ: كيف يأتيك الوحي؟ قال: «أحيانًا يأتيني مثل صَلْصَلَة الجرس، وهو أشده عليَّ، فَيفصمُ عني وقد وَعَيْتُ ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعِي ما يقول». قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فَيُفْصِمُ عنه، وإن جبينه لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا [11].
فأخبر ﷺ أن نزول الملك عليه تارة يكون في الباطن بصوت مثل صلصلة الجرس، وتارة يكون متمثلا بصورة رجل يكلمه، كما كان جبريل يأتي في صورة دَحْيَة الكلبي، كما تمثل لمريم بشرًا سويا، وكما جاءت الملائكة لإبراهيم وللوط في صورة الآدميين، كما أخبر الله بذلك في غير موضع، وقد سمى الله كلا النوعين إلقاء الملك، وخطابه وحيا؛ لما في ذلك من الخفاء؛ فإنه إذا رآه يحتاج أن يعلم أنه ملك، وإذا جاء في مثل صلصلة الجرس يحتاج إلى فهم ما في الصوت.
و القسم الثالث: التكليم من وراء حجاب، كما كلم موسى عليه السلام؛ ولهذا سمى الله هذا نداء ونجاء فقال تعالى: { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } [12]، وقال تعالى: { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } [13].
وهذا التكليم مختص ببعض الرسل، كما قال تعالى: { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ } [14]، وقال تعالى: { وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } [15]، وقال بعد ذكر إيحائه إلى الأنبياء: { وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [16] فمن جعل هذا من جنس الوحي الأول كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة ومن تكلم في التصوف على طريقهم كما في مشكاة الأنوار وكما في كتاب خلع النعلين وكما في كلام الاتحادية كصاحب الفصوص وأمثاله فضلاله ومخالفته للكتاب والسنة والإجماع بل وصريح المعقول، من أبين الأمور.
وكذلك من زعم أن تكليم الله لموسى إنما هو من جنس الإلهام والوحي، وأن الواحد منا قد يسمع كلام الله كما سمعه موسى كما يوجد مثل ذلك في كلام طائفة من فروخ الجهمية الكلابية ونحوهم فهذا أيضا من أعظم الناس ضلالا.
وقد دل كتاب الله على أن اسم الوحي والكلام في كتاب الله فيهما عموم وخصوص، فإذا كان أحدهما عامًا اندرج فيه الآخر، كما اندرج الوحي في التكليم العام في هذه الآية، واندرج التكليم في الوحي العام، حيث قال تعالى: { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } [17] وأما التكليم الخاص الكامل فلا يدخل فيه الوحي الخاص الخفي، الذي يشترك فيه الأنبياء وغيرهم، كما أن الوحي المشترك الخاص لا يدخل فيه التكليم الخاص الكامل، كما قال تعالى لزكريا: { آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا } [18] ثم قال تعالى: { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ } [19]. فالإيحاء ليس بتكليم، ولا يناقض الكلام، وقوله تعالى في الآية الأخرى: { أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا } [20] إن جعل معنى الاستثناء منقطعًا اتفق معنى التكليم في الآيتين، وإن جعل متصلا كان التكليم مثل التكليم في سورة الشورى، وهو التكليم العام، وقد تبين أنه إنما كلم موسى تكليما خاصًا كاملا بقوله: { مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ } [21] مع العلم بأن الجميع أوحى إليهم، وكلمهم التكليم العام، وبأنه فرق بين تكليمه وبين الإيحاء إلى النبيين، وكذا التكليم بالمصدر، وبأنه جعل التكليم من وراء حجاب قسمًا غير إيحائه، وبما تواتر عن النبي ﷺ وأصحابه من تكليمه الخاص لموسى منه إليه، وقد ثبت أنه كلمه بصوت سمعه موسى، كما جاءت الآثار بذلك عن سلف الأمة وأئمتها موافقة لما دل عليه الكتاب والسنة.
وغلطت هنا الطائفة الثالثة الكلابية فاعتقدت أنه إنما أوحى إلى موسى عليه السلام معنى مجردًا عن صوت.
واختلفت، هل يسمع ذلك؟ فقال بعضهم: يسمع ذلك المعنى بلطيفة خلقها فيه، قالوا: إن السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس معان تتعلق بكل موجود، كما قال ذلك الأشعري، وطائفة. وقال بعضهم: لم يسمع موسى كلام الله، فإنه عنده معنى، والمعنى لا يسمع، كما قال ذلك القاضي أبو بكر وطائفة.
وهذا الذي أثبتوه في جنس الوحي العام الذي فرق الله عز وجل بينه وبين تكليمه لموسى عليه السلام حيث قال: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ } إلى قوله: { وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [22]، وفرق بين إيحائه وبين تكليمه من وراء حجاب حيث قال: { إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ } [23]، وحيث فرق بين الرسول المكلم وغيره بقوله تعالى: { مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ } [24].
لكن هؤلاء يثبتون أن لله كلامًا هو معنى قائم بنفسه هو متكلم به، وبهذا صاروا خيرًا ممن لا يثبت له كلامًا إلا ما أوحى في نفس النبي من المعنى، أو ما سمعه من الصوت المحدث، ولكن لفرط ردهم على هؤلاء زعموا أنه لا يكون كلامًا لله بحال إلا ما قام به؛ فإنه لا يقوم إلا المعنى. فأنكروا أن تكون الحروف كلام الله، وأن يكون القرآن العربي كلام الله.
وجاءت الطائفة الرابعة فردوا على هؤلاء دعواهم: أن يكون الكلام مجرد المعنى، فزعم بعضهم أن الكلام ليس إلا الحرف أو الصوت فقط، وأن المعاني المجردة لا تسمى كلامًا أصلا، وليس كذلك، بل الكلام المطلق اسم للمعاني والحروف جميعًا، وقد يسمى أحدهما كلاما مع التقييد كما يقول النحاة: الكلام: اسم، وفعل، وحرف. فالمقسوم هنا اللفظ، وكما قال الحسن البصري: ما زال أهل العلم يعودون بالتكلم على التفكر، وبالتفكر على التدبر، ويناطقون القلوب حتى نطقت. وكما قال الجنيد: التوحيد قول القلب، والتوكل عمل القلب. فجعلوا للقلب نطقًا، وقوة، كما جعل النبي ﷺ للنفس حديثًا في قوله: «إن الله تجاوز لأمتي عما حَدَّثَتْ به أنفسها ثم قال: ما لم تتكلم به، أو تعمل به».
فعلم أن الكلام المطلق هو ما كان بالحروف المطابقة للمعنى، وإن كان مع التقييد قد يقع بغير ذلك، حتى إنهم قد يسمون كل إفهام ودلالة يقصدها الدال قولا، سواء كانت باللفظ أو الإشارة، أو العقد عقد الأصابع وقد يسمون أيضا الدلالة قولا، وإن لم تكن بقصد من الدال مثل دلالة الجامدات كما يقولون: قالت: أتساع بطنه.
وامتلأ الحوض وقال قطني ** قطني رويدًا قد ملأت بطني
وقالت له العينان سمعا وطاعة ويسمى هذا لسان الحال ودلالة الحال، ومنه قولهم: سل الأرض من فجر أنهارك، وسقى ثمارك، وغرس أشجارك؟ فإن لم تجبك حوارًا أجابتك اعتبارًا، ومنه قولهم:
تخبرني العينان ما لقلب كاتم ** ولا خير في الحيا والنظر الشزر [25].
ومنه قولهم:
سألت الدار تخبرني ** عن الأحباب ما فعلوا
فقالت لي أناخ القوم ** أياما وقد رحلوا
وقد يسمى شهادة، وقد زعم طائفة أن ما ذكر في القرآن من تسبيح المخلوقات هو من هذا الباب، وهو دلالتها على الخالق تعالى، ولكن الصواب أن ثَمّ تسبيحًا آخر زائدًا على ما فيها من الدلالة، كما قد سبق في موضع آخر، لكن هذا كله يكون مع التقييد والقرينة؛ ولهذا يصح سلب الكلام والقول عن هذه الأشياء كما قال تعالى: { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلا } [26] وقال تعالى: { أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا } [27] وقال الخليل عليه السلام: { فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ } [28] وقال تعالى: { هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [29]،
وقال تعالى: { لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } [30] وقال تعالى: { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [31]،
وهذا معلوم بالضرورة والتواتر، وهو سلب القول والكلام عن الحي الساكت والعاجز، فكيف عن الموات؟
وقد علم أن الله تعالى موصوف بغاية صفات الكمال، وأن الرسل قد أثبتوا أنه متكلم بالكلام الكامل التام في غاية الكمال، فمن لم يجعل كلامه إلا مجرد معنى، أو مجرد حروف، أو مجرد حروف وأصوات، فما قدر الله حق قدره، ومن لم يجعل كلامه إلاما يقوم بغيره فقد سلبه الكمال، وشبهه بالموات، وكذلك من لم يجعله يتكلم بمشيئته، أو جعله يتكلم بمشيئته وقدرته ولكن جعل الكلام من جملة المخلوقات وجعله يوصف بمخلوقاته، أو جعله يتكلم بعد أن لم يكن متكلمًا، فكل من هذه الأقوال، وإن كان فيه إثبات بعض الحق، ففيه رد لبعض الحق ونقص لما يستحقه الله من الكمال.
هامش
- ↑ [الشورى: 51]
- ↑ [النساء: 163، 164]
- ↑ [البقرة: 253]
- ↑ [الشورى: 51]
- ↑ [المائدة: 111]
- ↑ [القصص: 7]
- ↑ [فصلت: 12]
- ↑ [النحل: 68]
- ↑ [أي: خروج من الدِّين]
- ↑ [الشورى: 51]
- ↑ [فيفصم: أي يقلع. وليتفصد: أي يسيل]
- ↑ [مريم: 52]
- ↑ [طه: 11-13]
- ↑ [البقرة: 253]
- ↑ [الأعراف: 143]
- ↑ [النساء: 164]
- ↑ [طه: 13]
- ↑ [مريم: 10]
- ↑ [مريم: 11]
- ↑ [آل عمران: 14]
- ↑ [البقرة: 253]
- ↑ [النساء: 163، 164]
- ↑ [الشورى: 51]
- ↑ [البقرة: 253]
- ↑ [النظر الشزر: نظر شزر: فيه إعراض كنظر المعادي المبغض، وقيل: هو نظر على غير استواء بمؤخر العين، وقيل: هو النظر عن يمين وشمال]
- ↑ [الأعراف: 148]
- ↑ [طه: 89]
- ↑ [الأنبياء: 63]
- ↑ [المرسلات: 35، 36]
- ↑ [النبأ: 38]
- ↑ [الأنبياء: 27]