الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 94/الشعر المنثور

مجلة المقتبس/العدد 94/الشعر المنثور

بتاريخ: 1 - 11 - 1914


وداع غوطة دمشق

وداعاً غوطة ألفيحاء، مجلى الطبيعة ومغنى النس، وروضة الطيبات، ومهبط التجليات، سلام زكي كتربتك المسكية، جميل جمال بيطك السندسية، عطر كأنوار أدواحك الجنبة، وتحية طيبة تتساقط على عمرانك تساقط الوابل والطل على جناتك الغبياء وجراحك الغلباء، وأشجارك الملياء، وغلاتك الكثيرة الأتاء.

سلام عليك يا مستقر النعماء، وقرارة الهناء والرخاء، وخير خلوة يفزع إلى أرجائها الناسكون والعالمون، ويتقلب في أجوائها عشاق الطرب وأرباب المجون فيك تتجسم عظمو خالق السموات إذا بالغ في الأفضال على الأرضين، وتبدو قمة الخلق إذا صحت عزائمهم أن يكونوا عالمين لا خاملين، فليس في الأقاليم ما يفوتك باعتدال المواسم وانترار المباسم، وتلون المظاهر، وتنوع الثمرات والأزاهر، وتلي الجداول والأنهار، وتجلي الطبيعة في العثايا والأسحار.

سلام على وادي دمشق إنه آية الحسن والإحسان، فيه تتجدد الحياة كل حين لأنه بمنزلة الربيع من الزمان، ويحلو العيش في ظل أفيائه على سذاجته مهما كان مراً وتطمئن النفس إلى التنقل في رباعه برداً كان أو حراً، إيه غوطة جلق لم يؤثر عنك أن أمسكت خيراتك عاماً عن أبنائك فلا تفتأين على الدهر تخرجين لساكنيك أفلاذ أكبادك على تعاقب الأمم والدول، وتصدقين الود لكل من يطلب قربك فيعيش معك في رخاء وصفاء.

سلام على سكونك في الليالي الظلماء والقماء، ربيعاً كان أو صيفاً أو خريفاً أو شتاءً، وهنيئاً مريئاً لمن يستمتعون بالنظر إليك من الصباح إلى المساء، ويتعهدونك بالحرث والكرث والتقليم والتنقية والزرع والأرواء، سواء عندهم حمارة القيظ وصبارة القر وظلمة الليل وشمس النهار، سلام غليهم أنهم مثال النشاط في المزارعين، لا يضنون على أرضهم بأوقاتهم وأتعابهم وهي تجردهم ضروب الخير والمير كلما جودوا زراعتها، وتزيدهم بركات على بركات كلما رعوها فأحسنوا رعايتها، وهم مهما صهرت جسومهم حراتها، وصفرت سحناتهم رطوبتها، بيض الوجوه شم الأنوف، لأن رزقهم مناط أيديهم العاملة، لا يعتمدون في تحصيل قوتهم، على غير قوّتهم، ولا يتكلون إلا على من ينزل الغيث وي الزرع، ويدر الضرع، ولو حسن فيها نزع ألفضول من العقول، وأنيرت بأنوار علوم المدينة على الأصول، فتعهد أبناؤها بالتربية كما تربى عندهم الرياض والحقول، وتوقى مما يؤذي الزروع والثمار والبقول، لكانت خير بقعة يسكنها ساكن في الحياة، ولصلح عليها قول من قال طوبى لمن كان له في أرضها مربط شاة.

سلام غوطة دمشق كلما غردت اطيارك فلك على المشاعر سجع الحمام واليمام، وهديل العندليب والهزاز وتغريد العصفور والشحرور، كيف لا تستهوين النفس وتعيق الغربان ونقيق الضفادع إذا رددهما الصدى في لياليك يفسرهما القلب بمعان لا تفهم منها في الكور الأخرى، كما يفسر في النهار ثغاء الماعز والحملان، وخوار البقر وجؤار الثيران.

فسلام وألف سلام عليك يا كريمة الطبع، وبديعة الصنع، وعريقة المجد، ونبيلة الجد والجد، وزكية العرق ن وهنية الزرق، وطيبة النجار، والمحسنة للأهل والجار، ففي مغانيك تصفو النفس من كدورات هذه الحضارة الملفقة، وتنجو من سماع فظائع الإنسانية المعذبة، وبقليلك - وإن كان قليلك لا يقال له قليل، يغطبط الإنسان، ولا يتكالب على حطام الدنيا تكالب الضاري من الحيوان، وبتطلع الزهرة ربة الجمال من منافذ أفقك توحي إلى الخيال روحاً من عندها فتفيض القرائح وترق العواطف، وفي منبسط صعيدك الطيب يسلو الخاطر همومه وتطرب الحواس، من دون ما كاس ولا نغمة أوتار وأجراس.

وفي هذا الريف العجيب تقرأ سور العدل الآلهي في تقسيم الأرزاق فلا فقر مدقح ولا غنى مفرط، ويعيش القائمون على تعهده عيشاً متشابهاً ألا قليلاً ن يغتني أفراد منهم بذكائهم واقتصادهم، فلا ترى في فقرائهم سلاطة الجياع أرباب النهم، ولا في أغنيائهم قسوة قلوب أهل الرفاهية والنعم، فسبحان من وفر للغوطة قسطها من الغنى والغناء، وضاعف لها حظها من الجمال والإعتدال، وأجزل لها عناصرها الحيوية فزادها كرماً لجديدين نماء إلى نماء.

وداع الشام

عنيت بشرق الأرض قدماً وغربها ... أجوب في آفاقها وأسيرها

فلم أر مثل الشام دلر إقامة ... لراح أغاديها وكأس أديرها

مصحة أبدان ونزهة أعين ... ولهو نفوس دائم سرورها مقدسة جاد الربيع بلادها ... ففي كل أرض روضة وغديرها

هذا ما وصف به البحتري القطر الشامي منذ نحو ألف سنة وهو يصدق عليه اليوم وإلى ما بعد اليوم فقد منح الفاطر تعالى هذا القطر من ضروب الجمال والاعتدال ما هو قرة العيون وبهجة النفوس فقضى أن تأخذ فيه ألفصول الأربعة حكمها وأن تتم في قيعانه وجباله وأسباب النعيم في الحياة: أهويته معتدلة، وأمطاره وثلوجه متهاطلة، وتربته مخصبه، وغاباته ومعادنه ليست بقليلة، وأنهاره جارية، وبحيراته غريبة وأجواؤه بهجه، ورباعه منبسطة.

تعشق الشام لأنها رأت طلعة موسى وعيسى وأحمد صلوات الله عليهم من النبين وأمثال الإسكندر وابن الخطاب وابن الوليد ونور الدين وصلاح الدين وسليم وابراهيم ونابليون من ألفاتحين وعمر بن عبد العزيز والمأمون من الخلفاء العادلين فقل في الممالك كما قال كورتيوس المؤرخ الألماني ما اندمج فيه الكثير من التواريخ في بقعة ضيقة كهذه.

يضم الشام بين جوانحه معظم المعتقدات والمذاهب ولذلك كثر بالأمس الطامعون به فكان من حسنات هذه الحرب أن قضي على مطامعهم آخر الدهر إن شاء الله وعرف من لم يكن يعرف أن الجامعة العثمانية أشرف الجامعات وأقواها وأن التفكر في غيرها مثلبة مهلكة.

وداعاً بلاد الشام فقد اخذت بمجامع القلوب بخصائصك الطبيعية فكل تعب يهون في خدمتك وكل مفاداة يستهان بها في سبيل مرضاتك فأرضك معشوقة الأنفس، وتربتك عليها درجنا وفيها ندرج ولن نتخذ عنك بديلاً مهما تحملنا من المشاق وما عناؤنا إلا ابتغاء المبالغة في العناية بأمرك.

سلام عليك بلاد الشام معدن الخيرات والبركات مهوى الهوى ومغاني الخردالعين سلام على مناظر حرمون وصنين والصبر وقاسين ويوشع والأرز والهرمل والكمل، سلام على أغوارك وأنجادك وعلى بحيراتك وأنهارك، سلام على الأردن واليرموك والعاصي والفرات وبردى والساجور والليطاني والزرقاء والعوجاء والأعوج والأولي وقاديشا والموجب وغيرها من أنهارك وجداولك التي تفيض البركات على أبنائك.

سلام على جبال الشراة والخليل وعامل وسئير وحوران وعجلون وحرمون ولبنان وعكار واللكام وأنطاكية والقصير وريحا، سلام على سهول حوران والجولان والجيدور والغوطة والبقاع والبقيعة وحمص ومرج ابن عامر وشارون والبلقاء، سلام على آثارك وعادياتك قديمها وحديثها، ولا سيما جرشك وبتراؤك وبعلبكك وتدمرك. أحبت القلوب هذا القطر السعيد لأنه حوى على ضيق مضطربه ما لا تحويه الأقطار بل القارات من الحسنات وفيه من الغرائب الطبيعية والصناعية ما دعا الأمم إلى شد الرجال إليه والحج إلى مزاراته وزيارة مصانعه ومعاهده. يعرف ذلك كل من فارقه مدة وقابل بينه وبين غيره في عمرانه وطبيعته.

إيه سورية مجموعة غرائب العالم تستودعك قلوبنا فإن بك حيث كنا قد شغلت عقولنا أننا نودعك على أمل اللقاء القريب ونحن نحمل إليك من أنباء جاراتك التي يظلها علم الهلال المنصور ما ينفس الكربة ويزيل الغمة ويفيض النعمة بحول الله ولا قوة إلا به.

في شبه جزيرة كليبولي

إلى هذه البقعة الطيبة بمناظرها وغاباتها وسهولها وجالها يهوي اليوم ويحق له أن يهوي فؤاد كل عثماني يحب هذا الوطن المحبوب ويتفانى في التيرك بتربته ويخاف عليها من عوادي المعتدين ويكره لها ظل المستعمرين من الغربين.

جزيرة مستطيلة كهذه يبلغ عرضها فيما أذكر من ستة كيلوا مترات إلى ثلاثين وطولها 85 كيلوا متراً تتقاذفها القنابل والقذائف والمدمرات والمتفجرات وطيارات السماء ودوارع الماء منذ زهاء سبعة أشهر وهي لا تزال صابرة على الأذى باسمة الوجه للقاء العدى.

في هذه الشبه الجزيرة تجلى العقل العثماني وتمّ آخر ما وصلت إليه مدارك أبناء هذا الوطن قي استكمال أسباب الدفاع والأخذ بحظ أوفر من أساليب الكر والفر والتعبئة والمصاف ولولا هذه العناية والإستهانة بكل عزيز في سبيل الذود عن حمى هذه الشبه الجزيرة لتبدلت وجة الحرب الأوربية ولنلنا من الإضطهاد ما لا يخطر لناعلى بال.

هذه الأرض المحاطة بالبحر من أكثر أطرافها عرفت دول الإتفاق المربع ولا سيما انكلترا وفرنسا منهن أن هناك قرة أسمر من قوة البشر وهي القوة الآلهية التي استبد إليها العثمانيون قبل كل شيء ودونها قوى الأساطيل والغواصات والطيارات والمقذوفات والمفرقعات يضاف إليها يقين مازج الأفئدة والأرواح من الإنتصار وكراهة ليس بعدها غاية لحكم الأجنبي والتشبع بعاني الوطنية والجنسية. وقفت على جبهات الحرب في مواقع أري بروني وأنافورطة وجناق قلعه وأشرفت على أنحاء سد البحروهي المواقع الأربعة التي دار ويدور عليها القتال واشتد فيها الطعن والنزال فعظم في عيني غناء جيشنا وفاخرت نفسي بقواتنا وضباطنا وجندنا وأيقنت أننا إذا ضمنا شملنا في كل نازلة وكل شأن وتذرعنا بعامة الأسباب التي يتذرع بها البشر المدن نضاهي أعظم الدول منعة ومضاء وها قد قضينا باعتصامنا بحبل الله على مطامع الطامعين من الإنكليز والفرنسين وهم ما هم بقواهم البرية والبحرية.

سبعة أشهر مضت على دفاع جناق قلعه والعدو يمخر العباب بدوارعه وطراداته ورعاداته ومدمراته ويخرج إلى البر الكتائب اثر الكتائب ويستجلب السلاح ويتذرع بأقصى ما وصل إليه طرق الإنسان من التفنن في إرهاق الخصم واقتحام السبل فلم يستطع التقدم شبراً عن المكان الذي نزله أول يوي ولا يزال جيشه تحت حماية أساطيله لا ذرى له ولا أكمات وجيشنا يطل عليه اطلالاً يذيقه كل يوم مرارة الهزائم وألواناً وأشكالاً ويفحش القتل في رجاله حتى قدر الهالك منه بنحو مئة ألف فقدها وفقد معها جانباً من أسطوله وأنفق مئات الملايين من الدنانير وهو في مكانه لم ينل ولن ينال بحول الله ما تطمع به نفسه من استباحة حمانا.

هذا المضيق هو في الحقيقة مفتاح دار الخلافة وكان المتفقون على مثل اليقين بأن عملهم سهل يحتاج إلى بضعة أسابيع ولكن خيب المولى ظنونهم ونعى عليهم اعتدالهم بقوتهم وألقى عليهم أمثولة مما ينال الظلمة من سوء المغبة وأن التمويه للعبث بعقول الناس لحكمهم كما تحكم البهائم إن جاز يوماً فلا يجوز على الأمم في آخر وأن الله لا يضيع عمل عامل.

إن دفاعنا عن حمانا في جناق قلعه قطع آخر عرق من الآمال للمتفقين وقضى على مطامعهم فينا أند الدهر إن شاء الله ومن رأى ما رأيناه هنا من أبداعنا في طرق القتال وشاهد استعدادنا في حصولنا وطرقنا وسلاحنا ومدافعنا ونظام جيشنا وما ينبغي له من المؤنة والذخيرة والتمريض يجهر بصوته قائلاً هذا عمل لا يتهيأ إلا لأمة تحب أن تبقى ولا يتيسر إلا لمن كتبت له السعادة.

غابات شبه جزيرة كليبولي ونجادها ورهادها وسواحلها وسهولها لقد طلت في ربوعك دماء زكية من دماء العثمانيين ولكنها ستبقى على جبين الأيام مسكية الأريج عطرة الثناء تنم عن معرفة من استشهدوا في سبيل ألفرض الوطني وذاقوا معنى الوطن والوطنية. إن الدم الطاهر الذي أريق على تربتك جعل لها ريحاً من ريح الجنة وسيكون لمن فادوا بها من الذكر الجميل ما كان لأبطال المسلين في وقائع الصليبين وشعار ذلك: هذا عمل أفراد قتلوا ليحيوا أمة وفادوا بنفوسهم في سبيل الله ليحموا ذمار الخلافة المعظمة ويربأوا بهذا الوطن عن أن يستباح حماه ويحافظوا بأرواحهم على آخر دولة إسلامية مستقلة جمعت شمل الإسلام والمسلمين وحمت حمى الحرمين الشريفين.

كلما هبت الصبا والشمال على أرجاء شبه جزيرة كليبولي وطلعت عليها الشمس وغربت وأقمرت السماء وأمطرت وأثلجت وأرعدت وأبرقت يردد لسان الحال فيها هذه ثمرة التضامن بين أعضاء البيت الواحد. هنا قضى العربي والتركي واللازي وغيرهم لإعلاء كلمة الحق واتقاء عادية الدخيل الثقيل. هنا نظم العثمانيون أرقى جيش انتظم لهم منذ عهد ألفاتح وسليم وسليمان وتشبع أهله بروح الوطنية وغنم غزاتهم أحياءً وأمواتاً سعادة الدارين.

أرض شبه جزيرة كليبولي ستبقين مقدسة في نظر كل عثماني خاصة وكل مسلم عامة كما قدس الله الأرض المقدسة وستذكرك الأجيال عقيب الأجيال والدهور إثر الدهور بالإعظام والاحترام كما تذكر هذه الحرب العامة بالهول والاستغراب. أنت كذبت البشر في ادعائهم أن كل محصور مأخوذ وأكدت لهم عكس القضية في أن كل محصور محفوظ فسلام عليك محاربة ومسالمة. وألف ألف رحمة ورضى على عظام شهداء ضمتها تربتك الطيبة ومروجك السندسية وتلعاتك الزمردية.