مجلة المقتبس/العدد 93/مصنوعات الجيش
→ الشّعر التّهذيبي | مجلة المقتبس - العدد 93 مصنوعات الجيش [[مؤلف:|]] |
أنا والشّلال ← |
بتاريخ: 1 - 10 - 1914 |
الصّنائع الدّمشقيّة
كانت هذه الحاضرة في جميع أدوار تاريخها محطّ رحال أرباب الصّنائع المختلفة لأنّها أمّ هذا القطر والأقطار التي تليه والأمّ مصدركلّ خير في العائلة. ولقد أُصيبت مصنوعاتها كما تُصاب البلد عادةً بأنواع الاضمحلال وخصوصاً في عهد تيمورلنك الذي خرّب كل بلد عصا عليه واستصحب معه إلى سمرقند أرباب الصّنائع قال ابن عربشاه أخذ تيمور من دمشق أرباب ألفضل وأهل الصّنائع وكلّ ماهر في فن من ألفنون بارع من النّاجين والخيّاطين والحجّارين والنّجارين والإقباعيّة والبياطرة والخيميّة والنّقّاشين والقوّاسين والبازدارية وفي الجملة أهل أي فن كان
فتراجعت الصّنائع بعد ذلك العهد في قاعدة البلاد ولم يبقَ منها إلا ما لا غنيةعنه لأهل كلّ بلد مهما انحطّ عمرانه وتفرّق سكّانه. وكانت الصناعات تبعاً للحالة العموميّة إن راقت السّياسة وصفا جوُّ السّلام تكثر حاجيّات الناس فيوجد لها العملة وصنّاع الأيدي بطبيعة الحال وإن كان على ضعفٍ أحياناً والعكس بالعكس. وكانت الصّناعات الدّمشقية تجد في القرن الماضي رواجاً أكثر وإتقاناً أوفر لولم تنازعها مصنوعات أوروبا بلطافتها ورخصها ومنشأ الرّخص استمتاع الأجنبيّ إذ ذاك بامتيازاته فكانت الكمارك التي يؤدّيها على بضاعةٍ قليلة والضّرائب معفى منها جملةً وحقوقه رعية في الحكام ولو كان هو على باطل وخصمه العثماني على حق وقد يحكم له لا عليه أحياناً وبهذا قضي أو كاد على صناعاتنا الوطنية ووقفت مصانعنا الوطنيّة العثمانية
ولما نشبت الحرب العامّة انتبه رجال الدّولة للأمر وعرفوا الدّقيق والجليل من نواقصنا فكانت مسألة مصنوعاتنا من أوليّات المسائل التي نظروا فيها فألغوا الامتيازات الأجنبيّة وهناك أخذت تعود إلى مصانعنا بعض حياتها وستقوى أكثر بعد الحرب ثمّ كان منهم أن جمعوا شمل الصنّاع في كلّ مركز من مراكز السّلطنة كما فعلوا في دار الخلافة وضواحيها مثلاً فأخرجوا لوازم الجيش من سلاح ومدافع وقنابر وقذائف وأجواخ وغيرها وجاء حظّ هذه المدينة بعد حظّ الأستانة فجمع الجيش الرّابع فيها شمل الصناعات بعد تشتّتها واستفاد من كلّ قوّة كانت كالنّار مخبوءةً تحت الرّماد لا تحتاج إلاّ إلى يد صادقة حتّى تهتدي إليه وترفع عن وجهها ما يغشاها لينتفع بنورها وحرارتها.
محا الجيش الرّابع عن البلاد عار العوز والكسل إذ رأى المواد الأولية كلّها موفورة فيما تنال على أيسر وجه وبقليل من العناية والمعرفة وشاهدٌ في أبناء البلاد بقايا من أهل المهن والصّناعات لا يقف بهم عن المضي في مضمار الرّقي إلا شيء من العناية والتّنشيط. ذكر جودت في تاريخه أنّ جمهوريّة البنادقة كانت ساعدت بإنشاء السفن عدونا علينا فاصطنع في دور صناعتها ما يستعين به على حرب الدّولة العلية فآخذت الحكومة إذ ذاك جمهورية البندقية على عملها المنكر فأجابت هذه ليس للدولة العثمانية أن تؤاخذنا على إنشائنا السّفن في معاملنا وبيعها ممن نحب فإنّ عندها جميع مواد السّفن وهي تستطيع أن تحرج مثل سفننا ولا تحتاجنا ولا غيرنا. وكان هذا الجواب عبرةً للدولة فشمّرت عن ساعد الجدّ وأخذت تنشئ في ذاك الدّور سفنها في معاملها وموادها من حديد وخشب ورصاص وزجاج وحبال كلّها من الرض العثمانية.
كانت الحرب الأخيرة أعظم واعظ لنا في هذا السّبيل فانتبهت الحكومة أولاً للوازم الجيش فرأت من الصناعات مالا أثر له عندنا ومنه الموجود ولكن على ضعفٍ يحتاج إلى إصلاح وتعديل ومن الصناعات التي أحياها الجيش الرّابع صناعة القطن المعقّم للجرحى والأغذية المربية من بقول وثمار وصنع القذائف والبيطرة وما يلزمها من الأدوات على الأصول الحديثة ومن الصناعات الموجودة على قلّة نسج الأكياس للتّحميل من القطن وقشر القنّب وصنع الحدّاجات للجِمال والشّقادف لنقل المرضى والجرحى والسّرج للجِمال والخيام واللجم والهمايين من الجلد والقرب والمطرات والأقمشة لألبسة الجنود الضّبّاط من نوع العبا وحياكة الطّنافس والبسط والجوارب والخيام وخياطة الثّياب وصنع الحذية وغيرها
وسنتكلّم على معاهد هذه الصّناعات في دمشق معهداً معهداً حسب التّرتيب الذي وقع لنا في زيارتها ونتوسّع في الكلام ماوسعنا المقام تنبيهاً للعاقل وبشرىً للمستبشر وتحدّثاً بالنّعمة وطلباً للمزيد وحثّاً للهمم وتبصرة للمستقبل.
التّجارة والحدادة والقنار والقذائف
اعتمد الجيش الرّابع في الأعمال الصّناعيّة على ألوفٍ من الجنود السوريين على الأغلب ومنهم منسبقت له معاناة صّناعة من الصناعات وآخرون لاعهد لهم بشيء منها بل تعلّموها منذ دخلوا في سلك الجنديّة المقدّس يوم إعلان النّفير العام. وقد استعمل منهم أولاداً من سن التّاسعة إلى الخامسة عشرة بصفة خرّيجين في تلك الصّناعات وعددهم ثلاثمائة وخمسون خرّيجاً علموا منها ما يناسب صحّتهم ويلتئم مع أعمارهم. وبالنّظر لزكاء أبناء هذه الدّيار ولنظام المصانع التي عُدّوا في جملتها والأعمال المرتّبة التي عهد إليهم أمرها وتنظيم أساليب عيشهم وعملهم برعوا أو أكثرهم في مدّة قليلة ومنهم من أقلعوا عن عادات كانوا ألفوها من مثل التّدخين وغيره ومرنوا على العمل حتّى قلّ الثّرثارون فيهم فأنت إذا دخلت مصانعهم أيّ وقت كان من أوقات العمل المحددة لاتسمع لغواً ولا صوتاً وكلّ عاملٍ أو ماهن يصرف ذهنه إلى ما يعمل فيه مخافة أن يضيع عليه الوقت ولا يكمل حصّته من العمل ولهذه الأخلاق دخلٌ كبير في نجاح هذه الأعمال والعمّال فإنّ العامل الذي يكثر على غير نظام تقلُّ عمالته ويوميّاته أما الذي يصرف كَدَّه لعمله جماةً واحدةً فيرجح عليه في الصّناعات حتى قالوا أنّ الصّانع الإنكليزي يأخذ ضعفي أجرة الصّانع الطّلياني لأن هذا ثرثار لا يحصر ذهنه في عمله ويلتهي بغيره بالضّرورة فعمله نصف عمل.
هذا ما لحظناه من أساليب الرّقي الحقيقي الماثلة في مصانع الجيش في دمشق فقد رأينا الحديد يُذاب ويُطرق على أيسر صورة وتعمل منه أدوات العجلات والمحفّات. والأخشاب تُقطع وتُنجر وتُصقل. وأكثر الآلات التي تستعمل في هذا السّبيل جُلبت من حلب وعينتاب وطرسوس ولبنان وبيروت وكانت مبعثرةً لاتستفاد منها ألفائدة المطلوبة فلمّا ضمّ الجيش شملها وعرف كيف يستخدمها أخرجت أجمل المصنوعات في أسرع وقت ووفّرت على العاملين عناءً ووقتاً لولاهما لاقتضى العمل أيدياً كثيرة عاملة ووقتاً أطول.
كنّا عاجزين فيما مضى عن اصطناع عجلات النّقل والركوب ومحفّات الجرحى والمرضى في مصانعنا الوطنيّة وقد اختار الجيش أسهل أنواعها وأمتنها وألطفها على آخر طرز وصنع منهت ألوفاً بحيث تظنّها إذا رأيتها من صنع معامل أوروبا في حين تجد حديدها وخشبها من سوريا واليد التي اشتغلتها سوريّة وهي تُستعمل في خدمة سوريا وهذا ما يقِلُّ في جانبه كل شكر للحكومة السّاهرة على إنجاح الوطن والأخذ بأيدي أبناءه العاملين
تقوم مصانع بأعمال نفيسة من حاجيّات الجيش كالقدّوم والمنشار والكلاّب واللوالب والرّفوش والقدور والمراكن والمراجل والدّلاء والبراميل وغيرها زكلّ ذلك إذا رأيته تظنّه من صنع الغربيين وَردَ على هذه البلاد في علب مزيّنة وصناديق مقفلة وأوراق ملفوفة وطوى المراحل الطّويلة وتعاورته الأيدي الكثيرة حتى جعل رهن أمر جيشنا والحال أنّه من بلادنا وصنع أبنائها صنعوه ليدفعوا فيه عن حياضهم ومن صنع إبرةً لخدمة الجيش بحسب طاقته ومعرفته فحكمه حكم من صنع مدفعاً ومن مشى خطوةً في طريق الخير فأجره أجر من مشى خطوةً في طريق الخير فأجره أجر من مشى خطوات والتّكليف على قدر الاستطاعة
أمّا ملئ الخرطوش وصنع القذاف واستجادة أحسنها طرازاً وأفعلها وقت الحاجة فهذا ليس من شأننا البحث فيه وإنّما يقال على وجه الإجمال أنّ هذا النّوع من أنواع قوّة الجيش يعمل منه هنا القدر اللازم مما يوفّر عناء النّقل من جنسه المصنوع في معامل دار الخلافة العلية على ما هو معروف.
السّروج والخيام
ربّما كان من قليلي الخبرة من إذا سمع أنّ الحكومة متوفّرة الليل والنّهار على اصطناع السّروج للخيل والمحفات والحداجات للجمال وما يلزم المسافر في البوادي من الخيام والقرب والرّوايا والمطرات وخرائط الخرطوش وغيره أن يقول وهل هذا من المكانة بالموضع الذي تضعونه فيه فكلٌّ منّا يرى ويسمع أن هذه الصناعات موجودة في البلاد لم تفقد ولا في زمن من الزمان ومصنوعاتها مبذولة بأهون الأسعار لكل طالب.
ولكن من عرف أنّ جيشنا يحتاج إلى عشرات الألوف من السّروج والحداجات للخيل والجمال ومن هذه المصنوعات الجلديّة إلى مئات الألوف ليستخدمها في حلّه مرتحله يدرك ما يقتضي لصنع هذا العدد الكبير من المواد والرّجال العاملين ولتهيئة مصنوعاتهم على صورة مقبولة متينة رخيصة، من ألفكر والقياس والبحث والحساب.
كلٌّ منا يعرف أنّ قطارات السكك الحديدية نازعت قطارات الجمال حتى في ألفيافي والبوادي وإن سفن البحر وسفن البرّ قضت أو كادت على الجمال والبغال والحمير والبقر والفيل في معظم أقطار الأرض ولكن من الأقطار مالا مندوحة لها عن الاستغناء عن هذه الحيوانات في مهماتها زمن الحرب وزمن السّلم ومهما كثرت آلات البخار في الأقطار لم نكف لأن تطوِّق البلاد كلّها بطوق من قطاراتها وتغدو وتروح في نقل الإنسان وحاجاته وقد كانت بعض هذه الصّناعات في برّ الشّام أُصيبت بفترة بعد أن امتدّت الخطوط الحديدية من بيروت إلى دمشق فحوران ومن رياق إلى حلب فالإصلاحية ومن حلب فرأس العين ومن حمص إلى طرابلس ومن يافا فالقدس ومن حيفا فدرعا ومن دمشق إلى المدينة المنوّرة وانتقل بعض السّروجيين والخيميين إلى صناعات أخرى ولكن هذه الحرب عادت فأحيت صناعاتهم وتبيّن نفعها في داخليّة البلاد وأنّ الجيش المرابط والمجاهد في كل مصر وعصر لا يستغني عنها بحال من الأحوال.
زرنا هذه المصانع على حين فجأة فرأينا الصّنّاع على اختلاف درجاتهم مكبّين على عملهم لا يلتفتون إلى شيءٍ يجري أمامهم ومنهم قدماء أرباب الصّناعات يُرزق الواحد في اليوم العشرين والثّلاثين قرشاً وأكثرهم الجنود ومنهم طبقة الخرّيجين من صغار العملة يُعلّم في أربعة أشهر فيأتي منه ماهن ماهر كالذي تعلّم هذه الصّناعة السنين الطويلة واستعمال الآلات اللازمة للعمل ليس بعيد العهد ومنه ما يرد تاريخه إلى ستّة أشهر ومع هذا ترى الصّناع يعملون عليها كالعملة الممرّنين في معامل الغرب.
صناعة السّجاد والنّسّاجون والخيّاطون والأساكفة
راقنا جدّاً ما شهدناه في مصانع النّسيج والأقمشة وقد تمثّلت أمامنا آلات القرون القديمة من النّسيج وآلات القرون الوسطى وآلات القرن الحديث وفي كلّ واحدة من هذه الآلات يعمل النّسّاجون أقمشة نفيسة لكسوة الضّباط والجند فكأنّ لسان هذه المصانع يقول: لا جديدلمن لاقديم له. وهنا يُستفاد من كلّ قوّة
نعم استفاد الجيش الرّابع من كلّ قوّةٍ وجدها أمامه في هذه الدّيار واستعمل علمه ونشاط من عهد إليهم العمل من أصغر عاملٍ يكنس الأرض إلى المديريين ورؤساء الأدوات وبذلك صحّ فيه أن أوجد شيئاًمن لا شيء. وليست المهارة في أن يتجر التّاجر برأس مال قدره مئة ألف ليرة فيربح معاشه ولكن المهارة في أن يربح ذو رأس المال الصّغير معاشه على نسبة ذلك التّاجر الغني بأمواله
لو توفّرت هنا جميع المعدّات الكافية للنّسيج والخياطة وعمل الأحذية لما استغربنا شيئاً يعمله الجيش لأنّ الآلة بقليل من النّظر يتيسّر للقائم عليها أن يستفيد منها. ولكن أكثر العمل بالأدوات البسيطة التي تخرج مقداراً كافياً من المصنوعات بل أكثر من المأمول من مثلها وهذا وجه الغرابة وداعية الحمد والثّناء.
يخيط الخيّاطون أقمشةً وأجواخاً وطنيّةً في الغالب على صورة سريعة مقبولة. والحذّاءون يعملون أحذية متينة وجلودها وخيوطها من محصول هذه الدّيار
رأينا مصنوعات البسط والسّجاد المعمول في هذه المعامل ليجعل في خدمة الهلال الأحمر والجند عامّةً ممايسرّك خبره ومخبره لمتانة وثبات ألوانه. تمنّياً لوزادت مصنوعاته على المطلوب لاقترحنا على كلّ بيت في سوريا أن يقتني سجّادةً منها عنوان العمل الوطنيّ ودليل تنشيط كلّ صاحب دار للصّناعات الوطنيّة
وفي هذه المعامل فرعٌ لعمل الجوارب التي كانت تُصنع في حلب وعينتاب واطنه فقط ومازال لها معامل هناك. ونوع هذه الجوارب وافٍ بحاجة الجندي بالطّبع ينفع في الدفء والسّتر وهو متين لابأس به. أما نوع جوارب التّرف كجوارب الحرير البرّاق الشّفاف وغيرها فهي ليست من شأن هذا العمل وإنّما ينظر في الأقمشة وحياطتها والجوارب والأعبئة والأحذية إلى متانتها أولاً والفائدة التي يتوقّعها منها الجندي ولو أحبّت هذه المعامل أن تخرج بما لديها من الأدوات وجوارب وأنسجة للمترفينلما عسر عليها ذلك.
ولم نلاحظ في هذه المعامل ألاّ تفرّقها وعدم اجتماعها في صعيد واحد ليكون أدعى إلى حضور الذّهن وأجدر عنايةً بالعمل ولا ينظر الآن إلاّ إلى حالة المحل الصّحيّة أماصغره وترصيفه وتبييضه فأمر ثانوي لم يتّسع الوقت للتفكير فيه
والنّيّة معقودة أن تجعل هذه المصانع بعد الحرب في القدم جنوبي دمشق قرب معامل السّكة الحجازيّة فيختار لها أرضاً مساحتها كيلومتران ونصف كيلو متر وتجعل العامل كلّها في بقعةٍ واحدةٍ فيسهل التّفتيش على هذا المقر العسكري وتحسن إدارته ويكون منعزلاً عن المدينة مستقلاًّ في عمله
وهذا مقصدٌ حسن لأنّ العادة جرت في المعامل الكبرى في الغرب أن تكون منعزلة عن المدن والقرى بعيدة عن العمران.
معامل المحفوظات والمربيات والخمر
هذه الصناعة من الصناعات التي لم تعرف في دمشق قبل الحرب فأدخلت إليها بطرقها الكيماويّة وأدواتها المستحدثة وتعلّمها العملة من الجند والنّساء فتجد في محلّها فرعاً لعمل الحساء الشّورباذروراً ثمّ يُذاب في ماء حار وقت الاستعمال فيأتي منه حساءٌ لطيف كأنه طبخ السّاعة. ويُستخرج أشربةً كثيرةً مثل ماء الزّهر وماء الورد وشراب قشر الليمون وشراب قشر البرتقال فتُجعل روحه في زجاجات تكفي القطرة منه لكأس ماء حتّى تكون حلوة ذات نكهة طيّبة كأنّه عمل لساعته. وهذه الأشربة تنفع الجيش كثيراً ولاسيّما في مستشفيات البادية.
وفي هذا المعمل فرعٌ لاستخراج مرق اللّحم من العظام وتعقيمه بحيث لا تذهب العظام التي تخرج من مسالخ الجيش في هذه الحاضرة من دون فائدة وللنّساء العاملات هنا دخلٌ كبير في هذا الصّنف فتراهنّ لابسات المآزر الكحليّة يعملن على الدّوام على نظامٍ تام وتُرزق الواحدة منهن ثلاثة قروش وثلاثة أرغفة في اليوم ويتناولن طعام الظّهر في المعمل بالاشتراك بينهن وقد نُصبت لهم موائد وأمام كلّ واحدةٍ منهن صحفتها وكأسها وكذلك الرّجال في مكانٍ آخر. وأهمّ ما يستخرجه معمل المحفوظات والمربّيات حفظ الثّمار والبقول على طريقةٍ لا تنقص من تغذيتها وتكون عند الاستعمال كأنّها طريّة حديثة عهدٍ بالقطف من الشّجرة أو المسكبة ويبلغ عدد البقول المربية عشرة أنواع يتناولها الجندي في كلّ وقت كأنّما يتناولها في إبّانها ناضجة طريّة. وفي هذا المعمل فرع لعمل الخل للجيش ويُعمل كلّ ذلك على طريقة صحّيّة اقتصاديّة بحيث لا ترى جزءاً لا ينتفع به حق الانتفاع على النّحو الذي جرى عليه الغرب في معامله.
ومن الصناعات المستحدثة التي كانت هنا موجودة في حكم المفقودة صناعة عجن الخبز وخبزه بآلات تُدار بالكهرباء بسيطة في ذاتها ولكنّها تغني الغناء المطلوب فقد كان يعجن خبز الجند في أفران الجيش بالأيدي وأحياناً بالأرجل فارتأى القائد العام إحداث هذه الطّريقة الجديدة فوفّر من عمل الأيدي وخلّص الخبز مما كان يدخله من عرق الخبّازين وأوساخهم وصار معمل دمشق وحده يخرج في اليوم العشرين والثّلاثين ألف رغيف على أيسر وجه وأسرع طريقة وأنظف واسطة ويوزَّع خبز اليوم من الغد رعايةً للصّحّة.
وقد كان معمل الخبز في هذه الحاضرة منذ أشهر احترق فأُعيد على هذه الصّورة البديعة التي سداها ولحمتها مراعاةً للنظافة بل المبالغة فيها حرصاً على صحّة الضّبّاط والجند وأصبح معمل خبزنا على مثال المعامل الغربيّة وحبّذا يوم تصحّ عزيمة جمهورٍ من أرباب الأفران فيعمدون إلى تأليف نقابات لعمل الخبز على هذه الصّورة يراعون في صنعة جانب الاقتصاد والجودة والنّظافة
إنّ معامل التّعقيم والسّوائل واستخراج الأشربة الصّحيّة وتجفبف الثمار والبقول وخَبز الخبز بهذه الطّريقة كل ذلك يدل على براعة زائدة ويُسجّل عناية الجيش بما يدخل معد أفراده من الأطعمة والأشربة على وجه يجمع بين الاقتصاد والصّحة وسرعة التّحضير بحسب ما وصل إليه العلم في هذا العصر.
الصّنائع المحدثة
من الموجود من الصناعات وكان في حكم المفقود، صناعة البيطرة أو علم البيطرة، والبيزرة أو طبّ الحيوان كالخيل والجمال والبقر. وهذه الصّناعة قديمة في البشر ولكن هذا القرن أُدخل فيها من أسباب الرّقي حتى أصبحت تُدَرّس في الغرب كما يُدَرّس الطّب. والبيطار لا يقلّ في منزلته عن الطّبيب وكلاهما يطبُّ هذا الإنسان وذاك الحيوان. بّيد أنّ الجيش الرّابع رأى أن يعمد إلى طريقة عمليّة في تعليم البيطرة فأخذ يعلّمها في أربعة أشهر فيخرج التّلميذ وفي الغالب أن يكون من الطّبقة التي لم يسعدها الحظّ بتعلّم القراءة والكتابة بيطاراً من الدرجة الأولى جمع بين النّظريات والعمليّات.
يقرأ الطّالب في المدرسة وهو جنديٌّ أو معاون له من أبناء ألفقراء مستخدم بأجرة معيّنة درسه ويجيء إلى تطبيقه في الحيوانات على مقربةٍ منه ويشرح المعلّم للطلبة باللسان العربي طبّ الحيوان والمعلّم أيضاً ممن تخرجوا على هذه الصّورة فأصبح معلّماً بعد أربعة أشهر من تعاطي هذه المهنة ولكنّه يقرأ ويكتب بالطّبع. وقد جعل الطّلبة هناك فِرَقاً فِرَقاً وكلّهم يلبسون قفطاتاً أزرق حاسرين رؤوسهم ويتعلّمون بلسانٍ يفهمونه أي لسان العامّة.
وبجانب هذا المعمل معمل لصنع النّعال للخيل الأوروبية وكذلك معمل لنع مساميرها وفي هذا المعمل أيضاً زمرة من الأطفال الذين يتعلّمون هذه الصّناعة وينافسون فيها الشّبّان والكهول. والدوات المستعملة لتطريق النّعال ومساميرها بسيطةً للغاية ولكنّها متقنة تدل على روح تجدد.
وينشئ الجيش الآن معلّمين مما تشتدّ الحاجة إلى مصنوعاتهما وسيتمّان قريباً مضافين إلى المعامل والمصانع الكثيرة التي أحيا بها القديم من الصّناعات وأوجد بها المفقود منها هنا.
وقديماً قالوا أنّ الصناعات إذا فقدت من مكان يتعذّر إرجاعها إليه على صورة سريعة ولكن الجيش الرّابع كذّب هذه القضية في أشهرٍ قليلةٍ وعلّم كتائب من أبناء الوطن وبناته صنائع شريفة والصّنعة في اليد أمان من ألفقر.
فطن الجرحى والمرضى
من أهمّ الصّناعات التي لم يكن لهذه الدّيار بل ولا للمملكة العثمانيّة عهدٌ بصنعها قطن الرّباطات واللفافات للجرحى فاتّخذ الجيش لصنعه أبنية حسنة بالقرب من مستشفى الغرباء في البرامكة وقسّمه أقساماً قسم الرّجال وهو لحلج القطن وندفه وقسم النّساء وهو لتنظيفه وغسله وصنعه حتى يخرج كأحسن ما يصنع من نوعه.
والنّظافة في كلّ هذه الأقسام مما يدهش له النّاظر وربّما لا نغالي إذا قلنا أنّها كادت تبلغ حدّ الإفراط ولانذكر أننا رأينا معهداً صناعيّاً في المملكة العثمانية بلغ بتأنّقه ومراعاة شروط الصّحة فيه مبلغ معمل قطن الجرحى هنا
تتمثّل لعينيك روح الإسلام العاملة الاقتصاديّة عندما ترى نساء شابّات وكهلات يتسابقن للعمل في هذا المصنع على أسلوب جديد وقد لبست كلّ واحدة منهن قفطاناً أبيض غاية في النّظافة يغطّي قامتها ووضعت على رأسها طاقيّة سترت شعرها ولم يعد يبدو غير وجهها أي أنّ المرأة هنا احتجبت بالحجاب الشّرعي وعملت عملاً يليق بها تنفع به نفسها وذويها ووطنها.
وقد نصبَ القيم عليهنّ ضابطاً كوسجاً قزماً دفعاً لكل ريبة وجُعل لهنّ مخدعان واسعان يحفظن فيهما ثيابهن ويستخدمن في المساء ماهناك من مغاسل للتّنظيف والوضوء وما يصلحهن ليعدن إلى سابق حالهن
وهذه هي الأرستقراطيّة الإسلامية ممزوجةً بروح الدّيمقراطيّة أي أن العاملات هنا جمعن بين الاجتماع على العمل الحر ولم تفُتهن الرّفاهيّة ولم يمنعهن حجابهن من الاحتراف بل عُدنَ به إلى سذاجته الأولى وأنشأن يخدمن أمّتهن من طريق الصّناعة كما كان في العصور الأولى ويكون الآن منهن الممرّضات في المستشفيات النّقّالة والثّابتة أيام الحرب.
وقد أثمر هذا العمل فوائدٌ كبيرةٌ جدّاً فلم تقتصر مصنوعاته على مستشفيات الجيش الرابع بل أرسل منذ إنشاء إلى جميع السّاحات الحربيّة قطنه ولفائفه وعصباته أرسل إلى جناق قلعة وإلى فقآسيا وإلى العراق جميع ما يلزم الجيوش العثمانيّة هناك بحيث استغنى الجيش العثماني عن جلب هذا الصنف من الغرب وهيهات أن يحصل عليه زمن الحرب وهو محظورٌ إصداره من كل مملكةٍ محاربةٍ أو غير محاربة يعدّ من المواد الحربيّة كالبارود والسلاح فيصادر حيث كان
دلّ هذا المعمل على روحٍ عاليةٍ في التّجدد وأننا أخذتا نحسن الانتفاع بقوانا وأنّ المسلمات كالمسلمين ليس في كتابهنّ ما يمنعهنّ عن مشاركة الرجال في الأعمال وإذا كان القطن يجود كلّ الجودة في سهول أطنة وأغوار الشّام وعندنا ما يلزمنا من الأدوات فلا تقتصر عقولنا عن القيام بالنافع ومراعاة المصلحة حرصاً على الوطن وسلامة لصحّة المجاهدين في الذب عن حياضه نعم قرأنا في تصفّح شؤون معامل القطن أنّ العثمانيات لم يقعد بهنّ الحال عن احتذاء مثال العثمانيين فحبّذا العمل وحبّذا إطّراده زمن الحرب وزمن السّلم
من يزُرْ مصانع الجيش الرابع يحكم حكماً قطعيّاً أنّ الدّولة التي تنظّم مثلها وتخرج مثالاً من المصنوعات التي سبق لنا وصفها صناعةٌ تحارب أربعين سنةً وهي تكاد تكون في استغناءٍ عن الغرب الذي كان بالأمس يعيّرنا بفقدان كلّ شيءٍ عندنا وانسلاخنا من كلّ استعدادٍ حتى كان عيالاً عليه في الخيط والإبرة
رعى الله أحمد جمال باشا قائد هذا الجيش كم له على بلاد الشّام من أيادٍ بيضاء فهو لم يكتف بدفع عاديّة العدو عنهم عنها بل جمّلها جمّل الله أحواله بالطّرق والجسور والمدارس والمشاريع الاقتصاديّة والعلميّة ومن أحسن آثار عمله هذه الصناعات التي استفاد منها جيشنا اليوم وغداً يستفيد منها الجيش والأمة التي يتألف منها هذا الجيش المحبوب
نعم غداً تنتهي الحرب ويخرج من تحت السّلاح مئات الألوف من أبناء هذا الوطن العزيز زمنهم من أسعده الطّالع بتعلّم صناعةٍ من هذه الصناعات فبعد أن كان قبل الحرب متشرّداً أو في حكم المتشّرد يستطيع غداً أن يكسب معاشه من صناعته ويعتمد على كدّه وعمله وقريحته
غداً يكون من أبنائنا بفضل الجيش الرابع أمهر النّسّاجين والخيميين والخيّاطين والحاكة والحدادين والنّجارين والسّروجيين والبياطرة وعملة المربّيات والمحفوظات من البقول والثّمار وغيرها مما لم تعهده ديارنا من قبل ويخرج خرّيج هذه المعامل وقد تعلّم قدر الوقت والعمل وانتظامه وما نظنّ من يدخل صناعةً على قومٍ يتعلّمون بها ما ينعشهم من هوّة الحاجة بأقلّ في حسن الأثر والأحدوثة ممن يفتح بلداّ أو يستعمر قطراً ولذلك يحمد الوطن صنيع قائد الجيش الذي عرف كيف ينتفع من كلّ قوّةٍ في البلاد وامتاز بأنّه كان من الرّجال الذين يحسنون انتخاب عمّالهم والمباشرين لجميع فروع إدارة الجيش فقد كان الصّالح للعمل في الإدارات الكبرى قبله عشرة في المئة وباقيهم خشب مسندةٍ أو كالسّوس في الخشب وهاقد أصبح بفضله وبفضل أنصاره عدد الصالحين للعمل يربو على التسعين في المئة وذلك لأنه موفّقٌ في حسن الاختيار وطرح المرذول والإتيان بالمحمود واختيار المرء قطعة من عقله ولذلك ترى فروع أعمال الجيش هنا يحلّق عليها على الدّوام طير اليمن والبركة
إنّ الروح التي بثّها في الجيش العثمانيّ أجمع صاحب الدّولة أنور باشا وكيل القائد الأعظم وناظر الحربيّة قد كان أثرها عظيماً جدّاً في هذا الجيش الرابع أيضاً إذ وجد لها مثل أحمد جمال باشا عالماً عاملاً يطبّقها ويزيد ما يرى الحاجة المحلّيّة ماسّةً إليه من الأعمال الخطيرة ومن أهمّ دواعي النجاح أنّ جمال هذا الجيش لم يتقيّد بحرفيّة القانون بل اهتمّ بجوهره وإذ كان مفطوراً على حبّ العمران جاءت على يديه مثل هذه الصناعات ونفّذ رغائبه في ذلك أناسٌ أكفاء اختارهم للعمل فبرزوا فيه وأدركوا أسراره وخوافيه
يعدّ الجيش اليوم المدرسة العادليّة أكبر مدارس الشّافعية في القرون الوسطى بدمشق ليأوي إليها ثلاثمائة وخمسون طالباً من طلاّب الصناعات في الجيش في هذا السبيل ألفاً وخمسمائة ليرة لتكون صالحةً لسكناهم ويعيشون فيها عيشاً منتظماً تجود به صحّتهم وتفتح قرائحهم وتصير أيديهم مرنةً حاذقة وعقولهم مفكّرةً مدبّرةً.
وهذا العدد من الطلاّب إذا أضيف إليه ألوف الصنّاع الذين يعملون في مصانع الجيش اليوم يغنون ولا شكّ البلاد بمصنوعاتهم في كل فرعٍ من فروع الصّناعة ويكون ذلك من بعض حسنات القائد العامّ أحمد جمال باشا ومضاء رجال الإدارة مثل مفتّش المنزل كاظم بيك الذي له فضلٌ عظيمٌ في تنظيم هذه الصناعات وغرامٌ شديد بتخريج أبناء الوطن على حبّها