الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 92/في فن الأدب

مجلة المقتبس/العدد 92/في فن الأدب

بتاريخ: 1 - 9 - 1914


حدث رواة الأخبار أن حميدة بنت النعمان بن بشير الأنصاري تزوجت الحرث بن خالد بن العاصي بن هشام وكان شيخاً هرماً فلم تطب لها الإقامة معه وكانت تسكن دمشق فقالت في ذلك:

فقدت الشيوخ وأشياعهم ... وذلك من بعض أقواليه)

قولها (فقدت) إنشاء وليس بخبر: فهي تدعوعلى الشيوخ المسننين بأن تفقدهم عن آخرهم وتفقد كل من يتشيع بهم.

ولعل مرادها بالمتشيعين لهم سماسرة السوء الذين يسعون لدى الأسر في تزويج فتياتهم من أولئك الشيوخ الطاعنين في السن فيقعن من عشرتهم في جحيم ومن العيش معهم في بلاء مقيم، ثم قالت حميدة أن دعاءها على الشيوخ هو من بعض أقوالها فيهم أي هو أقل ما يجب أن تقوله في حقهم وفي إظهار النفرة منهم والزراية عليهم.

ترى زوجة الشيخ مغمومة ... وتمسي لصحبته قاليه)

(قالية) مبغضة كارهة. والشيخ هنا لم ترد به حميدة الواحد من شيوخ العلم الديني ولوكان شاباً حسبما اصطلح عليه المتأخرون وإنما أرادت به المعنى اللغوي وهو الرجل الذي شاخ وطعن في السن وبلغ من الكبر عتياً عالماً كان أوجاهلاً. وللشيخ سبعة جموع استوفاها بعضهم في هذين البيتين فقال:

مشايخ مشيوخاء مشيخة كذا ... شيوخ وأشياخ وشيخان فاعلما)

ومع شيخة جمع لشيخ وصفرا ... بضم وكسر في شييخ لتفهما)

قوله (شيخة) على وزن عنبة ولكنه سكن الياء لضرورة الشعر وقوله (بضم وكسر) يريد أنك إذا صغرت كلمة (شيخ) فقلت (شييخ) جاز لك إذ ذاك أن تضم الشين وهو الأصل في الاسم المصغر وأن تكسرها مراعاة لليائين التي بعدها ليسهل النطق باللفظ ويخف على السمع.

نكحت الهشامي إذ جاءني ... فيالك من نكحة غاوية)

تلوم نفسها على تسرعها بزواج ذلك الرجل فهي لم تتريث إن رضيت به مذ جاءها خاطباً ثم أظهرت الدهشة والعجب من هذا الزواج الذي كلفها ثمناً غالياً: عمراً خسرته وشباباً أبلته وجمالاً ابتذلته ومستقبلاً أضاعته: له فتحتان كصنان ... التيوس أعيا على المسك والغالية)

(الذفر) بفتحتين كل رائحة شديدة سواء كانت طيبة أوخبيثة: يقال مسك أذفر ورجل ذفر بكسر ألفاء له صنان وخبث ريح. والصنان بضم الصاد الرائحة الكريهة تنبعث من تحت الإبط واستعملتها الشاعرة هنا في رائحة التيوس بطريق النجوز.

و (الغالية) ضرب من الطيب مركب من جملة أجزاء، تقول أن لزوجها ريحاً خبيثاً أعياها الأمر في إزالتها وتخفيف شرها وقد استعانت على ذلك وعالجته بأنواع الطيوب فلم تفلح.

وإن دمشق وفتيانها ... أحب إلي من الجالية)

الجلاء بفتح الجيم الخروج من بلد إلى آخر. ويقال جلا القوم عن الموضع الفلاني إذا تفرقوا عنه. والقوم الذين يخرجون هذا الخروج يسمون جالية ويسمى أهل الذمة جالية لأن عمر بن الخطاب أجلاهم عن جزيرة العرب. ومراد الشاعرة بالجالية هنا أولئك الذين كانوا يجلون عن ديارهم في الحجاز ويسكنون دمشق لذاك العهد ويظهر أن لدمشق في نفوس القوم إذ ذاك مكانة عالية فكانوا يتنافسون بالعيش فيها ويضربون المثل بحسن عشرة أهلها. ولم يزل هذا أدبها إلى اليوم فهم إذا أرادوا أن يصفوا إنساناً بالذوق وطيب العشرة وكرم الطباع قالوا أنه (مدمشق) على وزن اسم المفعول أي أنه كأهل دمشق ذوقاً وأدباً كما يقولون في مصر فلان (ابن بلد) يعنون به ما نعنيه نحن بكلمة (مدمشق) ويستعمل الأوروبيين في هذا المعنى كلمة (جنتلمان) الإنكليزية. وقد ذكر سليم أفندي سركيس في بعض أعداد مجلته: أن جريدة التيمس رأت أن تضع لكلمة (جنتلمان) الإفرنجية لفظة عربية أومعربة فقالت في وصف أحد سلاطين آل عثمان القدماء أنه كان يسمى (محمود الشلبي) وفسرتها لقرائها بقولها أن معنى الشلبي هو (الجنتلمان) ثم قال سليم أفندي: وما دمنا لليوم لم نقع على كلمة ترادف (الجنتلمان) في لغتنا العربية فلنرض بم رضيته لنا التيمس أي من استعمال كلمة (الشلبي) بمقام (الجنتلمان) وكلمة شلبي بالشين العربية محرفة عن (جلبي) بالجيم ألفارسية ذات النقط الثلاث وهي كلمة تركية معناها الشريف واللطيف والظريف. وقد غاب عن سليم أفندي أن يذكر في معاني (الجنتلمان) كلمة (مدمشق) كما غاب عنه أن يذكر أيضاً كلمة (عايق) التي يستعملونها في ذلك المعنى نفسه. ولا أذكر ما هو أصل اشتقاق (عايق) وكيف استعملت في هذا المعنى في لغتنا العربية.

وإن كانت حميدة ذكرت دمشق في أثناء التهكم بزوجها والزراية عليه فإن شاعراً آخر ذكر دمشق في غضون عتابه لزوجته وتهديده لها فقال:

دمشق خذيها واعلمي أن ليلة ... تمر بعودي نعشها ليلة القدر

أكلت دماً إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوي القرط طبيبة النشر

دمشق منادى: يقول خذي يا دمشق زوجتي التي هربت من بيتي إليك واعلمي أن الليلة تموت فيها تلك الزوجة الغادرة وأراها فيها محمولة على أعواد نعشها هي عندي بمنزلة ليلة القدر.

ثم أرى أن توقع الخلاص منها بانتظار موتها أمر يطول شرحه، فالتفت إلى الزوجة الناشزة واستحضرها في ذهنه وجعل يتهددها ويتوعدها فدعا على نفسه بأن يموت أحد الأعزاء عليه ويأكل ديته إن كان لا يتزوج ويدخل عليها الذعر ويضرم في قلبها نار الغيرة بانتقاء ضرة لها تكون أجمل منها، وأجمع لصفات الحسن.

وفي البيت الثاني كنايتان من أشهر الكنايات التي يتمثل بها البيانيون في كتبهم وهما) أكلت دماً) و (بعيدة مهوى القرط).

ومن أخلاق العرب أنهم يأنفون من ترك أخذ الثأر اكتفاءً بأخذ الدية من جمال وأنعام ويكنون عن هذه الدية الحيوانية بالدم ويعير بعضهم بعضاً بأكلها والرضا بها فشاعرنا يقول أنه إن لم يتزوج على امرأته تلك التي هربت إلى جلق فالله يبتليه بهذه الضعة والخزاية والعار الذي لا يمحى وهي أن يأكل دية قريبه بدل أن يأخذ بثأره فيقتل من قتله أما الكناية الثانية فهي قوله في صفة الضرة أنها بعيدة مهوى القرط فهو يصفها بالطول: إما طول العنق أوطول القامة. إذ أن مهوي القرط موضع هو يه وسقوطه وهو إما الكتف فالطول للعنق. أوالأرض فالطول للقامة وقوله في صفتها (طيبة النشر) أي طيبة الرائحة. وقوله مخاطباً لدمشق دمشق خذيها يشعر بأن لهذه البلدة مزية أومعنى يجتذب القلوب إليها وينزل الرحال لديها.

وإنما هدد ذلك الشاعر زوجته الناشزة بما هددها به لكونه بعلم مبلغ غيرة النساء وجزعهن من الضرة، وأبلغ ما قيل في ذلك قول الآخر:

خبروها بأني قد تزوجت ... فظلت تكلم الغيظ سراً ثم قالت لأختها ولأخرى ... جزعاً ليته تزوج عشرا

يقول أنها عزمت أولاً على الصبر وكتم الغيظ وأسرار الغيرة في نفسها ثم غلبتها نفسها فباحت ببعض الشيء لكنها مع ذلك ظلت متجلدة متماسكة متظاهرة بقلة المبالاة فقالت لأختها ولصاحبة لها أخرى ليت زوجي بدل الزوجة الواحدة تزوج عشر زوجات فإني كارهة له غير راغبة في القرب منه.

وأشارت إلى نساء لديها ... لا ترى دونهن للسر سترا

يقول ثم ارتقى الحال بها واستولت الغيرة علليها فلم يعد يمكنها إخفاء الخبرالذي أضناها وأطار الرقاد عن عينيها: فقالت إلى نساء كن في مجلسها تأمن جانبهن بحيث لا ترى ضرورة لستر هذا السر عنهن وخاطبتهن مشيرة إلى قلبها تقول:

يا لقلبي كأن ليس مني ... وعظامي كأن فيهن فترا

من حديث نما إلي فظيع ... خلت في القلب من تلظيه جمرا

تريد بكون قلبها ليس منها أنه أصبح كتلة نار من شدة الغيظ والكمد فهو ليس منها لأنها هي لحم ودم لا جهنم ولا أتون وفي عظامها فتر أي ضعف ووهن وانكسار ومعنى البيتين واضح لا يحتاج إلى بيان وتفسير. على أننا نشرح في الأحايين أبياتاً تكون جليلة المعنى لا غموض فيها حباً في تنبيه الطالب أوالناشئ إلى حل الشعر وتحويل معناه إلى نثر وبسط ألفاظه ومعانيه بسطاً يقوي في نفس الطالب ملكة المقدرة على تأليف الكلام وحسن التصرف فيه وتأدية المعنى الواحد بالطرق المختلفة والأساليب المتعددة وهذه هي الطريقة التي تعمد إلى منظوم فتحله إلى كلام منثور من أحسن الطرق في تحصيل فن الإنشاء وتقوية ملكة الكتابة في النفس.

وقد وضع ابن الأثير صاحب (المثل السائر) كتاباً لطيف الحجم سماه (حل المنظوم) شرح فيه هذه الطريقة وإبان وجه ألفائدة منها لطلاب ذلك ألفن.

هذا الذي تزوج على امرأته رجل يحب الانتقام ويريد لنفسه شفاء غيظها وتبريد غلها أما زوج أنيسة فقد رأى أن قطع علاقته بالمرة مع أنيسة خير له ولها من تحمل مشاكل الضرة فطلقها وقال:

رحلت أنيسة بالطلاق ... وعتقت من رق الوثاق أنيسة بهيئة التصغير، يقول أنها رحلت هي إلى دار أبيها وتخلصت أنا من الرق والأسر لها، ومن ثم قالوا في المرأة سيئة الأخلاق أنها (غل قمل وجرح لا يندمل)

الغل واحد الأغلال وهو طريق من حديد أوجلد، يجعل في اليد أوفي العنق.

وقمل بكسر الميم ذوقمل أي فيه قمل فيؤذي الأسير ويحرمه لذيذ الوثن فالمرأة السوء في إرهاقها زوجها مثل هذا الغل:

بانت فلم يألم لها ... قلبي ولم تبك المآقي

ودواء ما لا نشتهيه ... النفس تعجيل ألفراق

أرسل هذا البيت مثلاً سائراً وحكمة بالغة فهو ينصح لكل من ابتلي بما لا تشتهيه نفسه أن يعجل فيفارقه ويقصيه عنه. وقد يقال أن هذا كان منه لمجرد هو ى النفس ونزاع الشهوة في لؤم وخسة وإن كان لضرورة قاضية وليكون في بيته ذا عيشة راضية فلا عتب ولا لوم:

لولم أرح بفراقها ... لأرحت نفسي بالأباق

وصبرت نفسي لا ... أريد حليلة حتى التلاقي

(أرح) مبني للمجهو ل من الراحة. وأصل الأباق فرار العبد من بيت سيده واستعمله هنا في مطلق الهروب. ومراده بالتلاقي اليوم الذي يموت فيه فيلاقي فيه أجله أويلاقي وجه ربه. يقول: لولم تتيسر لي أسباب طلاق أنيسة وبقيت جاثمة في وجهي جثوم الأفعى، لكنت فررت منها فرار الآبق. وفارقتها فراق غير الوامق.

وكنت بذلك أستريح من شرها، ثم أحرم النساء من بعدها لكن قد أسعدني الحظ بتسهيل أسباب طلاقها بالطلوع والرضا فشكراً لتدبير القضاء وعفا الله عما مضي.

دمشق:

المغربي