الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 92/القصران العجيبان

مجلة المقتبس/العدد 92/القصران العجيبان

مجلة المقتبس - العدد 92
القصران العجيبان
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 1 - 9 - 1914


البديع وساروية

ما أشبه الليلة بالبارحة والعلم متشابه في أعماله على اختلاف العصور والأصقاع لا تكاد تجد فروقاً يمتد بها. والإنسان حين كاد يوشك أن يكون واحداً في الشرق والغرب في تصوراته ومناحيه، ذكر الحازمي أن البديع اسم بناء عظيم للمتوكل بسر من رأى وقال اليعقوبي: بنى المتوكل قصوراً أنفق عليها أموالاً عظاماً منها الشاه والعروس والشبدار والبديع والغريب والبرج وأنفق على البرج ألف ألف وسبعمائة ألف دينار وذكر الأصفهاني أنه شغب ألفرسان على السلطان في بغداد سنة 315 فأحرقوا القصر المعروف بالثريا وانتهبوا ما فيه من الخزائن وخربوا القبة والقصر المعروف بالأترجة والكوكب وسلبوا ما كان فيه من الآلة والمتاع والوحش والطير ثم بكروا من الغد إلى الحلبة فأحرقوا أبوابها وقصدوا القصر المعروف بالحسن الذي ينزل فيه المقتدر فبقوا إلى المساء يشغبون ثم بكروا من الغد إلى القصر المعروف بالبديع وبهذا ظهر أن اسم البديع أطلق على قصرين في العراق الأول في سر من رأى والثاني في بغداد وكان هذان القصران موجودين إلى تاريخ المئة الرابعة وأنشأ في المئة العاشرة قصر اسمه البديع في مراكش خاصرة الغرب الأقصى أنشأه المنصور عام ستة وثمانين وتسعمائة من خلافته وأنفق جلائل الأموال ونفائس الذخائر ذلك أنه أراد كما في مناهل الصفا أن تكون لأهل البيت به مأثرة وشفوف على دولة البربر وغيرهم من المرابطين والموحدين ومن بعدهم بني مرين فكان كل من أهل تلك الدول ابتنى بناءً يحيى به ذكره ولم يكن لأهل البيت في ذلك المعنى شيء تزداد به حظوتهم مع أنهم أحق الناس بالجد الأصيل والسؤدد الأثبل فتصدى لبنائه بقصد تشريف أهل البيت لأن البناء كما قيل من فوائده:

هم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدهم فبالسن البنيان

إن البناء إذا تعاظم شأنه ... أضحى يدل على عظيم الشأن

اتصل العمل في هذا البناء من سنة 986 إلى 1. . 2 ولم يتخلل ذلك فترة وحشر له الصناع حتى من بلاد الإفرنجة فكان يجتمع كل يوم من أرباب الصنائع ومهرة الحكماء خلق كثير حتى كان ببابه سوق عظيم يقصده التجار ببضائعهم ونفائس أعلاقهم وجلب له الرخام من بلاد الروم فكان يشتريه منهم بالسكر وزناً بوزن وكان المنصور قد اتخذ معاصير للسكر ببلاد حاحة وشوشاوة وغيرهما وأما جبسه وجيره وباقي أنقاضه فإنها جمعت من كل ناحية حتى إذا وجدت بطاقة فيها أن فلاناً دفع صاعاً من جير حمله له من تينبكت وظف عليه في عمار الناس وكان المنصور مع ذلك يحسن للإجراء غاية الإحسان ويجزل صلة المعلمين بالبناء ويوسع عليهم في العطاء ويقوم بمؤنة أولادهم كي لا تتشوق نفوسهم وتتشعب أنظارهم.

وهذا البديع دار مربعة الشكل وفي كل جهة منها قبة رائعة الهيئة واحتف بها مصانع أخر من قباب وقصور وديار فعظم بذلك بناؤه وطالت مسافته ولا شك أن هذا البديع أحسن المباني وأعظم المصانع يقصر عنه شعب بوان وينسى ذكره غمدان ويبخس الزهراء والزاهرة ويزري بقباب الشام وأهرام القاهرة وفيه من الرخام المجزع والمرمر الأبيض المفضض والأسود وكل رخامة طلي رأسها بالذهب الذائب وموه بالنصار الصافي وفرشت أرضه بالرخام العجيب النحت الصافي البشرة وجعل في أضعاف ذلك الزلاج المتنوع التلوين حتى كأنه خمائل الزهر أوبرد موش وأما سقوفه فتجسم فيها الذهب وطليت الجدارات به مع بريق نقشه ورائق الرقم يخالص الجبس فتكاملت فيه المحاسن وأجرى بين قبابه ماء غير آسن وبالجملة فإن هذا البديع من المباني المتناهية البهاء والإشراق المباهية لزوار العراق ومن المصانع التي هي جنة الدنيا وفتنة المحيا ومنتهى الوصف وموقف السرور والقصف وفي ذلك قيل:

كل قصر بعد البديع يذم ... فيه طاب الجني وفيه يشم

منظر رائق وماء نمير ... وثرى عاطر وقصر أشم

إن مراكشاً به قد تناهت ... مفخراً فهي للعلا الدهر تسمو

وبه من الأشعار المرقومة في الأستار والأبيات المنقوشة في الجهات على الخشب والزليج والجبص ما يسر الناظر ويروق المتأمل ويبهر العقول وعلى كل قبة ما يناسبها وفي بعض القباب مفاخرة على لسانها لمقابلتها فمن ذلك ما نقش خارج القبة الخمسينية لأن فيها خمسين ذراعاً بالعمل من إنشاء أبي فارس عبد العزيز ألفشتالي على لسان القبة المذكورة:

سموت فخر البدر دوني وانحطا ... وأصبح قرص الشمس في أذني قرطا وصغت من الإكليل تاجاً لمفرقي ... ونيطت بي الجوزاء في عنقي سمطا

ولاحت بأطوافي الثريا كأنها ... نثير جمان قد تتبعته لقطا

وعديت عن زهر النجوم لأنني ... جعلت على كيوان رحلي منحطا

وأجربت من فيض السماحة والندى ... خليجاً على نهر المجرة قد غطا

وهي طويلة وكلها من هذا النمط وقال أيضاً قصيدة كتبت بداخل القبة المذكورة وله أخرى كتبت في بهو ها بمرمر أسود في أبيض قال في مطلعها:

لله بهو عز منه نظير ... لما غدا كالروض وهو نضير

رصفت نقوش حلا ورصف قلائد ... قد نضدتها في الصخور الحور

فكأنها والتبر سال خلالها ... وشي وفضة تربها كافور

وكأن أرض قراره ديباجة ... قد زان حسن طرازها تشجير

وإذا تصاعد نده نواً ففي ... أنماطه نور به تشجير

شأ والقصور قصورها عن وصفه ... سيان فيه خورنق وسدير

فإذا أجلت اللحظ في جنباته ... يرتد وهو يحسنه محسور

وكأن موج البركتين أمامه ... حركات السحب صافحته دبور

صفت بضفتها تماثل فضة ... ملك النفوس بحسنها تصوير

فتدير من صفوالزلال معللاً ... يسري إلى الأرواح منه سرور

ما بين آساد يهج زئيرها ... وأساود يعلولهن صفير

وقال أيضاً وكتب في بعض المباني البديعية:

معاني الحسن تظهر في المباني ... ظهور السحر في حدق الحسان

وختمها بقوله:

قصور مالها في الأرض شبه ... وما في المجد من للمنصور ثان

وكان ألفراغ من بناء البديع عام اثنين وألف وفي تاريخه يقول الوزير علي الشياظمي وهو مما نقش في باب الرخام أحد أبواب الربيع:

الحسن لفظ وهذا القصر معناه ... يا ما أميلح مرآه وأبهاه

فهو البديع الذي راقت بدائعه ... وطابق اسم له فيه مسماه صرح أقمت على التقوى قوائمه ... ودل فيه على التاريخ معناه

قال في نفح الطبيب اخترع المنصور من الصنائع ثلاثة أشياء فجاءت غريبة الشكل بديعة الحسن وهي البديع والمسرة والمشتهى ومما قال المنصور في ذلك مؤرخاً:

بستان حسنك أبدعت زهراته ... ولكم نهيت القلب عنه فما انتهى

وقوام غصنك بالمسرة ينثني ... يا حسن رمان به المشتهى

والذي ذكره صاحب البيان المعرب عن أخبار المغرب وهو الشيخ أبوعبد الله أبوعذارى الأندلسي أن أول من أنشأ المسرة التي بظاهر جنان الصالحة عبد المؤمن ابن علي كبير الموحدين قال وهو بستان عظيم طوله ثلاثة أميال وعرضه قريب منها فيه كل فاكهة تشتهى وجلب إليها الماء من أغمات واستنبط له عيوناً كثيرة.

قال ابن اليسع: وما خرجت أنا من مراكش في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة إلا وهذا البستان الذي غرسه يبلغ مبيع زيتونه وفواكه ثلاثين ألف دينار مؤمنية بحسب رخص ألفاكهة بمراكش ولعل المنصور جدد معالم المسرة بعد إندراسها وأفاض مجال الحياة على ميت أغراسها.

وكان المنور يفتخر بالبديع كثيراً وبنوه بعده كذلك وفي ذلك يقول أبوفارس ألفشتالي:

هذا البديع يعز شبه بدائع ... أبدعتهن به فجأة غريبا

أضني الغزالة حسنه حسداً له ... أبدي عليه للأصيل شحوبا

شيدتهن مصانعاً وصنائعاً ... أنجزن وعدك للعلا المرقوبا

وجريت في كل ألفخار لغاية ... أدركتهن وما مسسن لغوبا

فأنعم المسكك فيه دام موقراً ... تجني به فنن النعيم رطيبا

ولما أكمل المنصور البديع وفرغ من تنميق بردته وتطويق حلته صنع مهرجاناً عظيماً ودعا الأعيان والأكابر فقدم لهم من ضروب الأطعمة وصنوف الموائد وأفرغ عليهم من العطايا ومن الجوائز ما لم يعهد من قبل ولكن دالت الأيام وأمر السلطان اسماعيل ابن الشريف بهدم البديع عام تسعة عشر ومائة وألف فهدمت معالمه وبدلت مراسمه وغيرت محاسنه وفرق مجموع حسنه وعاد حصيداً كأن لم يغن بالأمس حتى صار مرعىً للمواشي ومقيلاً للكلاب ووكراً للبوم وحق على الله ما رفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه ومن العجائب أنه لم تبق بلد بالمغرب إلا ودخلها شيء من أنقاض البديع.

أما قصر سارويه فإن القليل الذي ظفرنا به من وصفه لا يشفي غله. قال الأصفهاني أنه في سنة خمسين وثلثمائة تهدم من البنية المسماة سارويه في داخل مدينة جي جانب منة وظهر عنه بيت في نحوخمسين عدلاً من جلود مكتوبة بخط لم ير الناس قبله مثله فلا يدرى متى أخرز ذلك في هذه البنية وسئلت عما أعرفه عن خبر هذه المصنعة العجيبة البناء فأخرجت إلى حضرة الناس كتاباً لأبي معشر المنجم البلخي مترجماً بكتاب أخلاف الزيجة ويقول فيه أن الملوك بلغ من عنايتهم بصيانة العلوم وحرصهم على بقائها على وجه الدهر وإشفاقهم عليها من أحداث الجو وآفات الأرض أن اختاروا لها من المكاتب أصبرها على الأحداث وأبقاها على الدهر وأبعدها من التعفن والدروس لحاء شجرة الخدنك ولحاؤه يسمى التوز وبهم ابتدى أهل الهند والصين ومن يليهم من الأمم في ذلك واختاروها أيضاً لقسيهم التي يرمون عليها لصلابتها وملاستها وبقائها على القسي غابر الأيام فلما حصلوا لمستودع علومهم وجود ما وجدوه في العالم من المكاتب طلبوا لها من بقاء الأرض وبلدان الأقاليم أصحها تربة وأقلها عفونة وأبعدها من الزلال والخسوف وأعلكها طيناً وأبقاها على الدهر بناء فانتفضوا بلاد المملكة وبقاعها فلم يجدوا تحت أديم السماء بلداً أجمع لهذا الأوصاف من أصبهان ثم فتشوا عن بقاعها فلم يجدوا فيها أفضل من رستاق جي ولا وجدوا في رستاق جي أجمع لما راموه من المواضع التي اختط من بعد فيه بدهر داهر مدينة جي فجاؤوا إلى قهندز (قصر) وهو في داخل مدينة جي.

فأودعوه علومهم وقد بقي إلى زماننا هذا ويسمى سارويه ومن جهة هذه البنية درى الناس من كان يأتيها وذلك انه لما كان قبل زماننا هذا سنين كثيرة تهدمت من هذه المصنعة ناحية فظهروا فيها على أزج معقود من طين الشقيق فوجدوا فيه كتباً كثيرة

من كتب الأوائل مكتوبة كلها على لحاء التوز مودعة أصناف علوم الأوائل بالكتابة ألفارسية القديمة فوقع بعض تلك الكتب إلى من عني به فقرأ فوجد فيه كتاباً لبعض

ملوك ألفرس المتقدمين يذكر فيه أن طمهو رث الملك المحب للعلوم وأهلها كان انتهى إليه قبل الحادث المغربي الذي كان من جهة الجوخبره في تتابع الأمطار هناك وأفراطها في الدوام والغزارة وخروجها عن الحد والعادة وأنه كان من أول يوم من سني ملكه إلى أول يوم من بدوهذا الحادث المغربي مائتان وإحدى وثلثون سنة وثلثمائة يوم وأن المنجمين كانوا يخوفونه من أول ابتداء ملكه تعدي هذا الحادث من جانب المغرب إلى ما يليه من جوانب المشرق فأمر المهندسين بإيقاع الاختيار على أصح بقاعه تربة فاختاروا له موضع البنية المعروفة بسارويه وهي قائمة الساعة داخل مدينة جي فأمر ببناء هذه البنية الوثيقة فلما فرغ له منها نقل إليها من خزانته علوماً كثيرة مختلفة الأجناس فتحولت إلى لحاء التوز فجعلها في جانب من تلك البنية لتبقى للناس بعد احتباس هذا الحادث وأنه كان فيها كتاب منسوب إلى بعض الحكماء المتقدمين فيه سنون وأدوار معلومة لاستخراج أوساط الكواكب وعلل حركاتها وأن أهل زمان طهمورث وسائر من تقدمهم من ألفرس كانوا يسمونها سني وأدوار الهزارات وأن أكثر علماء الهند وملوكها الذين كانوا على وجه الدهر وملوك ألفرس الأولين وقدماء الكلدانيين وهم سكان أحوية من أهل بابل في الزمان الأول إنما كانوا يستخرجون أوسط الكوافي كب من هذه السنين والأدوار وأنه لما أذخره من بين الزيجات التي كانت في زمانه لأنه وسائر من كان في ذلك الزمان

وجدوه أصوبها كلها عند الامتحان وأشدها اختصاراً وكان المنجمون الذين كانوا

مع رؤساء الملوك في ذلك الزمان واستخرجوا منها زيجاً وسموه زيج شهريار

ومعناه بالعربية ملك الزيجات ورئيسها فكانوا يستعملون هذا الزيج دون زيجاتهم كلها فيما كان الملوك يريدونه من معرفة الأشياء التي تحدث في هذا العالم فبقي هذا الاسم لزيج أهل فارس في قديم الدهر وحديثه وصارت حاله عند كثير من الأمم في ذلك الزمان إلى زماننا هذا أن الأحكام إنما يصح على الكواكب المقدمة منه وإلى ههنا حكاية ألفاظ أبي معشر في وصف البنية القائمة الأثر بأصبهان وأبومعشر إنما وصف آزجاً من آزاج هذه البنية انهار منذ ألف سنة أقل أوأكثر فعبر منه إلى زيج شهريار فأما الذي انهار في سنة خمسين (خمسين؟) وثلثمائة من سنة الهجرة فآزج آخر لم يعرف مكانه لأنه قدر في سطحه أنه مصمت إلى أن انهار فانكشف عن هذه الكتب الكبيرة المكتوبة التي لا يهتدي إلى قراءتها ولا خطها يشبه شيء من خطوط الأمم وفي الجملة أن هذه البنية إحدى الآيات القائمة ببلاد المشرق كما أن بنية مصر المسماة الهرم إحدى الآيات القائمة ببلاد المغرب.