الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 90/مشاهد برلين

مجلة المقتبس/العدد 90/مشاهد برلين

بتاريخ: 1 - 7 - 1914


مرافق الحياة

يتوسط الشوارع الكبيرة في برلين رياض تسايرها طولاً وتفتح فيها سبلاً للراجلين خاصة فيكون الشارع مفصلاً إلى رصيفين وجادتين بينهما ممر يكتنفه عمارتان من نبات تطرزه الرياحين بألوان مختلفة ولا يشاهد الإنسان في ديارها ولو في الروض بناءً بالياً أو جداراً متداعياً والذي ساعد على تنسيق مبانيها ومتانتها أن عناصر الطين بمقربة من تلك المدينة وأن الحجارة والخشب يجلبان إليها على نهر شبري بسهولة وقيم زهيدة.

وكثير من المباني قائمة من الحجارة الرملية ويستعملون البرفير زينة في داخل البيوت وهو ضرب من حجارة الكرانيت المرادف له في العربية كلمة صوان وتفرش بعض المحلات مثل دهاليز المدارس ببلاط استك وهو قطع دقيقة من الرخام تخلط بعجين الكلس.

في كل منزل حمام يتخذ من الزنك يسخن ماؤه في قصبة تنصب إزائه مثل الأسطوانة ويتصل بحافته مجرى للماء الحار وآخر للماء البارد ومن فوقه الناضحة المثقبة ولكل واحد من المجاري الثلاثة مفتاح يتميز بكتابة على جانبه.

ومن تلك الحمامات ما يتدفق إليها الماء الحار من معمل تشترك فيه منازل كثيرة فيتيسر للإنسان أن يتطهر منها في أية دقيقة حضرت، ويقل لهذا ترددهم على الحمامات العامة ولا يقصدونها في الغالب إلا لداعية زائدة على النظافة إذ يوجد فيها من يقوم بعمل الدلك على قاعدة صحية.

ومن المنازل ما يتوسل لدفئه أيام البرد بإيقاد ألفحم في القصبات القائمة بزاوية من زوايا المنزل على الطريقة المعروفة. ومنها ما يدفأ بوسيلة ماء حار يمر في بعض نواحيه على أسلوب منتظم. وملخص ترتيبه أن ينصب في الطبقة السفلى مرجل توقد تحته النار يتناحب ويتصل بالمرجل قصبة يصعد فيها الماء إلى إناء فتح عند سقف الطبقة العليا ثم ينسكب نازلاً إلى مواضع التسخين في سائر الطبقات وحجراتها حتى يعود إلى المرجل مرة أخرى ويتركب موقع التسخين في الغالب من خمس عشرة إلى عشرين أسطوانة خشبية متلاصقة وحيث يجري الماء في مجال مستدير وسطح غير ضيق يحصل الدفء الكافي.

وذكرت عند هذا الصنيع أن جبرائيل بن بخنيشوع المتوفى سنة 356 كان يضع من وراء الحجارة التي يجلس فيها مواقد تبعث من وهجها ما يكسر سورة البرد. دخل عليه أحد ألفضلاء على ما قصه موفق الدين في طبقات الأطباء فأحس بدفءٍ وقد أصبح البرد شديداً فكشف له بخنيشوع عن جوانب المقعد فإذا موضع له شبابيك خشب بعد شبابيك من حديد وكواتين فيها فحم الغضا وغلمان ينفخون ذلك ألفحم بالزقاق مثلما يصنع الحدادون.

ويفتحون في النوادي الكبيرة مراوح ذات آلات تجلب إليها الهواء النقي أو النسيم البارد بإدارة كهربائية. فمن محال القهوة ما يسع أكثر من ألف نسمة فتجد الجالسين صفوفاً مرصوصة ولا يحس الداخل بكدر في الهواء مع ما يقع من التدخين. وهذاأيضاً ذكرني أن بخنيشوع الذي دبر طريقة تسخين الحجرات إذا دبت عقارب البرد قد فكر في وجه استخلاص النسيم البارد إذا رمت الظهيرة بجمراتها فكان يعد من خلف القبة التي يتبؤها مواضع يصف فيها قطع من الثلج ويأخذ الغلمان مراوح يستثيرون بها من ذلك الثلج نسيماً بارداً فيهب إلى القبة في طريق متجددة.

وكانوا يستوقدون الشمع وبعض أصحاب البيوت يصنعونه من شحم البقر بأيديهم إلى قريب سنة 184. فظهر بينهم زيت الغاز المعدني اكتشفوه في أربع ولايات من ألمانيا ولكن منابعها ليست بغزيرة وقد تهللت اليوم بالضرورة مسارج الكهرباء والغاز البخاري في كل محلة. أما القصور القيصرية فكانت تنار بالشمع المستخلص من عسل النحل ثم انبجست فيها أنوار الكهرباء سنة 1888.

ولا تخلو أبواب البيوت ودواخل الحجرات من أجراس يستند تنظيمها بين الضغط على أزرارها ورنة مطرقتها إلى مجرى كهربائي تستمده من معمل تشترك فيه محلات متعددة. ويصنعون في كل حجرة من ألفنادق الشهيرة ثلاثة أجراس يدعو النزيل بإحداها من تكلف بتنظيم الحجرة وبثانيها من يعين لمناولة ما يحتاج أليه من مثل طعام أو شراب ومن ثالثها من يختص بحمل الأمتعة.

ترتبط المنازل بأسلاك حاكي الصدى التلفون وقد ريحوا بوسيلته قسطاً عظيماً من أوقاتهم فيكون الإنسان في غنى عن أن يبدد قطعة من الوقت الذي هو سلك عمره في مسافة الذهاب إلى مكان آخر والإياب عنه بإبلاغ كلمة والإنصات إلى مثلها. وقد أصبح من المعتاد عندهم أن الإنسان لا يضرب بخطوة إلى زيارة أحد حتى يعلم بهذه الوسيلة أنه حاضر في منزله ويفهم من خطابه أنه لم يكن في حال يقتضي تأخير اللقاء إلى دفعة أخرى.

وتسلم إدارته لكل من عقد محله فرعاً منه مجلد يحتوي على أسماء المشتركين فيه مرتبة على أحرف الهجاء مع بيان الأعداد التي جعلت علماً على فروعهم. فمن أراد ليخابر آخر خاطب الموظف في مركز دائرته أولاً وأعلمه بالعدد الذي جعل على ألفرع الواقع في منزل صاحبه فيهيء له طريقة المخابرة معه. واختاروا أن يكون الموظفون فغي هذه الدوائر نساء وقالوا في علة ذلك أن التجربة كشفت على أن كلام المرأة في هذه الآلة أوضح من كلام الرجل وأمكن في السمع.

ولا داعي إلى رفع الصوت عند المخابرة فيه فإن المتكلم يلقي بكلامه في مكر تلفون آلة تقوية الصوت الضعيف بل ربما أدى الجهر بالقول فوق العادة إلى فوات بعض الأحرف أو عدم تمكنها من سماع المخاطب.

يضعون في المطبخ موازين تسمى ميزان المطبخ يزنون بها ما يشترون من لوازم الطبخ ونحوه لكي يتيقنوا نصح البائع أو خيانته. وعلم الباعة بمثل هذا مما يجعلهم على استقامة وحذر من التطفيف بالوزن. ويتخذون الريش حشواً لألحفة ألفراش التي تكون من كتان غالباً فيجمعون في صنعهم هذا بين دفئها وخفة وقعها ويستعملون للطبخ بإرشاد من نظارة الصحة العمومية القيصرية قدوراً من الألمنيوم معدن أبيض كالفضة لأن من خواص هذا المعدن أنه لا يفسده حامض ماء البارود ولا يتضرر من حامض الكبريت إلا إذا مسه مراراً متعددة ثم أن ما يجتمع من مائه لا يسري إلى جسم الإنسان بضرر ذي بال والقدور والأواني التي تصاحب العسكر إنما تؤخذ من هذا المعدن لخفة حمله وقلة أذيته.

وفي ألفنادق الشهيرة ما عدا الساعات المنبهة المتداولة آلة تلصق في الجدران المحاذية للسرر تنالها يد المضطجع فيستعملها للإفاقة من النوم في وقت معين فتصدح في الوقت نفسه بصوت رخيم يستمر مدةً طويلةً ولا ينقطع إلا إذا أسكتتها يده بتحويل وضعها.

الديانة

ينتحل معظم الشعوب الألمانية مذهب البروتستانت. وأول من أطلق لذلك الشعوب في العقائد ولم يأخذ عليها في تقاليدها فريدريك الكبير فخفقت ولايته فتناً كانت التعصبات الاعتقادية تنفخ في جمراتها.

وصرح بعض أساتيذهم بمزية القرآن في الدعوة إلى التوحيد الخالص وفهمت عنه أن لدلائله وأساليبها إذ أصبحت ترجمته تسعى بين أيديهم أثراً في تأييد الاعتقاد بوحدة الإله. ومما أخذوه في شعار الديانة ان رسموا في منطقة كل عسكري جملة تعريبها الله معنا. ويغلب على فلاسفتهم التمسك بما يدينون ولا يمرقون إلى الإلحاد مثل كثير من فلاسفة أوروبا الغربية. فأشهر فلاسفة الألمان كنت المتوفى في أوائل القرن التاسع عشر وقد تعرض في تأليفه المسمى انتقاد العقل الخاص للاستدلال على وجود الخالق وهذا التأليف أعظم كتاب يعتمد عليه فلاسفتهم.

الجد والعمل

يعمل الألمان في حيلتهم على شاكلة سياسيهم الكبير بسمارك القائل إن استراح صدأ فإذا رأيتهم لا سيما في غرة النهار وهم ينتشرون في الأرض بخطاً سريعة ونشاطٍ يتمثل لك الجد في أوسع مظهره وينكشف لك ألفرق ما بين العامل والقاعد في أجلى صوره.

وفي بعض إحصائيات ليست ببعيدة أن 52 في المئة من السكان يرتزقون من الصنائع وأن المعامل المنشأة في شمال المدينة وشرقها تحتوي على أكثر من ثلاثمائة ألف عامل.

لا يلاقي المتجول في أنحاء المدينة على سعة مناطقها طائفة تتسول أو يسمع لها نغماً وتخطر لي ذكرى أني لم ألق من السائلين في أشهر الإقامة هناك أكثر من عدد أنامل الكف الواحدة وهم إما رجل قطع جناحه أو عجوز بلغت من الكبر عتياً. ولا عجب إذا لم نشاهد كثيراً من العجزة يتكففون فإن في الباب التاسع عشر من قوانينهم المدنية أن تقوم الحكومة بعيش من قعد به العجز عن الاكتساب بنفسه.

المعاهد العلمية

تأسست في برلين كلية يعمرها 25. أستاذا و6. . . تلميذ ومن شعبها مدرسة الألسن الشرقية المنشأة في سنة نيف 188. ويتعلم في هذه الشعبة نحو (5. .) تلميذ. والمدارس من غير هذه الكلية لم أحط بها حساباً وإنما عرفت منها مدرسة للصنائع بها نحو (3. . .) تلميذ ومدرسة للزراعة بها (1. . .) تلميذ ومدرسة لطب الحيوانات بها 5. . تلميذ ومدرسة للمهندسين بها 4. . . تلميذ. وأنشئوا منذ خمس سنوات داراً في دالم على جانب من برلين وجلبوا إليها كل ما يفتقر إليه علماء الطبيعة من أدوات التجربة والوسائل المساعدة على البراعة ألفائقة في هذا العلم والمقدرة الواسعة في استنباط نتائجه وقد أصبحت هذه المحلة دار إقامة لكثير من علماء الطبيعة.

وشرع فريدريك الأول الذي نصب ملكاً على بروسيا في أوائل المائة الثامنة عشرة بإنشاء دار كتب يقدر ما في خزائنها من المجلدات بمليون ونصف. ومن بينها قسم للكتب التركية وآخر للكتب العربية. طفت بعض خزائن هذا القسم فكنت أتناول كتاباً بعد الآخر فأجدهما مختلفين في فنيهما اختلافاً بعيداً ثم طالعت ألفهرس فلقيته مرتباً على حروف المعجم بحيث تسرد فيه الكتب التي تشترك بأوائل أسمائها في حرف من حروف الهجاء على نسق واحد وإن تفرقت في موضوعات فنونها فقرأت في حرف الهمزة مثلاً أحكام القرآن لابن العربي. إسعاف المبطي. الإعلام بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ. إنفاذ الأوامر الإلهية بنصرة العساكر العثمانية وإنقاذ الجزيرة العربية. وخصوا قسماً منها بالخرائط الجغرافية العتيقة والحديثة وبها معرض نضدوا فيه آثار الخطوط العتيقة وما سبق لحروفها من الأشكال الغريبة. وفتحوا في طبقتها الأولى للمطالعة محلاً سمكوا بناءه في شكل مثمن فسيح وصففوا فيه مكاتب وكراسي في دائرة كبيرة ومن فوق كل مكتبة مسرجة من الكهرباء. وأعدوا قبالة هذا المحل بهواً في شكل مربع مستطيل لمطالعة الجرائد والمجلات خاصة ويماثله في طبقة عالية محل لمطالعة الكتب العربية والتركية أو النسخ منها.

ولا يمكن أحد من الكتاب إلا إذا كانت بيده ورقة الإذن في المطالعة فإذا أحرز ورقة الإذن ممن له النظر في إعطائها وأراد المطالعة أو النسخ لم يسلم إليه الحافظ الكتاب غلا بعد أن يثبت في ورقة رسمية اسم الكتاب وعدده ويبين هل خط بالقلم أو بالمطبعة ثم ينهيها باسمه وصناعته ومحل سكناه.

يسمح قانونها بإعارة الكتب المطبوعة دون ما خط بالقلم لأنها قد تصاب بضياع فيصعب إيجاد مثله وجعله بمكانة ولا سيما ما يكون له أثر تاريخي كالكتب المخطوطة بأقلام مؤلفيها أو غيرهم من مشاهير أهل العلم.

نظامات علمية تنقسم المدارس إلى ابتدائية وإعدادية وجامعة كلية فيستمر التلميذ من السنة السادسة إلى الرابعة عشرة في القسم الابتدائي ثم يتمادى في الإعدادي ست سنين فينفصل عنها إلى الجامعة ويبقى بها ثلاث سنين فإن كان من طلبة علم الطب فسحوا له في الأمد إلى منتهى خمس سنين.

والتعليم الابتدائي منتشر في جميع الطبقات على طريقة جبرية فيتحتم على الولد الاستمرار في دورته إلى أقصى غاية. وعلى وليه أن لا يمنعه بعد هذه الدورة من الاختلاف إلى المدارس الإعدادية مقدار ثلاثة أعوام ولم تشرع الحكومة قسماً ليلياً للتلاميذ الذين هم من نفس المدينة واختاروا أن يبقى للتلميذ اختلاف إلى أوليائه وانسه بهم ليراقبوا حالته ويرشحوه بشيءٍ من آدابهم.

يتعلم البنات في مدارسهن كل فن إلا علم الإلهيات إذ لا يليق بالمرأة عندهم أن تكون واعظة. ومن أمثالهم المضروبة المرأة في الكنيسة تسكت تولى المرأة وظيفة التعليم على شرط أن تكون أيما فإن أصبحت ذات زواج انفصلت عن خطتها.

جرى القانون أولاً على منع المعلم من مجازاة التلميذ بعقوبة الضرب ثم ألغاه ناظر المعارف وقال عندي ثقة بأن لمعلمي مدارسنا حناناً على التلاميذ وعواطف تأبى لهم أن يبلغوا بالضرب إلى ما فيه إساءة. لا يسوغ للتلميذ أن يتعاطى المسكرات ولو دخل في دور التعليم بالجامعة وقد قال لي أحد أساتذتهم عند الحديث في هذا القانون إن تلاميذنا مثل المسلمين. كان التلاميذ يترنمون بقصائد في اللسان اللاتيني فأبطلها القيصر وقال لا فائدة لهم في ذلك فأصبحت أناشيدهم الوطنية ألمانية محضة. يدرب التلميذ في المدارس الإعدادية على صناعة الخطابة ويطالبونه بأن يحرر في كل شهر رسالة يبحث فيها عن بعض الموضوعات العلمية.

أجر التعليم السنوي في المدارس الإعدادية (15.) ماركاً وفي الجامعة (5. .) مارك ويوازن المارك من نقودنا على وجه التقريب القطعة ألفضية ذات الخمسة قروش. يتعين مدير الجامعة في كل سنة بانتخاب من أساتذتها ثم تقرر ولايته بتسمية من صاحب الدولة.

ترسل الدولة في كل سنة وفداً من طلاب العلوم إلى أميركا ليستطلعوا مدارسها ويستكشفوا عما عساه أن يتجدد من أساليب العلم ونتائجه. يتلقى أبناء العائلة القيصرية تعاليمهم في مدرسة خاصة لا يغشاها إلا من نشا في مهد الملك أو كان من أسرة راقية ويقال أن والد القيصر الحالي كان يود لهم لو أنهم يتعلمون بالمدارس العامة حتى يلاقوا سائر الطبقات ويكونوا على خبرة محققة من أحوالها.

مشروعات خيرية

من مساعيهم النافعة أن ألفوا جمعية تبحث عن البائسين من طرق خفية وتوجه إليهم في البريد صدقات من غير أن يشعروا بمصدرها. وقص علي بعض أساتذتهم أن إحدى البائسات كانت ترتزق بصنعة الخياطة فوافاها ذات يوم صاحب البريد ب - 5. . مارك وناولها إياها فدهشت فرحاً واندفعت تسأل عن باعثها بإلحاح. فأبى أن يكشف لها عن الحقيقة. وترى هذه الجمعية أن التبرع بقسط عظيم على مستحق واحد أنفع من توزيعه على طائفة ينال كل واحد منها حصة يسيرة.

ومن الجمعيات عندهم جمعية (تخفيف المصائب) ومن أعمالها الحسنة أن تساعد من تنوبه مصيبة في جسده مساعدة ابتدائية ففتحت في أقسام العاصمة محالاً عينت لها أطباء ليسارعوا إلى علاج كل من يطرأ عليه حادث أو يفاجأ بمرض في أثناء الطريق مجاناً.

ترجمتهم للقرآن

ترجم القرآن المستشرق ريكرت المتوفى أواسط المائة الماضية ولكن انصرم حبل أجله من قبل أن يتم ترجمته ثم ترجمه المستشرق هنينك وهو عيش في مدينة فرانكفورت ترجمة تامة إلا أن الأول يراعي في الترجمة بلاغة اللسان الالماني فلا يبالي بالتقديم والتأخير والتعبير عن الحقيقة بالمجاز مثلاً. والثاني يحافظ على ترتيب الآية وحقيقتها في الغالب. وقد تتبعته في كثير من السور بالمقدار الذي وقفت عليه من هذه اللغة مع الاستعانة بالكتب اللغوية الألمانية العربية فوجدته ينظر إلى المعنى الأصلي ويتحرى في أدائه جهد استطاعته. ووضع غير هذين الرجلين ترجمة ثالثة لم أتتبعها ولكن قال بعض العارفين باللغتين أنه بعيدة عن المطابقة وليست في القرب من الصحة مثل ترجمة هنينك. ونبأني الأستاذ هردر أن إحدى الجمعيات راسلته بأن تراجم القرآن التامة قد يضيق الوقت عن مطالعتها واقترحوا عليه أن يترجم لهم الآيات من سور متفرقة فاقتبس لهم مما ترجمه المستشرق ركرت آيات كثيرة في التوحيد والأحكام فطبعوها مجموعة وظهرت بينهم في مثال التراجم الأخرى.

عنايتهم بالعربية

توسلوا إلى العربية بتعليم لسانها ثم خدموا مؤلفاتها بالطبع واقتبسوا من حكمتها بالترجمة. ألف الأستاذ (هردر) كتاباً في قواعد العربية فكان الكتاب المتداول عندهم في التدريس وقد توالى عليه الطلب هذه المدة بإعادة طبعه. وألف كتاباً يفسر فيه المفردات الألمانية بما يرادفها من العربية وأنجز طبعه في مجلد ضخم ثم وضع كتاباً آخر اقتصر فيه على الكلمات المألوفة في الاستعمال.

ترجم المستشرق الأستاذ (منفوخ) كتاب علاج العيون لعمار الموصلي وفصل علاج العيون من كتاب علي بن عيسى في صناعة الطب وفصل علاج العيون لابن سينا وكتاب وقائع العرب لأبي عبيدة بن المثني الكبير والصغير ونقل إلى الألمانية أيضاً ترجمة حمزة الأصفهاني وترجمة ابن سعد مؤلف كتاب الطبقات. وترجم المستشرق (ريثر) قصائد أبي الأسود الدؤلي ومقامات الهمذاني وأطباق الذهب لعبد المؤمن الأصفهاني ومقامات الزمخشري والأدب الصغير لابن المقفع وكتاب أحسن ما سمعت للثعالبي طبعها ثم ترجم كتباً لم تبرز في عالم الطباعة مثل الأدب الكبير لابن المقفع ومقدار الربع من معجم البلدان للبلاذري. وربما طبع الكتاب والرسالة بلسانها العربي وعلق عليها بعض بيانات بلسانه الألماني مثل شرح ابن الأنباري لمعلقة زهير وشرحه لمعلقة عنترة ورسالة المذكر والمؤنث لابن جني ورسالة في بقايا الأشياء لأبي هلال العسكري وكان هذا الأديب يحاورني في كثير من معاني الأبيات أو الحكم المنشورة وربما تعاطى الترجمة في أثناء قيامه بالوظيفة العسكرية وبمثل هذه التراجم القديمة والحديثة كان للسان العربي كما قال أحد أساتذتهم آثر في رقي آداب اللغة الألمانية. ويشهد بصحة ما قاله ذلك الأستاذ أن أشهر شعرائهم (كيتي) المتوفى سنة 1832 نظم قصيدة إبراهيم عليه السلام في أسلوب فلسفي وصرح أنه اقتبسها من القرآن الكريم. والمعروف عندهم من هذا الشاعر المستشرق أنه كان يحترم الإسلام ويعترف بحكمته.

عنايتهم باللسان العثماني

ليست عنايتهم بالعربية لهذا العهد بأوسع من وجهتهم المصروفة في اللسان العثماني فقد نبأني أحد المعلمين في مدرسة الألسنة الشرقية أن المتلقين للسان العثماني هذه الآونة يناهز عددهم 2. . بعد أن كانوا في السنين الماضية لا يتجاوزون نصف العشر من هذا المقدار ولبعض العثمانيين دروس خاصة يتلقاها عنهم في إدارة الأخبار الشرقية ملأ من الألمان. وصرف رئيس المستشرقين الأستاذ هرتمان همته إلى هذه اللغة ولفت نظره إلى تتبع آدابها بطلب حثيث من عصابة المستشرقين فنهض يحرر المقالة تارة ويلقي المحاضرة تارة أخرى. وانعقدت منذ أشهر لجنة توالي جلساتها في دار الكتب العامة وتنظر في القسم المؤلف بلهجة عثمانية.

أخلاق وآداب

يعرف الألماني بمتانة العزم وقلة الانقياد لخواطر اليأس وكنت طالعت مقالات لبعض أعدائهم الذين لا يثبتون لهم الذكاء ألفائق وسرعة الوصول إلى الدقائق فرأيتهم يسلمون لهم طبيعة احتمال الشدائد والثبات على الأعمال إلى أن يحرزوا فيها نتيجة حتى جعلوا مقدرتهم العلمية أو ما يظهر على أيديهم من المخترعات إنما هو ناشئ عن التجلد والمثابرة على السعي والتجربة.

ورسوخهم في خلق الصبر هو الأساس الذي قام عليه تبريزهم في القوة العسكرية ولطالما طفت غابات وعرضات حول الثكنات فرأيت الجندي نائماً بملابسه الجديدة ووسامه الشرف على فراش من تراب ولا وسادة له غير ذراعه أو قطعة من جلمود. وما برح ملوكهم يحافظون على ما يقوي هذه الخصلة في نفوسهم حتى بالغ فريدريك ويليام الأول في الحط من قدر المعارف زاعماً أنها مدعاة للفشل وإضعاف مزية الشجاعة وكان من أثر زعمه أنه لم يعين لتنمية دار الكتب التي أنشأها أبوه سوى ستة ماركات في السنة. ولما استقلها أهل العلم حينئذ قال لهم: أليس في خزائنها كثير من الكتب المكررة فيمكن أن تباع ويستبدل بها كتب مستحدثة.

استحكمت بينهم روابط الوفاق والمسالمة حتى أني أقمت ستة أشهر في برلين وثلاثة أشهر في قرية في ضواحيها ولم ألحظ مشاجرة أو أسمع صخباً ولو بين صبيين أو امرأتين. فعدم ملاحظة الغريب لمثل هذا في مدة واسعة يشعر بقلة المنازعات العدوانية فيما بينهم. ومن نتائج هذه التربية التي يعاضدها اتساع طرق الاكتساب أن الأمة أصبحت في قرار مكين من الأمن فلا يوجس السائر في سواد الليل بضواحي المدينة خيفة سوء فما الحال بين جدرانها. ولقد كنت أخرج من محل الأسرى عند منتصف الليل منفردا وأعود إلى القرية ماراً على غابة ليس قيها أنيس غير أشجارها المتعانقة وظلامها المتراكم ولا ألاقي في الطريق وحشة أو قلقاً. وازداد إعجاباً بهذه الراحة الشاملة إذا تذكرت صعاليك إيطاليا وأمثالهم كيف ينتشرون داخل مدينة تونس أو الجزائر ويقطعون السبيل على سكانها بنهب الأموال وسفك الدماء حتى لا يمر الرجل في الطرقات المنحرفة عن الجادة بعد العتمة إلا وهو يتوقع خطراً.

يمنحون الغريب في بلادهم صدراً رحباً فيقف الرجل إذا استوضحته أمراً أو استخبرته عن مكان ولا يتسلل عنك إلا أن تستوفي منه بياناً كافياً وربما تفرس منك الحيرة في الطريق فيفاتحك بالسؤال عن الوجهة التي تريدها ويهديك إليها بالقول المفصل أو بالمرافقة إذا لم تكن المسافة بعيدة. اشتبه علي الطريق إلى محطة القطار في بعض الأيام فاستكشفت عنها أحد المارين في السبيل فأخذ يصفها بالإشارة والإمارة ولما لم يقنع بأن عبارته وقعت مني موقع ألفهم البين قفل راجعاً يسايرني بمقدار عشرين دقيقة حتى بلغت المحطة نفسها.

يلاقي التجار والعملة عندهم الوارد بجباه منطلقة وألسنة رطبة ويعرضون عليه ما عندهم من صنوف الأشياء التي يطلبها من غير تقاعس ولا سآمة. ولهذا الأسلوب الأدبي الاقتصادي أثر عظيم في رواج البضائع والسباق في مضمار التجارة. فإن من الناس من يقصر معاملته على محل أو يبتاع منه البضاعة. ولو شطت قيمتها رعاية لما يتجمل به صاحبها من سعة الصدر ورقة الخطاب.

يغلب عليهم خلق الرصانة والتؤدة ولا سيما في المشاهد العامة والنوادي الجامعة. امتطيت ذات يوم قطار المدينة فاتفق أن كان أمامي رجل أظهر في مغازلته لامرأة طيشاً وسفهاً فوقع في خاطري أنه أجنبي عن هذه الحاضرة ثم أنه جاذبني عند انصرافي محادثة عرفني بها أنه من أحد شعوب البلقانية.

ومن آثار التعليم العام أن أصبحت الأمة بمحل الثقة في نظر الحكومة فالقطار الكهربائي ذو درجتين متفاضلتين وتقطع أوراق الركوب بها من طاقات في أوائل محطاتها ولا أذكر يوماً أن مفتشاً دخل عربات الدرجة العليا ونظر في أوراقها بل فوضوا ذلك إلى وجدان الشعب وأمانته. أما القطار البخاري الذي يسافر من العاصمة إلى قرى تبعد بمسيرة ساعتين أو أكثر فيتردد عليه مفتش الأوراق في الشهر مرة.