مجلة المقتبس/العدد 90/في ديار الغرب
→ آلام وآمال | مجلة المقتبس - العدد 90 في ديار الغرب [[مؤلف:|]] |
هي النفس ← |
بتاريخ: 1 - 7 - 1914 |
حيلتنا والحياة الأوروبية
سادتي الأعزاء تقاضاني بعض الأحباب ديناً لم أرى بداً من فضائه على حين اشتداد الأزمة بل الأزمات في بلادنا. أرادوني أن أحاضركم بشيء مما جنيته في هذه الرحلة الثانية إلى بلاد الغرب من ثمرات مدنيته الزاهرة فلم يسعني إلا إجابة الطلب مع الشكر لحسن ظنهم وإن كان البحث في نهوض القوم أو في فرع من فروع ارتقائهم يحتاج إلى درس عميق وبحث دقيق ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله فإذا أتيتكم بأمور تعرفونها أو أكثرها فذاك لأني أحببت المبادرة إلى امتثال الأمر مع علمي بأني لا آتي بجديد على أنه جديد تحت الشمس.
كانت السياحة في سألف الأزمان ضرباً من شاق الأعمال ولكنها أصبحت في هذا العصر على سهولتها حاجة من حاجات المجتمع يحتاج الخاصة إليها أكثر من غيرهم ويدخل في الخاصة أرباب النعمة من التجار والزراع والصناع كما يطلق على العلماء والمفكرين والباحثين والمتعلمين وقد وردت عدة آيات في الكتاب العزيز في الحث على السياحة ولكن الشرق ضعف في العمل بهدي قديمه ولم يهتد إلى وجه الصواب في حديثه.
كان لأجدادنا يطوون الأميال والفراسخ أياماً وشهوراً لينتقلوا من قطر إلى آخر ونحن اليوم نسيح من شرق الأرض إلى غربها في أيام يسيرة ونقطع بضعة ألوف من الكيلومترات في ساعات معدودة ومع هذا ترى السائحين منا إلى الآن أقل من السائحين في العصور الماضية هذا إذا قابلنا بين سرعة المواصلات وتوفر أسباب الراحة في عصرنا وفقدانها في عصور أجدادنا أيام كان يقول ابن زريق البغدادي وقد رحل من بغداد إلى الأندلس:
ما آب من سفر إلا وأزعجه ... رأي إلى سفر بالبين يجمعه
كأنما هو في حل ومرتحل ... موكل بفضاء الله يزرعه
إننا إذا رحلنا اليوم إلى الغرب نجدد حياتنا بعد ذبولها ونقوي حواسنا بعد انثلام حدها وندخل في طور نتعلم فيه ونعتبر ونتعود عادات حسن أكثرها وجدير بنا أن نقتبسها عمن سبقونا مراحل وأشواطاً لأنها نتيجة علم متوارث ونظر بعيد متسلسل فكل ما نراه في بلاد الغرب وهو عمل مقرون خلت وأجيال علمت فعلمت: وأحب آفاق البلاد إلى ألفتى ... أرض ينال بها كريم المطلب
تكثر الخواطر على السائح منا في ربوع أمم الحضارة الحديثة فلا يلبث أن يذكر بلاده ويقابل بين حالها وما يشاهده هناك من السير نحو الكمال بخطى سريعة في حين يرى أمته تسير سير السلاحف:
إن القباع سار سيراً نكراً ... يسير يوماً ويقيم شهراً
نعم يسير الغرب بسرعة البخار والكهرباء ونحن ما زلنا نسير بسير الجمال والبغال والحمير وشتان بين نظام السيرين.
سر أينما شئت في بلاد المدنية تجدها نسقاً واحداً في الاستمتاع بنعم الجمال والكمال وقد تشاهد لبعضها على بعض امتيازاً في أمور تتفرد بها ولا فرق في أصل المادة بين الشرق والغرب: سهول وأودية وجبال وأنهار وبحيرات وبحار ولكن ألفرق في تربية العقول ونمط الحياة فالسر إذا في السكان لا في المكان.
سحت هذه المرة في إيطاليا وسويسرا وفرنسا والنمسا والمجر فرأيتها إلا قليلاً متشابهة في راحتها ونعيمها وعمرانها وعلمها وآدابها وصناعاتها. الناس كلهم يتفننون فيما يعملون ويسيرون اليوم بعد اليوم نحو الكمال فيا رب ما هذه الروح التي تجرد منها جسم الشرق وسرت في عظام الغرب وأعصابه وشرايينه فأتى أهله بالعظائم ونجن بقينا خامدين مبهوتين منحلين متضائلين:
لا تغبط المجدب في علمه ... وإن رأيت الخصب في حاله
إن الذي ضيع من نفسه ... فوق الذي ثمر من ماله
مدنية الغرب غريبة في كل مظهر من مظاهرها لأن أهلها أحسنوا الانتفاع من كل قوة في الوجود ونحن أضعنا بجهلنا القوى القريبة الانتفاع هذا شأنهم في كل شيءٍ فكأن الغرب حاف لا يحألف الشرق والشرق آلا أن يخالف الغرب على كثرة حاجته إليه واضطراره إلى الأخذ عنه.
رأيت أولاداً وبنات دون العاشرة يسيحون في الغرب من قطر إلى آخر وحدهم بدون أدنى رهبة وارتباك ولم أشهد كثيراً من رجالنا يستطيعون السياحة في أوروبا وأميركا على ما يجب وبهذا تعرف درجتهم ودرجتنا وتسجل بأن صبيانهم أقوى من رجالنا وفتياتهم أعقل من نسائنا فإذا كانت النسبة مفقودة بين ابن العاشرة وابن الخمسين فهلا تكون المسافة بين حالنا وحالهم أطول وأجزل.
إننا في درس المدنية الغربة نأخذ ما تهيأ لنا وتمثل لأنظارنا بادئ الرأي ولو أردنا استقصاء البحث لاقتضى علينا أن نصرف السنة والسنتين لندرس حال مدينة واحدة من مدنهم فما بالك بالمملكة أو الممالك. ينفد العمر ولا تنفد مادة الكلام عن رقي الغرب وكلما تأملنا معاهدة وحللنا مادة قواه نبكي لضعفنا وقوتهم وجهلنا وعلمهم ونكاد ندخل في اليأس المميت من تحسين حالنا لولا أن اليأس محرم وأن التاريخ يحدثنا أن أمماً كانت أحط منا منزلة فارقت لما صحت عزائم بنيها على إنهاضها والأمم لا تموت إلا إذا أسلمها بنوها العارفون للموت.
مواد هذه المدنية التي تأخذ بالعقل والقلب كثيرة ومن أهمها تقدم الغربيين في بيوتهم عنا ورقي الأسرة هنالك وانحطاطها هنا والمملكة التي تتألف من بيوت راقية هي التي تحرز شوطاً أبعد من غيرها وما الممالك الراقية إلا مجموعة بيوت راقية والكليات تتألف من الجزئيات ومن تماسكت أجزاء مادته كانت أسبابه أقرب إلى القوة الطبيعية.
كل من يدخل مدينة من مدن الغرب ويختلط بسكانها بعض الاختلاط فلا يبقى مقتصراً في معلوماته على حياة الشارع والمطعم والفندق والمسرح والقهوة والأماكن العمة يجل في مذكرته أمثلة لا يكاد يحصيها في رقي الأسرة الأوروبية تجسمت في جميع حالاتهم أي تجسيم وحامل المسك لا يخلو من العبق.
تحمل مدنية الغرب في مطاويها حسنات وسيئات ولكن حسناتها تربو على سيئاتها فترى فيها ألفضيلة التي بزت ألفضائل والرذيلة التي تربو على مجموع الرذائل ولكن المليح يغطي وجه القبيح فكأن شعار المدنية الحديثة الارتقاء في كل شيء والجمع بين المتناقضات أما الشرق فهو وسط أو دون الوسط والوسط والدون لا يكادان يعملان عملاً محموداً في هذا الوجود.
أذكر لكم أمثلة ثلاثة من عشرات الأمثلة وقعت العين عليها في باب ارتقاء الأسرة الغربية تمثل أدوار الأعمار وأدوار البيوت. المثال الأول أسرة فرنسية مؤلفة من والد ووالدة وطفلتين وطفلين من سكان الولايات من أهل مقاطعة الجورا على الحدود السويسرية جاءت لوزان لتطب أحد أولادها ونزلت في المنزل الذي أقمت فيه فلاحظت أمرها مدو أربعة أسابيع أنظر عناية الأبوين بتربية أولادهما فكان الوالد يوقظ الأولاد في الساعة السادسة والنصف ويأخذ في إلباسهم ثيابهم مع زوجته وهذه تسرح شعور الابنتين وتمشطهما فإذا تناولوا طعام الصباح يرافق الثلاثة من أولاده إلى المدرسة لأنه وضعهم في المكتب مع أن مدة مقامه في تلك المدينة لا تتجاوز شهرين ثم يعود إلى الدار ويحمل ابنه الطبيب ويعود به بعد ساعتين فيجيء الأولاد في وقت الظهر وبعد تناولهم الطعام يعود فيشيعهم ثانية إلى المدرسة وربما عاد إليهم في المساء ليصحبهم أو اكتفى بانتظارهم للخروج بهم مع والدتهم إلى النزهة. عناية فائقة من هذين الوالدين اللذين لا يعرفان غير تعهد صحة أولادهما وتعليمهم وتربيتهم وتخريجهم على الآداب والفضيلة والتدين.
هذه الأسرة من أسر الأرياف أو ألفلاحين من أهل الطبقة المتوسطة التي تكون على شيء من اليسار ولطالما هنأت الوالدين على عنايتهما بأولادهما وقلت لهما أن الأسرة ألفرنسية لو كانت كلها مؤلفة على هذا النحو وتربى بمثل هذه العناية وتتعهد بما يشبه هذا الحنان ألفتان لاستحت فرنسا أن تشكو من قلة نفوسها وانحلال التربية في بعض عواصمها ولهذه الأسرة مئات الألوف من الأمثلة ومثل ذلك يقال في جميع ديار الغرب.
والمثال الثاني الذي رأيته يمثل درجة أخرى من درجات الأسرة رأيته في إيطاليا في قصر من أعظم قصور الكبراء الذين جمعوا بين الطريف والتليد وأعني به منزل صديقي الأمير ليوني كايتاني الذي صرفت أياماً في الاشتغال في مكتبته أبحث عن تاريخ بلادي وأجدادي فإن هذا الرجل الشريف في أمته الغني بعلمه وماله لم يرزق سوى ولد واحد هو دون العاشرة ولما جاء وقت تعليمه أرسله إلى سويسرا يتعلم فيها ولم تأخذه الشفقة عليه وآثر أن لا يراه وأن يربى تربية راقية صحية على أن يكون في داره القوراء بين والديه وأهله وقبيله.
والمثال الثالث أتيكم به من بودابست عاصمة المجر فإن العلامة غولد صهير شيخ المشرقيات في هذا العصر لم يرزق سوى ولد واحد علمه فلما زوجه أخرجه من بيته على عادة الإفرنج بإخراج أولادهم من دورهم متى شبوا وتأهلوا ليؤلفوا أسرة برأسهم ويعيشوا مستقلين عن أبويهم فلا يقع نفور بين الكنة وحماتها ولا بين الولد ووالده والراحة في الاستقلال في كل شيءٍ.
هذه أمثلة ثلاثة من أطوار الأسرة الأوروبية تمثل أطوار تلك الأمم أما تحليل أجزاء تلك التربية ومادة تلك النفوس الكبيرة فيحتاج لمعمل كيماوي كبير يحشر إليه علماء التربية من أجدادنا والمحدثين من أهل الغرب ليقولوا لنا خلاصة تحلياهم لمادة الحياة الأوروبية النامية والعبرة بالكيفية لا بالكمية.
دعاني الأستاذ غولد صهير لتنأول طعام العشاء في بيته وقال لي أنه سيكون معنا ابنه الأستاذ غولد صهير المهندس وكنته ولما قدمني إليهما قال لي: إن كنتي وهي تعرف خمس لغات فقط تكتب بها وتتكلم بسهولة عارفة بالآثار المصرية فقلت لها: بارك الله فيك أيتها العقيلة المحترمة. مجرية في مقتبل الشباب تدرس آثار مصر ومصر باريزنا وأهلها أرقى شعب إسلامي ليس فيهم لدرس آثار بلادهم سوى رجل واحد هو العلامة أحمد كمال بك وكيل المتحف المصري هذا الرجل ألفرد في وادي النيل يتوفر على البحث في عاديات مصره على الأصول الغربية وهو منذ زهاء عشرين سنة يلوب على من يعلمه ما يعلم ليخلفه على الأقل في منصبه لأنه بلغ سن الشيخوخة ولم يجد في ثلاثة عشر مليون مصري من يقبل على تعلم ما أفنى حياته في تحصيله وألف فيه ونوع الأساليب في نشره في الكتب والمحاضرات والمقالات. أنا أعلم أيتها العقيلة النبيلة أن في أوروبا نحو عشرة من علماء الآثار المصرية ولكن ما كان يخطر ببالي أن أرى في بلاد المجر فتاة تشارك الرجال في علمهم وتساهم معهم في فن يحتاج إلى نظر دقيق ومادة منوعة في العلم فإن كان نساؤهم على هذا المثال فلا عجب إذا كان من رجالهم العجب العجاب.
إلى اليوم لم نفكر في هذا الشرق الأقرب في تعليم فتياتنا كما تتعلم فتيات الغرب والنساء نصف البشر ولا يقوم النصف الأول إلا بنهوض النصف الثاني فإن كانت كنة غولد صهير أستاذ تفسير القرآن والأصول والحديث والملل والنحل في جامعة بودابست عالمة بالآثار المصرية فكم عالمة بل عالم عندكم معاشر العرب بآثار البتراء وبعلبك وجرش وتدمر وبابل وآشور وحمير والحيرة؟
أنا مع الأسف على كثرة بحثي في تراجم الناس وأيامهم لا أقدر أن أتيكم بواحد يكون على النمط الأوروبي في بحثه ودرسه كما لا أجد في أمتي المهندس الذي أريده ولا الكيماوي ولا الطبيعي ولا المصور ولا النقاش دع من يماثلهم من النساء اللاتي شاركن الرجل في معظم حياته المادية والمعنوية في الغرب وعما قريب يشاركنه في الحياة السياسية.
كل ما تعلمناه إلى يوم الناس هذا وقلدنا فيه الأمم الراقية لم يخرجنا من الظلمات إلى النور فلم نبرح عيالاً على الغرب في معظم شؤوننا ومرافقنا وقيام أمرنا فما دمنا نريد التحرير السياسي وليس لنا من أسباب التحرير العلمي قليل ولا كثير هيهات أن تقوم لنا قائمة.
كيف تعمر بلادنا وتستبحر الحضارة فيها ونقلد الغربي في حياته السعيدة وليس عندنا مصور ولا مهندس ولا نقاش ولا معمار ولا موسيقار ولا كيماوي ولا غيرهم وزيادة على ذلك جهل النساء وهو من أعظم الويلات.
لم نعمل حتى الآن إحصاء بعدد الأميين في بلادنا ولكن المفهوم أن عدد الأميين هو 95 بالمئة في بلاد العرب في حين أصبح عدد المتعلمين في أكثر مدن الغرب مئة في المئة تساوى في الأخذ من العلم بالحظ اللازم النساء والرجال والمتعلم منهم التعليم الابتدائي أرقى من المتعلم منا التعليم الراقي وكل شيءٍ نسبي.
قالت لي فتاة بولونيا في الثامنة عشرة من عمرها تدرس علم التربية والتعليم في جامعة جنيف على أحد مشاهير هذا العلم وهي عارفة ببضع لغات أوروبية وقد سألتها عما تقصده من تعلم هذا العلم: أريد أن أؤسس مدرسة في بلادي لأن الواجب على المرء أن يكون شيئاً في هذا الوجود. فقلت لها: جزاك الله عن هذا السعي لأمتك خيراً ولكن نسائنا في الشرق لا يردن ولا يريد أوليائهن مثل ما تريدين اكتفين بأن يكن لا شيء في هذا العالم ولذلك لا تجد بين ألوف من الطالبات البولونيات والروسيات والمجريات والألمانيات والإيطاليات والرومانيات والبلغاريات والصربيات واليونانيات والإسبانيات والبرتغاليات والبرازيليات والأرجنتينيات طالبة عربية اللهم إلا واحدة مصرية فيما أعلم تساهم بنات جنسها وتزاحمهن على دكات الجامعات في سويسرا وفرنسا وإنكلترا وألمانيا فتأملوا حال أمتكم وانظروا إلى أي درجة بلغ بين أظهركم انحطاط عقول بنات حواء.
كلما نظرت ملياً في سعادة الحياة في الغرب وشقائها في هذا الشرق ينجلي لي سر تعليم المرأة كما يعلم الرجل وإنها هي التي أوجدت تلك الحياة البيتية السعيدة فبالحب والجمال والعواطف والرغبة في الكماليات تمت للبيت الغربي سعادته ومن سعد في بيته أو توقع السعادة فيه كان حرياً بأن يعمل الأعمال العظيمة خارجه إذ يجد له في منزله سلوى وعزاءً وراحةً وهناءً.
رأيت كثيراً من شباننا يشكون انحطاط تربية المرأة العربية وقلة ما عندنا من ألفتيات المتعلمات اللاتي يلقن للزواج الذي تكون منه سعادة الأسرة الحديثة قوامها الآداب العصرية والفضيلة والمعارف ولكنني لم أر شاباً من هؤلاء المتعلمين ولا ممن سبقوهم من العلماء من عني بتعليم أخته أو ابنته التعليم الراقي ولا من فكر في تأسيس مدرسة ابتدائية من الطراز الحديث لتلقين البنات مبادئ تنفعهن حقيقة في تأليف البيوت التي يرفرف عليها طير السعد والرغد. النظريات عندنا كثيرة ولكن العمليات لم نسلك طريقها ويا للأسف حتى الآن. أوروبا ممدنة العالم وجنات النعيم المقيم وقرارة الراحة ومستقر الهناء أيقضى يا ترى على مدنيتك البديعة وتنحل بما حوت ديارك من جمال الوجوه وجمال ألفعال ووفرة العلم والغنى وآثار الغبطة ومعاهد الصفاء والنعمة ليقوم الشرق فيستلم زمام هذه المدنية ويكمل ما بدأت به أو يمزقه تمزيق الأخرق الأحمق كثروة ورثها ولم يعرف قيمتها أم تسلم لك هذه الحياة السعيدة وتقل مؤلماتها وموبقاتها ويعم الشرق أثرها فيشاركك في كل معنى من معانيك البديعة ويكون حظه كحظ البلاد الراقية من ربوعك ويتحرر من أسره السياسي وأسره الاقتصادي وأسره العلمي ويتخلص من التبعية لك في كل ما يدل على ضعفه وتراجع أمره.
تيار الغرب ينهال علينا فيأتينا تارة بحماة وطوراً بقليل ماء فهل نرزق التوفيق يا ترى فنكرع من معينه ونطرح كدوراته أم نتناوله على علاته ولا نكاد نسيغه.
إن ما لدينا اليوم من أسباب القوة لا يقوم في وجه ذلك التيار لأنها ضئيلة لا كفاء لها بالمقاومة ولعمري إن ألف أمي وأمية لا يوازي عقلهم عقل متعلم أو متعلمة واحدة.
كانت حكوماتنا ومجتمعاتنا حتى الآن تعد الجهل قوة والانحطاط نهوضاً. وكلما كانت الأفكار منصرفة إلى وجهة واحدة يعينها صاحب الشأن كانت تلك المجتمعات تغتبط وتفرح ولطالما قال بعض من أحسنت الأمة ظنها بهم قروناً واستولوا على عقلها وقلبها وتصرفوا بعجرها وبجرها إذا قيل لهم أن العلم الفلاني مفيد ينبغي أن يكون في الأمة أفراد يعرفونه: أن هذا العلم لا تنفع معرفته ولا يضر جهله.
بيد أن الأيام أثبتت أننا في أشد الحاجة لكل علم وفن ومجتمعنا العربي العثماني لا يقوم حق القيام إلا متى عمد أفرادنا إلى الأخذ من كل مطلب من مطالب الحياة كما هي سنة من سبقونا ومن الأسف أننا لم نبرح في مجتمعنا نشاهد ناشئتنا الكريمة على الأغلب تميل إلى المذاهب الاتكالية وأكثرها يؤثر التوظف في فروع الإدارة والجندية ولو كانت هذه غير رابحة في الجملة.
إن جعل وظائف الحكومة هدفاً لنا في تعلمنا هو الذي أفقر هذه المملكة وجعلها في مؤخرة الممالك في عمرانها وثروتها وراحتها. والمال أساس الأعمال ولا يأتي به إلا المتعلمون من الرجال.
فهل لكم يا رجال الأمة أن تحققوا هذا الظن بكم فقد سئمنا ونحن نسمع من إقبال المتعلمين من أمثالكم على الوظائف والزهد في الصناعات الحرة وإني لا أخجل إذا قلت أن صانع الخزف والفخار والقرميد أنفع لهذه الأمة من وزير متوسط القريحة ضعيف مادة العلم لا يحسن عمله وقد وصل إلى منصبه بالمصانعة والشفاعات وإن دباغ الجلود أو صباغ الحرير والقطن أشرف من فقيه تعلم بعض فروع المعاملات ليتولى بعض الأعمال القضائية والشرعية.
وبعد فرجائي إليكم يا شبان هذه الأمة وبغيركم لا يتجدد شبابها أن تجعلوا نصب أعينكم الأعمال الاستقلالية ويكفي بعضكم أن يتولى الأعمال الإدارية وغيرها في المملكة فإن الكل لا تتسع خزينة هذه الأمة لإعاشته خصوصاً وأنتم تعلمون ضائقة الموظفين وأن جيوبهم في الغالب فارغة تتقاذفها الرياح لأنها خالية وهم على الدوام مثل تجار البورصة إقبال وأدبار والأدبار في الأكثر هو الغالب.
من لي بأن يعمل كل واحد من شبان هذه الأمة الواجب عليه أولاً ويتوفر على دراسة ألفرع الذي يمت به فإن ست الدراسة معينة محدودة لا ينبغي أن يعمل فيها ما يجب عمله في غيرها ومتى أتم الطالب ذاك الدور فلا جناح عليه إذا اشتغل بالعموميات فمشركة الطالب في المسائل العلمية يجب أن تكون في سن الدراسة إلى حد محدود وبعد ذلك فهو في حل من الاشتغال بما أراد.
أنا أحب أن أشهد من أبناء أمتي وقرة عينها رجالاً يفكرون في ترقية نفوسهم وذويهم وبيوتهم والأخذ بأيدي إخوانهم أكثر مما أحب أن أراهم يفكرون في المسائل الاجتماعية الكبرى التي يضيع بها الوقت على غير طائل بالنسبة إليهم وإن كان الواجب على كل وطني أن يصرف من وقته وفكره شطراً ولو قليلاً للنظر في المسائل العمومية.
تلامذة الكليات في ألمانيا هم الذين هيئوا الوحدة الألمانية ووضعوا أساسها في القرن الماضي ولكن كان العم رائدهم وكان عملهم يقف عند حد محدود فهل يأتي يوم على هذه الأمة البائسة يا ترى تشهد فيه طلاب مدارسها العليا بعد أن يتموا وظائفهم المدرسية يفكرون في الخير العام لأمتهم خصوصاً متى أتموا سني الدراسة وأصبحوا أحراراً في أعمالهم وإرادتهم.
نعم أيها الإخوان إن الشفيق بسوء ظن مولع وإن ما يتمثل للأنظار من مدنية أوروبا مهما كان ظاهره فيه الرحمة فرحمته لأهله لا لنا ونحن لا رحمة لنا إلا إذا أتتنا على أيدي رجال لنا أمثالكم وهؤلاء لا يأتون بعمل تام إلا إذا شاركهم النساء وحسن نظام البيوت وتنظيمها على الأساليب الغربية نعم نحن لا حياة لنا إلا إذا تعلم الرجال وربات الحجال التعليم اللازم وقام كل واحد بواجبه ووحدنا المقاصد في التربية والتعليم.
إن القليل المتعلم منا لا يؤلف أقل أمة صغيرة وهذه الزهرات التي أراها مهما بلغ من نضارتها تضيع بين ما هناك من عوسج وبلان فلا سبيل إلى وقايتها إلا بتنقية هذا الشوك ما أمكن ولا ينقى بغير معول العلم والتربية ومعرفة الواجب والعمل بسنة الغرب التي سلكها في الترقي على تعديل طفيف يدخل فيها بطبيعة الإقليم والعادة.
إن ناديكم هذا مثال من أمثلة التضامن ولكن أمتنا لا تعد مرتقية إلا متى كان في كل مدينة بل في كل قصبة من مدنها وقصباتها أندية تنسج على منواله في التعارف والتعاطف وتوقد في الصدور جذوة الغيرة الوطنية وتحمس النفوس إلى طلب العلم ويأخذ القوي بيد الضعيف حتى يساويه في المنزلة ويتدبر الكل في مستقبل مجيد للأمة يخرج بها إلى حالة أحسن من حالتها الآن ويتعلم ابن ألفلاح الصغير كما يتعلم ابن الغني الكبير وإذا لم تقم جميع أعضاء هذا الجسم لا ينمو ولا يتم له بقاء.
واجباتكم أيها الأعزة كثيرة جداً والأولى البدء بالجزئيات ولكن على شرط أن نبدأ ونجعل تاريخ الأمم التي نهضت قدوتنا ومهمازنا على العمل يجب أن تكون مدنية الغرب إذا أردنا أن نحيا حياته مصدرنا وموردنا وبدون ذلك ألفناء المطلق والعياذ بالله أو الاندماج في جسم الأمم الغربية التي تبسط أيديها علينا اليوم بعد اليوم.
إننا لا نحيا غلا بقوميتنا على نحو ما كان أجدادنا أمس وحال أمم الحضارة الحديثة اليوم ولكن هذا اللفظ الجميل - لفظ القومية - لا يطابق معناه مبناه إلا باتخاذ جميع أسبابه على نحو ما يعمل المجر والبولونيون والإيطاليون وما يجري من منافسة محمودة بين الفالونيين والفلامنديين في البلجيك والألمانيين والفرنسيين في سويسرا.
ومن دواعي الحسرة أن من رحلوا من أبناء العرب إلى ديار الغرب يدرسون في معاهد العلم ليستحقوا الاسم العربي الشريف بالفعل لا بالقول أقل عدداً من أكثر عناصر هذه الدولة. نعم هم أقل من الأتراك والروم والأرمن هذا مع أننا أكثر من نصف سكان هذه المملكة المحبوبة وبلادنا أغنى من بلاد تلك العناصر التي أخذت ما استطاعت من الحكومة لتعليم أبنائها وقامت بسد العجز من أموالها الخاصة.
بلغني أن في نية الحكومة السنية إرسال ستين طالباً من أبناء العرب إلى مدارس أوروبا العليا فإن صح النبأ عد من أعظم الإصلاحات. وإن كان هذا العدد دون الواجب أيضاً وذلك بأنه إذا خمنا عدد طلابنا الآن بستين طالباً بلغ من قابل مجموع طلبتنا في الغرب مائة وعشرين وهم لا يبلغون نحو سبع طلبة الإيرانيين في مدارس أوروبا مع أن العرب العثمانيين أكثر سواداً من الإيرانيين بالتحقيق.
هذه عددنا وهذا ما عددناه هذه أداؤنا وتلك أدويتنا وبأيديكم وأيدي أمثالكم خلاصنا فلا تخيبوا آمالنا فيكم معاشر الشبيبة المستنيرة. العبء ثقيل عليكم وبتضامنكم وتماسككم يهون كل عسير على شرط اطراد العمل وإتقانه ومضاعفة الأفعال أكثر من الأقوال وصرف المسعى إلى المنتج النافع والزهد في التافه العبث والله يتولاكم ويسدد مراميكم ويقر عيون أوطانكم بنجاحكم ويجعل منكم أعضاء عاملة في جسم مجتمعنا وأصواتاً داعية إلى كل نافع ورافع إنه سميع الدعاء.
أرض اليونان
اغتنمت فرصة إرساء الباخرة الرومانية التي ركبتها من الأستانة إلى الإسكندرية في ميناء بيرا لازور أثينا مدينة أرسطو وسقراط والمسافة بين بيرا وأثينا تسعة كيلومترات تقطعها السكة الحديدية الكهربائية في خمس عشرة دقيقة. رأيت أثينا مدينة وسطى لا تزيد نفوسها عن مائتي ألف وهي في منبسط من الأرض وعلى مقربة منها أكمة قام عليها الأكروبول والمدينة نظيفة في الجملة مبلطة أرصفتها بحجر أبيض يشبه الرخام وفيها حدائق نظيفة وأبنيتها الحديثة من الرخام أيضاً وأهم ما لفت نظري فيها معاهدها التي قامت بعطايا المحسنين من أبنائها مثل الإستاد أو الملعب العجيب الذي أنشئ بمال أفيروف ونصب تمثاله أمامه وأفيروف هو الذي خلف الملايين من ألفرنكات أعطاها لأمته ومنها أنشأت قسماً من الدارعة اليونانية المنسوبة لاسمه.
نعم في أثينا تتجلى عطايا اليونان المحدثين فترى مدرسة البنات عالية داخلية وخارجية أنشأها أرساكي من ماله وترى مكتبة الأمة أسسها فالينوس وترى لافيروف حبوس النساء والأودولسينا المجمع العلمي. لسيكنروس حبوس الرجال وقد أنشأ على نفقته من أثينا إلى فالير طريقاً معبدة وطولها 9 كيلومترات. وأنشأ فارفاكيس مدرسة عالية للأولاد وجاباس قصر المعرض وهو مؤسس مدرسة البنات العليا للروم في الأستانة.
وهكذا تجد فلاناً من أغنياء اليونان انشأ مدرسة صناعية وآخر مدرسة زراعية وغيره مدارس ابتدائية وليلية للفتيان والفتيات فتجد اليوناني مع أنه أكثر الأمم هجرة لبلاده - لأن نصف اليونان هاجروا إلى مصر والسودان ولأميركا وشواطئ البحر المتوسط وغير ذلك من البلاد - أكثرهم تعلقاً بحبها وتفكراً في إنهاضها يغتني أحدهم من مصر أو من أميركا ويجود بالألوف لبلاده لينهض بها وهذه خاصة من خصائص اليونان وأن كان المشهور عنهم كزازة الأيدي.
نهضت اليونان في المدة الأخيرة نهضة عظمى بفضل نشر التعليم على اختلاف صنوفه بين أبنائها وهو الدواء الشافي لكل مرض اجتماعي. التعليم في اليونان مجاني إجباري وفيها اليوم 1414 مدرسة ابتدائية للذكور منها 1197 من الدرجة الأولى و134 من الصنف الثاني و29 من الصنف الثالث و54 من الصنف الرابع وعندهم 4. . مدرسة للبنات منها 3. . من الدرجة الأولى وفي القرى 884 مدرسة تقبل الذكور والإناث على السواء وعندهم مدرسة عليا لتخريج المعلمات وقد أنشأت جمعية أثينا الأدبية عدة مدارس مسائية يتعلم فيها المئات من ألفتيان المضطرين أن يعملوا في نهارهم وليس لهم من الوقت غير الليل.
في اليونان 1878 أستاذا و61. معلمات و768 معلماً في مدارس الأولاد في الحقول ولهم مدرسة صناعية عليا تنقسم إلى قسمين قسم يعلم ألفنون والعلوم ويخرج المهندسين والميكانيكيين ومنهم من يعد من الدرجة الأولى والقسم الآخر يعلم الصناعات النفيسة أي النقش والرسم والتصوير والحفر والصناعات النقشية. وعندهم مدرسة تجارية ومدرسة جامعة عليا فيها أساتذة اشتهروا بأعمالهم العلمية حتى في أوروبا.
هذا مع أن لليونان في الممالك العثمانية مدارس كثيرة راقية فإن لهم في الأستانة وحدها 78 مدرسة فيها 597 معلماً يدرسون 16373 طالباً دع ما لهم في البلاد التي ضمت إلى بلادهم حديثاً وكل المدارس التي هي خارج علمهم لا تنال شيئاً من الرواتب من الحكومة بل إن اليونان هناك يقومون بنفقاتها.
ربما لم تصب بلاد بمصائب الهجرة أكثر من اليونان فإن الداخل منهم إلى نيويورك وحدها كل سنة يقدر بأربعين ألفاً فما بالك في الأقطار الأخرى فإذا كلن عدد اليونان قبل الجزر وسلانيك ويانيا التي انضمت إليهم نحو ثلاثة ملايين فأن المقدر أن مثل هذا العدد منهم موزع في أقطار العالم وهم يحافظون على لغتهم وعاداتهم حيثما كانوا بحيث كادوا يجعلون لغتهم في الإسكندرية ومصر والأستانة لغة رسمية لكثرة انتشارها وحرصهم على التناغي بها.
ومع كثرة المدارس في اليونان نرى طلبتهم في جامعات الغرب كثاراً جداً ولا سيما في باريس ولندن. واليونان إن لم يكونوا أكثر الأمم إقبالاً على تلاوة الصحف والتشوق إلى الأخبار السياسية فهم في جملة الأمم المتقدمة في هذا الشأن فلا تكاد لا تجد واحداً لا يتلو جريدة أو كتاباً أو مجلة في كل مكان والفقير منهم يستعير جريدة جليسه ولذلك لا ترج جرائدهم كثيراً فإن لهم في أثينا (11) جريدة يومية وإذا كان العدد الواحد ينتقل من يد إلى أخرى كما تنتقل جرائدنا في الشام ومصر في أيدي قرائها الذين لا يحبون أن يشتركوا ولا أن يبتاعوها اقتصاداً بارداً منهم صعب على جرائدهم أن ترقى.
ولليونان جرائد كثيرة في الأستانة والقاهرة والإسكندرية وجرائد أسبوعية في بعض عواصم أوروبا ومنها ما يصدر بغير اللغة اليونانية ليبثوا فيها أفكارهم ويؤثروا في الأسواق المالية والمجالس السياسية.
هكذا ما أمكن الإلماح إليه من حالة رقي المعارف في اليونان وأرضهم القديمة قبل الحرب لم تتجاوز 64 ألف كيلومتر مربع وهي غير مخصبة في الجملة بل أكثرها جزر متقطعة في عرض البحر حتى أن سواحلها تبلغ بمساحتها سبع مرات مساحة سواحل إنكلترا وتربو 12 مرة على سواحل فرنسا ولذلك كان اليونان في كل زمن يحصرون قواهم في بحريتهم ويصرفون فيها أموالهم وقسماً عظيماً من ميزانيتهم وقد كان لبواخرهم التجارية يد طولى في استقلالهم سنة 1824 لا ينكرها التاريخ.
واختلف العلماء في أصل اليونان الحاليين هل هم من نسل القدماء الذين ملئوا الأرض فتوحاً وفلسفة وصناعات نفيسة والأرجح عند الباحثين في أصول الشعوب أنهم أخلاط من الناس جاءوا منذ قرون إلى هذه الأرض واستعمروها بعد أن فرغت من سكانها الأصليين أما هم فيصعب عليم سماع هذا الحجاج ويحاولون بالطبع أن ينتسبوا لأفلاطون وأرسطو وسقراط وديوجنس وهوميروس وغيرهم من فلاسفة اليونان الذين بيضوا وجه التاريخ بعلمهم وحكمتهم.
أثينا تشبه المدن الأوروبية ممزوجة بشيء من الحياة الشرقية ولكن ألفقر ظاهر على السكان والغلاء فيه أكثر من جميع أوروبا قال صاحب كتاب اليونان الحديثة أن أسعار العيش في اليونان يزيد 5. في المئة عما هو عليه في إنكلترا ونحو 25 في المئة عما هو في الولايات المتحدة.
المدنية الرومية الحديثة منقول أكثرها عن فرنسا وفرنسا ساعدت اليونان كثيراً ولذلك حفظوا لها جميلها وما برحوا حتى اليوم يتخذونها معلمة لهم ومربية حتى أن معلمي جيشهم إلى الآن هم ضباط من ألفرنسيين وفي الحرب الألمانية ألفرنسية بعث اليونان بكتيبتين من متطوعتهم ليقاتلوا في صفوف الجيوش ألفرنسية فقتل بعضهم وبيضوا وجوههم مع من أسدى إليهم جميلاً ومن طبع اليوناني معرفة خدمة الأمزجة المختلفة والميل إلى النافع له ما أمكن بكل وسيلة.
أما ما في أثينا من بقايا العادات القديمة ليس بالشيء الذي يلفت نظر السائح اللهم إلا إذا أحب أن يزورها ليتذكر ماضيها. وأين عظمة رومية من عظمة أثينا ولا نغالي إذا قلنا أن بقايا عادتنا في جرش ووادي موسى وبعلبك وتدمر أفخم وأعظم من بقايا عادات اليونان كلها التي لم تقو على عاديات الأيام.
في العاصمتين
رأيت هذه المرة في العاصمتين عاصمة العثمانيين الأستانة وعاصمة المصريين القاهرة ما طالما شكا منه الاجتماعيون من الاتكال المجسم والغلو في حب التوظف والاستخدام رأيت ابن الأستانة لا يفكر ولا يريد أن يفكر في غير استحصال الرزق من باب الحكومة ورأيت المصري كذاك كلاهما يستميتان في طلب الوظائف وقد زهدا في الأعمال الحرة فلا تكاد ترى في الأستانة متعلماً إلا وهو يرغب أن يبيع استقلاله من غيره ويكون بيده آلة تحرك بدون اختيارها ومن الأسف أن هذا الخلق استحكم حتى لا تشهد سوى أسباب الرزق الضئيلة بيد الأتراك أما التجارب الواسعة والصناعات الرابحة فهي للرومي والأرمني والألماني والفرنسي وغيرهم من الشعوب والأمم وكذلك المصري المتعلم لم يتعلم إلا للخدمة في الدواوين وترك التجارة وغيرها من مذاهب المعاش للرومي والإيطالي وغيرهما.
داءٌ استحكمت حلقاته حتى افتقرنا. يسلب الغريب منا أموالنا ليحملها إلى بلاده ولا يزال آخذاً بالانتشار والعبر في القطرين تتلو العبر داعية القومين إلى إطراح المذاهب الاتكالية وإن أبواب الاستخدام إذا فتحت اليوم قليلاً فغداً تقفل حتى في وجوه الأكفاء من الطالبين وخزائن فروق ومصر تضيق صدراً عن إنفاق ما يلزم من المال على العمال والمستقل في عمله أنفع لنفسه ولقومه من المتعلق بأذيال غيره الذي يعيش عالة على السوي.
كنت في القهوة في زيارة صديق لي من أهل العلم والمكانة في الحكومة المصرية فجاءته فتاة مسلمة ودفعت إليه ورقة بخطها كتبت فيها صورة ما نالها من تنحية ديوان الصحة لها من الخدمة في المستشفى وحرمانها من خمسة جنيهات كانت عينت لها منذ تخرجت من مدرسة القصر العيني وطالبة إليه أن يساعدها لإرجاعها إلى مركزها.
فقال لها صاحبي أن مصلحة الصحة قد أسدت إليك معروفاً يجب عليك أن تشكريها عليه وهو أنه فتحت أمامك باب الاستقلال في عملك ومصر في حاجة إلى طبيبة مسلمة مثلك وليس فيها كثيرات من أمثالك وأنت تكتبين العربية والإنكليزية وتحسنينهما كما لحظت من كتابتك فأنصح لك أن تعمدي إلى نشر إعلانات عن محل تتخذينه وتشتهرين مع الزمن فلا ترضين بعد مدة أن تدفعي هذا القدر من المرتب الذي تعدينه شيئاً للممرض الذي تستخدمينه فإنك ستربحين العشرات من الجنيهات في شهرك وتخدمين بذلك بلادك ونفسك.
فلم يحل هذا الكلام محل القبول من قلب الطبيبة وأخذت تورد الحجج على صحة ما تريده وأنه لا قبل لها إلا بالاستخدام ولا رزق لها إلا فيه وأنها إذا نالت الخمسة جنيهات فقد حيزت لها الدنيا وأخذت بحظ من السعادة لها ولأسرتها لأن هذه أنفقت ما كانت تملكه في تعليمها فلم يعد في وسعها أن تزيد على ذلك.
وهكذا بقي صاحبي وأنا نورد البراهين القاطعة التي تلقن ألفتاة معنى الاستقلال وتبعد بها عن مواطن الاتكال حتى كل اللسان وانتهى الأمر إلى أن يكلم في أمرها أحد أصحاب الشأن ليرجعوها إلى وظيفتها التي أخرجت منها من دون سبب ولا تجد سعادتها إلا فيها.
هذا مثال رأيته بالأمس في مصر وكل يوم يقع مثله عشرات في الأستانة. وإن المرء ليأسف جد الأسف على عقول تضيع من غير فائدة وأعمال وكفاءات تذهب هباءً. أناس يرضون بالدون من العيش وفي استعدادهم أن يبرزوا في كل عمل تصح إرادتهم على اتخاذه وإن يغتنوا ويرتاحوا ويعيشوا مرفهين لا مقتراً عليهم وأحراراً لا مقيدين مستعبدين.
وفي الشرق قوى كثيرة تضيع وبعض ما يمكن الانتفاع به من موجوده لا يحسن استخدامه والمتعلم من أهله يعتقد أن الراحة والغبطة في الاعتماد على خدمة مخدمها وما درى أن تعبه في هذه الراحة وأنه لا راحة بدون تعب ولو كان هذا الخلق غرس في طباع الإنكليز والألمان والأميركان والفرنسيين وغيرهم من أمم المدنية الحديثة كما غرس في طباع سكان هذه الديار ما قامت هذه الحضارة التي تدهشنا وما استقام نظام الأسرة على صورة تبهرنا آثارها.
أليس من الأسف أن نكون حتى في بلادنا غرباء فإذا أراد أحدنا أن يترفه بعض الرفاهية لا يجد نزلاً ولا مطعماً ولا قهوة ولا مسرحاً لوطني بل كلها للإفرنج. والتركي والعربي باهتان شخصان لا يعرفان من أين تؤكل الكتف لأنهما يجهلان أصول الحياة وتحصيل الرزق ويحبان التفخل والفخفخة وضخامة الألقاب. ولطالما رأينا من نعدهم من كبرائنا يطأطئون رؤوسهم ذلةً لتاجر صغير في مظهره في الحقيقة ولكنه كبير في ذاته لأنه جمع مالاً وعدده إرادة أن يقرضه ما يستعين به على تمشية أموره أو يتبلغ به يسيراً ريثما تصرف له مشاهرته وهذه الحال تراها على أشدها في القطر المصري لأن ابن مصر منفاق على الأكثر لا يفكر في أن يوازي غالباً بين دخله وخرجه ولذا انتقلت الأملاك أو جزءٌ كبير منها من أيدي المصريين إلى الغرباء والرومي في المقدمة والحال في الأستانة أدهى وأمر.
وبعد فحيث اشتد العراك بين الأمم وبعبارة أخرى في العواصم الشرقية التي تكون فيها المنافسة على أتمها تجد الوطني يتضاءل ويضعف أمام الغربي بل ينهزم شر هزيمة وتتجلى للناظر صورة مجسمة من صور الاتكال والاستقلال بل صورة من العلم النظري الذي هو القشور وصورة العلم العملي الذي هو اللباب.
اشتدت في فرنسا على عهدها الأخير محبة الوظائف وكثر فيها جيوش الموظفين والمستخدمين فأحس القوم بهذه الآفة التي تهدد كيانهم فأنشأ بعض المستنيرين حقيقة يستنكفون من تولي الوظائف حتى ضاق ذرع الحكومة أو كاد في البحث عن الأكفاء إذا لم يقبل عليها إلا المتوسطون وزهد في خدمتها النوابغ وما أنس لا أنس وزيراً تعارفت إليه في باريس ترك الخدمة وتولى إدارة مصرف صغير وكم في الغرب من رجل عظيم خطبته المناصب فأبى وآثر أن يكون تاجراً أو صرافا أو صاحب معمل أو مدير شركة أو محرر جريدة أو أستاذا في مدرسة على أن يكون وزيراً كبيراً يقدم ويؤخر في مصالح أمته ويحل ويعقد في أقدارها. والأمثلة كثيرة في هذا الباب فهل يتعظ شرقنا المسكين.