مجلة المقتبس/العدد 90/الحرب العامة
→ المقتبس بعد حولين | مجلة المقتبس - العدد 90 الحرب العامة [[مؤلف:|]] |
آلام وآمال ← |
بتاريخ: 1 - 7 - 1914 |
بدأت في صيف سنة 1914 (1332) سلسلة من أشأم سلاسل المصائب البشرية لم يعهد لها نظير في تاريخ الأمم السالفة وربما لا يكون لها مثيل في تاريخ الأمم الخالفة ونعني نشوب حرب عامة سالت بها الدماء أنهاراً وعد فيها القتلى بمئات الألوف بل بالملايين وما كان الناظرون في حركة السياسة الأوروبية يظنون أن الحالة تؤدي إلى إشهار هذه الحرب الضروس وتطيش بالنفوس إلى حد يتقاتل المتماثلون والمتجاورون والأقرباء الأدنون ولكن هي المصلحة السياسية المادية تعلو فوق المصالح وتنسى في جانبها القرابة والنسب واللسان والمذهب.
السبب الرئيسي في هذه الحرب أن إمبراطورية النمسا والمجر كانت على ما جاء في الكتاب الأبيض الألماني تحاذر من الدعوة التي كانت تنتشر لسلخ الأقسام الجنوبية الشرقية من أملاكها وهي السياسة التي عاضدتها الصرب وجاهرت بها متكلة على معاضدة روسيا لها وهذه كانت تسعى بكل قواها إلى تحقيق هذه الآمال بعقد التحالف البلقاني وذلك بأن الصرب المجاورة لمملكة النمسا والمجر كانت تتقوى الحين بعد الآخر خصوصاً بعد الجرب البلقانية وقد زاد سكانها واتسعت رقعة ممالكها وأخذ الصربيون من سكان النمسا والمجر يتحفزون للوثبة وروسيا ممثلة العنصر الصقلبي العظمى تضمر خلاف ما تظهر فرأت النمسا حياتها صائرة إلى خطر خصوصاً بعد أن أثبت التحقيق أن مقتل ولي عهد النمسا والمجر الأرشيدوق فرنز فردينند في مدينة بوسنة سراي بينما كان ينوب عن عمه الإمبراطور فرنسيس يوسف في حضور المناورات كان بيد جمعية سرية صربية فهلك وقرينته على صورة اشمأز منها العقلاء وذلك لأن الصرب كانت تعد هذا الأمير عائقاً عن بلوغ آمالها فلم يسع النمسا وقد رأت هذا العمل ألفظيع الذي هاجت له أعصاب سكانها إلا أن شهرت الحرب على الصرب يوم 28 تموز فتقدمت الجيوش النمساوية في أراضي الصرب وأخذت تذيقهم العذاب ألواناً.
فشق ذلك على روسيا وأمرت بتعبئة جيشها على الحدود الألمانية والنمساوية فلما رأت ألمانيا أن حليفتها النمسا فتحت بينها وبين روسيا الحرب أنذرت روسيا وهددتها فلم يصادف إنذارها وتهديدها تأثيراً في دوائر حكومة القيصر وكان جوابها لألمانية أن على النمسا أن تسلم بالتوسط بينها وبين الصرب وإذا رفضت فلا مناص من إعلان الحرب وقد أبرق قيصر روسيا يوم 29 تموز إلى قيصر ألمانيا يرجوه على أن يساعده على منع حليفته النمسا من التوغل في المسألة الصربية منعاً لنشوب حرب أوروبية طاحنة فبادر الإمبراطور غليوم إلى التوسط وبينما المسألة في أخذ ورد مع الحكومات ذات الشأن وإنكلترا تعضد ألمانيا حباً بعدم نشوب حرب عامة صدر أمر عام بتعبئة الجيش الروسي كله وإعداد الأساطيل فرأت ألمانيا سلامتها مهددة فبادرت هي أيضاً إلى تعبئة جيشها دفاعاً عن حليفتها النمسا ولو أتيح (الكتاب الأبيض الألماني) للصرب أن تنحشر في المستقبل بحكومة النمسا لكانت العاقبة تضعضع أركان هذه السلطنة ويلي ذلك خضوع جميع العناصر الصقلبية (السلافية) لصولجان روسيا وهذا مما يؤدي إلى هدم أركان العنصر الجرماني في وسط أوروبا.
وفي 3 آب شهرت ألمانيا الحرب على روسيا وشهرت فرنسا الحرب على ألمانيا على إثر إشهار ألمانية الحرب على روسيا بالنظر لتحالف روسيا وفرنسا ثم شهرت حكومة الجبل الأسود الحرب على النمسا أيضاً وفي 4 آب أعلنت إنكلترا دخولها الحرب براً وبحراً وعلل ذلك سفيرها في الأستانة أن الأسباب التي حملت دولته على الاشتراك في الحرب الأوروبية هي أن ملك بريطانيا العظمى مرتبط بمعاهدة للدفاع عن الإغارة على مملكة البلجيك الواقعة قبالة الشواطئ الإنكليزية وبين فرنسا وألمانيا. ولما هاجمت ألمانيا البلجيك حاذرت إنكلترا أن تخترق ألمانيا أراضي بلجيكا لتهاجم فرنسا التي لها حدود غير محصنة بينها وبين البلجيك فأعلنت الحرب. قال المستر أسكو بث من ساسة الإنكليز في خطابه الذي ألقاه في مجلس النواب الإنكليزي: إذا سألنا لماذا نحارب فأجيب بعبارتين: أولاً - للقيام بأمور دولية مقدسة لو فرض وعقدت بين شخصين في أمور الحياة الاعتيادية لعدت لا شرعية فقط بل واجبات شرف أيضاً لا يسع أي إنسان يحترم نفسه أن يخل بها. ثانياً - إننا نحارب في وقت تعتبر فيه القوة المادية العامل على المبدأ القائل بأن الأمم الصغيرة لا يجوز أن تسحق بإغارة دولة كبرى تدعي أنها تحافظ على حقوقها وعلى النظام الدولي.
وقال أحد كتاب الإنكليز أن بذور هذه الحرب زرعت ستة 1884 أيام عزمت ألمانيا أن تصير من دول الاستعمار لما رأت من تغلب بلجيكا على بلاد الكنغو وبسط إنكلترا لسيادتها البحرية على بلاد النيجر وعمل فرنسا في غرب أفريقيا ومدغسكر حاسبة أنها إن لم تستول هي على جانب كبير من بلدان الأمم لتتناول منها المواد التي تستعمل في الصناعة وتبيع فيها مصنوعاتها صارت صناعتها مستعبدة ذليلة لأميركا وإنكلترا وفرنسا فاستولت في أفريقيا وجزائر البحر على بلاد مساحتها 1135. . . ميل مربع ثم قصدت أن تصير من الدول البحرية الكبرى وتبسط نفوذها على البحر الشمالي وبحر البلطيق من الشمال والغرب وبحر الأدرياتيك من الجنوب والشرق وبلغت الأدرياتيك باتفاقاتها مع النمسا حتى صار اتصالها بها أشد من اتصالها ببفاريا إحدى ممالكها ثم إذا وصلت النمسا إلى بحر الأرخبيل وامتد سلطانها إلى كوروفو سهل على ألمانيا الوصول إلى بر الأناضول والعراق ثم رأى إمبراطور ألمانيا أن بسط دولته نفوذها في أفريقيا وما يتوقع أن يستولي عليه من الأملاك العثمانية لا يغنيانه عن الاستيلاء على أسوج والدانمارك وهولندا وبلجيكا فتمتد سلطته حينئذ من أسوج شمالاً إلى تريستا فكورفو فسلانيك فالأستانة فبغداد فخليج العجم جنوباً ويبقى الهند إلى أن تحين ألفرص لتدويخها وبدأ الآن في العمل بما ينويه فهاجم بلجيكا وفرنسا واضطر إنكلترا إلى الدفاع عنهما.
وقال كارل هلفريش الألماني في أسباب الحرب العامة أن روسيا أوقدت جذوة الحرب بإعلانها النفير العام الذي أمرت به يوم 31 حزيران 1914 بحيث كان رجال السياسة الروسية يرون ويسمعون بأن عملهم يضطر ألمانيا إلى الدخول في الحرب لا محالة وكل ما نشرته الحكومة الروسية بشأن إعلان النفير العام في بلادها لا أصل له فلا الأسباب العسكرية التي اتخذتها النمسا ولا الأسباب التي تعزى إلى ألمانيا تكفي لتبرير روسيا من إعلانها النفير العام ثم أن روسيا أمرت بالتجنيد العام عقب أن رضيت النمسا بطريقة حل الإشكال بينها وبين جارتها ودخلت روسيا في الحرب بعد أن تأكدت اشتراك فرنسا معها وفرنسا في الغالب لم تعد بمعاونتها لروسيا إلا بعد أن تأكدت مساعدة إنكلترا لها وكان رجال السياسة الإنكليزية مربوطين مع فرنسا رباطاً أدبياً بحيث إذا دخلت فرنسا فلا يسع إنكلترا إلا السير معها أو أنه وقع الاتفاق بينهما في هذا الشأن في أسبوع تلك الأزمة ورأت إنكلترا أن مسألة مقتل ولي عهد النمسا ومسألة الصرب لا تبرر القيام بحرب فاختلقت حجة أمام أمتها وهي مسألة خرق حياد البلجيك.
هذا وأمثاله من البراهين الثابتة في المنشورات الرسمية التي أعلنتها حكومات الوفاق ترد كل الرد أمام محكمة التاريخ ما يقال من أن ألمانيا أرادت الحرب وأوقدت شعلتها فقد كانت روسيا مسببة الحريق وشريكتاها في عملها إنكلترا وفرنسا. أوقدت روسيا نار الحرب لأنها طامعة في أن يكون لها السلطان الأكبر في الشرق بعد أن تراجع أمرها بعد هزيمتها مع اليابان وعزمها على التغلب على كل مقاومة تبدو من دول أوروبا الوسطى أما فرنسا فإنها اندفعت في هذا السبيل بما كان يغلي في صدرها من مراجل الحقد والأخذ بالثأر من الألمان ممزوجاً بالخوف منهم وذلك ما دعاها إلى أن تحالف كل أمة تعادي ألمانيا أما إنكلترا فإن الحسد الذي فطر عليه تجارها الذين لا يحبون أن يروا لهم منافساً جديداً وما عرف عن هذه الدولة الإنكليزية من الظهور بمظهر العداء أمام كل دولة قوية في التجارة الأوروبية وما اشتهر من تقاليدها في أن الواجب عليها أن تضرب على أيدي كل أمة تريد أن تتوسع في بحريتها هو الذي أدى إلى ما أدى.
ولما أرادت ألمانيا اختراق حدود البلجيك أبت هذه عليها ذلك وشهرت عليها الحرب وأرسلت إنكلترا في الحال إلى بلجيكا عدداً من جنودها ورجالها وأعلنت كل من إيطاليا والعثمانية حيادهما إلا أنهما أعلنا النفير العام فباتت أوروبا وقد انقطعت مواصلاتها البرية والبحرية كأنها كلها ثكنة كبرى تتدفق بالجنود والأسلحة وقد قدروا عدد الجنود المتحاربة بنحو خمسة عشر مليوناً.
وفي يوم 6 آب أغلقت إنكلترا مضيقي بادوكالة وجبل طارق كما كانت العثمانية أمرت بإغلاق مضيقي البوسفور والدردنيل وحدثت أول حرب عظيمة بين الأساطيل الألمانية والروسية في البحر البلطيكي فكان ألفوز في جانب الأسطول الألماني الذي أغرق بقنابله طراداً روسياً واحتل جزر الأند التابعة لحكومة فنلندا الروسية وعددها ثلاثمائة جزيرة.
واحتل النمساويون ساباك على الشاطئ الأيمن من الساف وبلغراد عاصمة الصرب ويساروفجة وسمندر وسيوط من أعمال الصرب واحتلت الخيالة المجرية اوشتيزا وتقدم الجيش الألماني تقدماً سريعاً في الحدود ألفرنسية واحتل جميع المراكز الحربية ودخلت العساكر الألمانية حدود روسيا وهدمت المراكز العسكرية وهاجمت الخيالة الألمانية طلائع الجيش ألفرنسي واحتلت ألمانيا جزر الأتلنتيك كافة ومنها جزر ايزلاندا وفي 8 آب أعلنت أسوج والنرويج والدانمارك حيادها رسمياً كما أن اليونان ورومانيا وسويسرا دعت جيوشها إلى حمل السلاح وفي 9 آب احتلت الجيوش الألمانية مدينتي ليج وبروكسل بعد معركة شديدة واحتل الألمان عدة استحكامات روسية وحدثت معركة بحرية بين قسم من الأسطول الألماني والأسطولين ألفرنسي والإنكليزي أسفرت عن غرق ست قطع ألمانية وثلاث قطع فرنسية وقطعتين إنكليزيين وأخرج الجيش الألماني الروس الذين كانوا اجتازوا الحدود الألمانية وأباد ثلاثة الايات من خيلتهم بألفرب من سولدو كما أهلك فرقة عن بكرة أبيها بجوار اينستر بورج واستولى الألمان على كازيتوكوفا وكاليسز وفيلون وكيستارتي وبلاداً أخرى على الحدود الروسية وسقطت مدينة ليج في أيدي الألمان بعد إطلاق القنابل عليها 36 ساعة وفي 9 آب أعلن مستشار الإمبراطورية الألمانية بأن احتلال الجيش الألماني لمقاطعة بولونيا الروسية قد أحدث سروراً عظيماً في جميع أنحاء ألمانيا وأن الحكومة الألمانية ستمنح هذه المقاطعة استقلالاً وتضم إليها بولونيا الألمانية وبولونيا النمساوية وبذلك يتم تأليف دولة بولونيا المستقلة وفي 12 آب ابتاعت الحكومة العثمانية من ألمانيا السوبر دردنوط غوبن والمدرعة برسلو الألمانيتين بأربعين مليون مارك فسمت الأولى ياوز السلطان سليم والثانية مدللي وذلك لتستعيض عن المدرعتين رشادية والسلطان عثمان اللتين استصنعتهما العثمانية في معامل إنكلترا فضبطتهما هذه أوائل الحرب بينما هي على عزم تسليمهما وفي 13 منه شهرت فرنسا الحرب على النمسا وحصر الأسطول النمساوي جميع سواحل الجبل الأسود بعد أن كان ضرب انتيفاري مرفأ الجبل ودمرها وشهر الجبل الأسود الحرب على ألمانيا. وانتصر الجيش الألماني في مولهوز ولاغارد على الجيوش ألفرنسية بعد معركة دموية هائلة.
وهكذا كان النصر حليف الألمان في معظم الوقائع التي جرت بينها وبين خصيماتها والحرب سجال حتى استولت على انفرس ولوفان وبروكسل وليج ونامور وهاتان الأخيرتان من أعظم حصون العالم وذلك على ما ثبت بواسطة المدفع الذي اخترعته وكان مكتوماً سره عن كل أحد حتى ظهر بظهور الحرب الأخيرة وقطره من عيار 42 سنتمتراً وهو يدك الحصون مهما عظمت ولهم طريقة في نقله إلى الأباعد تدل على تفنن الألمان في الحرب تفننهم في ضروب العلم والصناعات.
أما الروس فقد ضربوا جزءاً من بروسيا الشرقية ولكنهم ردوا عنها مرات واستولوا على بعض غاليسيا من النمسا ولا سيما عاصمتها لمبرج وتوغلوا في جبال الكاريات ورجعت النمسا عن البلاد التي احتلتها من الصرب لحكمة مجهولة ولما استصفت ألمانيا معظم بلاد البلجيك تقدمت في الأراضي ألفرنسية من الشمال والشمال الشرقي فذعر ألفرنسيين لأنهم رأوا طلائع فرسان الألمان على بعد ثلاثين كيلومتراً من باريس فنقلوا عاصمتهم إلى بوردو في الجنوب الغربي مخافة أن يستولي الألمان على العصمة فتضعف شوكتهم ويختل أمرهم وقد ساعدت إنكلترا بجندها فأرسلت بعض كتائبها إلى البلجيك والبعض الآخر إلى فرنسا تقاتل مع حليفتها فرنسا كتفاً إلى كتف والتقى الأسطول الألماني بالأسطول الإنكليزي في بحر الشمال مرة وفي بحر الشيلي مرة أخرى فكانت الحرب سجالاً فقد من الجانبين مدرعات وطرادات واستولت اليابان حليفة إنكلترا على المستعمرة الألمانية في الشرق الأقصى كما أن جنود الاتفاق الثلاثي استولت على المستعمرات الألمانية في أفريقيا. وهكذا كانت الوقائع تجري بين الاتفاق أو الائتلاف الثلاثي الذي أصبح رباعياً بإعلان إيطاليا الحرب على النمسا وبين الاتحاد الثلاثي والنصر أكثره في جانب الألمان الذين أدهشوا العالم حتى اعترف لهم خصومهم أيضاً بتفوق جيوشهم على جميع الجيوش وثبت أن جيشهم أعظم جيش في الأرض وأن سلاحهم أمضى سلاح وأن قوادهم لا مثيل لهم بين أبطال القرون الماضية وكاد لا يكون لهم قرين بين أبطال القرون الحديثة.
نادت الحكومة العثمانية بالنفير العام منذ أعلنت أوروبا الحرب العامة وأخذت بتنظيم فيالقها وأعلنت الأحكام العرفية في السلطنة على النحو الذي جرت عليه دول أوروبا المتمدنة وفي 19 تشرين الأول غربي 1914 صدرت الإرادة السنية السلطانية بإلغاء الامتيازات الأجنبية وفي يوم 29 منه هاجم الأسطول الروسي جزءاً من الأسطول العثماني في البحر الأسود بينما كان يقوم بتمرينات فغرقت للروس سفينة لوضع الألغام وسفينة نسافة وفي 3. منه طارد الأسطول العثماني الأسطول الروسي فضرب سفاستابول ونوفوروسيسك من الموانئ الروسية وعندها غادر سفراء روسيا وفرنسا وإنكلترا عاصمة السلطنة العثمانية وأعلنت الحرب فدخلت الدولة مع حليفتيها ألمانيا والنمسا والمجر وفي 2 تشرين الثاني هاجم الروس الجند العثماني المرابط على حدود القافقاس فأعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية يوم 2 تشرين الثاني وفرنسا على العثمانية يوم 5 تشرين الثاني وإنكلترا على العثمانية يوم 5 تشرين الثاني والبلجيك على العثمانية يوم 7 تشرين الثاني والصرب على العثمانية يوم 7 تشرين الثاني ويوم 12 تشرين الثاني صدرت الإرادة السنية قائلة بأن المملكة العثمانية دخلت في الحرب ضد إنكلترا وروسيا وفرنسا وفي 14 منه دعا الخليفة الأعظم العالم الإسلامي إلى الجهاد ضد دول الائتلاف لأن الإنكليز والفرنسيين والروس أخذوا بأساطيلهم وجيوشهم يحاصرون دار السلطنة يريدون الاستيلاء عليها. وهذا الحلم أي الاستيلاء على الأستانة حلم قديم تحلمه روسيا وإن كان مخالفاً لرغائب إنكلترا ولكن اتفاقها معها ومع فرنسا هذه المرة ضد ألمانيا والنمسا قد دعاها إلى الرضا بذلك حتى يفتح المضيقان البوسفور والدردنيل لأساطيل دول الاتفاق فتتخذ عامة الأسباب للقضاء على ألمانيا والنمسا والمجر.
رأت العثمانية مصلحتها بالتحالف مع ألمانيا إذ أيقنت أن الحياة لها إلا بالحرب فوفقت إلى عقد المحالفة المطلوبة بفضل حسن نية الطرفين واشتراك مصالحهما لأن إنكلترا جاهرت بأنها تريد أن تكون العراق مسرحاً خاصاً لمتاجرها وملكاً مستقبلاً لأمتها وساستهم طالما جهروا بأن إنكلترا لا ترى بعين الرضا وجود دولة الخلافة قوية تشرئب إليها أعناق المسلمين وتعلق بها آمالهم بل تريد أن تقضي على آمال رعاياها وتدخل اليأس إلى قلوبهم حتى يبقوا عبيداً أرقاء لا أمل لهم في حياة مستقلة. وروسيا كثيراً ما ضربت على أحد أوتار المسألة الشرقية فحركت المسألة الأرمنية وأخذت تبث رسلها في البلاد العثمانية تثير كوا من التعصب مثل إثارة الأكراد على الأرمن وبالعكس. وفرنسا ظهرت نياتها مع الدولة العلية ولا سيما في سوريا إذ كانت المعاهدة السرية المعقودة بين الائتلافيين تقضي على العثمانية بإعطاء الأستانة لروسيا وأن تترك العراق لإنكلترا وتقسم البلاد السورية بين فرنسا وإنكلترا.
ولكن حسن التدبير إذا اقترن بحسن التوفيق فعل أكثر من كثرة العدد فإن الانتصارات كانت خلال السنتين الأولى والثانية حليفة لنا ولحلفائنا وذلك لأننا إذا ألقينا على ختام 1914 نظراً دقيقاً وسبرنا غور حوادثه يتجلى أمامنا أن ما غبر كان من كل الوجوه مناسباً لموقف ألمانيا وحلفائها ومساعداً لهم. ففي الساحة الغربية أفضى فوز الجيوش الألمانية السريع إلى إيجاد حرب المتاريس والحصون وامتدت هذه الحرب بين من البحر الشمالي حتى تخوم جمهورية سويسرا وما برحت الآن تثبت وتستمر شديدة.
وقد حاول الإنكليز والفرنسيون والبلجيكيون عند حلول عام 1915 أن يخترقوا خطوط الألمان حتى ينهوا أمد هذه الحرب التي صح القول بأنها حرب قلاع وحصون أبدية القرار وبذل أعداؤنا هذه المساعي في إقليم فلاندر وارتواز (في الجنوب الغربي من ليل) وفي شمبانيا وما بين نهري الموز والموزل وحتى الآن ما برح هؤلاء يندحرون دون أن يصيبوا مغنماً أمام بسالة الألمان.
وكان العدو من خلال أشهر عديدة استطاع أن يعزز مواقفه وأن يأتي إليها بجنود كثيرة العدد والعدة وأن يزيد حصونه قوة. كل ذلك استعداداً لهجوم على الألمان ولكنه لم يصب مغنماً لأن جيش ولي العهد الألماني قد تقوى على العدو في ساحة شمبانيا وأحرز سلسلة باهرة من الانتصارات وعجز الفرنسيون رغم تكاثف قواهم عن حفظ بعض كيلومترات احتلوها من الأراضي الألمانية في الفوسج. ويقال على وجه الإجمال لأن الساحة الألمانية في الغرب بقيت دون أن يطرأ عليها تبدل في عام 1915 وظلت أراضي العدو التي افتتحتها جنود حلفائنا الظافرة عند هجومها الأول منيعة لا تؤخذ وفوق ذلك فإنها عززت حتى صارت في حالة لا يقوى العدو معها أن يصيبها بأذى.
أما الحوادث في الساحة الشرقية فإنها أوسع نطاقاً. وكان الروس في ختام عام 1914 قد أغاروا بقواهم الجرارة على ولايات بروسيا الشرقية حتى أن جنودهم أطلت على بوزن فانتهت حركاتهم باندحارهم وعقب ذلك أصبحت الحروب حروب متاريس في بولونيا الروسية وفي القرب من خط الفيتول وناريف وبوهر وفي القسم الشرقي من بروسيا الشرقية وفي غاليسيا الغربية ولبست لباساً مماثلاً للساحة الغربية ورجع الروس إلى قلب مراكزهم محاولين التقدم على الجناحين غير أن هذه المحاولة ما لبثت أن تحطمت أمام مقاومة الجيوش النمساوية الألمانية في الكاربات وسقوط قلعة برزميشل وفي خلال ذلك كانت انتصارات جيش هندنبورغ في الشرق من بحيرة مازوريان من الأسباب التي أفضت إلى إنقاذ بروسيا الشرقية بصورة نهائية والحقيقة أن الاحتلال الروسي في تلك الأرض والأصقاع كان فصل انتقام شديد الهول. لكن الروس عوقبوا عليه باجتياح الألمانيتين لولايات البلطيك الروسية.
وعند بزوغ شمس أيار كان اختراق الخطوط الروسية على ديانتز وفي غاليسيا الغربية مقدمة لتقدم هجوم الدول الوسطى في الساحة الشرقية ذلك الهجوم الذي كله فوز ونجاح. وتطهرت بيكوفينا وأعالي الكاربات وسفوحه وبقاع غاليسيا ولم يبق هنالك عدو بل أكره هذا على أن يخلي خطوط الفستول - نارف - بوهر المحصنة وأجلي عن قارسوفيا عاصمة بولونيا وكذلك أضاع الخط الثاني من خطوط دفاعه في الغرب مع قلاع برست ليتوسك وغرودونو وكوفنو وأجبرت مطاردة الجيوش الألمانية والنمساوية الظافرة العدو على الالتجاء إلى الداخلية متخلياً للغالبين عن كل منطقة الدفاع الغربية مع الحصنين العظيمين ليزك ورينيو في أيالة ولهينا.
ولما عين القيصر قائداً عاماً للجيوش الروسية بدلاً من الغرادوق نقولا تذرع الروس بهجوم أحدثوه في نقاط متعددة من شرق ويلنا وبصورة خصوصية في أيالة ويلبينا فبقيت مساعيهم المدخرة لدحر جيوش الدول الوسطى بلا طائل وبالعكس فإن هؤلاء قد ظلوا محتلين للمراكز التي أخذوها من العدو والتي تمتد من تخوم رومانيا حتى سزرتوفيتزا وتضم إليها ايسيايلا مع قناة أوزنسكي وسرفتش ونيامن وفيليا مع البحيرات الواقعة في الجنوب من دونابورغ - ديتا حتى خليج ريغا وأصبح الجنود في مراكزهم التي توفرت فيها كل الاستعدادات لهجوم يثار في البرد القارس يستطيعون به أن يضعوا أمام هجمات الروس العنيفة سداً حائلاً يرجعهم القهقرى أذلاء صاغرين حتى ينسلخ فصل الشتاء فيعود هؤلاء الجنود إلى استعادة هجومهم المكلل بالفوز. وقد حولت الدولة العثمانية وجهتها في عام 1915 إلى النظر في معارك شيه جزيرة كليبولي التي كان يحتلها جنود الاتفاقيون بقصد إخضاع الدردنيل والوصول إلى العاصمة العثمانية فلم تثمر هجماتهم ومحاولاتهم على الرغم من كثافة قواتهم وكثرة معداتهم وعظمة أساطيلهم وكل ما قاموا به من المهاجمات أبطل أمام شدة الجيش العثماني وصلابته ورأينا الإنكليز في نواديهم يجهرون بهذه الخسائر التي ألمت بهم في أنافرطة وأري بروني وسد البحر رأيناهم ينتقدون أنفسهم وأخيراً رأيناهم ينزحون عن مرابع الدردنيل فكانت هذه الكسرة ضربة قاضية على ما للاتفاق من النفوذ الممتد في بلاد المتحايدين وتلاشت كل سلطة ونفوذ لهم في بلاد المسلمين. أما في القفقاس فلم يحدث في عام 1915 حادث خاص فقد حصر العثمانيون اهتمامهم في الدفاع عن مناطق الحدود ضد إغارة كان بقوم بها الروس وبعكس ذلك فقد كان للساحة العثمانية الثالثة وهي الساحة العراقية شأن خاص وقد قامت الجيوش العثمانية هنالك بأعمال خارقة في تاريخ الحرب الحاضرة فالإنكليز بعد أن أصبحت الدولة العلية في عداد المتحاربين قد أبحروا بجنودهم إلى الخليج ألفارسي فاستولوا على البصرة وامتدت سلطتهم حتى اتصلت بدجلة وكادت تشرف على بغداد ومع ذلك فهذه الأعمال ظلت عقيمة لا فائدة عسكرية منها للإنكليز وكان هؤلاء يعلقون أملاً سياسيا يتوصلون إليه لدى قبائل العرب.
وقد تقدم هجومهم في عام 1915 وكادوا يحدقون ببغداد ولكن العثمانيين الذين تلقوا نجدات مهمة ردوهم على أعقابهم وطردوهم من كوت الإمارة طرد عزيز مقتدر كما أوقعوا بهم في سلمان باك ضروب التقهقر والفشل واتسعت مناطق الحرب أمام نهر دجلة وكانت الحوادث العسكرية التي تجري هناك سلسلة انتصارات كللت مفارق الجيوش العثمانية بأكاليل الظفر.
أما حوادث الساحة العثمانية الرابعة ونريد بها قناة السويس فلم يحدث في عام 1915 فيها ما يدعو إلى الذكر غير كشف تعرضي بسيط ومع ذلك فيمكن القول أن في الزوايا خبايا يرتاع لها الإنكليز وفي مقدمتها وقعة القاطية الأخيرة.
ولننظر الآن في ساحة الحرب الإيطالية التي خضبتها إيطاليا بالنجيع الأحمر ففي 23 أيار سنة 1915 أعلنت إيطاليا الحرب على النمسا وفي 8 حزيران حدثت المعارك الأولى أمام إيزنزو واكتست هذه الحوادث في تلك السنة لباساً خطراً وعقب ذلك قيام العدو بهجوم شديد على جبهة حليفتنا وفي ذات الوقت كانت المعارك الصغيرة التي لا شأن لها تجري في ساحة التيرول زكارنتي وقصارى القول فإن العدو مع توفر استعداده لم يبلغ من النمساويين منالاً وظلت أعماله مجدبة لا ثمرة فيها وكان من جيوش النمسا والمجر أن تقدمت كثيراً في تلك الأصقاع وتوشك ونحن نكتب هذا أن تطل على أرض البندقية من عمل إيطاليا وتقسم الجيش الإيطالي شطرين.
وعند نهاية عام 1915 أصبح للساحة البلقانية مركز عظيم وقد كان المقصد منها بادئ بدء إنزال العقاب بصربيا التي سببت هذا الحريق العالمي ثم الاتصال بالقسطنطينية وإعادة الأملاك المقدونية المفقودة إلى بلغاريا التي خسرتها فتم كل حادث في مدة عشرة أسابيع.
ففي اليوم السادس من شهر تشرين الأول شرعت في الهجوم على صربيا بالاستيلاء على الساف والطونه وفي اليوم الحادي عشر من الشهر المذكور دخلت الجيوش البلغارية إلى أراضي مقدونية الصربية واسترجعتها قوة واقتداراً وتطهرت صربيا وأقطاع الجبل الأسود الشمالية من آثار العدو ودحر البلغاريون ألفرنسيين والإنكليز من وادي الوردار حتى اضطر هؤلاء إلى الاعتصام بسلانيك وفتحت طريق السكة الحديدية بين برلين والأستانة وكانت مسدودة من قبل.
ومن الكوائن دخول البرتغال في الحرب مع الاتفاقيين نجدة لهم في العهد الأخير وأهم الوقائع الأخيرة التي كتب فيها النصر لأعلامنا سقوط كوت الإمارة في العراق بأيدي الجيش العثماني وقد أسرنا من الإنكليز 13856 رجلاً منهم خمسة قواد و277 ضابطاً إنكليزياً و247 ضابطاً هندياً و133. . جندي ووقوع معركة بحرية هائلة حدثت بين الأسطول الألماني والأسطول الإنكليزي في ضواحي مضيق اسكاجراك في بحر الشمال كان ألفوز فيها للإنكليز وذلك في 31 أيار سنة 1916 فغرق للإنكليز عدة دريد نوطات وطرادات ونسافات عظيمة بلغت ست عشرة قطعة وغرق فيها سبعة آلاف إنكليزي ولم يغرق للألمان سوى طرادة وبعض نسافات وشفع هذه الواقعة الحربية الكبرى التي نزلت على إنكلترا كالصاعقة غرق اللورد كتشنر ناظر الحربية الإنكليزية مع أركان حربه بينما كان ذاهباً من إنكلترا على سفينة حربية قاصداً روسيا في البحر الشمالي. ومما ساعد الألمان على الإبلاغ في نكاية الاتفاقيين في البحر اختراعهم غواصات غريبة كانت تطوف بحار العدو وتوقع بأساطيله البلاء والرهبة وطيارات الألمان التي فعلت في البر مع أعدائنا أفعالاً تذكر فتشكر. وقد استولت ألمانيا حتى الآن على بلاد البلجيك إلا قليلاً وعلى بضع ولايات من شمالي فرنسا وعلى بولونيا الروسية وكثير من الولايات الروسية المتاخمة لها بحيث بلغت مساحة ما استولت عليه حتى الآن نحو 45. ألف كيلومتر مربع لا يقل سكانها عن 35 مليوناً واستولت النمسا على الصرب وعلى جزء من ألبانيا الشمالية وأرجعت النمسا الروسيين عن بلادها أما عن حالة الحرب العمة عند كتابة هذه الرسالة فمشتدة في جميع الساحات ولا سيما في الساحات الأوروبية بين النمسا وإيطالية وبين النمسا وروسيا وبين ألمانيا وفرنسا وإنكلترا ولكن النصر حليف الحلفاء وربما لا ينتهي هذا الصيف إلا وقد حدث تبدل كبير في حالة الحرب العامة.
وفي 23 أيلول 1915 أعلنت بلغاريا النفير العام وعادت رومانيا واليونان فأعلنتا حيادهما وفي شهر تشرين الأول من تلك السنة قطعت بلغاريا صلاتها مع دول الاتفاق ودخلت مع دول التحالف أي مع العثمانية وألمانيا والنمسا والمجر فهاجمت بجيوشها العساكر الصربية من الشرق كما هاجمتها العساكر الألمانية والنمساوية من الشمال وقضي على الصرب فاستولت بلغاريا على مقدونية القديمة كما استولت النمسا على البلاد الشمالية المتاخمة وأخذت أراضي الجبل الأسود الذي تفرق شمل حكومته كما تفرق شمل البلجيك والصرب نسأل الله حقن الدماء ورفع البلاء.