مجلة المقتبس/العدد 9/ملكة العربية
→ صدور المشارقة والمغاربة | مجلة المقتبس - العدد 9 ملكة العربية [[مؤلف:|]] |
الملاهي وأدوات الطرب ← |
بتاريخ: 18 - 10 - 1906 |
اللغات من أحكم الصلات بين البشر ومن أقوى عوامل النهوض والارتقاء وعلى نسبة انتشار لغة الأمة يكون نفوذها في سياستها وآدابها وصناعاتها وكل أمة زهدت في لغتها أو تخلت عنها ولم تجر في ترقيتها مع الزمن تغلب على أمرها ويفنى كيانها. يقول أحد العارفين إذا استعبدت أمة ففي يدها مفتاح حبسها ما احتفظت بلغتها. وكان نابليون يقول علموا الفرنسية ففي تعليمها خدمة الوطن. وباللغة قامت الوحدة الأميركية والإيطالية واليونانية والألمانية والصربية والرومانية والبلغارية فنجت هذه الأمم بلغاتها من استعباد عداتها.
جاء القرآن على ما فيه من قواعد التشريع والاعتبار بالأمم الخالية حاوياً قاعدة من أهم قواعد العمران وأعني بها الدعوة إلى توحيد اللغة فقضى على كل مسلم على اختلاف الأجناس أن يتعبد بالقرآن ويتلوه بلغته الأصلية فانتشرت بذلك العربية في القاصية والدانية وأخذ ابن الصين يتفاهم مع ابن مراكش بالعربية على بعد الديار.
ولقد قامت الحكومات الإسلامية على اختلاف لغاتها بهذه اللغة وجعلتها لغة دواوينها وكتبت بها رسائلها وخطبها ومراسيمها. فجعلت حكومات الفرس والديلم والترك والبربر والكرد والجركس لغة العرب لغتها ولم تتخلف عن هذه القاعدة في العصور المتأخرة إلا بعض الحكومات جعلت كل منها لغة أسرتها المالكة لغة رسمية لبلادها فاستغرب هذا منها حتى خاصة أهلها.
كان يرجى لمصر أن تكون كعبة العربية في العهد الأخير يحج إليها الطلاب من أقطار العالم لو جاء بعد محمد علي رأس الأسرة الخديوية من أنجز العمل الذي كان وضع أساه وتوفر على تعهد النبتة التي غرسها وأعوانه من الإفرنج في بث ملكة العربية ونقل العلوم الضرورية إليها من لغات الأعاجم ولو دامت تلك النهضة سائرة سيرها الأول لكان لمصر حضارة عربية صرفة لم تمازجها عجمة الإفرنج.
نعم إن تعلم لغة قوم تحببهم إلى نفس المتعلم في الغالب فمن تعلم الفرنسية كان محباً للفرنسيين ومن أحكم الإنكليزية شغف بالإنكليز ومن شدا الألمانية أعز الألمان ولكم رأينا أوربياً تعلم العربية فأصبح يكرم العرب ويغار على مصلحتهم وآدابهم وبلادهم ولا غيرة ابنها العربي البحت.
أقول هذا وأنا على يقين من أن لغة القرآن قد خدمها علماء المشرقيات من الغربيين أكثر من خدمة خاصتها ورؤساء حكوماتها لها فطبعوا لها من نفائس الكتب وأمهاتها وأقاموا لها محافل ودروساً وسافروا في تعلمها وبذلوا في سبيلها البذول منذ وجهوا وجهتهم قبل المدنية الإسلامية حتى أن أول الكتب التي طبعت بعد اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر للميلاد كانت كتباً عربية من مؤلفات ابن شينا والرازي وابن رشد وغيرهم من فلاسفة الإسلام. ودامت تلك الروح تسري في جسم الحضارة الغربية حتى صار اليوم من علمائهم المختصين بدراسة لغتنا من يحسنون التكلم والتأليف فيها إحسان خاصتنا لها رأيت منهم الأميركي والإنكليزي والألماني والفرنسي والنمساوي والأسوجي والهولندي والروسي وكلهم محل الدهشة والاستغراب وشهدت من حميتهم وغيرتهم على لغة القرآن ما لا أجد بعضه عند كثيرين من خاصتنا.
وليس في أهل الإسلام اليوم مثل أهل فارس عناية بالعربية وآدابها لأنهم لم ينسوا فيما احسب أن تعلمها من الدين وأن من ناهضها ووضع السدود في سبيل سيرها فكأنما ناهض الدين وعاق دعوته عن الانبعاث ولذلك كان تعلمها عندهم على حصة موفورة. وقد يجيد متعلمهم فهمها وكتابتها إجادة العربي القح. ولا عجب فللفرس في تاريخ النهضة الإسلامية القديمة أثر مشكور على غابر الدهور.
ومع أن التعليم في مصر غداً إنكليزياً والأساس الذي قامت عليه نهضة العربية في أوائل القرن الماضي ترك وبني على غيره لا تزال العربية بالنظر لوحدة اللغة في القطر ولما وقر في النفوس من أن الأزهر أعظم مدارس الإسلام في الأرض وأن فيه جهابذة علماء ولما ينفخه فيها نوابغ البلاد المهاجرين إليها - مع كل هذا لا تزال مصر موطن العربية من هذا الشرق العربي وفيها تصدر أهم المطبوعات والصحف العربية. لا يبعد أن يكون لها شأن غير شأنها الحاضر في المستقبل القريب وإن قل تخرج النوابغ من أبنائها وإحكامهم ملكة اللسان العربي الإحكام الذي يسهل عليهم التأليف والإنشاء والخطابة وقرض الشعر والتمييز بين صحيح الكلام وفاسده.
وكانت قويت ملكة العربية في سورية بما قام في بيروت من المدارس الكبرى منذ أربعين سنة ولما استبدلت تلك المدارس اللغات الإفرنجية باللغة العربية وجعلوها لغة التدريس والخطاب عاد حب لغات الأعاجم فاستحكم من النفوس خصوصاً بعد أن أيقن كثيرون من أهل الفئة التي هي أجرأ السوريين على الهجرة للاتجار والكسب أن العربية لا يأتي تعلمها بمال يعود على صاحبه بالرفاهية فلا تنفع في الماديات نفع اللغات الأوربية لهم في ذلك. اللهم إلا تلك الفئة الفاضلة من كتاب السوريين في أميركا ممن أنشأوا الصحف وأخذوا يسعون جهدهم في بث ملكة اللسان العربي بين المهاجرين في مهاجره كما يعنى مهاجرة الألمان في الاحتفاظ بلغتهم في وسط بلاد الولايات المتحدة. قلت أن ملكة العربية ضعفت في بلاد الشام ويكفي أنك تجتاز البلد والبلدين ولا تجد من يحسن الكتابة والقراءة بلا غلط بل أنك لتستقرئ حال المائة ألف نسمة في حواضر مدن الشام ولا تجد فيها خمسة يكتبون على وجه الصحة. وهكذا الحال في العراق ونجد والحجاز واليمن. وللشعر في هذه الأقطار الأخيرة أثر من الآثار القديمة أكثر من النثر ولا عبرة بالأفراد فهم لا يتجاوزون عدد الأنامل في هاتيك الديار التي كان يعد رجالها بالمئات في العصور السالفة. والأفراد ليسوا معياراً في هذا الباب.
ومن أهل الأقطار التي يعنى أهلها بالعربية على عجمتهم مسلمو قافقاسيا والهند فإن تدريس العربية في مدارسهم وكتاتيبهم شائع كل الشيوع وهم معتقدون أن في تعلمها تعلم الدين. من أجل هذا رأينا كثيرين من أهل النهضة فيهم في العهد الأخير طافوا بلاد الشرق العربي للبحث عن طريقة سهلة تمكن ناشئتهم من إحكام العربية في أقرب مدة ومن أيسر السبل ولما يئس بعضهم من وجود بعض أفراد توفرت فيهم هذه الشروط من أبناء جامعتهم ليغنوا الغناء المطلوب عمدوا إلى اختيار أساتذة هم في الأصل أعاجم على نحو ما فعلت كلية عليكدة في الهند وأقامت إنكليزياً يعلم العربية على طريقة اللغات الأوربية تسهيلاً على المتعلمين من أبنائها.
وحال القطر التونسي فيما أرى من إحكام ملكة العربية حال سورية حذو القذة بالقذة ولعل الناشئة المتمكنة من آداب القوم يكثر عددها فيعملون وجرائدهم ومجلاتهم وجمعياتهم على النظر في ترقيتها بينهم أما الجزائر ومراكش فما أخالهما يعرفان من العربية إلا بقدر ما يعرف منها أهل مالطة أو أكثر بقليل. دع أهالي شنقيط فإنهم أعظم أهل الأرض عناية بالعربية وحفظاً لدواوين شعرائها وخطبائها فقد تجد الطفلة تحفظ من أسفار الأدب ما لا عهد للخاصي به عندنا ولكن نظرهم في الأدب والشعر نظر مجرد لا محل للعمل فيه. وهناك بلا إسلامية كزنجبار ورأس الرجاء وجاوه وبعض مدن الصين وأفغانستان وبخاري فإنها ضعيفة في عربيتها ضعف الترك فيها.
وبعد فإن من رأى توفر الغربيين على دراسة العربية يكاد يوقن بأن هذه اللغة لا تحيا إلا على أيدي هؤلاء الإفرنج فقد جعلوا لها المقام الأول بين اللغات الشرقية ولم يحسبوها من اللغات الميتة وأحيوا من مآثر الأسلاف ما يبيض الوجوه وينعي على الإخلاف وناءهم وتقاعسهم.
وأقدر الأمم الغربية على تلقف العربية فيما أحسب الشعب الجرماني فإن فيه رجالاً يلفظون ويكتبون على مثال كتاب العرب أنفسهم ويليهم في باب العناية بها على ما أرى الإنكليز والأمريكان والنمساويون والفرنسيون والهولنديون والروسيون والطليان والأسبان. وكان الفرنسيين فيما مضى في مقدمة الأمم بالاشتغال بالعربية ولاسيما في عصر العالمين دي ساسي وكاترمير فأصبحوا اليوم في وسطها.
ولا يبعد إذا دام الفرنجة على تعهد هذا اللسان بطبع كتبه ودراسة أصوله وفروعه أن يهاجر أبناؤنا إلى بلادهم بعد ليتلقوه عنهم إذا دمنا على خمولنا وتخلفنا. ولولا بعض كتب قديمة تحيا بالطبع اليوم لقلنا بالنظر لما نراه من ندرة المطبوعات العربية العلمية أنه سيجيء يوم نأخذ فيه عن الإفرنج حتى أصول ديننا. ومن الأسف أن جماع ما ينشر من تآليفنا منذ سنين لا يتعدى الروايات والهزليات أما كتب الجد كالفلسفة والتاريخ والرياضة والطبيعة والاقتصاد والاجتماع فلا محل لها من الإعراب في جملة أعمالنا.
ولعل العربية في هذه الديار لا تمنى بما منيت به في سائر الأقطار فيكثر في أبنائها المتأدبون بآدابها وإن قل عدد النوابغ أي يعم تعلمها أكثر مما يخص. وعندي أن الرجاء معقود على الأكثر بالمجلات والجرائد إذا صرفت العناية بإنشائها واختيار موضوعاتها فهي هي المدرسة الكبرى للأمة وتأثيراتها متصلة باتصال صدورها وهي تبعث على المطالعة أكثر من الكتب. ومادام القرآن يتلى بلسان العرب فسيبقى أثر له في البلاد الإسلامية كافة وتضعف ملكته الحقيقية بضعف العمل به من دراسة آدابه.