مجلة المقتبس/العدد 89/فنلندا وعوامل ارتقائها
→ الترجمة عند العرب | مجلة المقتبس - العدد 89 فنلندا وعوامل ارتقائها [[مؤلف:|]] |
معجم البلدان ← |
بتاريخ: 1 - 6 - 1914 |
فنلندا هي دوجيه كبرى من بلاد روسيا في أوربا بين الحدود النروجية من الشمال وفي الشمال الشرقي ولايات بطرسبرج واولونزا واركانجل الروسية وفي غربها بحر البلطيق مساحتها السطحية 377850 كيلو متراً وسكانها 2600000 نسمة جاء في مجلة الحياة الباريزية أن قد كانت السويد (اسوج) مدة ستة قرون ونصف هي الحاكمة المتحكمة في الشعب الفنلاندي والقابضة على زمام تربيته التاريخية ونشر الاسوجيون بين الفنلنديين الدين المسيحي وحملوا إليهم المدنية الأوربية. ولقد اتحدت القبائل الفنلاندية على عهد الاسوجيين وألفوا امة آخذين القوانين والأوضاع الاجتماعية التي كانت للاسوجين الذين كانوا تحضروا قبل ذلك وأنشأوا مملكة ومزجوا ذلك بهم ومن حسن حظ الشعب الفنلاندي أن هذه الأوضاع التي نقلت من الخارج قد قامت كلها على حرية الفلاح وان حكومة الإقطاعات التي كانت قد انتشرت في شمال بلاد أوربا لم يكن لها تأثير في اسوج ذلك لأن الشعب الفنلاندي وان كان غلب على أمره بالسلاح قد توصل إلى أن يقبل نفس الحقوق السياسية التي كان يستمتع بها الاسوجيون ومنذ ذلك العهد سار الشعبان في رحلتهما التاريخية يتقاسمان البؤس والنعماء. ولئن كان المجد في الغالب من حظ الاسوجيين والألم من نصيب الفنلانديين فإن هؤلاء وجدوا في هذه السياسة منافع لهم لم يكونوا لينالوها بهذه الكثرة وفي مثل هذا الوقت القصير لو ظلوا على انفرادهم بيد أن هذا الشعب الفنلاندي الذي ظهر في ميدان التاريخ متأخراً قد بلغ بالتدريج مستوى بقية الشعوب المتمدنة فدب فيه دبيب الاستقلال وهو يرقى في سلم الاجتماع في الوقت الذي تنبه فيه فكر الوطنية وطلب حالة سياسية مستقلة وبذلك تهيأ الوقت للاستقلال عن أسواج إذ كان ذلك نتيجة لازمة للارتقاء الطبيعي الذي حازته فنلندا ولكن هذا الانفصال لم يكن نتيجة منافسة عدائية بل أن الرابطة الأخوية القديمة بين الشعبين قد انحلت فجأة بتقدير العزيز العليم تاركة وراءها تذكارات تظل عزيزة مقدسة عند الشعب الفنلندي.
كان الشعب الروسي أداة هذا الانفصال وبلغ الارتقاء العقلي في الفنلنديين في ذاك العصر إلى مستواه في المدينة الأوربية بحيث لم يلبثوا قليلاً حتى غدوا ولهم المقام المحمود بين أمم الشمال فقد استولت روسيا على فنلندا ثلاث مرات مدة قرن من الزمن وما برح فكر الوطنية في الشعب الفنلاندي يتطلب مستعدون كل ساعة للمفاداة بحياتهم وسعادتهم لإحراز مجد أوطانهم.
وكان نشأ لروسيا الإمبراطور اسكندر الأول نشأة حرة وتخرج بالسويسري قيصر لإرهاب فجاء منه عاقل يحب الحرية حتى إذا تولى قيادة الإمبراطورية الروسية أراد أن يعطي دستوراً حراً لامته ولكنه رآها منحطة لا تنهض به فارتأى أن يجرب هذا القانون في فنلندا التي كانت خاضعة له وأصبحت دوجيه فنلندا الكبرى مثالاً حسناً للإمبراطورية الروسية ثم منحت استقلالها الإداري وتبين للقيصر أن وجود فنلندا حاجزاً حول عاصمة الروس أقوى من وقوف بعض الولايات المحتلة بقوة السلاح.
هذا بالإجمال حال فنلندا السياسي أما حالها الأدبي الذي أدى بها إلى هذا الارتقاء الذي اضطر معه مثل القيصر اسكندر الأول أن يمنحها دستوراً مستقلاً لتكون لامته نموذجاً في الحرية التي نالها مؤخراً مع بعض القيود فقد رأى المفكرون من أبنائها في أوائل القرن الماضي أن يعنوا بتحرير لغتهم لأنهم لا يحبون أن يكونوا سوجيين واللغة الاسوجية كانت مستحكمة فيهم ولاروسين فلم يبقى أمامهم إلا أن يبقوا فنلانديين وهذا يكون بنشر لسانهم فشرعوا في درس المسائل التاريخية والفنلاندية واللسان الفنلاندي والشعر العامي. وكثيراً ما يحدث في حياة الأمم أن تكون الكوارث العظمى هي التي ينتبه بعدها شعورها وتبدأ تتماسك وتجمع قواها وتنشط من عقالها حائرة إلى عالم جديد متبعة طريقاً مهيعاً فقد كانت فنلندا لأول ذاك العهد في حالة من الإبهام والشك حتى إذا نقلت مدرستها الجامعة إلى مدينة هلسنفور عاصمتها الجديدة هبت من أرجائها حياة عقلية لم تكن تعهد وكانت اللغة السويدية هي لغة المدنية في فنلندا وقد كتب شاعر فنلندا بل احد عظماء شعراء أوربا واسمه رونبرغ أشعاره باللغة السويدية لا بالفنلاندية وكان القانون الأساسي الذي منحته فنلندا بفضل الإمبراطور اسكندر الأول قد عاد في عهد الإمبراطور نقولا الأول تتزعزع أركانه فلم ير عقلاء الفنلانديين إلا أن يدعوا مجموع الشعب إلى مستقبل عام وهذا لا يتم إلا إذا أخذت الطبقة الدنيا من الشعب بحظ من المعارف بيد أن هذه المهمة ظهرت متعذرة وذلك لان اللسان القسم الأعظم من الشعب كان عبارة عن لهجة جافة بربرية لا تستطيع أن تؤدي الأفكار الدقيقة وما كان يخطر بالبال أن اللسان الفنلاندي يصبح أداة للمدنية العالمية لولا أن قام احد علمائهم وجمع الأغاني العامية والشعر القصصي وكثر المنشئون والأساتذة بهذه اللغة الفنلندية وأراد بعض ساستهم أن يطرح اللغة الاسوجية بتاتاً وفاته أن جزءاً مهماً من الأمة الفنلاندية يتكلم بالسويدية وله الحق أن يربي أولاده بهذه اللغة فكان من ذلك أن البلاد التي تكون أكثريتها من الاسوجين لا يرخص مجلسها بإعطاء إعانات للمدارس العليا التي تكون لغتها فنلاندية فأخذ الفنلانديون يكتسبون بما يقتضي لذلك من المال وبهذه الطريقة أيضاً أنشى معهد للتمثيل فنلاندي وكثر الشعراء في الشعر الغنائي والأناشيد والقصصيون وكتاب الحقائق وكثر طلاب المدارس الابتدائية بحيث لا تجد اليوم في فنلندا أمياً وحيثما انقلبت من البلاد ترى على شواطئ البحيرات الدارسون ما تلقنوه من الدروس الابتدائية يتعلم فيها الذكور والإناث معاً والجنسان لا ينفصلان احدهما عن الآخر في جميع مدارس فنلندا فيتعلمون في تلك الكليات تعليماً آخر ويحضرون دروساً في التاريخ والآداب الوطنية والحساب والبستنة والاقتصاد.
وهذه المدارس تقوم بإعانات المحسنين من القوم وأحياناً بإنفاق فرد واحد إنها تنشئها جمعيات الشبان الذين يجتمعون فيها لسماع المحاضرات وإنشاد الأغاني والبحث في المسائل الاجتماعية والمران على الأعمال.
وعلى هذه الصورة ينتشر نور للعلم في البلاد حتى أن الفلاح الفنلاندي قد بلغ به من حب التعلم أن اخذ يبتاع كتب العلم الراقي مثل دائرة المعارف الفلانجية التي أخذت تنتشر حديثاً فكان الإقبال عليها عظيماً من جميع الطبقات حتى لقد أباع طابعها منها لأول أيام الظهور أجزائها الأولى نحو عشرين ألف نسخة هذا وهي تكلف مائتي فرنك كلها فكان يبتاعها حتى سكان الأكواخ الذين ليس لهم ما يسد عوزهم من القوت والشراب وترجموا إلى لسانهم أحسن روايات شكسبير وموليير ودانتي وراسين وفلوبر واناتول فرانس وماترلنك وفرلين.
وقد زالت الاختلافات بين العنصرين الاسوجي والفنلندي إلى منافسة سليمة لأنهم رأوا أن إيغار الصدور لا ينير شيئاً وهم يريدون أن يقفوا في سبيل عدوهم لا أن ينشقوا على أنفسهم ويطعموا بهم خصوصهم وجيرانهم فأصبحوا بفضل المدنية الحديثة كلهم امة واحدة لها نزعة سياسية واحدة وان كانوا مختلفين في عنصرهم ولسانهم وكانت آداب ذينك العنصرين متأثرة بالمحيط متشابهة كل التشابه حتى لتجد الاختلاف بيناً بين الآداب الاسوجية المكتوبة في فنلندا والآداب الاسوجية الصادر من اسوج لان آداب كل امة تبعت بيئتها ومحيطها وسياسة بلادها بمعنى أن السويد في الفنلاندي أصبح كالسويسري الألماني والفرنساوي أو الايطالي سويسرا قبل كل شيء لا يريد أن يكون ألمانيا وان كانت لغته ألمانية ولا فرنسوياً وان كان لسانه الافرنسية ولا ايطالياً وان كانت لغته الايطالية وهكذا ترى الاسوجيين والفنلانديين في دوجيه فنلندا متخالفين بعنصريهما ولسانيهما ولكنهما متوافقان بمبداهما السياسي شأن بلجيكا وسويسرا مما يستدل منه بأن في الإمكان إنشاء مملكة قوية بلسانين رئيسين وتاريخين مختلفين.