الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 86/جزاء العلماء والأدباء

مجلة المقتبس/العدد 86/جزاء العلماء والأدباء

مجلة المقتبس - العدد 86
جزاء العلماء والأدباء
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 1 - 3 - 1914


البشر سائر نحو الديمقراطية اليوم بعد اليوم في جميع ما فيه قوام الحياة المادية والمعنوية والعلم اليوم من جملة ما يخرج من قيود الارستقراطية والتيوقراطية والالغارشية إلى ساحة الديمقراطية الفسيحة لأنه أحق كل الأوضاع بان لا يكون عبداً أو مستعبداً لأحد.

كانت العرب على عهد حكوماتهم الراقية تحسن إلى العلماء والأدباء إحساناً لا يحتاج معه العالم والأديب إلى بذل ماء الوجه ليعيش فالوظائف كانت للعلماء وكم من قاضٍ أو عامل أو وزير خلف وهو في وظيفته مصنفات كثيرة ساعدته على البحث فيها وتوفير المواد النافعة لها ومنهم من لم يحبوا أن يشغلوا أوقاتهم في النظر في شؤون الناس وأحبوا الانقطاع إلى العلم بتة ومع هذا لم تفتأ الأمة تتعهدهم بما يصلح من شانهم ليتوفروا على الانصراف إلى ما اخذوا النفس به وما تقرؤوه في تضاعيف الكتب من أفضال بعض الملوك والأمراء والأغنياء على الشعراء ليس الباعث إليه حب المديح فقط بل تشجيع الأدب والأدباء ولذلك نرى كثيرين وقفوا في أبواب الكبراء ولكن لم نسمع بالعطايا الباهظة تقدم إلا للمجيدين في شعرهم المبرزين بأدبهم على الأغلب أما المتوسطون من العلماء والأدباء فكانوا يرزقون على نسبة عقولهم رجاء أن يكون من صفوفهم نوابغ يخلفون السابقين المبرزين.

اختلفت طرق إكرام العلماء فكان العظيم في دولة بني العباس يعطي العظيم من العلماء مبلغاً قد يستغني به أو يمنحه ضيعة أو يقوم بجميع نفقته طول العمر ويغنيه عن السؤال من احد أو يرزقه من عدة طرق كما وقع للزجاج وقد طلب منه المعتضد شرح كتاب جامع المنطق فعمل البتاني فاستحسنه المعتضد وأمر له بثلاثمائة دينار قال ابن النديم وتقدم إليه بتفسيره كله ولم يخرج لما عمله الزجاج نسخة إلى احد إلا إلى خزانة المعتضد وصار للزجاج بهذا السبب منزلة عظيمة وجعل له رزق في الندماء ورزق في الفقهاء ورزق في العلماء ثلاثمائة دينار. قلنا ومن العلماء من كانوا يرزقون عدة أرزاق لعلمهم ولإرادة الملوك ترفيههم وغناهم أي أن يأخذ رزقا أو راتباً في المهندسين ورزقا مع الفقهاء وأخر مع الأطباء وأخر مع الندماء.

ولما أنشأت المدرستان النظامية ثم المستنصرية (المقتبس م1ص268و571) في بغداد وكثرت المدارس في مصر والشام على عهد الدولتين الأيوبية والجركسية اخذ الواقفون يجعلون على تدريس تلك المدارس طبقة مختارة في الجملة من العلماء.

ومن العلماء من كانوا قيمين على المدارس ومنهم القيمون على خزائن الكتب ومنهم على المستشفيات والزوايا والمساجد والأوقاف والضياع السلطانية ومنهم القائمون على الأرصاد والمراصد والسفراء إلى الملوك المجاورة وكل هؤلاء كان يوسع عليهم في مشاهرتهم وإداراتهم.

أما الإفرنج في القرون الوسطى فكان المفضل على علمائهم باباواتهم وكرادلتهم وبطارقتهم وأسقافهم وقسوسهم ثم بعض المنورين من ملوكهم وأعيانهم فلما جاء الدور الحديث وأنشئت في الغرب المجامع العلمية والجمعيات المنوعة والكليات والمدارس العليا أصبح العلماء يأملون الرز من اللحاق ببعض هذه الأوضاع وكثير من جمعياتهم جعلت لها مبلغاً سنوياً خصته بمكافأة المجيد في فنه والواضع فيه كتاباً أو المخترع فيه اختراعاً وبعد أن كان أهل الخير في القرون الماضية يحبسون الأموال ويقفون الضياع والعقار على إقامة البيع والكنائس أصبحوا الآن يجعلونها على الجمعيات والنقابات والجامعات وقد كان لأغنياء أميركا الشمالية في ذلك القدح المعلى فأنشئوا بثرواتهم الطائلة يفضلون على المعاهد الخيرية لتتعهد هي الأفراد المستحقين من العلماء والباحثين المخترعين.

ومعظم العلماء والأدباء اليوم في الغرب يتكلمون في جلب معاشهم على قوتين ديمقراطيتين التأليف والتمثيل ساعد عليهما قوتان مهمتان انتشار الطباعة وكثرة المسارح 0وهاتان القوتان قائمتان ولا شك بإقبال الجمهور المتعلم فمن وفق إلى أن يصادف كتابه ومقالته أو قصيدته أو قصته إقبالاً من الناس يشتهر ومتى اشتهر فهناك المجد الأثيل والمال الجزيل وأنت ترى أن المجتمع العربي كان محروما من قوتين الطباعة والتمثيل ولذلك كان المتعلمون فيه أقل مما هم في المجتمع الغربي لعهدنا وكانت قوة الظهر عند العلماء الأمراء والأغنياء والنابغة منهم كان على ثقة من أنه يحيا بتأليفه في حياته ومماته حياة مادية ومعنوية.

قال ميمون بن هارون: قلت للجاحظ إلك بالبصرة ضيعة فتبسم وقال: (إنما أنا وجارية وجارية تخدمها وخادم وحمار. أهديت كتاب الحيوان إلى محمد بن عبد الملك الزيات). فأعطاني خمسة ألاف دينار وأهديت كتاب البيان والتبيين إلى ابن أبي داؤد فأعطاني خمسة ألاف دينار وأهديت كتاب الزرع والنخل إلى إبراهيم بن العباس الصولي فأعطاني خمسة ألاف دينار فانصرفت إلى البصرة ومعي ضيعة لا تحتاج إلى تجديد ولا تسميد وكان أبو عبيد القاسم بن سلام إذا ألف كتابا حمله إلى عبد الله بن طاهر فيعطيه مالاً خطيراً فلما صنف غريب الحديث إهداء إليه فقال: إن عقلاً بعث صاحبه على عمل هذا الكتاب لتحقيق ألا يحوج إلى طلب المعاش وأجرى له في ك شهر عشرة ألاف درهم. وروى انه قال عملت كتاب غريب المصنف في ثلاثين سنة وجئت به إلى عبد الله بن طاهر فأمر لي بألف دينار. وسير أبو دلف القاسم بن عيسى إلى عبد الله ابن طاهر يستهدي منه أبا عبيد مدة شهرين فأنفذه فلما أراد الانصراف وصله أبو دلف بثلاثين ألف درهم فلم يقبلها وقال: أنا في جنبة رجل لا يحوجني إلى غيره فلما عاد أمر له ابن طاهر بثلاثين ألف دينار فاشترى بها سلاحاً وجعله للثغر.

قال أبو العباس احمد بن يحيى قدم طاهر بن عبد الله بن طاهر من خراسان وهو حدث في حياة أبيه يريد الحج فنزل في دار اسحق بن إبراهيم فوجه اسحق إلى العلماء فأحضرهم ليراهم طاهر ويقرأ عليهم فحضر أصحاب الحديث والفقه واحضر ابن الإعرابي وأبو نصر صاحب الأصمعي ووجه إلى أبي عبيد القاسم بن سلام في الحضور فأبى أن يحضر وقال: العلم يقصد فغضب اسحق من قوله ورسالته وكان عبد الله بن طاهر يجري له في الشهر ألفي درهم فقطع عنه الرزق وكتب إلى عبد الله بالخبر فكتب إليه عبد الله قد صدق أبو عبيد في قوله وقد أضعفت له الرزق من اجل فعله فأعطه فائته وادر عليه بعد ذلك ما يستحقه.

ولقد نزل أبو الجيش الموفق مولى عبد الرحمن الناصر بن المنصور محمد بن أبي عامر أمير الأندلس بعد الفتنة الجزائر التي شرقي الأندلس وهي دانية ومنورقة فغلب عليها وحماها وقصد سردانية وكان من الكرماء على العلماء كما قال ياقوت يبذل لهم الرغائب خصوصاً على القراء حتى صارت دانية معدن القراء بالغرب وهو الذي بذل لأبي غالب تمام بن غالب ألف دينار ليزيد اسمه في ديباجة كتابه فلم يفعل. قال ياقوت (معجم الأدباء) ولتمام تلقيح كتاب العين في اللغة لم يؤلف مثله اختصاراً وإكثاراً وله فيه قصة تدل على فضله وذلك أن الأمير أبا الجيش مجاهد بن عبد الله العامري وهو احد المتغلبين على تلك النواحي وجه إلى أبي غالب هذا أيام غلبته على مرسية وأبو غالب ساكن بها ألف دينار أندلسية على أن يزيد في ترجمة هذا الكتاب مما ألفه تمام بن غالب لأبي الجيش مجاهد فرد الدنانير ولم يفعل وقال: والله لو بذل لي ملا الدنيا ما فعلت ولا استجزت الكذب فاني لم اجمعه له خاصة لكن لكل طالب عامة. قال الحميدي فأعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها وأعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها. قال المقري إن مجاهد ملك دالية بذل لأبي الغالب اللغوي هذا ألف دينار ومركوباً وكساء على أن يجعل الكتاب باسمه فلم يقبل ذلك أبو الغالب وقال: كتاب الفته لينتفع به الناس واخلد فيه همتي اجعل في صدره اسم غيري واصرف الفخر له لا افعل ذلك فلما بلغ هذا مجاهداً استحسن أنفته وهمته واضعف له العطاء وقال هو في حل من أن يذكرني فيه لا نصده عن غرضه.

وهكذا كنت ترى كثيرا من العلماء يأبون على ضيق ذات بدهم أن يأخذوا شيئاً على تأليفهم كما فعل أبو الريحان البيروني الفيلسوف فانه لما صنف القانون المسعودي أجازه السلطان بحمل فيل من نقده الفضي فرده إلى الخزانة بعذر الاستغناء عنه ورفض العادة في الاستغناء به. أما الشيخ الرئيس ابن سينا الفيلسوف فما كان يستنكف على جلالة قدره العلمي من أن يقدم احد كتبه لأحد أمراء عصره بل انه كان من جملة ندماء علاء الدولة صاحب همدان.

ومن العلماء من كانت تبلغ بهم العفة درجة الغلو فقد حكا بعضهم عن أبي العباس ابن الرومية النباتي الأندلسي انه كان جالساً في دكانه باشبيلية يبيع الحشائش وينسخ فاجتاز الأمير أبو عبد الله بن هود سلطان الأندلس فسلم عليه فرد عليه السلام واشتغل بنسخه ولم يرفع إليه رأسه فبقى واقفاً منتظراً أن يرفع إليه رأسه ساعة طويلة فلما لم يحفل به ساق فرسه ومضى. قاله المقري في نفح الطيب.

ومثل ذلك ما وقع الفيلسوف الرياضي أبو علي ابن الهيثم فانه وزر في البصرة لأول أمره ثم أحب التجرد عن الشواغل التي تمنعه من النظر في العلم قال ابن أبي أصيبعة فاطهر خبالاً في عقله وتغيراً في تصوره وبقي كذلك مدة حتى مكن من تبطيل الخدمة وصرف من النظر الذي كان في يده ثم انه سافر إلى ديار مصر وأقام بالقاهرة في الجامع الأزهر بها وكان يكتب في كل سنة إقليدس والمجسطي ويبيعهما ويقتات من ذلك الثمن ولم تزل هذه حاله حتى توفي. وذكر يوسف الفاسي الإسرائيلي الحكيم بحلب قال: سمعت أن ابن الهيثم يقول كان ينسخ في مدة سنة ثلاثة كتب في ضمن اشتغاله وهي إقليدس والمتوسطات والمجسطي ويستكملها في مدة السنة فذا شرع في نسخها جاءه من يعطيه فيها مائة وخمسين ديناراً مصرياً وصار ذلك كالرسم الذي لا يحتاج فيه إلى مواكسة ولا معاودة قول فيجعلها مؤنة لسنته.

ولقد كنت تجد في كل صقع من أصقاع العرب ملوكاً واقيالاً وأمراء ووزراء احيوا دولة العلم والأدب بحسناتهم مثل الوزيرين ابن عباد وابن العميد في بغداد وبني عباد في الأندلس الذين يقول فيهم ابن حزم أن الأيام لم تزل بهم كأعياد وكان لهم من الحنو على الأدب ما لم يقم به بنو حمدان في حلب وكانوا هم ووزرائهم صدوراً في بلاغتي النظم والنثر مشاركين في فنون العلم وآثارهم مذكورة وأخبارهم مشهورة.

نعم تساوت في الرفد للعلماء دولة الشرق العباسية البغدادية ودولة الغرب الأموية الأندلسية. أراد الحكم الربضي ذات يوم في قرطبة أن يقدم شخصا من الفقهاء يختص به للشهادة فاخذ في ذلك مع يحيى بن يحيى وعبد الملك وغيرهما من أعلام العلماء فقالوا له هو أهل ولكنه شديد الفقر ومن يكون في هذه الحالة لا نؤمنه على حقوق المسلمين لا سيما وأنت تريد انتفاعه وظهوره في الدخول في المواريث والوصايا وأشباه ذلك ولما شكا إلى ولده عبد الرحمن قائلاً ألا ترى لهؤلاء الذين نقدمهم وننوه عند الناس بمكانهم حتى إذا كلفناهم ما ليس عليهم فيه شطط بل لا يعيبهم ولا هو مما يزروهم صدونا عنه وأغلقوا أبواب الشفاعة وذكر له ما كان منهم قال لوالده: يا مولاي أنت أولى الناس بالإنصاف أن هؤلاء ما قدمتهم أنت ولا نوهت بهم إنما قدمهم ونوه بهم علمهم أو كنت تأخذ قوماً جهالة فتضعهم مواضعهم قال: فأنصفهم فيما تعبوا فيه من العلم لينالوا به لذة الدنيا وراحة الآخرة قال: صدقت. فلم يجد الخليفة بداً من إعطاء ذاك الفقيه ما يؤهله لتلك المرتبة من الغنى فنبه قدره بان أعطاه من اصطبله مركوباً وكانت هذه أكرومة لإخفاء بعظمها. يفنى الزمان وما بنته مخلد.

ولو جئنا نعدد المؤلفين الذين أهدوا للعظماء تأليفهم فأجزل هؤلاء لهم العطايا لطال بنا نفس الكلام فمنهم محمد بن يوسف الوراق ألف للمستنصر في مسالك افريقية وممالكها ديواناً ضخماً ومنهم الشريف الإدريسي الذي ألف لروجار صاحب صقيلية كتابه في الجغرافية أيضا ومنهم ابن السيد البطليوسي ألف باسم عبد السلام الملقب بسحنون. وأهدى أبو علي القالي أماليه للحكم عبد الرحمن بن محمد ولي عهد المسلمين في الأندلس وأهدى ابن خلدون تاريخه إلى أبي الحسن بن مرين من ملوك الأندلس. وألف أبو منصور الثعالبي كتاب فقه اللغة باسم أبي الفضل الميكالي وأهدى أبو الحسن بن رشيق كتاب العمدة لأبي الحسن علي بن أبي الرجال الكاتب.

حكا (عن تاريخ الوزراء) محمد بن ناصح الاهوازي قال حدثني النضر بن شميل المازني قال: كنت ادخل على المأمون في سمرة فدخلت عليه ذات ليلة وعلي قميص مرقوع فقال: يا نضر ما هذا القشف حتى تدخل على أمير المؤمنين في هذه الخلقان فقلت: يا أمير المؤمنين أنا شيخ ضعيف وحر ومر شديد فاتبرد بهذه الخلقان فقال: ولكنك قشف ثم أجرينا الحديث فأجرى هو ذكر النساء فقال: حدثنا هشيم عن مجالد عن الشعبي عن ابن العباس قال قال رسول الله ﷺ إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان سداد من عوز فأورده بفتح السين قال فقلت: صدق يا أمير المؤمنين هشيم حدثنا عوف بن أبي جميلة عن الحسين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سداد (بالكسر) من عوز قال وكان المأمون متكئاً فاستوى جالساً وقال: يا نضر كيف قلت سداد قلت: نعم لان السداد: هنا لحن قال: أو تلحنني قلت: إنما لحن هشيم وكان لحاناً. فتبع أمير المؤمنين لفظه قال: فما الفرق بينهما قلت: السداد بالفتح القصد في الدين والسبيل والسداد بالكسر البلغة وكلما سددت به شيئاً فهو سداد قال: أو تعرف العرب ذلك قلت: نعم هذا العرجي يقول:

أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر

فقال المأمون قبح الله تعالى من لا أدب له واطرق ملياً ثم قال: مالك يا نضر قلت: اريضة لي بمرو اتصابها واتمززها أي اشرب صبابتها قال: أفلا أفيدك مالاً معها قلت: إني إلى ذلك لمحتاج قال: فاخذ القرطاس وأنا لا ادري ما يكتب ثم قال: كيف تقول إذا أمرت من أن يترب الكتاب قلت: أتربه قال: فهو ماذا قلت: فهو مترب قال: فمن الطين قلت: طنه. قال: فما هو قلت: مطين قال: هذه أحسن من الأولى ثم قال: يا غلام أتربه وطنه ثم صلى بنا العشاء وقال: لخادمه تبلغ معه إلى الفضل بن سهل قال: فلما قرأ الفضل بن سهل الكتاب قال: يا نضر إن أمير المؤمنين قد أمر لك بخمسين ألف درهم فما كان السبب فأخبرته ولم اكذب فقال: لحنت أمير المؤمنين قلت: كلا إنما لحن هشيم وكان فتبع أمير المؤمنين لفظه وقد تتبع ألفاظ الفقهاء ورواة الآثار ثم أمر لي الفضل من خاصته بثلاثين ألف درهم فأخذت ثمانين ألف درهم بحرف استفيد مني.

قال أبو بريد الوضاحي: أمر أمير المؤمنين المأمون الفراء أن يؤلف ما يجمع به أصول النحو وما سمع من العرب فأمر أن تفرد له حجرة من حجر الدار ووكل بها جواري وخدماً للقيام بما يحتاج إليه حتى لا يتعلق قلبه ولا تتشوف نفسه إلى شيء حتى أنهم كانوا يؤذنونه بأوقات الصلوات وصير له الوراقين وألزمه الأمناء والمنفقين فكان الوراقون يكتبون حتى صنف الحدود وأمر المأمون بكتبه في الخزائن فبعد أن فرغ من ذلك خرج إلى الناس وابتدأ يملي كتاب المعاني وكان وراقيه سلمة وأبو نصر قال: فأردنا أن نعد الناس الذين اجتمعوا لإملاء كتاب المعاني فلم تضبط فلما فرغ من إملاءه خزنه الوراقون عن الناس ليكتسبوا به وقالوا: لا تخرجه إلى احد إلا لمن أراد أن ننسخه له على أن كل خمس أوراق بدرهم فشكا الناس إلى الفراء فجعا الوراقين فقال لهم في ذلك: فقالوا: نحن إنما صحبناك لننتفع بك وكلما صنعته فليس بالناس إليه حاجة ما بهم إلى هذا الكتاب فدعنا نعيش به فقال: قاربوهم تنفعوا وتنتفعوا فأبوا عليه فقال: سأريكم وقال للناس: إني أريد أن أملي كتاب معانٍ أتم شرحاً وابسط قولاً من الذي أمليت فجلس يملي وأملى في الحمد مائة ورقة فجاء الوراقون إليه فقالوا نحن نبلغ الناس ما يحبون فنفسخ كل عشر أوراق بدرهم.

ومثل ذلك في اقتراح الملوك على العلماء تأليف يؤلفونها ما وقع لابن الصفار الأندلسي لما أراد الحكم المستنصر غزو الروم سنة 352 فتقدم إليه وكان مشهوراً بالعلم والأدب بالكون في صحبته فاعتذر بضعف في جسمه فقال المستنصر لأحمد بن نصر قل له: إن ضمن لي أن يؤلف في أشعار خلفائنا بالمشرق وبالأندلس مثل كتاب الصولي في أشعار خلفاء بني العباس أعفته من الغزاة فخرج احمد بن نصر إليه بذلك فقال: افعل ذلك يا أمير المؤمنين إن شاء الله قال فقال المستنصر: إن شاء أن يكون تأليفه في منزله فذلك إليه وإن شاء أن يكون في دار الملك المطلة على النهر فذلك له قال: فسأل أن يكون ذلك في دار الملك وقال: أنا رجل مورود في منزلي وانفرادي في دار الملك لهذه الخدمة اقطع لكل شغل فأجيب إلى ذلك وكمل الكتاب في مجلد صالح وخرج به احمد بن نصر إلى الحكم المستنصر فلقيه بالمجلد بطليطلة فسر الحكم به. والله اعلم كم أعطاه مكافأة عن تعبه.

قال ابن المعتز في طبقات الشعراء: أجود ما قاله مروان بن أبي حفصة قصيدته الغراء اللامية التي فضل بها على شعراء زمانه يمدح فيها معن بن زائدة الشيباني ويقال انه اخذ منه عليها مالاً كثيراً لا يقدر قدره ولم ينل احد من الشعراء الماضيين ما ناله مروان بشعره فمما ناله ضربة واحدة ثلاثمائة ألف درهم من بعض الخلفاء بسبب بيت واحد ويقرب من ذلك ما ناله أبو الطيب المتنبي من مكارم سيف الدولة بن حمدان فانه اغتنى بشعره ولا اغتناء زولا وروستاند وغيرهما من أدباء الفرنجة لعهدنا.

وليس رزق الفتى من فضل حيلته ... لكن جدود وأرزاق بأقسام

كالصيد يحرمه الرامي المجيد وقد ... يرمي فيحرزه من ليس بالرامي

حكا ابن جلجل أن أبا بكر محمد بن زكريا الرازي الطبيب صنف لمنصور بن اسحق ابن احمد بن نوح من ولد بهرام جور صاحب كرمان وخراسان كتاباً في إثبات صناعة الكيمياء وقصده به بغداد (وكان بنو سامان يحبون العلم ويكرمون العلماء) فدفع له الكتاب فأعجبه وشكره عليه وحباه بألف دينار وقال له أردت أن تخرج هذا الذي ذكرته في الكتاب إلى الفعل فقال له الرازي: إن ذلك مما يتمنون له المؤن ويحتاج إلى آلات وعقاقير صحيحة والى إحكام صنعه ذلك كله وكل ذلك كلفة فقال له منصور: كل ما احتجت إليه من الآلات ومما يليق بالصناعة احضره لك كاملاً حتى تخرج ما ضمنته كتابك إلى العمل فلما حقق عليه ذلك كاع من مباشرة ذلك وعجز عن عمله فقال المنصور: وما اعتقدت أن حكيماً يرضى بتخليد الكذب في كتب ينسبها إلى الحكمة يشغل قلوب الناس بها ويتعبهم فيما لا يعود عليهم من ذلك منفعة ثم قال له قد كافأناك على قصدك وتعبك بما صار إليك من الألف دينار ولا بد من معاقبتك على تخليد الكذب فجمل السوط على رأسه ثم أمر أن يضرب بالكتاب على رأسه حتى ينقطع ثم جهزه وسير به إلى بغداد فكان ذلك الضرب سبب نزول الماء في عينيه.

هذه أمثلة قليلة مما كانت عليه حالة العلماء والأدباء في عصور ارتقاء العرب على أن الحال لم تكن تخلو من بائسين ومفلوكين (راجع الفلاكة والمفلوكين للدلجي) من العالمين والمتأدبين أما اليوم فان العالم الحقيقي الذي تعزف نفسه عن الدخول في سلك عمال الحكومة كالوظائف العلمية والإدارية والجندية والمالية إما أن يهلك جوعاً أو يتكسب بقلمه ما هو سداد عوز ويرضى بميسور العيش وفي الغالب إن التأليف لا تعول صاحبها ولو مهما جودها وانفق السنين في تصنيفها ولا يرمج لجهل القوم من المصنفات إلا التافه الحقير كبعض القصص والدواوين الشعرية البذيئة وغير ذلك من المعربات فهل يأتي على الأمة العربية يوم يا ترى تكون فيها التأليف ديمقراطية صرفة لا تحتاج إلا إلى إقبال القراء عليها حتى تغني أبا عذرها وترباً بنفسه عن الإسفاف للدنايا طمعاً في المال والنوال فانا في عصر لا يصح أن يعيش العلماء والأدباء مقتراً عليهم فإنهم كلما رزقوا حظاً من الرفاهية المعتدلة تجود تأليفهم وتصوراتهم ويزيد النفع ببنات أفكارهم.