مجلة المقتبس/العدد 86/احمد فتحي باشا زغلول
→ سجع العماد | مجلة المقتبس - العدد 86 احمد فتحي باشا زغلول [[مؤلف:|]] |
تسمية أبطال العرب ← |
بتاريخ: 1 - 3 - 1914 |
رزئت مصر بل البلاد العربية برجل نافع في نهضتها العلمية والاجتماعية والفضائية ونعني به المرحوم احمد فتحي باشا زغلول من رجال الفضاء في مصر رفعه عمله إلى المناصب العالية وكتب له عمله درجة سامية بين العلماء بما ألف وعرب توفاه الله عن نحو خمسين عاما في القاهرة وكان من الرجال العاملين الذين يصرفون فضل أوقاتهم في التعريب والتأليف وجميع ما عربه وألفه من الكتب الاجتماعية والحقوقية يدل بعد غوره وانه لا ينشر للناس إلا المفيد فأول كتبه التي نشرها كتاب أصول الشرائع لبنثام الانكليزي عربه عن بالافرنسية في مجلدين لطيفين ثم عرب كتاب خواطر وسوا نح في الإسلام للكونت هنري دي كاستري ثم كتاب سر تقدم الانكليز السكسونيين لادمون ديمولان وهذا اشتهر كثيرا واثر وأي اثر في نفوس كل من طالعوه وترجم أيضا كتاب روح الاجتماع للفيلسوف كوستاف لوبون صاحب كتاب حضارة العرب وكتاب سر تطور الأمم لذاك الفيلسوف أيضا وألف من الكتب كتاب المحاماة وكتاب شرح القانون المدني.
احتفل رجال العلم والقضاء والحكومة في مصر في أوائل شهر حزيران من السنة الفائتة في مقر الجامعة المصرية بالعالم فتحي باشا على اثر نشره كتاب شرح القانون المدني فتليت خطب كثيرة في إعماله وقدمت له نسخة مجلدة تجليدا مذهبا من كل كتاب ألفه ورسالة شكر وقع عليها المحتفلون. وفي التاسع من أيار هذه السنة احتفل طائفة من رجال العاصمة المصرية يوم الأربعين من وفاته بتأبينه وتعداد بيض أباد به علي العلم والقضاء وذلك في الأوبرا الخديوية بحضور جمهور كبير من العلماء والفضلاء والشعراء والوزراء والوجهاء فتقدم حسين رشدي باشا رئيس النظار ورئيس لجنة الاحتفال إلى مكان الخطابة وتلا خطبة ثم قام بعده عبد الخالق باشا ثروت ناظر الحقانية والقي خطبة رنانة ثم تلاهما الشيخ محمد الخضري وكيل مدرسة القضاء الشرعي والقي خطبة بليغة عن بعض ما يعرف عن الفقيد من النبوغ فيما اشتغل معه فيه من الأمور الشرعية ثم تلاه محمود بك أبو النصر المحامي نائبا عن المحاماة فصور للناس احمد فتحي زغلول باشا وحيد زمانه في الخطابة والكتابة والتأليف والتعريب وفضائل النفس وسمو الأخلاق ثم تلاه حسن بك عبد الرزاق المحامي نائبا عن الجمعية الخيرية الإسلامية فمثله في بره بالفقراء وعطفه على المعوزين ثم قام على أثره احمد بك لطفي السيد مدير الجريدة نائبا عن الصحافة والأ فأتى على تاريخ الفقيد وسر نبوغه وإغراضه الكامنة في صدره منذ نعومة إظفاره في المبادئ السياسية والاجتماعية والتشريعية.
وبعد إن أتم الخطباء خطبهم تقدم محمود بك نبيه المصري والقي مرثيه وتلاه الشيخ عبد الوهاب النجار المدرس بمدرسة البوليس قارئا لقصيدة الشيخ عبد المحسن الكاظمي شاعر العراق التي أجمل فيها العزاء لكل مصاب بهذا الفقيد سواء في مصر أو غيرها.
ثم تلاه الشيخ عبد المطلب المدرس بمدرسة القضاء الشرعي فاسترق النفوس بما أودعه في قصيدته من الحقائق عن الفقيد العزيز ثم قام بعده خليل أفندي مطران فالقي قصيدة بليغة. وبعد ذلك هم سعد زغلول باشا شقيق الفقيد ومن كبار رجال مصر إلى مكان الخطباء ليقدم بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن عائلته الحزينة شكره للأمة المصرية على ماجبرت من خاطرهم فخانته قواه وارتج عليه باب القول ففاضت عبراته وقال كلمة متقطعة في ذلك.
فما قاله رئيس النظار وهو من نبغاء مصر في العلم والقضاء أيضا: فان كنتم قد اجتمعتم اليوم مدفوعين بما عليكم الوجدان بتمجيد ذكراه وتعداد مناقبه ومآثره فإنما انتم تدلون بعلمكم هذا على ما كان للفقيد من المكانة الرفيعة في نفوسكم وعلى إنكم تعرفون أقدار الرجال.
اشتغلت أنا والفقيد في نظارة الحقانية زمانا طويلا كان فيه ساعدي اليمين، وكان لي نعم المعين. واليتني كنت افتتح اليوم هذه الحفلة لا لتأبينه بل لتكريمه حيا ومستمرا على تأدية خدمة الجليلة لوطنه فانه والحق يقال كان من اكبر مظاهر الرقي العقلي في وادي النيل.
وقال ناظر الحقانية وهو من رجال العلم والقضاء أيضا:
إلا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل
باطل هذه الدنيا بما فيها واكبر باطل فيها الحياة كالبرق خلاب بشدة السنا فإذا الظلام في عقبه أو ادني. وقلما يفكر الأحياء في هذه الحقائق الوهاجة أو يتدبرها إلا إذا مضى رجل منهم كبير بعمله كبير بآثاره.
لمثل ذلك اجتمع هذا الجمع. اجتمع بذكر رجلا كبيرا قضى نخبه لا حتف انفه ولكن في جهاد عظيم وقتال كبير وليس لعمري دمه إلا ذلك المداد الغزير الذي أجراه سيف القلم على صفحات المصنفات التي أفاء الله بها عليه من المعرب والمنشأ أريد المرحوم احمد فتحي زغلول. ليس أدل على إن هذا الرجل نابغة من اعتراف فضلاء الأمة له بالفضل ولا تزال وأصواتهم ترن في أذاننا لقرب عهدنا باجتماعهم تكريما له وإجلالا لإعماله.
احتفلوا بالأمس بفضله واجتمعنا اليوم لتأبينه لا غرابة فالعواصف لا تصيب إلا الأشجار الباسقة والصواعق لا تنقض إلا على ما تسامى فوق الناس إلى السماء
والموت نقاد على كفه ... جواهر يختار منها الحسان
توفي المرحوم فتحي باشا ولو إن للهمة شفاعة أو لو إن العزيمة تقبل عدلا لكان أول الخالدين ولكن هذا أمر الله ولا راد لما قضى.
لو أردت إن أو في الرجل حقه من الوصف لما وسعني وقت ولما استغنيت بقلمي ولساني وحسبه رحمه الله السنة الخلق وأقلام الحق فقد وضعوه الموضع الذي هو به جدير.
لقد كان في كل ميدان فرس رهان - كان كما يقولون رجلا جامعا رجلا عموميا نبغ في المعقول والمنقول معا ومعه الأدب الجم تزينه البلاغة ويزنه المنطق الصحيح إلى العلم الغزير تثبته الحنكة وتؤيده قوة العارضة إلى صفات نادرة في تصريف الأمور.
كان كاتبا يرقص الأرواح بكتابته طربا وخطيبا لو قام بين وحوش علم الضاريات بر النقاد. كانت له باع طولي وذوق سليم في كل شيء يجمع إلى هذا كله شغفا غريبا بحسن التنسيق والتنظيم
وليس على الله بمستنكر ... إن يجمع العالم في واحد
ليس من قصدي إن اشرح حياة الرجل كلها فهذا ما ليس لي فيه مطمع وإنما أردت إن اذكر ما يحتمله المقام من ذلك. أردت إن يعرض قومه جنوده التي جاهد بها وعدد التي اعتد بها - كما تعرض الجيوش في لحظة ليتعرفوا. لم؟ لان لقوته صلب المعضلات واستقامت لغمزته قناة المشكلات. . .
وبعد إن أجمل حياته القضائية حتى أصبح وكيلا لنظارة الحقانية وكانت هذه أخر عهد له بالوظائف قال: لست أبالغ إذا قلت إن جهاده في عام من أعوامها يقصر دونه جهاد رجال في أعوام. لم يقتصر همته على أعمالها الكثيرة العظيمة بل كنت تجده عاملا في كل شان من الشؤون العامة.
له في نظارة الحقانية فضل المشاركة والمعاونة في وضع كل القوانين التي وضعت في عهده وهي كثيرة وفي الدرجة الأولى من المكانة واليه وحده يرجع الفضل كله في وضع قوانين المحاكم الشرعية التي يدعم عليها نظامها الحالي ولولا همته التي لا يعتريها الإكلال لما كانت الآن تلك المحاكم إلا كما كانت عليه قبل نظامها الحالي وكذلك كانت له اليد البيضاء والفضل الأول في النظام الحالي للمعاهد الدينية فان الجناب العالي لما توجهت أنظاره الكريمة إلى إصلاح تلك المعاهد عهد في وضع نظام جديد لها إلى لجنة الفت تحت رئاسة الفقيد ومعه زميلي صدقي باشا ناظر الزراعة ومنى واني لأؤدي دينا علي وعلى زميلي باعترافي الآن على هذا الملأ بان فتحي باشا رحمه الله هو وحده صاحب الفضل في كل ما وضع من النظامان الجارية عليها الآن هذه المعاهد لم تنته تلك الأعمال الكثيرة والمشاغل الجمة وقد أضنت جسمه وأضعفت قوته عما عود عليه أمته من خدمتها بالتأليف والتعريب وكان عهدها نفث هذا القلم القادر البليغ هذا المصنف الجليل الذي وضعه في شرح القانون المدني.
حياة كلها جهاد وعمل لم يؤت فيها عقله وجسمه قسطهما من الراحة مدفوعا إلى ذلك بعوامل فطرته مغالبا نواميس الطبيعة.
وخطب احمد لطفي بك السيد قال: إن شدة الذكاء وقوة النفس وحسن الإخلاص تلك الصفات التي ظهرت أثارها على فتحي باشا منذ شبابه الغض راجع معظمها إلى التأثير الوراثي من أبوابه وعلى الأخص والدته التي أفاضت عليه من صفاتها بما يفيض الأصل على الفرع وبما تعهدت أمره في التربية الأولى وما غرست فيه من المبادئ الصالحة مما جعل لفتحي شخصية ممتازة منذ صباه.
لا يأخذكم العجب من قولي فان من أمهاتنا نحن القرويون من هن مع بساطة في المدارك العقلية وبعد عن المغلوب والمعارف على جانب عظيم من الذكاء الفطري ورفعة الأخلاق وعزة النفس وذوق الرفيع في الحكم وطيبة وتقوى في المعاملات ينقلن هذه الصفات لأبنائهن بحكم القانون الانتقال الوراثي فتكون لهم رأس مال في الحياة العملية ولولا هذه الصفات لهلك القرويون غير المتعلمين بما هم فيه من جهل عميق وما عانوا من استبداد طويل ولكن هذه الصفات الأولية قد قامت في نجاحهم مقام المعارف زمنا طويلا ولا يزال الاتكال عليها وحدها يؤدي إلى الآن نتائجه المتعارف في بلادنا فإذا جاءت العلوم والمعارف على هذه الصفات الأولية ظهر النبوغ قلة وكثرة تبعا لقوة الاستعداد أي لقوة تلك الصفات الوراثية فللأمهات القرويات إن يقبلن أيضا شكر الجيل الحاضر علينا إن نعترف علنا ومن غير تردد بما للأمهات من المكانة العظمى من حيث توريث البنين والقيام على تربيتهم الأولى وأمامنا المثل الحسي أن والدة فتحي باشا ينسب إليها الفضل الأكبر في أن أخرجت لمصر نابغين نرجو له العمر الطويل ونابغة فقدناه إسفين فقدناه ونقدم اليوم للتاريخ منه صورة هي أقوم صور نوابغنا حجة لحسن الاستعداد وعلو الكفاءة العلمية والعملية جميعا.
قال: أن فتحي باشا كان رجل ارتقاء لا رجل ثورة - أنه كان يكره الثورة - بعد سن الرجولة بالضرورة يكرهها بكل مظاهرها حتى الفكرية منها فكما انه كان يرى إن الخير القوانين ليس هو القانون الحسن في ذاته ولكنه القانون الذي يحتمل الشعب تطبيقه كذلك كان يرى إن خير المبادئ الاجتماعية والسياسية هو ما كان بينه وبين طبائع الشعب وعاداته نسب تكمل ما فيها من اعوجاج. ويكتب ينالا يكاد يفارقه حتى يناديه الصبح من كثب لا ملل ولا سأم، تلك لذته ربها غرامه لا يزيده عذل العاذلين فيها إلا ولوعاً وربما أدرك سماره الإكلال وتشابهت عليهم وجوه الكلام وهو حديد الذهن كبير النفس ماضي العزيمة. ولم يكن سمره ولا عمله إلا فيما يرضي ضميره من كتاب يؤلف أو يترجم أو عمل صالح يقدم للجمهور من أمته. وقد ظهر لنا علو كعبه في حب الخير بما قام به في شأن الأزهر المعمور تلك المدرسة العظيمة التي بصلاحها يصلح عالم كبير من هذه الأمة إلى أن قال: ثم وضع بعد ذلك مشروع القانون الأخير ونماذج التعليم في العلوم المختلفة وقد كان عند وضعه واسع الأمل يريد للأزهر أن يكون فوق هامة المدارس وأن تكون مصر به فوق هامة البلاد الإسلامية كافة كما كان لها ذلك فيما مضى من الأزمان. وقد حاز هذا التقرير قبولاً لدى الجناب العالي الخديوي فصدر أمره الكريم أن يجري العمل به. ألف مجلس الأزهر الأعلى من ستة تعينهم وظائفهم ومن ثلاثة اختيروا الصلاح. أمر التعليم ومارس تشريع القوانين وتنفيذها وكان الفقيد أحد هؤلاء الثلاثة فسار في أمره سيرة رجل ينشد الإصلاح ويحث عليه فكنا نراه مهتماً بإنفاذ هذا القانون باذلاً جهده في علو شأن الأزهر والأزهريين كما يبذل الرجل جهده في تثقيف ولده وتقويم أوده يحب العامل ويثني عليه ويكره الكسول وينفر منه، يسوس النافر ويستجلب الشارد حتى لان له الأبي ورضي عنه الناس بعد أن علموا إخلاصه وتفانيه فيما يصلح شأنهم ويرقي جامعتهم. وقد سار الأزهر بتلك الهمة الشماء شوطاً بعيداً في طريق السداد والصلاح. وكما يتوجب الوفاء علينا أن نذكر لفقيدنا هذا الأثر الخالد نذكر له مواقفه في إصلاح المحاكم الشرعية فما من قانون أو لائحة وضعت لنظام هذه المحاكم وانتشالها من وهدتها إلا كانت له اليد الطولي في وضعها وإنفاذها، كان ينظر نظراً دقيقاً إلى ما هذه المحاكم من التأثير في حال الأسر المصرية الإسلامية والوصول بها إلى شيء مما تطلبه لها من النظام والاستناد على دعامة متينة وكان يرى والحق ما يرى أن الأمة لا يتم تكونها ولا ترتقي جماعتها إلا إذا اطمأنت الأسرة وأمن القرينان اللذان هما عمادها خطر الظلم وامتداد الآجال عند التقاضي إذا لم يكن منه بد تأصل هذا في نفسه فكان يرى صلاح هذه المحاكم من أول واجبات المفكرين والعاملين المخلصين فكان ينتهز الفرصة السانحة لإدخال كل نظام يسهل على المتقاضين حاجتهم وقد نجح في كثير مما أراد نجاحا عظيما وإن لم يكن كل ما أراد، وكانت الرابطة متينة في نفسه بين العملين إصلاح المعاهد الدينية وإصلاح المحاكم الشرعية لذلك كان مجهوده العظيم مبذولاً نحو الإصلاحيين على السواء.