مجلة المقتبس/العدد 84/سيرة صلاح الدين
→ الإفادات والإنشادات | مجلة المقتبس - العدد 84 سيرة صلاح الدين [[مؤلف:|]] |
تاريخ السياسة الأوروبية الحاضرة ← |
بتاريخ: 1 - 1 - 1914 |
لو كان تاريخ العرب يدرس في مدارسنا على أصوله لوجب أن تدرس سيرة السلطان صلاح الدين يوسف ابن أيوب صاحب مصر والشام واليمن والجزيرة كما تدرس سيرة الخلفاء الراشدين فقد مضت القرون بعد الخليفة المأمون العباسي ولم ينشأ للعرب ملك كصلاح الدين بعقله وعدله وحلمه وحسن بلائه وقد دونت سيرته في عهده فكان عند المشارقة والمغاربة أنموذج الملك الحازم العاقل وأحق ما يرجع إليه في سيرته رحمه الله من الكتب كتاب النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية لبهاء الدين بن شداد من قضاة الملك الناصر وكتاب الفتح القسي في الفتح القدسي لعماد الدين الكاتب أحد كتاب ديوانه ثم يؤخذ عمن كان في عصره أو قريبا منه أمثال ابن الأثير صاحب الكامل وتاج الدين شاهنشاه بن أيوب صاحب حماة أو عن صاحب تاريخ الروضتين في أخبار الدولتين.
أما كتاب النوادر فهو على أسلوب المؤرخ كتب بعبارة مرسلة لا تكلف فيها صيغ فيه اللفظ على قدر المعنى بخلاف الفتح القسي فإنه راعي فيه السجع من أوله إلى آخره حتى يكاد يمل قارئه وتشغله الألفاظ والجناسات والترصيع وعويص اللغة عن تدبر المعنى ودخوله الآذان بلا استئذان على أن له من سجعه في الأحيان ما يجئ عفو القريحة فيكون المعجب المطرب مثل فصل ذكر حال نساء الفرنج فإنه أبدع فيه كل الإبداع وإن كان ما يظهر ركب مركب الغلو في تمثيل حالهن.
ولقد تدبرنا سيرة الملك الناصر صلاح الدين منذ ولد في قلعة تكربت (532 هـ) وكان والده أيوب بن شاذي والياً بها إلى أن جاء الموصل مع والده وقد ترعرع إلى أن انتقل معه إلى الشام وأعطي بعلبك إلى أن اتصل بالملك نور الدين محمود بن زنكي إلى أن ذهب مع عمه أسد الدين شيركوه إلى مصر إلى أن ملك مصر وأزال دولة العاضد الفاطمية وخطب للدولة العباسية إلى أن فتح الشام واستخلص أكثر بلاد الساحل الشامي والقدس من الإفرنج إلى أن توفاه الله في دمشق بعد جهاد أربع سنين في الصليبيين - تدبرنا كل هذا فلم نحص له ولا شهدنا له إلا ما ينطبق على مكارم الأخلاق والعدل المتناهي والحلم الذي دونه حلم أحنف ومعاوية ولولا ما دسه الفقهاء عليه من تزيين قتل الشهاب السهروردي الفيلسوف لخرجت صحيفة حياته كلها بيضاء نقية قال ابن شداد أن هذا السلطان كان مبغضا للفلاسفة والمعطلة ومن يعاند الشريعة ولقد أمر ولده صاحب حلب الملك الظاهر أعز اله أنصاره بقتل شاب نشأ يقال له السهروردي قيل عنه أنه كان معاندا للشرائع معطلا وكان قد قبض عليه ولده المذكور لما بلغه من خبره وعرف السلطان به فأمر بقتله فطلبه أياما فقتله هذه رواية ابن شداد وهو من الفقهاء أورد هذه القصة في معرض أن السلطان يعظم شعائر الدين وإثبات أنه يقول بالعبث والنشور ومجازاة المحسن بالجنة والمسيء بالنار.
إلا أن ابن أبي أصيبعة قال في حقيقة قتل الشهاب السهروردي أنه لما أتى إلى حلب وناظر بها الفقهاء ولم يجاره أحد كثر تشنيعهم فاستحضره الملك السلطان الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب واستحضر الأكابر من المدرسين والفقهاء والمتكلمين ليسمع ما يجري بينهم وبينه من المباحث والكلام فتكلم معهم بكلام كثير وبأن له فضل عظيم وعلم باهر وحسن موقعه عند الملك الظاهر وقربه وصار مكينا عنده مختصا به فازداد تشنيع أولئك عليه وعملوا محاضر بكفره وسيروها إلى دمشق على الملك الناصر صلاح الدين وقالوا إن بقي هذا فإنه يفسد اعتقاد الملك الظاهر وكذلك إن أطلق فإنه يفسد أي ناحية كان بها من البلاد وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك فبعث صلاح الدين إلى ولده الملك الظاهر بحلب كتابا في حقه بخط القاضي الفاضل وهو يقول فيه أن هذا الشهاب السهروردي لابد من قتله ولا سبيل إلى إطلاقه ولا يبقى بوجه من الوجوه ولما بلغ شهاب الدين السهروردي ذلك وأيقن أنه يقتل وليس جهة إلى الإفراج عنه اختار أن يترك مكان مفرد ويمنع من الطعام والشراب إلى أن يلقى الله تعالى ففعل به ذلك وكان في أواخر سنة ست وثمانين وخمسمائة بقلعة حلب وكان عمره نحو ست وثلاثين سنة. قال صاحب طبقات الأطباء أن السهروردي صار له شأن عظيم عند الملك الظاهر وبحث مع الفقهاء في المذاهب وعجزهم واستطال على أهل حلب وصار يكلمهم كلام من هو أعلى قدرا منهم فتعصبوا عليه وأفتوا في دمه حتى قتل وقيل أن الملك الظاهر سير إليه من خنقه ثم أن الملك الظاهر بعد مدة نقم على الذين أفتوا في دمه وقبض على جماعة منهم واعتقلهم وأهانهم وأخذ منهم أموالا عظيمة.
هذه الغلطة الوحيدة هي التي أحصيت لصلاح الدين وهي في الحقيقة انتقام المتفقهة من المتفلسفة أو النقل من العقل - وهذا الانتقام ما برح على أشده في كل زمان ولا سيما منذ القرن السادس إلى آخر العاشر فإنه قتل في بلاد الإسلام كثير من الأعاظم أو اضطهدوا وأوذوا من قبل أعداء الفلسفة وما عدا ذلك فإن صلاح الدين لا يلام على قتل أحد من الصليبيين لأنهم أفحشوا هم في أسره وعاهدوا فخانوا ومثل من قتلهم من المصريين للقضاء على الدولة العبيدية أو من قاموا يدعون إليهم بعد أن زالت دولتهم وفي جملتهم عمارة اليمني الشاعر (المقتبس م3 ص 169) كل ذلك يغتفر له لأنه في سبيل تأييد سلطانه والملك عقيم كما قيل.
ومما ذكره ابن شداد في عدله أنه كان رؤفاً رحيماً ناصراً للضعيف على القوي ولكن يجلس للعدل في كل يوم اثنين وخميس في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير وصغير وعجوز هرمة وشيخ كبير وكان يفعل ذلك سفرا وحضراً على أنه كان في جميع زمانه قابلا لجميع ما يعرض عليه من القصص في كل يوم ويفتح باب العدل ولم يرد قاصداً للحوادث والحكومات. وكان يجلس مع الكاتب ساعة إما في الليل أو في النهار ويوقع على كل قصة بما يجريه الله على قلبه ولم يرد قاصداً أبداً ولا منتصلاً ولا طالب حاجة وما استغاث إليه أحد إلا وقف وسمع قضيته وكشف ظلامته واعتنى بقصته ولقد رأيته وما استغاث إليه إنسان من أهل دمشق يقال له ابن زهير على تقي الدين ابن أخيه فأنفذ إليه ليحضر إلى مجلس الحكم وكان تقي الدين من أعز الناس عليه وأعظمهم عنده ولكنه لم يحابه في الحق.
وأعظم من هذه الحكاية مما يدل على عدله قضية جرت له مع إنسان تاجر يدعى عمر الخلاطي وذلك أني كنت يوما في مجلس الحكم بالقدس الشريف إذ دخل عليّ شيخ مسن تاجر معروف يدعى عمر الخلاطي معه كتاب حكمي يسأل فتحه فسألته من خصمك فقال: خصمي السلطان وهذا بساط العدل وقد سمعت أنك لا تحابي قلت: وفي أقضية هو خصمك فقال: إن سنقر الخلاطي كان مملوكي ولم يزل على ملكي إلى أن مات وكان في يديه أموال عظيمة كلها لي ومات عنها واستولى عليها السلطان وأنا مطالبه بها فقلت له: يا شيخ وما أقعدك إلى هذه الغاية فقال: لا تبطل بالتأخير وهذا الكتاب الحكمي ينطق بأنه لم يزل في ملكي إلى أن مات فأخذت الكتاب منه وتصفحت مضمونه فوجدته يتضمن حيلة سنقر الخلاطي وأنه قد اشتراه من فلان التاجر بارجيش اليوم الفلاني من شهر كذا وأنه لم يزل في ملكه إلى أن شذ عن يده في سنة كذا وما عرف شهود هذا الكتاب خروجه عن ملكه بوجه ما وتم الشرط إلى آخره فتعجبت من هذه القضية وقلت للرجل: لا ينبغي سماع هذا بلا وجود الخصم وأنا أعرفه وأعرفك ما عنده فرضي الرجل بذلك واندفع فلما اتفق المثول بين يديه في بقية ذلك اليوم عرفته القضية فاستبعد ذلك استبعاداً عظيماً وقال: كنت نظرت في الكتاب فقلت نظرت فيه ورأيته متصل الورود والقبول إلى دمشق شهود معروفون فقال: مبارك نحن نحضر الرجل ونحاكمه ونعمل في القضية ما يقتضيه الشرع.
ثم اتفق بعد ذلك جلوسه معي خلوة فقلت له: هذا الخصم يتردد ولابد أن نسمع دعواه فقال: أقم عني وكيلاً يسمع الدعوى ثم يقيم الشهود شهاداتهم وأخر فتح الكتاب إلى حين حضور الرجل هاهنا ففعلت ذلك ثم أحضر الرجل واستدناه حتى جلس بين يديه وكنت إلى جانبه ثم نزل من طراحته حتى ساواه وقال: إن كان لك دعوى فاذكرها فحرر الرجل الدعوى على معنى ما شرح أولا فأجابه السلطان أن سنقر هذا كان مملوكي ولم يزل على ملكي حتى أعتقته وتوفي وخلف ما خلفه لورثته فقال الرجل: لي بينة تشهد بما أدعيه ثم سأل فتح كتابه ففتحه فوجدته كما شرحه فلما سمع السلطان التاريخ قال عندي من يشهد أن سنقر هذا في هذا التاريخ كان في ملكي وفي يدي بمصر وأني اشتريته مع ثمانية أنفس في تاريخ متقدم على هذا التاريخ بسنة وأنه لم يزل في يدي وملكي إلى أن أعتقته ثم استحضر جماعة من أعيان الأمراء والمجاهدين فشهدوا بذلك وذكروا القصة كما ذكرها والتاريخ كما ادعاء فأبلس الرجل فقلت له: يا مولاي هذا الرجل ما فعل ذلك إلا طلباً لمراحم السلطان وقد حضر بين يدي المولى ولا يحسن أن يرجع خائب للقصد فقال: هذا باب آخر وتقدم له بخلعه ونفقة بالغة قد شذ عني مقدارها قال ابن شداد فانظر إلى ما في طي هذه القضية من المعاني الغريبة العجيبة والتواضع والانقياد إلى الحق وإرغام النفس والكرم في موضع المؤاخذة مع القدرة التامة.
مثل هذا الفاتح العظيم مات ولم يحفظ ما تجب عليه به الزكاة فان صدقة النفل استرقت جميع ما ملكه من الأموال فملك ما ملك ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهما ناصريا وجرما واحدا ذهبا ولم يخلف لملكا ولا دارا ولا عقارا ولا بستانا ولا قرية ولا مزرعة ولا شيئا من أنواع الأملاك وكان رحمه الله يهيب الأقاليم وفتح آمد (ديار بكر) وطلبها منه ابن قره أرسلان فأعطاه إياها وهو يعطي في وقت الضيق كما يعطي في حال السعة وكان نواب خزائنه يخفون عنه شيئا من المال حرا من أن يفاجئهم مهم لعلمهم بأنه متى علم به أخرجه قال ابن شداد: وكان يعطي فوق ما يؤمل الطالب فما سمعته قط يقول: أعطينا لفلان وكان يعطي الكثير ويبسط وجهه للعطاء بسطه لمن لم يعطه شيئا وما سمعته قط يقول: قد زدت مراراً فكم أزيد وأكثر الرسائل كانت تكون على لساني ويدي وكنت أخجل من كثرة ما يطلبون ولا أخجل منه من كثرة ما أطلبه لهم لعلمي بعدم مؤاخذته في ذلك وما خدمه أحد إلا وأغناه عن سؤال غيره وقد سمعت من صاحب ديوانه يقول لي: قد تجارينا عطاياه فحصرنا عدد ما وهب من الخيل بمرج عكا فكان عشرة ألاف رس ولم يكد يركب فرساً إلا وقد وعد بأن يعطيها لأحد طلاب عطاياه. وبالجملة فإن ما ذكره العماد وابن شداد عن خلال صلاح الدين ومواظبته على القواعد الدينية وملاحظته للأمور الشرعية وعدله وكرمه وشجاعته واهتمامه بأمر الجهاد وصبره واحتسابه وحلمه وعفوه ومحافظته على أسباب المروءة هو العجب العجاب وقرة عين المسلمين والعرب على مر السنين والأحقاب.
يرى الناظر في كتاب العماد الكاتب الأصفهاني أنه لم يكد يغفل تفاصيل الوقائع الصلاحية أو يشذ عنه نادرة من النوادر اليوسفية الأيوبية على ضيق عطن النثر والسجع عن قبول هذه المعاني بجملتها ويعاب على الأصفهاني كثرة تبجحه بكتابته فقد ذكر غير ما مرة من كتابه أنه كان هو الفرد العظيم المقدم في الديوان الصلاحي مع أن ابن شداد ذكر عن نفسه شيئا من ذلك بالعرض أورده كما رأيته في معرض الكلام على منائح صلاح الدين ولكن صاحبنا العماد جرى على عادة الفرس في المبالغة سامحه الله فقال في فتح بيروت: وكنت يومئذ في مرض قد أزعجني ومضض أجفاني ولعيون العواد أبرزني وانقطعت عن الحضور عند السلطان وضعفت عن تحرير كتاب الأمان فطلب السلطان كل كاتب في ديوانه وكل من يمسك قلما من أفاضل الملك وأعيانه فلم يرضه ما كتبوه ولم يكفه ما رتبوه فجاءني في تلك الحالة من استملاه مني ومرضت أذهان الأصحاء ولم يمرض ذهني فتسلم بيروت بخطي وأصبحوا وأنا الآخذ والمعطي وكان الناس قد أنسوا بما أسطره وأبرزه وأنسوا سوى ما أذكره وأحبره والغوا الصحة فيه فألفوا ولقوا السقم في غيره فانفوه فلم يكن في ذلك التوقيع تعويق بل كله بتوفيق من الله توثيق فما فتح فتح إلا بمفتاحه ولا رتق فتق إلا بصلاحه ولا جلي ظلام إلا بإصباحه ولا وري زند إلا باقتداحه.
وقال من فصل: وكان قد عرض له مرض فانقلب إلى دمشق يداوي مزاجه فلما عاد إلى الحضرة سأله السلطان: أين كنت ولم أبطأت وحيث أصبت في المجيء فما أخطأت وقد كنا في انتظارك والسؤال عن أخبارك وهذا أوان إحسانك فأين إحسان أوانك فأجر بنانك بجرأة بيانك واجز في ميدانك وما للبشائر (بفتح القدس) إلا واصفها وللفرائد إلا راصفها وللفصاحة إلا قسها وللصحافة إلا قيسها وكان قد جمع أمس كتاب دواوينه على إنشاء كتب ما ارتضاها واقتضاب معان ما اقتضاها وكانوا سألوه في كتاب الديوان العزيز فقال: لهذا من هو أقوم به وعناني فلما ساءني ناداني واستدناني فصرفت إلى امتثال أمره عناني وسلم إلي الكتب التي كتبوها بالألفاظ التي رتبوها وقال غيرها ولا تسيرها وغرضه أني أعدل معوجها وأبدل مثبجها وافترع المعنى البكر للفتح البكر وأوشح ذكر آياته بآيات الذكر فاستجديها فما استجدتها واستلمحتها فما استملحتها وشممتها وبها سهك وكشفتها وسترهاهتك وكانوا قد تعاونوا عليها وفيها لهم شرك فشرعت في افتضاض الأبكار واقتضاء الأفكار واقتراح القريحة وافتراء رحاب الكلم الفصيحة الفسيحة وافتتحت في بشرى الفتح بكتاب الديوان العزيز وأوردت المعنى البليغ في اللفظ الوجيز ووشحت ووشعت وشعبت وأشبعت وأطلت وأطبت وصبت وأصبت وأعجزت وأعجبت ووافقت وأنست. . . . .
وقال في الوقعة العادية: ولما عرفت بالواقعة والنصرة الجامعة صدرت ثلثين أربعين كتابا بالبشارات فأبلغ المعاني وأبرع العبارات وقلت إذا نزل السلطان وجد الكتب حاضرة ورأى البشائر شائرة وركبت أنا والقاضي بهاء الدين بن شداد لمشاهدة ما هناك من أشلاء صرعى وأجساد فما أعجل ما سلبوا وعروا وفروا وقروا وقد بقرت بطونهم وفقئت عيونهم ورأينا امرأة مقتولة لكونها قاتلة وسمعناها وهي خامدة بالعبرة قائلة وما زلنا نطوف عليهم ونعبر ونفكر فيهم حتى ارتدى العشاء بالظلام فعدنا إلى الخيام وأخذت الكتب التي نمقتها بالبشائر التي حققتها وإذا السلطان قد استبطاني وعدم إجابتي لما دعاني فما صبر ولا انتظر ولا ترقبني أن أحضر ولا أمهل أن أعطى بالبشارة حقها وأجلو بأنوار المعاني فقها وأبلغ بالبلاغة مداها بتقليص الضلالة ثوب هداها وأصف بحدود الأقلام ما صنعته حدود السيوف وأروج نقودي عند السلطان وأغنيه عن الزيوف فأبصرت عنده مشرفي المطانج والأبيات ومدوني الجرائد بالإثبات وقد كتبوا تلك البشارة الثقيلة الجليلة في رقاع خفيفة بعبارات سخيفة وقد عطلت الحسناء من حيلتها وعروها من بزتها وشوهوا جمالها وأحالوا حالها فذهب المبشرون وسار القاصدون فما كان لتلك الوقعة عند من وقع عليها وقع ولا تم لغليل من رام الاطلاع على حقيقتها نقع وأرادوا بدمشق قراءتها على المنبر فما استحسنوها ولو وردتهم بزينة عبارتي وبراعتي زينوها وفي تلك الحال التفت السلطان إليّ وقال اكتب بهذه البشارة إلى بغداد وعجل بها الانفاذ فقلت على سبيل العتب انتم تريدون ما أكتبه ولا ترغبون فيما أرتبه وأهذبه فقال كأنك كتبت البشائر فهاتها حتى تهدى إلى طرقاتها فقلت ما فات فات وهيهات هيهات وأخرجت له ما بقي من بشارات البلاد التي أنشأتها بالألفاظ والمعاني التي ابتدعتها وابتدأتها فسارت فسرت البعيد والقريب وخصت من جداها بالخصب الجديب وصدحت بأسجاعها المنابر وصمت بسماعها المفاخر وظهرت بعباراتها العبر وبهرت بزبرها الزبر وعمرت بمعانيها وعمت مباهجها مناهج الأقاصي والأداني.
وقال من هذا البحر والقافية في ذكر لطف من الله في حقي خفي كان السلطان قبل استيلاء الفرنج على عكا بسنة قد عمل ترجمة تفرد بها القاضي ابن قريش لمكاتبة الأصحاب ليكتب بها إليهم ويعود بها الجواب فلم يبقى المكاتبة ابتداء وجوباً بخطي وخرج حكم عكا في الكتابة عن شرطي فقلت لأصحابي ما صرف الله قلمي عن عكاء إلا وفي علمه أن الكفر إليها يعود وأن النحوس تحلها وترحل عنها السعود واستعاذني الله من استعادتها وردها إلى شقاوتها بعد سعادتها ولقد عصم الله قلمي وكلمني وعرف شيم مخايل الطاقة من شيمي وهذا قلم جمعت به أشتات العلوم مدة عمري وما أجراه الله إلا بأجري فالحمد لله الذي صانه وعظم شأنه وما ضيع إحسانه وهو للفقه والفتيا ومصالح الدين في الدنيا وما عرف إلا بعرف فما صرف إلا عن صرف وما سفارته إلا في نجح وما أسفاره إلا عن صبح وما تجارته إلا لربح فهو يمين الدولة وأمينها ومعين الملة بل معينها بمداده يستمد إمدادها وبسداده للثغور سدادها ودواته دواء المعضلات وبعقده حل المشكلات وبخطه حط عوادي الخطوب وبقطه قط هوادي القطوب وببريه برء الأمراض وبدرءه درء الأعراض وبدره انتظام عقود العقول وبدراريه ابتسام الإقبال والقبول وبجريه جرى الجياد للجهاد وبسعيه سعي الأمجاد للإنجاد وبحركته سكون الدهماء وببركته ركون الرجاء فما كان الله ليضيعه في صون مالا يصونه من لا يعنيه فخفقت على عكاء من وقوف قلمي عنها وكان قد ألهمني الله فإنه صانه ولم يصنها وشكرت الله على هذه اللطيفة والعارفة الطريفة.
وقال من فصل في وفاة السلطان وكيف كانت حاله بعد: وبقيت تلك الأيام لا أفرق بين الدجى والضحى ولا أجد قلبي من سقم الهم وسكره صح ولا صحا وحالت حالي وزال أدلالي وزاد بلبالي وبطل حقي واتسع خرقي وتنازل جاهي وتنازق أشباهي وأعضلت أدواء الدواهي وبقيت المعارف متنكرة والمطالع مكفهرة والعيون شاخصة والظلال قالصة والأيدي يابسة والوجوه عابسة وعادت أبكار خواطري عانسة ونجوم قرائحي وشواردها الآنسة خانسة كانسة وبقي باب كل مرتجى مرتجا ومنهج كل معروف منهجاً وظعن الغنى واختلف في حسن الاخلاف بي ظني حتى تولى الملك الأفضل بدمشق مقام أبيه وقام بالأمر بعزم تأنيه وحزم تأتيه وعز تأبيه فعرف افتقاره إلى معرفتي وفقري وإلى عطل الملك ومحله من غزارة حلب دري ونضارة حلي دري فكتبت له وحليت من الملك عطله ووشيت الكتب ووشعتها وجليت الرتب ووسعتها وهززت اليراعة وأغزرت البراعة وهجرت الجماعة ولزمت القناعة.
هذا هو الإعجاب بالنفس بل إعجاب الفرس تراه ماثلا من أول كتابه إلى آخره فقد قال في مقدمته: وأودعته من فوائد الكلام والفرائد الفذ والتؤام دار السحاب ودر السحاب وسميته الفتح القدسي تنبيها على جلالة قدرة وتنويها بدلالة فخره وعرضته على القاضي الأجل الفاضل وهو الذي في سوق فضله تعرض بضائع الفضائل فقال لي سمه (الفتح القسي في الفتح القدسي) فقد فتح الله عليك بفصاحة قس وبلاغته وصاغت صيغه بيانك فيه ما يعجز ذوو القدرة في البيان عن صياغته.
أظن أن القاضي الفاضل على جلالة شأنه ما كان يستحق هذا الإعظام من العماد لو لم يكن نوه له بكتابه على أن للعماد من المزايا التي يفاخر بها ما قد يغفر له هذا التبجح ولكن كثيرين يفاخرون وليس عندهم شيء من المزايا. نشأ العماد بأصبهان وقدم بغداد في حداثته وتفقه بالمدرسة النظامية وأقام بها مدة (ابن خلكان) ولما تخرج ومهر تلق بالوزير عون الدين يحيى بن هبيرة ببغداد فولاه النظر بالبصرة ثم بواسط فلما توفي أقام العماد مدة في عيش منكد وجفن مسهد ثم انتقل إلى دمشق (562 هـ) وسلطانها يومئذ الملك العادل نور الدين وعرفه والد صلاح الدين فأحسن إليه وأكرمه وميزه عن الأعيان والأماثل وعرفه صلاح الدين ومدحه بقصيدة ثم إن القاضي كمال الدين الشهروزي نوه بذكره عند السلطان نور الدين وعدد عليه فضائله وأهله لكتابة الإنشاء قال العماد فبقيت متحيرا في الدخول فيما ليس من شأني ولا وظيفتي ولا تقدمت لي به دراية ولقد كانت مواد هذه الصناعة عتيدة عنده لكنه لم يكن قد مارسها فجبن عنها في الابتداء فلما باشرها هانت عليه وأجاد فيها واتى فيها بالغرائب وكان ينشأ الرسائل باللغة المعجمية أيضا وحصل بينه وبين صلاح الدين في تلك المدة مودة أكيدة وامتزاج تام ولما اخذ صلاح الدين دمشق حضر بين يديه وأنشده قصيدة أطال نفسه فيها ثم لزم الباب ينزل لنزول السلطان ويرحل لرحيله فاستمر على عطلته مديدة وهو يغشى مجالس السلطان وينشده في كل وقت مدائح ويعرض بصحبته القديمة ولم يزل على ذلك حتى نظمه في سلك جماعته واستكتبه واعتمد عليه وقرب منه فصار من جملة الصدور المعدودين والأماثل المشهورين يضاهي الوزراء ويجري في مضارهم وكان القاضي الفاضل في أكثر أوقاته ينقطع عن خدمة السلطان ويتوفر على مصالح الديار المصرية والعماد ملازم للباب بالشام وغيره وهو صاحب السر المكتوم وصنف التصانيف القائمة من ذلك كتاب جريدة القصر وجريدة العصر جعله ذليلا على زينة دمية الدهر تأليف أبي المعالي سعد بن علي الوراق الخطيري والخطيري جعل كتابه ذليلا على دمية القصر وعصره أهل العصر للباخرزي والباخرزي جعل كتابه ذليلا على يتيمة الدهر للثعالبي والثعالبي جعل كتابه ذليلا على كتاب البارع لهرون بن علي المنجم.
وقد ذكر العماد في جريدة الشعراء الذين كانوا بعد المائة إلى سنة اثنين وسبعين وخمسمائة وجمع شعراء العراق والعجم والشام والجزيرة ومصر والمغرب ولم يترك أحدا إلا النادر الخامل وأحسن في هذا الكتاب وهو في عشر مجلدات وصنف كتاب البرق الشامي في سبع مجلدات وهو مجموع تاريخ وبدأ فيه بذكر نفسه وصورة انتقاله من العراق إلى الشام وما جرى له في خدمة السلطان نور الدين محمود وكيفية تنقله بخدمة السلطان صلاح الدين وذكر شيئا من الفتوحات بالشام وهو من الكتب الممتعة وانما سماه البرق الشامي لأنه شبه أوقاته في تلك الأيام بالبرق لطيبها وسرعة انقضائها وصنف كتب الفتح القسي في الفتح القسي في مجلدين يتضمن كيفية فتح البيت المقدس وصنف كتاب السيل على الذيل جعله ذليلا على الذيل لابن السمعاني وهو ذيل على كتاب جريدة القصر وصنف كتاب نصرة الفترة وعصرة القطرة في أخبار الدولة السلجوقية (مطبوع) وله ديوان رسائل وديوان شعر في أربع مجلدات ونفسه في قصائده طويل وله ديوان صغير جميعه دوبيت وكان بينه وبين القاضي الفاضل مكاتبات ومحاورات لطاف.
ولم يزل العماد الكاتب على مكانته ورفعة منزلته إلى أن توفي السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى فاختلت أحواله وتعطلت أوصاله ولم يجد في وجهه باباً مفتوحا فلزم بيته وأقبل على الاشتغال بالتصانيف وكانت ولادته يوم الاثنين ثاني جمادى الأخرى سنة تسع عشرة وخمسمائة بأصبهان وتوفي يوم الاثنين مستهل سهر رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة بدمشق ودفن في مقابر الصوفية خارج باب النصر.
أما ابن شداد مؤلف السيرة الصلاحية فقد ولد بالموصل سنة 539 وحفظ بها القرآن الكرين في صغره وتخرج بضياء الدين القربطي وبابن الشيرجي والطومي الخطيب وغيرهم قرأ عليهم القرآن القراءات والتفسير والحديث والفقه والخلاف والأدب واللغة وأعاد بالمدرسة النظامية وحج في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وزار بيت المقدس والخليل ثم دخل دمشق والسلطان صلاح الدين محاصر قلعة كوكب فذكر أنه سمع بوصوله فاستدعاه إليه فظن أنه يسأله عن كيفية قتل الأمير شمس الدين فإنه كان أمير الحاج في تلك السنة من جهة صلاح الدين وقتل على جبل عرفات فلما دخل عليه ذكر انه قابله بالإكرام التام وما زاد على السؤال عن الطريق ومن كان فيه من مشايخ العلم والعمل وسأله عن جزء من الحديث ليسمعه عليه فأخرج له جزءاً جمع فيه أذكار البخاري وأنه قرأه عليه بنفسه فلما خرج من عنده تبعه عماد الدين الكاتب الأصبهاني وقال له: السلطان يقول لك إذا عدت من الزيارة وعزمت على العود فعرفنا بذلك فلنا إليك مهم فأجلبه بالسمع والطاعة فلما عاد عرف بوصوله فاستدعاه وجمع له في تلك المدة كتابا يشتمل على فضائل الجهاد وما أعد الله سبحانه وتعالى للمجاهدين يحتوي على مقدار ثلاثين كراسة خرج إليه واجتمع به ببقعة حصن الأكراد وقدم له الكتاب الذي جمعه وقال إنه كان عزم على الانقطاع في مشهد لظاهر الموصل إذا وصل إليها ثم أنه اتصل بخدمة صلاح الدين في مستهل جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وخمسمائة ثم ولاه قضاء المعسكر والحكم بالقدس الشريف ولما توفي صلاح الدين كان حاضرا وتوجه إلى حلب لجمع كلمة الأخوة أولاد صلاح الدين وتحليف بعضهم لبعض وكتب الملك الظاهر غياث الدين ابن صلاح الدين إلى أخيه الملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين صاحب دمشق يطليه منه فأجابه إلى ذلك فأرسله الملك الظاهر إلى مصر لاستخلاف أخيه الملك العزيز عماد الدين عثمان بن صلاح الدين وعرض عليه الظاهر الحكم بحلب فلم يوافق على ذلك ثم ولي قضائها ووقوفها وكانت حلب في ذلك الزمان قليلة المدارس وليس بها من العلماء الأنفر يسير فاعتنى ابن شداد بترتيب أمورها وجمع الفقهاء بها وعمرت في أيامه المدارس الكثيرة وكان الملك الظاهر قد قرر له إقطاعاً جيداً يحصل منه جملة مستكثرة ولم يكن له خرج كثير فإنه لم يولد له ولا كان له أقارب فتوفر له شيء كثير فعمر مدرسة للشافعية وداراً للحديث في حلب ولما صارت حلب على هذه الصورة قصدها الفقهاء من البلاد وحصل بها الاشتغال والاستفادة وكثر الجمع بها.
وكان ببدء القاضي أبو المحاسن بن شداد حل الأمور وعقدها لم يكن لأحد معه في الدولة كلام وكان سلطانها الملك العزيز أبو المظفر بن الملك الظاهر بن السلطان صلاح الدين وهو صغير السن تحت حجر الطواشي شهاب الدين أبي سعيد طغرل وهو أتابكه وتولى أمور الدولة بإشارة القاضي أبي المحاسن لا يخرج عنهما شيء من الأمور وكان للفقهاء في أيامهم حرمة تامة ورعاية كبيرة خصوصا جماعة مدرسته فإنهم كانوا يحضرون مجالس السلطان ويفطرون في شهر رمضان على سماطة.
قال صاحب وفيات الأعياد بعد إيراد ما تقدم تحصيله وكان القاضي أبو المحاسن المذكور سلك طريق البغاددة في ترتيبهم وأوضاعهم حتى أنه كان يلبس ملبوسهم الرؤوساء والرؤوساء يترددون إليه وكانوا ينزلون عن دوابهم على قدر أقدارهم لكل واحد منهم مكان معين لابتعاده ثم أنه تجهز إلى الديار المصرية لإحضار ابنه الملك الكامل بن الملك العادل للملك العزيز صاحب حلب وكان قد عقد لهم عليها فار في أول سنة تسع وعشرين وستمائة وعاد وقد جاء بها ولما وصل كان قد استقل الملك العزيز بنفسه ورفعوا عنه الحجر ونزل الأتابك طغرل من القلعة إلى داره تحت القلعة واستولى على الملك العزيز جماعة من الشباب الذين كانوا يعاشرونه ويجالسونه فاشتغل بهم ولم يرى القاضي ابن المحاسن وجها يرضيه فلازم داره إلى حين وفاته وهو باق على الحكم وإقطاعه جار عليه غابة ما في الباب إنه لم يبقى له حديث في الدولة وكانوا يراجعونه في الأمر فكان يفتح بابه لإسماع الحديث كل يوم بين السلاطين واستمر على ذلك حتى توفي سنة اثنتين وثلاثين وستمائة في حلب وصنف كتابه ملجأ الحكام عند التباس الأحكام بتعليق بالأقضية في مجلدين وكتاب دلائل الأحكام تكلم فيه على الأحاديث المستنبط منها الأحكام في مجلدين وكتاب الموجز الباهر في الفقه وكتاب سيرة صلاح الدين وغير ذلك وجعل داره خانقه للصوفيه.
هذان هما الرجلان اللذان تعلقا بخدمة صلاح الدين وحرص عليهما على أدلالهما عليه فنفقت بضاعتهما في سوقه والدولة سوق يحمل إليها ما يروج فيها ومع ما كانا فيه من السعة لم تلهما الدنيا عن التأليف والتدريس وإحياء معالم العلم والأدب فأثرا بفضلهما في حياتهما وبعد موتهما كتب العماد السيرة الصلاحية ممزوجة بالأدب ومع ذلك لم يفته الغرض من التاريخ حتى أنه قال فيما تم عليّ الأسطول من فصل فانشقت مرائر الفرنج وأزاحت سفنها عن النهج وقرنصت بزاة البيزانية وتقلصت جناة الجنوية وكرثت أدواء الداوية وكثرة أسواء الاسبتارية وزادت آلام الألمانية وعادت أسقام الافرنسسيية.
مما دل على أنه كان يعلم أجناس المحاربين ومما ذكره أيضا في ذكر ما تجدد لملك الانكتير (انكلترا) من المراسلة والرغبة في المواصلة قال: وصلت رسل ملك الانكتير إلى العادل بالمصافحة على المصفاة والمواتاة في الموافاة وموالاة الاستمرار على الموالاة والأخذ بالمهداة والترك للمعاداة والمظاهرة بالمصاهرة وترددت الرسل أيام وقصد التئاما وكادت تحدث انتظاما واستقر تزوج الملك العادل بأخت ملك الانكتير وأن يعول عليهما من الجانبين في التدابير على أن يحكم العادل في البلاد ويجري فيها الأمر على السداد وتكون المرأة في القدس مقيمة مع زوجها وشمسها من قبوله في أوجها ويرضي العادل مقدمي الفرنج والداوية والاسبتار ببعض القرى ولا يمكنهم من الحصون التي في الذرا ولا يقيم معها في القدس الأقسسيون ورهبان ولهم منا أمان وإحسان واستدعاني العادل والقاضي بهاء الدين بن شداد وجماعة من الأمراء من أهل الراية والسداد وهم علم الدين سليمان بن جندر وسابق الدين عثمان وعز الدين بن القدم وحسام الدين بشارة وقال لنا تمضون إلى السلطان وتخبرونه عن هذا الشأن وتسألونه أن يحكمني في هذه البلاد فلما جئنا إلى السلطان عرف الصواب وما أخر الجواب وشهدنا عليه بالرضا وعاد الرسول إلى ملك الانكتير بفضل أمر الوصلة وإراحة الجملة وإزاحة العلة واعتقدنا أن هذا الأمر قد تم إلى أن قال وبلغ الخبر إلى مقدميهم ورؤسائهم فقصوه على قوسهم وعثروا على عروسهم فجبوها بالعذل واللذع ثم رضيت على شرط الموافقة في الدين فأنف العادل إلى آخر ما ذكر.
بيد أن الصراحة في كلام ابن شداد أكثر لأنه لم يتقيد بالسجع والترصيع وأنواع البديع المريع فقال في ذكر ملك الانكتار: وهذا ملك الانكتار شديد البأس بينهم عظيم الشجاعة قوي الهمة لهم وقعات عظيمة وله جسارى علي الحر وهو دون الفرنسيس عندهم في الملك والمنزلة لكنه أكثر مالاً منه وأشهر في الحرب والشجاعة وكان من خبره أنه وصل إلى جزيرة قبرص ولم يرى أن يتجاوزها إلا وأن تكون له وفي حكمه فنازلها وقاتلها فخرج إليه صاحبها وجمع له خلقاً كثيراً وقاتلهم قتالاً شديداً. . . . ولما كان يوم النبت ثالث عشر الشهر قدم ملك الانكتار بعد مصالحته لصاحب جزيرة قبرص والاستيلاء عليها وكان لقدومه روعه عظيمة ووصل في خمس وعشرين ثانية مملوءة بالرجال والسلاح والعدد وأظهر الإفرنج مسروراً عظيماً حتى أنهم أوقدوا تلك الليلة نيراناً عظيمة في خيامهم ولقد كانت النيران مهولة عظيمة تدل على عدة عظيمة كبيرة وكان ملوكهم يتواعدوا أننا به فكان المستأمنون منهم يخبروننا عنهم أنهم متوقنون فيها يريدون أن يفعلوا من مضايقة البله (عكا) حتى قدومه فإنه ذو رأي في الحرب مجرب وأثر قدومه في قلوب المسلمين خشية ورهبة. . . .
وقال من فصل: كنت ذكرت وصول رسول منهم يلتمسون من جانب الانكتار أن يجتمع بالسلطان وذكرت عذر السلطان عن ذلك وانقطع الرسول وعاد معاوداً في المعنى وكان حديثه مع الملك العادل ثم هو يلقيه إلى السلطان واستقر أنه رأى أن يأذن له في الخروج ويكون الاجتماع في المرج والعساكر محيطة بهما ومعهما ترجمان فلما أذن في ذلك تأخر الرسول أياماً عنده بسبب مرضه واستفاض أن ملوكهم اجتمعوا عليه وأنكروا عليه ذلك وقالوا هذه مخاطرة بدين النصرانية ثم بعد ذلك وصل رسول يقول لا تظن تأخري بسبب ما قيل فإن زمان قيادي مفوض إليّ وأنا أحكم ولا يحكم عليّ غير أني في هذه الأيام اعترى مزاجي التياث منعني عن الحركة فهذا كان العذر في التأخير لا غير وعادة الملوك إذا تقاربت منازلهم أن يتهادوا وعندي ما يصلح للسلطان وأنا استخرج الأذن في إيصاله إليه فقال له الملك العادل قد أذن في ذلك بشرط قبول المجازاة على الهدية فرضي الرسول بذلك وقال الهدية شيء من الجوارح قد جلب من وراء البحر وقد ضعف فيحسن أن يحمل إلينا طير ودجاجة حتى نطعمها لتقوى ونحملها فداعبه الملك العادل وكان فقيهاً فيما يحدثهم به فقال الملك قد احتاج إلى فراريج ودجاج ويريد أن يأخذها منا بهذه الحجة ثم انفصل حديث الرسالة في الآخر على أن قال الرسول ما الذي أردتم منا أن كان لكم حديث فتحدثوا به حتى نسمع فقيل له عن ذلك نحن ما طلبناكم أنتم طلبتمونا فإن كان لكم حديث فتحدثوا به حتى نسمع وانقطع حديث الرسالة إلى سادس جمادى الأخرى فخرج رسول الانكتار إلى السلطان ومعه إنسان مصري قد أسروه من مدة طويلة وهو مسلم قد أهداه إلى السلطان فقبله وأحسن إليه وأعاده مشرفاً مكرماً إلى صاحبه وكان غرضه بتكرار الرسائل تعرف قوة النفس وضعفها وكان غرضنا بقبول الرسائل تعرف ما عندنا من ذلك أيضاً.
وقال في مشورة ضربها في التخيير بين الصلحين بين الانتكار والمركيس: واصل التعاقد أن الملك (الانتكار) قد بذل أخته للملك العادل بطريق التزويج وأن تكون البلاد الساحلية الإسلامية والإفرنجية لهما فإما الإفرنجية فلها من جانب أخيها والإسلامية له من جانب السلطان وكان آخر الرسائل من الملك في المعنى أن قال أن معاشر دين النصرانية قد أنكروا عليّ وضع أختي تحت مسلم بدون مشاورة البابا وهو كبير دين النصرانية ومقدمة وها أنا أسير إليه رسولاً يعود من ستة أشهر فإن أذن فيها ونعمت وإلا زوجتك ابنة أخي وما أحتاج إلا أذنه في ذلك هذا كله وسوق الحرب قائم والقتال عليهم ضربة لازم.
وقال في عود الرسول من قبل ملك الانتكار: وادي الرسالة وهي أن الملك يسأل ويخضع لك أن تترك له هذه الأماكن الثلاثة عامرة وأي قدر لها في ملكك وعظمتك وما من سبب لإصراره عليها إلا أن الإفرنج لم يسمحوا بها وقد ترك القدس بالكلية فلا يطلب أن يكون فيه رهبان ولا قسوس إلا في القمامة وحدها فأنت تترك له هذه البلاد ويكون الصلح عاماً فيكون لهم كل ما في أيديهم من الدارون إلى أنطاكية ولكم ما في أيديكم وينتظم الحال ويروج وأن لم ينتظم الصلح فالإفرنج لا يمكنوه من الرواح ولا يمكن مخالفتهم فأنظر إلى هذه الصناعة في استخلاص الغرض باللين تارة والخشونة أخرى وكان مضطراً إلى الرواح وهذا عمله مع اضطراره والله الولي في أن يقي المسلمين شره فما بلونا أعظم حيلة وأشد إقداماً منه.