مجلة المقتبس/العدد 80/كتاب الأدب والمروءة
→ ../ | مجلة المقتبس - العدد 80 كتاب الأدب والمروءة [[مؤلف:|]] |
تنبيه ← |
بتاريخ: 1 - 10 - 1912 |
عني بنشره الشيخ طاهر الجزائري
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين قال صالح بن جنان: اعلم أن العرب قد تجعل للشيء الواحد أسماء وتسمي بالشيء الواحد أشياء فإذا سنح لك ذكر شيء فاذكره بأحسن أسمائه فإن ذلك من المروءة وإنما الرجل بمروءته فالمروءة اجتناب الرجل ما يشينه واجتناؤه ما يزينه وإنه لا مروءة لمن لا أدب له ولا أدي لمن لا عقل له ولا عقل لمن ظن أن في عقله ما يغنيه ويكفيه عن غيره وشتان بين عقل وافر معه خمسون عقل كلها وافر مثله ومن عقل وافر لا فائدة معه ومن ذلك قول الشاعر:
وما أدب الإنسان شيء كعقله ... ولا زينة إلا بحسن التأدب
وقال أن الأفئدة مزارع الألسن فيمنها ما ينبت ما زرع فيه من حسن ولا ينبت ما سمج ومنها ينبت ما سمج ولا ينبت ما حسن ومنها ما ينبت جميع ذلك ومنها لا ينبت شيئاً وإن من المنطق لما هو أشد من الحجر وأنفذ من الإبر وأمر من الصبر وأحر من الأسنة وأنكد من زحل ولربما احتقرت كثيراً منه عَلَى حرارته ومرارته وتنكد مخافة ما هو أحر منه وأمر وأفظع وأنكر وفي ذلك قول الشاعر:
لقد أسمع القول الذي كاد كلما ... يذكر تيه الدهر قلبي يصدع
فأبدي لمن أبداه مني بشاشة ... كأني مسرور بما منه أسمعه
وما ذاك من عجبٍ به غير أنني ... أرى أن ترك الشر للقمر أقطع
وقال في ذي الوجهين: من أظهر ما تحب أو تكره فإنما يقاس ما أضمر بما لا أظهر لأنك لا تقدر أن تعرف ما أسر وقال:
ليس المسيء إذا تغيب سوء ... عندي بمنزلة المسني المعلن
كم كان يظهر ما أحب فإنه ... عندي بمنزلة الأمير المحسن
والله أعلم بالقلوب وإنما ... لك ما بدا منهم بالألسن
ولقد يقال خلاف ذلك وإنما ... لك ما بدا منهم بالأعين
وقال في الصدود: أما بعد فقد أحضرتني من صدرك ما آيسني من ودك ولم يزل يجري في لحظك ما يدخلني في رفضك ويدلني عَلَى غل صدرك وفي ذلك أقول شعراً:
نظل في قلبه البغضاء كامنة ... فالقلب يكتمها والعين تبديها
والعين تعرف في عيني محدثها ... من كان من حزبها أو من يعاديها
عيناك قد دلتا عيني منك عَلَى ... أشياء لولاهما لم كنت أدريها
أن الأمور التي تخشى عواقبها ... إن السلامة ترك ما فيها
وقال في كثرة المال وقلته: لا تستكثر مال أحد ولا تستقله حتى تعلم ما عياله فإن من كثر ماله وعياله فهو مقل ومن قل ماله وعياله فهو مكثر.
وقال في ذكر الأحمق ودخوله فيما لا يعنيه: وأكثرهم دخولاً فيما لا يدخل فيه وأرضاهم بما لا يكفيه - عدوه أعلم بسره من صديقه وصديقه قد غض منه بريقه ولا يثق بمن نصحه ولا يتهم من خدعه ولا يأمن إلا من يخونه زلا يتحفظ إلا ممن يحفظه ولا يكرم إلا من يهينه أشبه شيء خلقاً باللئيم إن أحسنت إليه لم يشكر وإن أسأت إليه لم يشعر لا ينفعك من وجهه إلا ضرك من وجوه: إن أقبل عليك لم يسرك وإن أدبر عنك لم يضرك إن أفسد شيئاً لم يحسن أن يصلحه وإن أصلح شيئاً أفسده إن أحببته فرأى منك حسناً لم يحسن أن ينشره وهو مع ذلك بخطئه أشد إعجاباً من العاقل بصوابه إن جلس إلى العلماء لم يزدد إلا جهلاً وإن جلس مع الحكماء لم يزدد إلا طيشاً وإنما جعل نفسه المحدث لهم يكلفهم أن يكونوا المنصتين له أعيا الناس إذا تكلم وأبلدهم إذا تعلم واصحبهم لمن يشينه وأرفضهم لمن يزينه وأشدهم في موضع اللين وألينهم في موضع الشدة وأجبنهم في موضع الشجاعة أن افتقر عجب من الناس كيف يستغنون وإن استغنى عجب من الناس كيف يفتقرون لا يفهم إلا حدثته ولا يفقه إن أفهمته ولا يقبل إن وعظته ولا يذكر إن ذكرته وفي ذلك أقول شعراً:
المرء يصرع ثم يشفى داؤه ... والحمق داء ليس منه شفاء
والحمق طبع لا يجول مركب ... وما أن لأحمق فاعلمن دواء
وقال في ذكر الهوى: إن من الناس من إذا هوي عمي ومنهم من إذا هوي أبصر مرة وأعمي أخرى ومنهم من إذا هوي لم يكد يخفى عليه شيء وهو اللبيب العاقل الحليم الكامل الذي إن أعجبه أمر نظر إلى هواه وعقله فإن اتفقا اتبعهما وإن اختلفا اتبع عقله وترك هواه وكان أمراً معتدلاً يشبه بعضه بعضاً وقليل ما هم في ذلك أقول شعراً: أملك هواك إذا دعاك فربما ... قاد الحليم إلى الهلاك هواه
الله يسعد من يشاء بفضله ... وإذا أراد شقاءه أشقاه
وقال أيضاً في أناس تحسن وجوههم عند حاجاتهم وتغير وجوههم عند غناءهم شعراً:
أرى قوما وجههم حسان ... إذا كانت حوائجهم إلينا
وإن كانت حوائجنا إليهم ... تغير حسن أوجههم علينا
ومنهم من سيمنع ما لديه ... ويغضب حين يمنع ما لدينا
فإن بك فعلهم شحا وفعلي ... قبيحاً مثله فقد استوينا
وقال فيمن فعل أمراً لا يحسن أن يحتال له: اعلم أن من قاتل بغير عدة أو خاصم بغير حجة أو صارع بغير قوة فهو الذي صرع نفسه وخصم نفسه وقتل نفسه فإن ابتليت بقتال أحد أو خاصمته أو مصارعته فأحسن الإعداد له واعرف مع ذلك عدته وأبصر حجته وأخبر قوته كما يخبر قوتك وحجتك وعدتك فإن رأيت تقدماً وإلا كان التأخر قبل التقدم خيراً من التندم بعد التقدم وفي ذلك أقول شعراً:
إذا ما أردت الأمر فاعرفه كله ... وقيه قياس الثوب قبل التقدم
لعلك تنجو سالماً من ندامةٍ ... فلا خير من أمر أتى بالتندم
وإن من الناس من يرزق حجة أو عدة أو قوة فتكون عدته هي التي تقتله وقوته التي تصرعه وحجته التي تخصمه وذلك أنه ربما أدل فقاتل قبل أن يعلم أهو أعد أم الذي يقاتله وكذلك في الذي يخاصمه ويصارعه فإذا هو قد قتل أو صرع أو خصم أمام الذي يقاتله وكذلك في الذي يخاصمه ويصارعه فإذا هو قد قتل أو صرع أو خصم فلم ينفعه جودة عدته ولا قوة حجته حين أتى الأمر من غير جهته وفي ذلك أقول:
إذا ما أتيت من غير وجهه ... تصعب حتى لا ترى منه مرتقاً
فإن الذي يصطاد بالنفخ إن عنا ... عَلَى الفخ كان الفخ أعتى وأضيقا
وقال في الذي يعاقب الناس بغير مودتهم ويوجب حق نفسه عليهم: لا تدع الناس إلى برك وإجلال أمرك وتعظيم قدرك بالمعاتبة ولكن ادعهم إلى ذلك بما تستوجبه منهم وانظر الأمر الذي أكرم به من هو أبعد منك وقرب به من أنت أقرب منه فألزمه فإنك إن تلزمه لم تحتج معه إلى معاتبة ولا استبطاء حق لأنك إن دعوتهم إلى تكرمتك بغير ما تستوجب التكرمة به فإنما دعوتهم إلى أهانتك إما بكلام يحرجك وإما بفعال تقدحك وإن دعاهم إلى ذلك فضلك أجابوا إما بثناء يرفعك وبجزاء ينفعك.
وقال في معرفة الأخوان إنك لن تعرف أخاك حق المعرفة ولن تخبره حق المخبرة ولن تجربه حق التجربة وإن كنتما بدار واحدة حتى تسافر معه أو تعامله بالدينار والدرهم أو تقع في شدة أو تحتاج إليه في مهمة فإذا بلوته في هذه الأشياء فرضيته فانظر فإن كان أكبر منك فاتخذه أباً وإن كان أصغر منك فاتخذ ابناً وإن كان مثلك فاتخذ أخاً وكن به أوثق منك بنفسك في بعض المواطن وقال: كن من الكريم عَلَى حذر إن أهنته ومن اللئيم إن أكرمته ومن العاقل إن أحرجته ومن الحمق إن مازحته ومن الفاجر إن عاشرته ولا تدل عَلَى من لا يحتمل أدلالك ولا تقبل عَلَى من لا يحب إقبالك وكن حذراً كأنك غرو وكن ذاكراً كأنك ناسٍ والتزم الصمت إلى أن يلزمك التكلم فمن أكثر من يندم إذا نطق وأقل من يندم إذا لم ينطق وإذا ابتليت فعند ذلك تعرف جودة منطقك وقلة زللك وسعة عفوك وقلة حيلتك ومنفعة قوتك وحسن تخلصك واعلم أن بعض القول أغمض من بعض وبعضه أبين من بضع وبعضه أخشن من بعض وبعضه الين من بعض ولو كان واحداً فإن الكلمة اللينة لتلين من القلوب ما هو أخشن من الحديد وإن الكلمة الخشنة لتخشن من القلوب ما هو ألين من الحرير وإن عظم الناس بلاء وأدومهم عناء وأطولهم شقاء من ابتلى بلسان مطلق وفؤاد مطبق فهو لا يحسن أن ينطق ولا يقدر أن يسكت واعلم أن ليس يحسن أن يجيب من لا يسألك ولا تسأل من لا يجيبك وفي ذلك أقول شعراً:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه إن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
وقال في الرفق في الدواب: إن رفق الرجال بدوابه وحس تعاهده لها وقيامه عليها عمل من أعمال البر وسبب من أسباب الغنى ووجه من وجوه المروءة وقال التدبير مع المال القليل وخير من المال الكثير مع سوء التدبير وإنما المنفقون ثلاثة جواد مبذر وكريم مقدر ولئيم مقتر وفي ذلك أقول شعراً:
رب مال سينعم الناس فيه ... وهو عن ربه قليل الغناء
كان يسقي به وينصب حيناً ... ثم أمسى لمعشر غرباء ماله عندهم جزاء إذا ما ... أنعموا فيه غير سوء الثناء
رب مال يكون غماً وذماً ... وغني بعد في الفقراء
وقال في تصنيف الطعام إذا كنت ممن يؤكل طعامه وتحضر مائدته ويؤكل معه فليكن الذي يتولى صنعة طعامك من ألب الناس في عمله وأنظفهم في يديه ولا تدع أعلامه إن أحسن ولا إنذاره إن أساء فإن تعتبك عليه خير من تعتب الناس عليك واعلم أن لكل شيء غاية وإن غاية الاستنقاء التنظيف في الاستنجاء والإكثار من الماء حتى يستوي اليدان والريح والمنظر فإنه لا طيب أطيب من الماء ولو أنه المسك وما أشبهه من الأشياء وإنما يستدل عَلَى نظافة الرجل بنقاء أثوابه وإنما يكون القذر في الحمقى من الرجال والنساء ويستدل عَلَى بلادتهم وفي ذلك أقول شعراً:
ولا خير قبل الماء في الطيب كله ... وما الطيب إلا الماء قبل التطيب
وما أنظف الأحرار في كل مطعم ... وما أنظف الأحرار في كل مشرب
وقال في صفة العدو والصديق: احرص أن لا يراك صديقك إلا أنظف ما تكون ولا يراك عدوك إلا أحصن ما تكون فأما الصديق فإن كان الذي أعجبه منك خلقك أو خلقتك ولهما كان بحبك فكلما ازددت حسناً كان حبه لك أكثر ورغبته فيك أوفر (وأكثره عندك وأكبر لك في صدره) وأدوم له عَلَى عهدك وأما العدو فليس شيءٌ أعجب إليه من دمامتك وخساستك فاحترس منه وأظهر الجميل فليس شيء أعجب إليه من التمكن منك فانظر أن لا يكون شيء أعجب إليك من التحصن منه.
وقال في العقل والأدب: اعلم أن العقل أمير والأدب وزير فإن لم يكن وزير ضعف الأمير وإن لم يكن أمير بطل الوزير وإنما مثل العقل والأدب كمثل الصيقل والسيف فإن الصيقل إذا أعطي السيف أخذه فصقله فعاد جمالاً ومالاً وعضداً يعتمد عليه ويلتجأ إليه فالصيقل الأدب والسيف العقل فإذا وجد الأدب عقلاً نفقه ووفقه وقواه وسدده كما يصنع الصيقل بالسيف وإذا لم يجد عقلاً لم يعمل شيئاً لأنه لا يصلح إلا ما وجد وإن من السيوف لما يصقل يسقي ويخدم ثم يباع بأدنى الثمن ومنها ما يباع بزنته دراً وزبرجد وذلك عَلَى نحو الحديد وجودته أو رداءته وكذلك الرجلان متأدبان بأدب واحد ثم يكون أحدهما أنفذ من الآخر أضعافاً مضاعفة وإنما ذلك عَلَى قدر العقل وقوته في الأصل وفي ذلك قلت شعراً: وقد يصلح التأديب من كان عاقلاً ... وإن لم يكن عقل فلن ينفع الأدب
وقال في المراء: إذا اجتمع أهل نوع فتذاكروا عَلَى نوعهم ذلك لم يكن أصل كل واحد منهم أن ينفع بما أسمع وينتفع بما سمع فاعلم أن تذاكرهم ذلك من أول المراء يصدع العلم ويوهن الود ويورث الجمود وينشئ الشحناء وينغل القلب وفي ذلك أقول شعراً:
تجنب صديق السوء وأصرم حباله ... فإن لم تجد عنه محيصاً فداره
وأحبب صديق الخير واحذر مراءه ... تنل منه صفو الود ما لم تماره
وقال في الحكمة: أما ما يسمع من كثير من الحكمة فإنه أوله شيء يخطر عَلَى الأفئدة إذا خطر وهو أصغر من الخردلة وأدق من الشعرة وأوهن من البعوضة ثم تحركه اللسنة وتنبذه الأفئدة كما يحاك البرد وكما يمد النهر فيعود أكثر من الكثير وأوثق من الحديد وأثمن من الجوهر وأحسن من الذهب وأنفع من كليهما لأنه يزيد في المنطق ويذكي الذهن ويعين عَلَى الإبلاغ ويتجمل به القائل ويتقلب فيه كيف يشاء ويختار منه ما يشاءُ فينتفع به اللطيف ويقبل به السخيف ويتزيد به الكثيف ويتأيد به الضعيف ويزداد به الأيدي قوة من منطقه وبلاغة في كتبهم وللكرماء في بشاشتهم وللشعراء في قصائدهم فإذا كنت ممن يؤلف حكمة أو يضع رسالة أو يذكر في مهمة فلا تكمه قلبك ولا تكره ذهنك فإنه إذا أكره كل ووقف ولكن إن كنت في شيء من ذلك فاستعن بالتفرغ منه عَلَى التفرغ له والتأخر عنه عَلَى التقدم فيه فإن الذهن يجم كما يجم البئر ويصفو كما يصفو الماء.
وقال في الكلام وإخراجه: اعلم أن مثل الكلام كمثل الحجارة فمنها هو أعز من الذهب والفضة ومنها ما لا يعطى في الصخرة العظيمة منه درهم وفي ذلك أقول شعراً:
وما الحجر الكبير أعز فيما ... ظفرت به من الحجر الصغير
وكم أبصرت من حجر خفيف ... صغير بيع بالثمن الكبير
وقال في طلاقة الوجه وحسن الخلق: كن أسهل ما تكون وجهاً وأظهر ما تكون بشراً وأقصر ما تكون أمداً وأحسن ما تكون خلقاً وألين ما تكون كنفاً وأوسع ما تكون أخلاقاً فإن الأيام والأشياء عقب ودول فإن أنكرت منها شيئاً يوماً ما كان (ما) أنكرت منها شيئاً خفيفاً عَلَى أهل الشمانة وأهل الصفاء واحذر أن تحزن من يحبك وتفرح من يحسدك فلم أر في مصاب الدهر مصيبة أوحش من تغيير النعمة وإن أنت لم تنكر منها شيئاً ودامت لك بما تريد فما من الدنيا شيء تناله بدعة ولا رفق إلا وهو أهنأ مما نيل بتعب ونصب فأما من كفي وعوفي فما يصنع بالغضب والتضايق وأنهما هما العمر ونكد الدهر وفي ذلك أقول شعراً:
ما تم شيء من الدنيا علمت به ... إلا استحق عليه النقص والغير
ولا تغير من قوم نعيمهم ... إلا تكدر منه الورد والصدر
فعاد غماً ولن تلقى أمراً أبداً ... (أغمّ) من ملك أيام يفتقر
وقال في الكذب:
كذبت ومن يكذب فإن جزاءه ... إذا ما أتى بالصدق أن لا يصدقا
وقال فيه أيضاً:
إذا ما رأيت المرء حلواً لسانه ... كذوباً فأيقن أن لا حيا له
ولا خير في الإنسان إن لم يكن له ... حياء ولا في كل من لا وفا له
وقال في الأخوان:
ليس من كان في الرخاء صديقاً ... وعدو الصديق بعد الرخاء
عدة في إخائه لصديق ... إنما ذاك عدة الأعداء
لو صدفنا بذي إخاء أمين ... لاشترينا إخاءه بالغلاء
لو وجدنا أخاً متيناً أميناً ... لاتخذنا أخاه للشفاء
أما الرفقاء في السفر والجلساء في الحضر والخلطاء في النعم والشركاء في العدم فاحفظ مصاحبتهم وواظب عَلَى إخائهم وفي ذلك أقول شعراً:
وكنت إذا صحبت رجال قوم ... صحبتهم وشيمتي الوفاء
فأحسن حين يحسن محسنوهم ... واجتنب الإساءة إن أساؤوا
وأبصر ما يعيبهم بعين ... عليها من عيوبهم غطاء
أريد رضاهم أبداً وآتي ... مشيئتهم واترك ما أشاء
لا تبتدئن أحداً بصغير مما يكره ولا بكبيره ولا بقليل مما يسخط ولا بكثيره فإن ابتداك أحد بشيء من ذلك فقدرت عَلَى الانتصار منه فعفوت أو انتصرت فما أحسن جميع ذلك إلا أن العفو أكبر والانتصار أعز وكلاهما حظ وفي ذلك أقول شعراً: (فماذات باب بحمده فيما علمت عليه من طريق الصواب. . كم)
وأي الناس الأم من سفيه ... بقول لا يخاف من الجواب
وقال في الجهل: إياك والجهل فإنما تجهل عَلَى ثلاثة رجل أنت أعز منه ورجل هو أعز منك ورجل أنت وهو في العز سواء فأما جهلك عَلَى ما أنت أعز منه فلؤم وأما جهلك عَلَى ما هو أعز منك فحيف وأما جهلك عَلَى من هو مثلك فهراش مثل هراش الكلبين ولن يفترقا إلا مفضوحين أو مجروحين وليس هذا من فعال الحكماء والعلماء الحليم أرزن والجهول أنقص وفي ذلك أقول شعراً:
ما تم علم ولا حلم بلا أدب ... ولا تجاهل في قوم حليمان
ولا التجاهل إلا ثوب ذي دبس ... وليس يلبسه إلا سفيهان
وقال في رؤية الرجل وخبره إن من الناس من يعجبك حين تراه وتزداد عند الخبرة إعجاباً (به) ومنهم من تبغضه حين تراه وعند الخبر تكون له أكثر بغضاً ومنهم من يعجبك مخبره ولا يعجبك منظره ومنهم من يعجبك منظره ولا يعجبك مخبره وفي ذلك أقول شعراً:
ترى بين الرجال العين فضلاً ... وفيما أضمروا بالغبن الغبين
ولو الماء متنبه وليست ... تخبر عن مذاقته العيون
فلا تعجل بنطق قبل خبر ... فعند الخبر تنصرم الظنون
وقال أيضاً في ذلك:
وما صور الرجال بها امتحان ... وما فيها لمعتبر بيان
ولكن فعلهم ينبيك عنهم ... به تحب الكرامة والهوان
وما الإنسان لولا أصغراه ... سوى صور يصورها البنان
وقال أيضاً:
لم أزل ابغض كل امرئ ... وجهه أحسن من خبره
فهو كالغصن يرى ناضراً ... ناعماً يعجب من زهره
ثم يبدو بعده ثمن ... فيكون السم في ثمره
وقال في النهي عن القبيح: وإذا رأيت من أحد أمراً فنهيته عنه قلم يحمدك ولم يذمم في نفسه عَلَى مكانة أو يحدث حدثاً تعلم أنه قد انتفع بمقالتك فإن ذلك عيب آخر قد بدا لك منه لعله أقبح من الذي نهيته عنه وفي ذلك أقول شعراً:
ولا نهيت غوياً من غوايته ... إلا استزاد كأني كنت أغريه
ولا نصحت له إلا تبين لي ... منه الجفاء كأني كنت أغويه
وقال في المؤاخاة: لا تؤاخ أحداً إلا عَلَى اختيار منك له وارتضاء منك به واتفاق منه لك فإذا اتفق أمركما كذلك فاعلم أن كلاكما يحسن ويسيء ويصيب ويخطئ ويحفظ ويضيع فوطن نفسك عَلَى الشكر إذا حفظ وعلى الصبر إذا ضاع وعلى المكافأة إذا أحسن وعلى الاحتمال والمعاتبة إذا أساء فإن معاتبة الصديق إذا أساء أحب إلى الحليم من القطيعة في معاشرة من تؤاخيه وفي ذلك أقول شعراً:
وإذا عتبت عَلَى امرئ أحببته ... فتوق ضفر عتبه وسبابه
والن جناحك ما استلان لوده ... واجب أخاك إذا دعا لجوابه
واحرص من أن تعرف موقعك من كل أحد حتى من أبيك وأمك فمن السخافة أن تكون لأخيك فيما يحب ويكون فيك فيما تكره وما أقبح أن تكون له فيما يكره ويكون لك فيما تحب واعلم أن من تنفعك صداقته ولا تضرك عداوته الكريم الذي إن أحسنت إليه كافأك وإن أسأت إليه عاقبك وأما من تضرك عداوته ولا تنفعك صحبته فهو الجاهل السفيه اللئيم وفي ذلك أقول شعراً:
من الناس أن يرض لا تنتفع به ... ولكن متى يسخط فما شئت من ضرر
ضعيف عَلَى الأعداء لكن قلبه ... اشد إذا لاقى الصديق من الحجر
وقال في تقلب الدنيا شعراً:
إنما الدنيا سراج ... ضوءه ضوء معار
بينما غصنك غصن ... ناعم فيه اخضرار
إذ رماه الدهر يوماً ... فإذا فيه اصفرار
وكذاك الليل يأتي ... ثم يمحوه النهار
وقال في المداراة: إذا هبطت بلداً أهلها عَلَى غير ما تعرف وأنت عَلَى غير ما يعرفون فألزم كثيراً من المداراة فما أكثر من دارى ولم يسلم فكيف لم يكن منه مداراة وفي ذلك أقول شعراً: يا ذا الذي أصبح لا والداً ... له عَلَى الأرض ولا والده
قد مات من قبلهما آدم ... فأي نفس بعده خالده
إن جئت أرضاً أهلها كلهم ... عور فغمض عينيك الواحدة
وقال لا تقاتلن أحداً تجد من قتاله بداً فإنما الحق لمن غلب ولا غالب إلا الله وإن آخر الدواء الكي فلا تجعله أولاً وفي ذلك أقول شعراً:
وكم رأينا من أخي غبطة ... أصبح مسروراً وأمسى حزيناً
وكم رأينا فتى يركب طاحونة ... للحرب قد أصبح فيها طحيناً
وقال في الإعسار والإيسار:
كم من صديق لنا أيام دولتنا ... وكان يمدحنا قد صار يهجونا
إني لأعجب ممن كان يصحبنا ... ما كان أكثرهم إلا يراؤنا
لم ندر حتى انقضت عنا إمارتنا ... من كان ينصحنا أو كان يغوينا
من كان يصنفنا ما كان يصحبنا ... إلا ليخدعنا عما بأيدينا
وقال في الصلة والتفضل: لا يكن من وصلك أحق بصلتك منك وبصلته ولا من غير تفضل عليك أولى بالتفضل منك عليه فإنما أتت وهو كرجلين ابتدرا كرومة فقصر أحدهما وبلغ الآخر فإنما القاصر قصر عن حظ نفسه وأما البالغ فبلغ بجميل أمره وعظيم قدره.
وقال في القدر: إذا كان الرجل لبيباً فاعلم أنه كامل ولكن لن يقدمه ذلك إلى ما كان يطالب ولن يؤخره عما كان يحاذر إلا بقدر يلحق به ما طلب ويسبق به ما يحذر وإن من الناس من يؤتى منطقاً وعقلاً ولا يؤتى مالاً ومنهم من يؤتى مالاً ولا يؤتى غيره فيحتاج مع ماله إلى عقل ذي العقل ومنطقه ويحتاج ذو العقل إلى مال ذي المال ورفده وينهض هذا بهذا وهذا بهذا (فليس لأحدهما إذاً غنى عن الآخر) فأحوج الملك إلى السوقة وأحوجت السوقة إلى الملك.
وقال في التفاضل: لا تقل فلان أغنى مني وأنا أحزم منه فإنه لو جمع العقل والشدة والشجاعة والمال وأشباه ذلك القوم وبقي قوم لا شيء لهم لهلكوا ولكن الله عز وجل قال أهم يقسمون رحمة بك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعضهم درجات فأوتي بعضهم عقلاً وبغضهم قوة وبعضهم مالاً مع أشياء مما يكون فيه صلاحهم وبه معايشهم ثم أحوج بعضهم إلى بعض فعاشوا وإنما مثل الرجل ورزقه ومثل أدبه وعقله ومروءته وحكمه كمثل الرامي ورميته فلا بد للرامي من سهم ولا بد لسهمه من قوس ولا بد لقوسه من وتر ولا بد لجميع ذلك من قدر يبلغ به ما رشق ويصيب به ما يبلغ ويحوز ما أصاب وإلا فلا شيء فالرامي الرجل والرمية الرزق ولا يجمع بينهما عقل ولا عز ولا شيء من ذلك إلا بقدر وفي ذلك أقول شعراً:
ما القوس إلا عصا في كف صاحبها ... يرعى بها الضان أو يرعى بها البقر
أو عود بان وإن كانت معقفة ... حتى يضم إليها الشهم والوتر
وإن جمعت لها هذين فهي عصا ... حتى يساعد من يرمي بها القدر
وقال: إن حسن السمت وطول الصمت ومشي القصد من أخلاق الأتقياء وإن سوء السنت وترك الصمت ومشي الخيلاء من أخلاق الأشقياء فإذا مشيت فوق الأرض فاذكر من تحتها وكيف كانوا فوقها وكيف حلوا بطنها وكيف كانوا أمما واعلم أن ابن آدم أعز من الأسد وأشد من العمد ما لم تصبه أدنى شوكة وأدنى مرض وأدنى مصيبة فإذا اصابه شيء من ذلك وجدته أهون من الذرة وأمبن من البعوضة فلا يغررك تجبره وتكبره وتفر عنه واستطالته وفي ذلك أقول شعراً:
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعاً ... فكم من تحتها قوم هم منك أرفع
فإن كنت في عز وحرز ومنعة ... فكم طاح من قوم هم منك أمنع
وقال في الغنى والقنوع: إن الغنى في القلب فمن غنيت نفسه وقلبه غبيت يداه ومن افتقر قلبه لم ينفعه غناه وفي ذلك أقول شعراً:
إذا المرء لم يقنع بشيءٍ فإنه ... وإن كان ذا مال من الفقر موقر
إذا كان فضل الله يغنيك عنهم ... فأنت بفضل الله أغنى وأيسر
وقال في الرأي والمشاورة: إذا استشير نفر أنت أحدهم فكن آخر من يشير فإنه أسلم لك من الصلف وابعد لك من الخطأ وأمكن لك من الفكر وأقرب لك من الحزم وفي ذلك أقول شعراً:
ومن الرجل إذا زكت احلامهم ... من يستشار إذا استشير فيطرق
حق يجول بكل وادٍ قلبه ... فيرى ويعرف ما يقول فينطق فبذاك يطلق كل أمر موثق ... وبذاك يوثق كل أمر يطلق
إن الحليم إذا تفكر لم يكد ... يخفى عليه من الأمور إلا وفق
وقال في النهي عن مجالسة أهل الأهواء والبدع ومحادثتهم: أما هذه الأهواء فإني لم أر أحداً ازداد فيها بصيرة إلا ازداد فيها عمى لأن أمر الله اعز من أن تلحقه العقول ولم أر اثنين تكلما فيها إلا رأيت لكل واحد منهما حجة لا يقدر صاحبه عَلَى دفعها إلا بالشبهة والمغالطة وأما بالنصيحة فلا ومن غالط في هذا أو مثله فإنما يغالط نفسه وعليها يخلط وإياها يخدع أو أراد أن يخادع ربه والله أعز من أن يخدع لقد نبئت أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى نبيه موسى ﷺ لا تجادل أهل الأهواء فيوقعوا في قلبك شيئاً يوردك به إلى النار فهذا أمر نهى عنه موسى عليه السلام وقد أعطى التوراة فيها هدى الله وكلم الله موسى تكليماً فكيف بغيره من الأهل الأهواء ولم يزل الصالحون يتناهون عن الهوى والمراء فيه والجدل به وبم أر قيا ساقط ثم ولا كلاماً صح إلا وفيه كلام بعد كثير فالسنة إن لا يتكلم في شيءٍ من الأهواء بالهوى وبغير الإتباع للكتب المنزلة والسنن للرسل الصادقة وفي ذلك أقول شعراً:
إذا أعطي الإنسان شيئاً من الجدل ... فلم يعطه إلا لكي يمنع العمل
وما هذه الأهواء إلا مصائب ... يخص بها أهل التعمق والعلل
وقال في النميمة: إياك والنميمة فإنها لا تترك مودة إلا أفسدتها ولا عداوة إلا جددتها ولا جماعة إلا بددتها ولا ضغينة إلا أوقدتها ثم لا بد من عرف بها أو نسب إليها أن يتحفظ من مجالسته ولا يؤتى بناحيته وأن يزهد في مناقشته وأن يرغب عن مواصلته وفي ذلك أقول شعراً:
تمشيت فينا بالنميم وإنما ... يفرق بين الأصفياء النمائم
فلا زلت منسوباً إلى كل آفة ... ولا زال منسوباً إليك اللوائم
وفي مثله قوله:
كالسيل في الليل لا يدري به أحد ... من أين جاء ولا من أين يأتيه
فالويل للعبد منه كيف ينقصه ... والويل للود منه كيف يبليه
وقال: إذا قيل لك شيء أطول فقل الكلام وإذا قيل لك أي شيء أقصر فقل الكلام لأن الكلمة الواحدة قد تكون جواباً لألف كلمة وقد يكون جوابها ألف كلمة وأكثر ولن تدرك الكلام حتى تذره ولن تذره حتى تحذره وفي القول خطأ كثير وبعضه صواب وإن الصمت منه لأصوب فاترك منه ما لا تنتفع بأخذه وخذ منه ما لا تقدر عَلَى تركه واسجن لسانك كما تسجن عدوك واحذره كما تحذر غائلته.
وقال في تأديب النفس: إذا أبصرت بعض ما تكره من غيرك فأسرع الرجعة منه قبل أن يبصر منك ما يستربيه واحمد الله الذي أحسن إليك وبصرك عيوب نفسك ونبهك الرجوع عن غيك وإذا أخبرك بعيبك صديق قبل أن يخبرك به عدو فأحسن شكره واعرف حقه فإن خبر العدو تعييب وخبر الصديق تأديب وفي ذلك أقول شعراً:
ولن يهلك الإنسان إلا إذا اتى ... من الأمر ما لم يرضه نصحاؤه
وقال في الحاسدين: اعلم أنك لن تلقى من الخير درجة ولن تبلغ منه رتبة ولن تنزل منه منزلاً إلا وجدت فيه من يحسدك وإنما الحاسد خصم فلا تجعله حكماً فإنه إن حكم لن يحكم إلا عليك وإن قصد لم يقصد إلا إليك وإن دفع لم يدفع إلا حقك وفي ذلك أقول شعراً:
ولو كنت مثل القدح ألفيت قائلاً ... إلا ما لهذا القدح ليس بقائم
ولو كنت مثل النصل ألفيت قائلاً ... إلا ما لهذا النصل ليس بصارم
تم أدب صالح بن جنان بفضل منشئ الروح ومجري الرياح والملك الوهاب الفتاح وذلك في سلخ شهر ذي القعدة سنة 1086 والحمد لله أولاً وآخراً وباطناً وظاهراً وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.