مجلة المقتبس/العدد 8/سدوم القديمة وسدوم الجديدة
→ الأمة الشرقية | مجلة المقتبس - العدد 8 سدوم القديمة وسدوم الجديدة [[مؤلف:|]] |
في قلبي ← |
بتاريخ: 19 - 9 - 1906 |
اختلف علماء الآثار ورجال البحث والاستقصاء في موقع سدوم اختلافهم في سواها من المسائل العلمية العويصة والمشاكل التاريخية الغامضة والمباحث الأثرية الدارسة فذهب فريق منهم إلى أن موقع سدوم كان في الجنوب الغربي من بحيرة لوط في جانب الجبل المعروف بسدوم. وذهب آخرون إلى أن هذه المدينة القديمة كانت ممتدة من جنوبي بحيرة لوط إلى غربي شاطئ نهر الأردن. وزعم غيرهم أن موقع سدوم وعمورة وأدمة وصبوئيم كان على شاطئ بحيرة لوط ثم عمرت بعد أن خربت. وصرح فريق آخر بأن موقع هذه المدن هو بحر الميت نفسه أو بحيرة لوط عينها وقد استدل أصحاب هذا المذهب على ذلك بأقوال التوراة. فسكان موقع سدوم إذا صحَّ مذهبهم تحت مياه الجانب الغربي من البحيرة. ومهما تكن تلك الآراء متباينة فقد أجمع أولئك الباحثون على أن موقع تلك المدن كان في أنحاء بحر الميت في القسم الغربي من قارة آسيا.
يظهر للمطلع على الإصحاحين الـ 18 و19 من سفر التكوين - السفر الأول من الأسفار الخمسة لموسى الكليم - أن سدوم وعمورة وأدمة وصبوئيم المتقدم ذكرها قد انحطت آداب سكانها بحيث لا تطيقها شريعة إلهية كانت أو أدبية أو اجتماعية فقضى الله جلَّ جلاله بأن يعاقب سكانها واطلع إبراهيم الخليل يومئذ على ما سيحل بأهل سدوم فسأل واحداً من أهل الله ممن زاروه من قبل لخلاصها والرفق بأهلها. فذهب اثنان منهما إلى سدوم ولما لم يجدا فيها إلا فشو الفاحشة والشر الفاضح أخرجا لوط ابن أخي إبراهيم مع امرأته وابنتيه إلى بلدة مجاورة اسمها صوغر. ثم هطلت نار من السماء فأحرقت سدوم وعمورة وأدمة وصبوئيم ومزقت شمل أهلها كل ممزق.
ولقد صادق كثير من العلماء القدماء على رواية موسى بشأن إحراق سدوم وخراب سائر المدائن المذكورة وتناولها شعراء اليونان ودونوها في قصائدهم بيد أنهم مزجوها بخرافاتهم الفاسدة. ومن أولئك المقرين على تلك الرواية استرابون الجغرافي الشهير المولود في نحو 200 سنة ق. م ويوسيفوس المؤرخ العبراني الذي ولد سنة 37 ق. م وإذ أن آراء أهل التنقيب والعلم تباينت في موقع سدوم فقد اختلفت أيضاً آراء المفسرين من علماء الدين في كيفية إحراق سدوم وسائر المدائن السابقة الذكر.
ذهب فريق من العلماء إلى أن الله أنزل الكبريت والنار على تلك المدن حقيقة فأحرقته ودمرتها ودكتها إلى الحضيض. ودليلهم على مذهبهم أن التوراة المنزلة صرحت بالأمر بحيث لم تبق شكاً فيه. وارتأى غيرهم من رجال الدين إلى أن بركاناً نارياً انفجر في بطن الأرض فأحرق تلك المدن ودليل أرباب هذا المذهب هو أن إبراهيم الخليل تطلع على تلك البقعة فرأى إذ ذاك دخاناً كثيفاً متصاعداً من قلب الأرض.
وبعد فقد عنيت بعض الجمعيات الأوربية بالبحث عن سدوم وسواها إفادة للعلم بأثر يجدونه في أرجائها. ورجال العلم الحقيقي في هذا العصر - عصر التحقيق والبحث - باذلون ما في وسعهم لكشف النقاب عن كل مسألة غامضة تفيد العلم والمجتمع.
وقرأت أن أحد السياح الباحثين وجد تمثالاً من ملح في جانب جبل سدوم في جنوبي بحيرة لوط ولعلَّ هذا التمثال هو نصب امرأة لوط التي تقول التوراة عنها بأنها عوقبت بذلك من أجل مخالفتها لأمر رجلي الله فالتفتت إلى ورائها لترى ما حلَّ بسدوم.
أما تاريخ إحراق سدوم ودمارها فيرجع إلى أيام إبراهيم الخليل جد اليهود. وتاريخ إبراهيم يرد إلى زهاء أربعة آلاف سنة. ولما كانت التوراة أهم مستند لدرس العلماء الملاحدة على رغم إلحادهم لأنها أقدم تاريخ من حيث المادة التاريخية يرجعون إليها في كثير من المسائل القديمة. ولما كانت موضوع بحث الباحثين من أئمة الدين وعلمائه من شرقيين وغربيين لم أر بدّاً من الرجوع إلى التوراة في بعض وصف مدينة سدوم وعمورة وتوغلهما في القدم والعمران.
فقد سمى موسى الكليم تلك البقعة مدن دائرة الأردن ووصفها بقوله أنها جنة وأن أراضيها تسقى بمياه نهر الأردن ولا غرو فقد هام الشعراء في هذا العصر بجمال بقاع بحر الميت فنظموا فيها القصائد. وأمها السياح من كل حدب وكانت كتاباتهم مجمعة على جمال موقع تلك البقعة وخصب أراضيها وطيب هوائها وعذوبة مائها. ولم يرد في التوراة شيءٌ عن عدد سكان تلك المدن الأربع غير أن كثيرة فساد الآداب في سدوم وعمورة خصوصاً على ذلك العهد تدل على أن تينك المدينتين كانتا مأهولتين بالسكان. والفاحشة في الغالب لا تتفشى بكثرة إلا في المدن الكبيرة وحيث يكثر الزحام وينمو السكان.
وصرح موسى الكليم بأنه كان لكل مدينة من مدن الدائرة ملك. فكان بارع ملك سدوم وبرشاع ملك عمورة وشنئآب ملك أدمة وشئمبير ملك صبوئيم وانه قد حدثت لهؤلاء الملوك مع ملوك شنعار والإسار وعيلام وجوبيم وأن إبراهيم الخليل استرجع من هؤلاء الملوك مدن الدائرة والأسلاب بعد أن تغلبوا على ملوك مدن الدائرة وأن إبراهيم تتبعهم إلى حوبه قرب دمشق شمالاً هو ورجاله الثلاثمائة والثمانية عشر حيث استظهر عليهم.
هذا بعض ما لخصته واستنتجته من أبحاث رجال العلم والدين التي طالعتها. وقد اذكرني بالكتابة في الموضوع حادث سان فرنسيسكو التي سماها رجال الدين في أميركا سدوم العالم الجديد لما أصابها في 18 نيسان سنة 1906 من البلايا التي تشبه بلايا سدوم العالم القديم.
أكبر ولاية في الولايات المتحدة بمساحتها هي تكساس وثاني ولاية كاليفورنيا وأكبر مدينة وأشهرها في كاليفورنيا سان فرنسيسكو أو هي أكبر مدينة في غربي الجبال الصخرية في الولايات المتحدة تقع على شاطئ الأوقيانوس الباسيفيكي من الجهة الشرقية منه وهي مفتاح ولاية كاليفورنيا وميناها أمين جداً. والحاجة العمرانية تستلزم وجودها في تلك البقعة دع عنك أهمية موقعها التجاري والبحري. ولقد دعاها الأميركيون باريس المدن الغربية في الولايات المتحدة وعروس الباسيفيك. ولا غرو فإن مركزها من أجمل مراكز الدنيا وهي كعبة السياح وأصحاب البذخ والترف ومتنزه أرباب المال والجاه ففيها الملاهي على تباين أنواعها والمقاصف على اختلاف أسمائها والحانات وما يتبعها ويتصرف عليها. وكما أن أهل العالم الجديد سموا مدينتهم الغربية باريس كاليفورنيا هكذا دعوها رتاج الذهب لكثرة النضارة في ولاية كاليفورنيا فإن هذه الولاية أغنى الولايات في البلاد المتحدة بمعادنها الثمينة لا بلجينها فقط بل بنضارها وسائر معادنها.
ولم تكن شهرة قصورها الفخيمة ودورها الجميلة وأبنيتها الشاهقة ومحالها البديعة بأقل شهرة من قصور سائر مدائن الولايات المتحدة الكبرى كنيويورك وشيكاغو وفيلادلفيا وسواها ففيها أبنية عظيمة وجميلة مؤلفة من ست طبقات إلى سبع عشرة طبقة وهي الثالثة من نوعها في العالم الجديد. أما نزلها الشهير المعروف بالبالاس الذي كلف بناؤه سبعة ملايين دولار (ريال) فهو أجمل نزل في العالم الجديد بل في سائر أطراف المعمور. وما قيل في نزل عروس الباسيفيك من حيث الجمال والإتقان والشهرة يقال في دار الحكومة التي أنفق في سبل بنائها تسعة ملايين دولار أميركي واشتغل مئات العملة في بنائها ربع قرن. ويرجع تاريخ هذه المدينة إلى أكثر من مائة سنة أيام كانت فرضة تجارية ليس فيها من العمران إلا اليسير على أنها أخذت بالتقدم والنماء منذ ثلاثة أرباع قرن شأن المدن الراقية حتى بلغت ما بلغته وناهز سكانها أربعمائة ألف نسمة.
هذا بعض وصف مدينة سدوم العالم الجديد قبل الحادثة الأليمة التي ألمت بها. أما اليوم فقد صارت قصورها البديعة رماداً ودورها الجميلة خراباً وسائر أبنيتها الثمينة قفراً يباباً حتى ابتلعت الأرض كثيراً من رياضها الغناء وحدائقها الزهراء وأصبح معظمها أطلالاً دوارس وآثاراً طوامس.
تناول شعراء الأمريكان فاجعة غادة الباسيفيك ونظموا فيها القصائد المؤثرة فرثوها بما يذيب سماعه قلب الجماد. واشتغلت الأسلاك البرقية في كارثتها العظيمة في كل أنحاء البلاد وبلغ نبأها أرجاء العالم المتمدن وانقضت أسابيع على المصيبة والجرائد الأميركية بالإجمال تصف هذا الخطب الجلل.
حدث زلزال شديد الساعة الخامسة والدقيقة الثانية عشرة من صباح 18 نيسان (إبريل) الماضي في مدينة سان فرنسيسكو دام دقيقتين فانشقت الأرض وابتلعت شطراً من المدينة بما فيها ومادت الأبنية وسقطت الدور ودمرت القصور وفاضت مياه الأوقيانوس على المدينة وأخذ البركان في جوف الأرض ينذرها بالويل والشقاء والدمار. حدث هذا الزلزال بينما كان الناس نياماً فزعزع أركان المدينة وأشد ما كانت وطأته على أهم بيوت التجارة والأعمال فيها ثم توالت الزلازل فأتت على البنايات المتزعزعة ودمرتها وثبتت الأبنية المتينة المشيدة هياكلها بالحديد بادئ بدءٍ.
ثم تصدعت أنابيب الغاز من الزلازل التي توالت بشدة فشبت النار في المدينة والتهمت ما بقي من الدور الفخيمة والأبنية العظيمة وحاول رجال المطافئ إخماد النيران ولكن مساعيهم ذهبت أدراج الرياح ثم عادوا بالديناميت لنسف الأبنية المجاورة لألسنة اللهيب الهائلة فلم يستطيعوا إيقافها وما انقضى بضع ساعات على شبوب النيران في الحي التجاري حتى اتصلت بأحياء السكن فالتهمتها فأصبحت المدينة كطود من نار.
وإذا رأى الفرنسيسكيون أن عروسهم الجميلة قد دكت إلى الحضيض ودفنت طيَّ اللحود فرَّ منهم نحو مائة ألف نفس إلى أوكلاند كليفرنيا وفرَّ الثلاثمائة ألف الباقون إلى الجهات المجاورة للمدينة والمطلة عليها يتوسدون الغبراء ويلتحفون السماء ويقاسون آلام الطوى أشكالاً ويذوقون البلوى ألواناً حتى بيع رغيف الخبز بدولار. ولم تنحصر الفاجعة الأليمة في عروس الباسيفيك بل قد امتد خطبها الفادح إلى غيرها من البلاد المجاورة فألحقت بها أضراراً فاحشة ولما حلت هذه الكارثة واتصلت أنباؤها المشؤومة بالشعب الأميركي الغيور قامت البلاد بأسرها تجمع الأموال وتبعث بها وبالمآكل والملابس إلى المنكوبين فخففوا عنهم وطأة الخطب وبرهنوا لهم بمروءتهم وغيرتهم أنهم شركاؤهم بالضراء وأن الأموال التي جمعت ترجع مجد مدينة المغرب وأن الشعب النشيط الذي أصبح في مدة قرن في مقدمة شعوب الأرض بالنفوذ والثروة والتمدن والذي عمر القفار وأقام المدن والأمصار يستطيع أن يبني على أنقاض سدوم العالم الجديد مدينة من أجمل مدن العالم.
ولقد بلغت الإعانات التي قدمت إلى منكوبي سان فرنسيسكو حتى الآن ثلاثمائة مليون دولار وتبرع كثير من كبار المتمولين الأميركيين كل منهم بمائة ألف دولار وتبرع مجلس الأمة في العاصمة (واشنطن) بمليون دولار وكثير من أفراد الأمريكان الموسرين تبرع كل منهم بالمبالغ الكثيرة. ومما يذكر أن محسناً دفع إلى حاكم مدينة نيويورك خمسة وعشرين ألف دولار لمنكوبي سان فرنسيسكو ولم يذكر اسمه.
وقد قررت خسائر سان فرنسيسكو بـ 350 مليون دولار. وكانت أشدها وطأة على 17 غنياً وغنية من الفرنسيسكيين فخسروا وحدهم 97 مليون دولار. وكانت خسارة السوريين في الكارثة 32 ألف دولار ولم يفقد منهم أحد وقدر الهالكون من الأميركيين بألفي نفس. وأما قيمة الأرزاق المضمونة في سان فرنسيسكو فهي 268 مليون دولار إذا رفعت شركات الحريق المبلغ برمته تضطر خمس عشرة شركة منها إلى إشهار إفلاسها.
هذا وأن حريق سان فرنسيسكو أعظم ما حدث من نوعه حتى الآن في الولايات المتحدة باعتبار خسارة المال والأنفس. فحريق شيكاغو الذي حدث في يومي الأحد والاثنين الواقعين في 8 و9 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1871 أتلف من الأرزاق ما قيمته مائتا مليون دولار. على حين كان عدد البنايات التي أكلتها النار 7. 450 بناية. ومساحة البقعة التي جرى فيها الحريق 73 ميلاً. أما مساحة البقعة التي حدث فيها الحريق في سان فرنسيسكو فهي 26 ميلاً وكذلك حريق بالتمور وبوسطن وكالفستن لا يحسب شيئاً بالنسبة إلى حريق سان فرنسيسكو. أما الزلازل التي حدثت في سان فرنسيسكو في 18 نيسان سنة 1906 فقد حدث مثلها في نفس المدينة في تشرين الأول سنة 1865 وسنة 1868. على أن الخسائر التي سببتها إذ ذاك على فداحتها لا تذكر في جنب الخسائر الفاحشة التي نجمت عنها في العهد الأخير.
وفي سنة 1811 حدثت زلازل في الولايات المتحدة هي أعظم ما جرى من نوعها حتى يومنا هذا فانفتحت كوات الأرض من شدتها على مسافة ثلاثمائة ميل من حدود ولاية أوهايو إلى حدود سانت فرانس وانخفضت الأرض مئات أقدام في بعض الأنحاء وارتفعت في سواها ودمرت البلاد الكثيرة وسببت الخسائر الفادحة. وقد ابتدأ حدوث هذه الزلازل في 16 كانون الأول (يناير) سنة 1811 وظلت تتراجع بكل طولها وحولها حتى أوائل شهر شباط (فبراير) 1812. وروى الهنود - سكان أميركا الأصليون - أنهم شاهدوا في القرن السابع عشر بركاناً نارياً في بقعة سان فرنسيسكو يقذف المواد الهائلة من جوف الأرض إلى مئات الأقدام علواً في الجو. ولقد عرف العلماء الباحثون أن موقع سان فرنسيسكو هو على نفس خط بركان فزوف في إيطاليا الذي لا تزال ويلاته متوالية على العباد هناك.
ومن المحتمل إعادة مجد سدوم العالم الجديد لأن الهمم العلية المبذولة في عمران المدينة تخترق جبال المصاعب الصعبة المرتقى ولا تقيم مدينة بل مدائن تكون من أقوى وأجمل وأبدع مدائن العالم. وقد باشر المهتمون للأمر باستجلاب الكميات الطائلة من الحديد لأنهم عزموا على ابتناء القصور والدور والبنايات الكبيرة من الحديد ورأوا أن الأبنية القائمة بالحديد قلما تؤثر فيها الزلازل ولعله يتأتى للمعمرين في المستقبل اختراع طريقة للعمران لا تقوى عليها قوات الطبيعة. ولا عجب فالعصر عصر عجائب وغرائب. وما متاعب هذه الحياة إلا عقاب لما يجنيه الإنسان فسبحان الفعال لما يريد.
اوماها نبراسكا (الولايات المتحدة)
يوسف جرجس زخم