الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 8/المكاء

مجلة المقتبس/العدد 8/المكاء

بتاريخ: 19 - 9 - 1906

ُ

(1 تمهيد) كل من زاول الكتابة في بحث عربي موضوعه علم المواليد يلاقي من العناء ما لا يعرف مقداره إلا من يجاريه في هذا الموضوع من أبناء نفس هذه اللغة الشريفة. وعندي أن ليس من خدمة مجردة الغاية تضاهي خدمة من يأخذ على نفسه تخليص اللغة من مثل هذه الألفاظ المبهمة المعاني التي لم يحكم تعريفها أصحاب المتون اللغوية أو أصحاب الفنون الخصوصية فبقيت في دواوينهم وأسفارهم مثل الطلسمات يعاني فكها من لا غاية له إلا الغيرة على لسانه إذ ربما يطوي عدة ليال في جانب حلها وهو مع ذلك لا يرجع إلا بما رجع به حنين وإذ قد كنت ممن عني بمثل هذا الفرع من العلم وتفرغت له أحببت أن أطرف قراء المقتبس بما وفقت إلى معرفته من حقيقة أمر الطائر المعروف باسم المكاء.

(2 تعريفه على ما جاء به كتاب العرب) إذا استشرنا كتبة العرب لمعرفة هذا الطائر فلا نسمع منهم إلا تحديدات وتعريفات مجملة لا يتحصل منها ما يصور لنا الطائر بصورته التي يتميز بها بل يوردون لنا ما ربما يصدق أو ينطبق على عدة طيور. فقد قالوا في تعريف المكاء ما هذا حرفه: المكاء بالضم والتشديد: طائر في طرف القنبرة إلا أن في جناحيه بلقاً سمي بذلك لأنه يجمع يديه (كذا) ثم يصفر فيهما صفيراً حسناً قال:

إذا غرَّد المكاء في غير روضة ... فويل لأهل الشاء والحمرات

التهذيب: والمكاء طائر يألف الريف وجمعه المكاكي. وهو فعال من مكا إذا صفر. اه (عن اللسان) وقال السيد المرتضى: المكاء: كزنار طائر صغير يزقو في الرياض. قال الأزهري: يألف الريف وقيل: سمي بذلك لأنه يجمع يديه (كذا) ثم يصفر. . . الخ كما في اللسان وقال في حياة الحيوان الكبرى: طائر يصوت في الرياض يسمى مكاء لأنه يمكو أي يصفر كثيراً ووزنه فعال كخطاف. اه. وقال القزويني: المكاء من طير البادية يتخذ أفحوصاً عجيباً وبينه وبين الحية عداوة. فإن الحية تأكل بيضه وفراخه. وحدث هشام ابن سالم أن حية أكلت بيض مكاء فجعل المكاء يشرشر أي يرفرف على رأسها ويدنو منها حتى إذا فتحت فاها ألقى في فيها حسكة فأخذت بحلق الحية فماتت اه.

هذا مجمل ما جاء في كتب العرب. ويتحصل منها: أن هذا الطائر يصفر وأن أغلب وجوده في الرياض بين الشاء والحمير وأن في جناحيه بلقاً. قلت ولذا سماه العرب بالأخرج أيضاً. فإذا تأملنا حق التأمل هذه الإفادات لا يمكننا أن نسلم لحضرة الدكتور جورج بوست (في كتابه نظام الحلقات في سلسلة ذوات الفقرات. الجزء الثاني. الطيور ص27) إن المكاء هو نوع من الببغاء ولاسيما أنه يقول: أما المكاكي فأكثرها تستوطن أميركا الجنوبية وهي أكبر من سائر هذه العائلة (عائلة الببغاءات) وأذنابها طويلة جداً وألوانها بهجة جداً وتمتاز بكبر منسرها والحيز الخالي من الريش حول العينين وهي تطير إلى علو شاهق فهذا كله لا ينطبق على ما نطق به العرب حتى ولا على بعض منه فضلاً عن قوله أن وطن المكاكي هو أميركا الجنوبية فكيف ساغ للعرب أن يسموا طيوراً لم يروها ولم يعرفوها ولم تكن بلادها معروفة في أيامهم. فلا جرم أن الدكتور واهم في زعمه هذا.

(3 حقيقة المكاء) أما المكاء فعندنا هو ما سماه صاحب الأوقيانوس باللغة التركية جوبان الدانقجي أي المحتال على الرعاة وسماه صاحب كتاب فرانسز جه دن تركجه يه جيب لغتي وهو وزنظال أفندي: مكاء وخاطف الرياح وجوبان الدادن وهو أحسن المؤلفين الذين ضموا إلى حقائق الألفاظ صحيح المصطلحات.

(4 اسمه عند الإفرنج والعرب ومعناه في لسانهم ولساننا) يسمى الإفرنج المكاء ومعناه بالع الريح أو خاطف الريح وبعضهم يطلق عليه اسم أي الضفدع السام الطيار وآخرون يسمونه أي مصاص المعز وبمعنى هذا اللفظ يسميه العلماء أي وكذلك الإنكليز وكذلك أيضاً في لغات سائر الأعاجم ولا غرو فإن هناك سبباً حمل الناس على تسميته بهذا الاسم وهو وجود هذا الطائر في المواطن التي يكثر فيها الماعز والغنم والبقر توهماً بأن هذا الطائر يأتي الدواب ليمتص لبنها وهذا وهم قديم نظنه هو الذي حمل العرب أيضاً على تسميته بالمكاء فإن اللغويين قالوا في سبب تسميته بذلك أنه مأخوذ من المكواو المكاء بمعنى الصفير. وهو محتمل. على أنه قد يكون مأخوذاً من المك وهو المص وأصله المكاك أي المصاص إشارة إلى مصه اللبن. ثم قيل في مك: مكا كما كان ذلك معروفاً عند قوم من العرب أي جعل المضاعف ناقصاً كالمسبي في المسبب (التاج في مستدرك س ب ب) وتقضي في تقضض والتمطي في التمطط. قال أبو عبيدة: العرب تقلب حروف المضاعف إلى الياء ومنه قوله تعالى: وقد خاب من دساها وزهو من دسست. وقوله. ولم يتسنه من مسنون وقولهم: سرية من تسررت. وتلعيت من اللعاعة (عن المزهر 225: 1).

وقد يحتمل أن يكون أصل المكاء: المكان بتشديد الكاف ونون في الآخر ثم قلبوا النون ياء كما قلبوها في ألفاظ كثيرة مثل قولهم التزييد في التزنيد (الصحاح) والميشار في المنشار (عن التهذيب للتبريزي) والصيدلاني في الصندلاني (الصحاح) وفي ليلة طلمسانة قالوا: ليل طلمساية (التاج في طلمس) ومثل ذلك كثير عندهم. ومعنى المكام المصان أو الملجان: وهو الذي يرضع الغنم من لؤمه ولا يحلب (التاج) فيكون هذا موافقاً للمكاء لما اشتهر عنه من أمر مصه أو رضعه للغنم.

وهذا الطائر هو الذي سماه الدكتور جورج بوست (في كتابه المذكور آنفاً ص51) ماص المعز وسنذكر عن قريب وصفه وهو مما يوافق كل الموافقة لوصف المكاء من كل وجه.

(5 تعريف الطائر بموجب العلم الحديث) المكاكي جنس من الطير من رتبة العصافير المشقوفة المنقار وهي قريبة من الخطاطيف وتتميز بمنقار كثير التفلطح معقوف الطرف بشعر عند قاعدته كثير الانفتاح عند الحاجة وريشها أغبر أصدأ بخطط سوداء وسيقانها مسرولة.

(6 وصفه) أصل هذا الجنس مكاء الحجاز ويسميه العلماء بمكاء أوربية قال الدكتور جورج بوست في وصفه: ظن القدماء أن هذا الطير (أي الطائر) يمص بزاز المعز (أي أخلافها) إلا أن ذلك وهم لا طائل تحته. وإنما يقتات الفسافس والفراش والعث والناموس والبعوض والزيز وغير ذلك من ذات التفاصيل التي تظهر في الليل. ومما يعين على لقط هذه الحشرات وجود سائل لزج داخل الفم وهلب خارجه. أما ألوان ماص المعز (المكاء) فعير ناصعة إلا أنها جميلة فإن الريش ذو نمش وخطوط ونقط سمر وسود وسنجابية وصدائية والمنقار صغير مسطح معقوف الطرف وعيناه كبيرتان سوداوان وساقاه خشتنان حرشفيتان قصيرتان وعليهما ريش أسفل الركبة والأصابع متحدة بغشاء إلى نهاية المفصل الأول والإصبع الوسطى أطول من غيرها والمخلب مسنن على جانب واحد ولم يتفق الطبيعيون على فائدة هذا العضو فظن بعضهم أن الطائر يستعمله لنزع قطع الفسافس من هلب فيه والبعض الآخر أنه يمسك فريسته بواسطته. ويستوطن هذا الطير المواضع البعيدة من مساكن الناس ولا يعشش بل تبيض على الأرض (أي تتخذ لها أفحوصاً) قيل إذا رأت عدواً مقبلاً دحرجت بيضها إلى موضع أمان أه كلام الدكتور قلنا: ولهذا الجنس أنواع مختلفة أغلبها غريب عن هذه البلاد لا حاجة إلى ذكرها.

بغداد

أحد قراء المقتبس