الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 79/آثار العرب الخالدة في أوربا

مجلة المقتبس/العدد 79/آثار العرب الخالدة في أوربا

مجلة المقتبس - العدد 79
آثار العرب الخالدة في أوربا
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 1 - 9 - 1912


اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء! بيدك الخير إنك عَلَى كل شيء قدير

قرآن شريف.

سادتي

أقرئكم تحية العرب فأقول لكل فرد: سلام عيكم،

وأثني بتحية الإسلام فأقول لكم جميعاً: السلام عليكم،

وأعزز هذه التحية المزدوجة بما أخذه الإفرنج عن العرب فأقول لكم بمراعاة المعنى الصحيح:

هذه الكلمة، أيها السادة، وإن كان الإفرنج قد نقلوها إلى معنى التملق والمبالغة في الخضوع والخنوع والخشوع، لكنها في الحقيقة تدلنا عَلَى تأثير الحضارة الإسلامية عَلَى أمم الغرب في أوريا. أفليس من سنة هذا الكون ومن نواميس العمران أن الاحتكاك بين الأقوام المختلفة وإن اختلاط الشعوب المتباينة لا بد أن يترتب عليهما تأثيراً لبعضهما عَلَى البعض الآخر حتى يظهر هذا التأثير في الأحوال العامة وفي الشؤون الخاصة؟ وذلك التأثير مصدره قوة الحضارة. فيكون ضعيفاً ضئيلاً أو قوياً جسيماً بحسب ما وصلت إليه الأمة الغالبة من الارتقاء في سلم المدنية، وبقدر ما نالته من السيطرة والرجحان.

فأيما أمة استبحر العمران بين أبنائها فلا بد لها من التبسط في الأرض والتغلب عَلَى الأمم، فلا يلبث أن يكون لها سلطان (ولو معنوي) عَلَى البطون والعشائر التي تجاورها أو تمازجها أو تأتمر بكلمة منها. وأثر ذلك أن يظهر للمتأمل المتفكر كجبين الصبح ووضح النهار في الأمور المعاشية من زراعة وصناعة وتجارة، بل في الأخلاق والعادات والطباع، بل في العلوم والمعارف، بل في الجد والهزل والوقار والخلاعة.

لست أذهب بكم بعيداً في إثبات هذه الظاهرة العمرانية وهذا الناموس الاجتماعي وإنما أناشدكم أن تنظروا عن أيمانكم وشمائلكم وفيما بين أيديكم، أفلا ترون الرجل من قومنا ممن لا يحسن التلفظ بلغة أمه وأبيه، ولم يرزقه الله إلماماً قليلاً برطانات الأعاجم، أفلا ترونه يبادر صاحبه ومشاكله عندما يلقاه في ليل أو نهار: بونجور مون شير، بون سوار؟.

أفليس من المحقق المجزوم به أن أبنائنا سيلقون في الغيط وفي البيت جود مورننج م دير، جود نايت؟ بل قد خرجت هذه الكلمة من أفواههم!

ذلك لعمري من خور النفوس وضعف الطبيعة وانحطاط الأخلاق. وقد يكون من باب التنطع عند العلماء، ومن باب الحذلقة (الحفلطة) في أنصاف العلماء (وهم شر الناس). وأما الجاهلون فحسبهم أنهم جهال. ويقيني أن التنطع والحذلقة من الأمور التي لا بد لنا من محاربتها لنكون قوامين عَلَى لغتنا وذاتيتنا، وليكون لنا سعي مشكور في إحياء آدابنا وإحياء بلادنا.

عَلَى أن موضوعي في هذه الليلة سيضطرني في كثير من المقامات إلى التذكير بألفاظ أجنبية مأخوذة عن العربية لأبين ما تركه أجدادنا من الآثار الباقية والمآثر الخالدة في الأمم الأوربية. فعلى سبيل التمهيد ومن باب الدخول في الموضوع أستأذنكم في إلقاء جملة صغيرة باللغة الفرنسية يتغلغل بها الكلام وليأخذ الحديث برقاب بعضه بعضاً.

لا جرم أن يأخذكم العجب وتتولاكم الدهشة إذا قلت لكم يا سادتي إن كلمتي مشتقتان عن جرثومة عربية محضة فالأولى (ونظيرها عند الطليان فعل مأخوذة من قول فلان حائر بائر. وأما الثانية فهي من قولهم بهرت فلاناً فانبهر. فهل يصح لأحد أن يحار بعد الآن في ذلك الاشتقاق) وقد ظهر السبب فبطل العجب؟ وهذا كما ترى.

أقف هنا قليلاً. ولا أزيدكم علماً بأن الفرنسيين كثيراً ما يستعملون كلمتي وتحليلها اللغوي وانظر إلى ذلك أو كما يقول عامتنا أهو كده هو كذا ويضارع ذلك قول العرب: وهذا كما ترى تلك الجملة ترد كثيراً في مسامرات أبي حيان التوحيدي مع وزير بغداد كما نراه في كتاب الإمتاع والمؤانسة الذي أحضرته في هذا العام من خزائن القسطنطينية. وربما حاضرت قومي به وبموضوعه في فرصة أخرى.

ذكرت لكم في الجملة الفرنسية كلمة ثالثة وهي كلمة وأصلها عربي أيضاً. ولو نطقنا بها عَلَى الطريقة الطليانية لقلنا: سوكي أو لو

بحثنا ما يقابله عندهم لوجدنا فلو سقنا الآن آية من القرآن لظهر أصل الاشتقاق. قال الله تعالى في وصف الصحابة: (رحماء بيتهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً. سيماهم في وجوههم من أثر السجود. ذلك مثلهم في التوراة. ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه (فراخه وورقه) فآزره فاستغلظ فاستوى عَلَى سوقه يعجب الزرّاع) (الآية).

أخذ الإفرنج كثيراًَ من طرق العرب واساليبهم في الزراعة كما سنبينه فيما يجيء، واخذوا معها اللفاظ تارة وهي في حالة المفرد وتارة في حالة الجمع. ومن هذا القبيل كلمة التي نحن بصددها أخذوها عن سوق جمع ساق ثم حرفوا معناه عن أصله فنزلوا بها إلى باطن الأرض وجعلوها بمعنى الجرثومة والأصل: ثم توسعوا فيها فأطلقوها عَلَى جميع المعاني التي تدل عليها الجرثومة في اللغة العربية حساً ومعنى، حقيقة ومجازاً.

وهناك ألفاظ كثيرة جداً تدل عَلَى تأثير العرب في الإفرنج تأثيراً باقياً إلى الآن:

نعم إن المعالم ذهب بها الأيام والعوادي، ولكن أثرها قد بقي. فالأطلال تحدث الشاعر الباحث. وتستوقف الناظر والمسافر وتناجي الضمائر والخواطر، بما كان للعرب في تلكم البلاد من المآثر والمفاخر.

وسأغترف لكم نذراً يسيراً مما علمت أنه مأخوذ عن العربية وقد تأصل في اللغة الفرنسية الجميلة (وما يتبعها من اللهجات الخاصة ببعض الأصقاع في فرنسا) وفي اللسان الطلياني (وما تولد عنه أو من اللهجات الشائعة في شبه الجزيرة الطليانية وما إليها من الجزر الأخرى) وفي لغتي الإسبانيين والبرتقاليين (وما تفرع عنه أو تفرع عنهما في ربوع الأندلس بحسب الاصطلاح الجغرافي العربي من الرطانات المتداولة الآن أو التي قضى عليها ناموس النشوء والارتقاء بالدخول في خبر كان).

قلت لكم إنني سأغترف من ذلك شيئاً، ولست أتعدى كلمة الاغتراف قبل أن أحيطكم علماً أن الإفرنج أخذوا عنها كلمة الفرنسية الطليانية الصقلية الإسبانية. ولكنهم كلهم تطابقوا عَلَى تناقل اللفظ العربي من المصدرية إلى الاسمية. فهو عندهم لإناء من الزجاج يوضع فيه الخمر أو الماء. ومن ذا الذي في مصر الآن إذا ذهب إلى محل تجارة مذكور لا يكون قوله مفهوماً إذا طلب المشتري الكاراف؟! نعم إن الطالب والمطلوب يتفاهما وكلاهما بغير العربية لا يتراطتان أرهما بها يتراطتان. لا اريد أن أتشبه بهذا البائع وبهذا المشتري، فلا أجول أمامكم في مضمار لست من فرجائه. فاللغة الإنكليزية قليل وبالألماني هو والعدم سواء، وباليونانية كالصفر عَلَى يسار الأقلام، إلى ما هنالك من لغات أخرى قد أخذت عن العربية طائفة صالحة من الألفاظ والمسميات مما يتعلق بالعلوم أو بحاجات المعيشة والأرزاق، كما أننا الآن نأخذ منهم بعقل وبدون تعقل، وبفكر وبلا تروٍ حتى أصبحنا عالة عَلَى تلك الألسنة الأعجمية فيما قد نجد له بديلاً وعنه غناء في لغتنا. دع عنك الألفاظ التي يتواضع العلماء عليها لأغراض مخصوصة أو لمستحدثات لم تكن معروفة، فهذا النوع من الألفاظ ملك شائع لجميع بني الإنسان. وهكذا سنة الله في خلقه: يوم لنا ويوم علينا، (وتلك الأيام تداولها بين الناس).

وأنا أملي (أستغفر الله) بل الواجب علينا جميعاً معاشر الناطقين بالضاد، وأهل مصر عَلَى التخصيص، أن نتضافر ونتعاون في هذا العصر العباسي الزاهر وفي ظل مليكنا الرحيم وبعناية رجال حكومته الحاضرة، فنكون عصبة واحدة ونعمل عملاً متواصلاً متوالياً حتى يسنا لنا إحياء آدابها لتجديد العلوم فيها، ولإيجاد بواعث الارتقاء المنشود. فتلك هي لعمري الخطة الوحيدة التي تجعل لنا مقاماً كريماً بين الناس، كما كان لأجدادنا السابقين إلى الغايات.

أيها السادة

سبق لهذا العاجز الذي يناجيكم الآن أنه ألقى محاضرة بين يدي سيدي العباس بمناسبة افتتاح الجامعة المصرية. وقد أبنت فيها أن أهل الإسلام إنما تسنموا ذروة المجد بالرحلة إلى الأمصار وبقطع البحار وعملاً بالأمر الرباني الذي اوجب علينا المشي في مناصب الأرض، والسعي في طلب الرزق، والرزق عَلَى معنيين: مادي وأدبي، كما لا يخفى.

عمل أسلافنا بهذه الآية الحكيمة فنالوا ما نالوا، وعكسناها فصرنا إلى ما صرنا هؤلاء نحن نرى مئات المصريين إذا جاء القيظ يقولون هلم بنا إلى أوربا للاصطياف! هذه رحلة الصيف التي كانت لإيلاف قريش! وفاتهم أن رحلة الصيف كانت لكسب المال الحلال من التجارة، وللاستفادة من المنافع المرتبطة بالارتحال: أما قومنا الآن، فالسواد الأعظم منهم يهرع إلى أوربا في كل عام، وأنتم أعلم بالغرض الذي يرمون إليه وبالهدف الذي يترامون عليه وحواليه. أهم ينفرون خفاقاً وثقالاً (أستغفر الله) بل خفاقاً متأبطين ما خف حمله وثقلت موازينه، يحملون ورقاً يغني عن الورق تكذيباً للشاعر الذي قال لممدوحه:

أهديتني ورقاً لم تهدني ورقاً ... قل لي بلا ورق ما ينفع الورق ولو عاش هذا الشاعر إلى عصرنا لاكتفى من ممدوحه بالتوقيع عَلَى ورقة من السفاتج (التي يسميها أصحابنا بالكمبيالات) أو من المصرف الذي يخزن فيه أمواله بإمضاء عَلَى شيك من الشيكات، تلك الكلمة الثانية أصلها عربي عن اللغة الفارسية فهي الصك وجمعه الصكوك أخذ الإفرنج هذا اللفظ عن العرب في جملة ما أخذوه عنهم من اصطلاحاتهم التجارية والمالية فقال شيك

أصحابنا يهجروننا في الوقت الذي تحتاج فيه زراعاتهم إلى عنايتهم! وفي ذلك ما فيه من الضرر عليهم وعلى بلادهم! ناهيك أنهم لا يتشبهون بالطير! تغدو خماصاً وتروح بطاناً. وأما أصحابنا فيتهافتون عَلَى أوربة بطاناً وقد تأبطوا ما جمعوه أو اقترضوه من المال ويرجعون إلينا خماصاً بل صفر الوجوه، صفر الجيوب.

أفرأيتم أولئك الفلاحين الذين أغناهم الحظ، وهم لا يكادون يفقهون لغة أمهم وأبيهم، أفرأيتموهم حينما يقولون: إنا ذاهبون إلى البلد الفلاني لأجل الكور يقولون في أفواههم ما ليس في قلوبهم كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون وما هي الكور (الاستشفاء والتدبير الصحي) كلمة سمعوها فأعجبتهم غرابتها واستعملوها ولا يدرون لها معنى ولا يقيمون لها وزناً ولا يعملون عَلَى تحقيقها فعلاً وعملاً!

غير أنني في هذا الشهر المبارك شمت بارقة من الأمل ولعلها مبشرة بغيث ينهمل في المستقبل، وأعني به المستقبل القريب.

فقد تشرفت وجمهوراً كبيراً (الواو هنا واو المعية) من أكابر الموظفين بتناول الإفطار أمس عَلَى طاولة الخديوية في حضرة ولي الأمر في مصر حفيد محمد علي ولا فخر، الجالس عَلَى نحت المعز وبنية القابض عَلَى صولجان صلاح الدين وذراريه، الوارث لتاج الظاهر، المتحلي بإكليل النصر، المستوي عَلَى عرش المؤيد، المتبؤ لأريكة الأشراف، مولانا وولي نعمتنا المقر الأشرف الحاج عباس حلمي الثاني محيي الآداب، العربية.

فقد حدثنا عن إعجازه بفتى من فتيان مصر رآه يجول في جبال الألب فيما بين فرنسا وسويسرا منقباً في بطون الوهاد منقراً فوق ظهور الأنجاد مستجوباً صياصي الأجبال. وغايته من ذلك أن يتعرف ما أبقاه العرب هنالك من المآثر والآثار أو ما تركوه من الرسوم الدوارس والأطلال.

لم يكتف المليك بهذه الرعاية التي تتطال نحوها رقاب المجتهدين من أبنائه، بل بالغ في الفضل فأوصى رجال حكومته بأنة يساعدوا هذا الرجل (وهو محمود بك سالم) عند عودته ليتمكن من إتمام عمله الجليل وسعيه المشكور فيما يرجع بالفائدة عَلَى مصر خصوصاً وعلى الشرق عموماً.

لا ريب عندي أن رجال الحكومة فاعلون لأنهم يقدرون كل عمل نافع حق قدره ولأنهم قادرون عَلَى تعضيد كل مشروع مفيد.

ولم أر في عيوب الناس عيباً ... كنقص القادرين عَلَى التمام

كيف لا والإشارة صدرت من الأمير أدام الله لنا وجوده، وأتم عليه نعمته وأيده بروح منه حتى يكون حكمه السعيد مرشداً إلى سر التقدم الذي نبتغيه لتجديد المكارم بفضل حشمه ورجاله الذين وهبهم الله من العلم والحلم ما يؤذن برفع شأن الأمة المصرية.

لهذا السبب أردت أن أتعجل في القيام بالمفروض علي من امتثال هذه الإشارة والعمل بها فيما يدخل في دائرتي ويصل إليه مقدوري.

أردت أن أمهد الطريق أمام ذلك الصديق. حتى إذا ما عاد بالسلامة محمود بك سالم وجد النفوس متشربة بفائدة المشروع ورأى الأرض صالحة لهذا الغرس الطيب. فيكون شعارنا كلنا: حيَّ عَلَى عمل الخير!

ذلك هو البعث الذي نبتغيه بعد أن طال السابت، ذلك هو النشور الذي ننشده للشرق! فالحياة تتجدد في كل يوم عن يمينه في الشرق القصى وعن شماله في أوربا وأميركا وهو جامد في موقفه كأنه في البرزخ. أفلا تكون حركة من وراء هذا السكون؟

نعم فالحركة من مميزات الحياة. ونحن والحمد لله فينا بقية وإن كان بعض الناس ينظر إلينا فيخالنا كالنائمين في البراري، أو كاهل الكهف؟

بماذا تتجدد الحياة في الشرق

بالرحلة لعمري! كما ابتدأ دبيبه انتعشت بها الأمة العربية في أيام الأمويين والعباسيين. فمن المعلوم أن الوسيلة الواحدة تنتهي دائماً إلى غاية واحدة وأن المعلوم يدور مع العلة وجوداً وعدماً.

فلعل هذه الخطة الجديدة التي كنت ولا أزال أسعى وراءها منذ ربع قرن تصبح سنة بيننا وأنا اليوم عَلَى يقين من تحقيق الأحلام. فالداعي إليها اليوم ليس أحد أفراد الأمة وإنما هو صاحب التاج، والناس عَلَى دين ملوكهم.

هذا وإنني لا أبيع الحكمة إلا بحسن الاستماع ولا آخذ عليها ثمناً إلا فهم القلوب وهذا كما ترى!

يطربني وأيم الله أن أرى هذه السنة الجديدة متداولة بيننا معاشر المصريين فيرحل المقتدر منا إلى أوربا بشرط أن يجعل نصب عينيه العمل عَلَى الاستفادة مما وصل إليه أهلوها في حلبة الفضل وميدان التقدم.

لست أنكر عَلَى الراحلين أن يضيعوا معظم وقتهم وأن يصرفوا جل مالهم في لذات أنفسهم وشهوات بطونهم. ولكني أناشدهم وأناشدهم أمهم (مصر) أن يجعلوا الثلثين لهم والثلث لها وأن يعملوا بقول الشاعر:

والله مبني جانب لا أضيعه ... واللهو مني والخلاعة جانب

بل أكتفي منهم أن يخصصوا لوطنهم نصيباً زهيداً من اغترابهم فالذرة يتكون منها الطود الشامخ والقطرة هي أصل العباب الزاخر.

أملي فيهم أن يعودوا لنا بكتاب من كتب أجدادنا التي ليست في خزائننا (والخطب سهل فما عليهم إلا أن يصدروا أمرهم لأي إنسان من المشتغلين بالنقل بواسطة التصوير الشمسي) أملي فيهم أن يرجعوا إلى أهلهم وأهل بلادهم بفائدة (والأمر ميسور فما عليهم إلا ألأن ينظروا بالعيون التي خلقها الله وأن يعتبروا بالعقول التي أودعتها الحكمة الربانية في رؤوسهم). إن في أوربة الآن لآية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو رشيد.

فكما كانت الرحلة سبباً في تقدم الشرق في أيام السلف الصالح، فكذلك تكون إن شاء الله بفضل الجيل الحاضر وما يتلوه من الذراري والأعقاب.

كيف وصل المسلمون إلى أوربة؟

يقطع البحر الفاصل بيننا وبينها. هذا البحر الذي نسميه الآن بالبحر البيض المتوسط والذي كان يسميه أسلافنا بالبحر المتوسط لتوسطه بين أراضي أفريقية وآسية وأوربة واسمه المشهور عندهم بحر الروم. ولو أنهم سموه بالبحيرة الإسلامية لكانوا قالوا حقاً وأثبتوا صدقاً. فقد امتلكه المسلمون وامتلكوا ما فيه من الجزائر مثل: ميورقة ومنورقة (وهي المعروفة الآن بجزائر الباليار وكان المسلمون يسمونها بهذين الاسمين وباسم الجزائر فقط وأما القطر لجزائري المشهور فاسمه عندهم مأخوذ من اسم عاصمتهم جزائر بين مزغنة وابن مزغونة) ثم صقلية، وقوسقة وأقريطش (المعروفة الآن باسم كريد) وكل هذه الجزائر كانت الحضارة الإسلامية فيها باهرة زاهية زاهرة.

أما الجزائر الصغرى فكان شأنها كذلك مثل قبرص ورودس ومالطة. وآثار الإسلام ما تزال باقية إلى الآن ولعلكم ترتاحون إلى العلم بأن مالطة كانت سوق الأدب العربي فيها رائجة كان صحبها اسمه القائد يحيى صنع له احد المهندسين صورة لمعرفة أوقات النهار بالصنج فقال أبو القاسم بن رمضان المالطي لعبد الله بن السمط المالطي أجز الله هذا المصراع.

جارية ترمي الصنج ... بها النفوس تبتهج

فقال:

كأن من أحكمها ... إلى السماء قد عرج

فطالع الأفلاك عن ... سر البروج والدروج

أما بحر الأرخبيل وجزائره فلم يدخلا في حكم العرب بصفة أكيدة حقيقية وإنما كانوا يغيرون فيه عليها من حين إلى حين تبعاً لعلاقاتهم مع الروم صلحاً وهدنةً وسلماً وحرباً. هذا البحر هو بحر الأرخبيل أو بحر هيجاي فانتم ترون أنه شيء وبحر سفيد بشيءٍ آخر. ولا عبرة بما يذكر في هذه الأيام في كثير من الجرائد العربية بمناسبة الحرب الحاضرة والكلام عَلَى الأرخبيل وجزائره العثمانية - فإن الذين وقفوا أنفسهم عَلَى الترجمة فيها قد وقفوا عندما رأوا بحر إيجة ورأوا في كتب الجغرافية والتربية أو المعربة عن هذه اللغة لفظة بحر سفيد فاغتروا وغرروا بالقارئين إذ قالوا أنه بحر سفيد وأطلقوا عَلَى هذا البحر اسم سفيد لأنه غير متعارف في مصر وظنوا أنهم أفادوا وأدوا الأمانة حقها. فكانا مصداقاً جديداً للمثل السائر عند الطليان وهو ومعناه الترجمان خوان ويضح لنا أن نترجم ذلك مع التساهل ومراعاة ملكة اللسان المصري بقولنا المترجم مبرجم والبرجمة غلط الكلام.

فأملي أن تصل كلمتي هذه إلى أرباب الأقلام فلا يعودون إلى مثل هذا التخليط.

قلت لكم يا سادتي أن المسلمين عبروا البحر فامتلكوا جزائره وجعلوها قواعد تقوم عليها أعمالهم في الفتوح كما هو شأنها اليوم مع الدول العظمى. ومنها ذهب المسلمون إلى أوربة فامتلكوا ما قدروا عليه واحتلوا ما تيسر لهم، وأغاروا عَلَى ما أرادوا.

ذهبوا بأساطيل مؤلفة من الجوارى المنشآت في البحر كالأعلام. تلك الأساطيل التي تغنى بها الشعراء بما لا حاجة للإشارة إليه الآن لئلا يتشعب معنا الكلام فيخرج عمال يقتضيه المقام، وإنما أردت لفت الأنظار إلى أن الدول التي تريد إعلاء كلمتها وحفظ بيضتها لا بد لها من امتلاك ناصية البحار وذلك لا يكون بتلك الحصون الماخرات الشامخات المشمخرات. فإن البحر له الشأن الأكبر في رفع شأن الدول وسلاطة بعضها عَلَى بعض بحق وبغير حق. وحسبكم ما هو حاصل الآن بين سمعكم وبصركم في البحر الأبيض المتوسط وفي بحر الأرخبيل بل وفي البحر الأحمر المعروف في كتب الجغرافيا العربية ببحر القلزم نسبة إلى مدينة القلزم التي قامت مقامها وعلى القرب منها مدينة السويس.

أخذ العرب عن اليونان اسم الأسطول للدلالة عَلَى مجموع السفن التي تباشر الحرب في البحر كما أخذنا نحن الآن عن الإفرنج كثيراً من اصطلاحاتهم البحرية. ومن ذا الذي ركب منكم البحر ولم يحتجز له قمرة في الباخرة؟ هذه القمرة هي طليانية المنبت والمحتد ومعناها الغرفة والحجرة والأوضة. فإن هي إلا معاوضة ومقايضة كما أن البحر إذا انحسر عن البر من هنا طغى عَلَى الشط المقابل له في ناحية أخرى. ناموس عام تتجلى ظواهره في كل أعمال الإنسان وفي سائر أحوال العمران كذلك كان شأن الإفرنج منذ قرون ولقد بقيت الأسماء العربية متعارفة عندهم وفي كل لغاتهم وليس لهم سبيل إلى تبديلها بغيرها. إذ من ذلك مثالاً واحداً لأنه الأس وبمثابة الرأس فلفظة أميرال عربية الأصل وهو عندنا أمير الماء كما تراه في موسوعات النويري. بتر القوم القسم الأخير من باب التلطيف والتخفيف كما هو شأننا أبضاً في تعريب الكلمات الأعجمية. وقد جئنا الآن فجاريناهم عَلَى التعبير بهذا الحرف وبما تركب معه فنحن نقول: أميرال، كنتراميرال، فيس أميرال.

من هو أول أميرال مسلم؟

هو العلاء بن الحضرمي الصحابي الجليل عليه رحمة الله فهو أول مسلم ركب البحر للغزو وكان ذلك من جهة الشرق والخليج الفارسي من عمان والبحرين.

وأما أول أميرال مسلم ركب بحر الروم للغزو فهو معاوية بن أبي سفيان حينا كان عاملاً عَلَى الشام في خلافة عثمان بن عفان.

ثم أن المسلمين شغفوا بالجهاد في البحر وامتلاك بعض جزائره. والذي يهمنا بصفتنا مصريين هو أن نعرف أن أول تأسيس دار الصناعة كان في جزيرة مصر (جزيرة الفسطاط) في سنة 54 هجرية وأن الأسطول بالمعنى الحقيقي كان أنشأه للمرة الأولى في بلادنا في أيام عنبسة ابن إسحاق وإلى مصر باسم الخليفة المتوكل العباس الذي سنذكره بمناسبة المنجنيق عما قريب وكان ذلك في سنة 238 وكانت مصر إنما تصد بأسطولها غارات الروم وغيرهم من أمم أوربة.

وأما الهجوم فلم يكن من شأنها إلا في حالة العدوان عليها. وذلك لأنها من حيث الفتح والتوسع في الاستعمار ما كانت تطمح في غير رودس وقبرص.

والسبب في ذلك أنها تركت أمر الجزائر الأخرى للبلاد الإسلامية القريبة منها فكانت تونس توجه همتها البحرية إلى صقلية وسرادينة، وكان المغرب الأقصى متكفلاً بجزائر ميورقة ومنورقة ويابسة وشطوط الأندلس وسواحل فرنسا.

ولكن تونس سبقت مصر في اتخاذ الأساطيل في أيام عاملها حسان بن النعمان بأمر الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان سنة69 للهجرة.

بلغت الأساطيل الإسلامية من الجلالة أنه كان لا يدخلها غشيم - عَلَى قول الإمام المقريزي - ولا جاهل بأمور الحرب وكان لخدامها حرمة ومكانة ولكل أحد من الناس رغبة في أن يعد من جملتهم فيسعى بالوسائل حتى يستقر فيه. وقد أفادنا أيضاً أن العناية بالأساطيل الإسلامية في مصر إنما قويت منذ قدوم المعز لدين الله إليها. وأن المقدم عَلَى الأسطول كان أميراً كبيراً من أعيان أمراء الدولة وأقواهم نفساً (وهو الأميرال) وكان الأسطول يزيد في أيام العز عَلَى ثمانمائة قطعة ثم اخذ في الانحطاط ولكن لم ينقص قط عن مائة قطعة فكان الخليفة يحض بنفسه تجهيز الأسطول وتفريق النفقة عَلَى رجاله. حتى إذا تهيأ للإقلاع ركب الخليفة إلى منظرة المقس (محل جامع أولاد عنان الآن) لتوديعه في احتفال باهر فيكون له يوم مشهود يزيده بهاء ورواء حركات الأسطول المعروفة الآن بالمناورات البحرية والحربية وقد بلغ من عنايتهم بالأسطول إن دار الصناعة في مصر ما كان يدخلها أحد راكباً إلا الخليفة ووزيره وذلك يوم الاحتفال بفتح النيل أي جبر الخليج الذي انطمس الآن وصار طريقاً للترمواي وأصبح الاحتفال الآن معروفاً بموسم وفاء النيل.

كان للأسطول في أيام صلاح الدين ديوان مخصوص يسمى بديوان الأسطول وسلمه إلى أخيه الملك العادل. فكان هذا الديوان يشبه ما كان معروفاً في أيام محمد علي بديوان البحرية وما هو معروف بديار أوربة بنظارة البحرية. وهو الآن صفر في مصر لا عين ولا أثر.

وكانت إسكندرية ودمياط هما الميناءان الحربيان البحريان في ديار مصر وضف إليها مدينة تنيس التي هي الآن خراب بلقع وأما الفسطاط (مصر القديمة) وقوص (من أعمال الصعيد) فكانتا من أعظم الموانئ النيلية وفيهما يكون إنشاء السفن الحربية التي ترابط بتلك الثغور وتذهب للغزو والبحر لأجل إعلاء كلمة مصر وجعل رايتها خفاقة في الخفاقين.

ما هي القطع التي كان يتألف منها الأسطول في الدول الإسلامية؟

هي الأعواديات والأغربة والبركوشات والحراريق (أو الحراقات) والشلنديات والمسطحات. ويتبعه سفائن أخرى تأتي في المرتبة الثانية من المكانة وإن كانت حاجته إليها شديدة وسنتكلم عليها عما قريب.

سارت الأساطيل الإسلامية باسم الله مجراها ومرساها فأرست عَلَى سواحل الجزر وشطوط أوربة. وألق مراسيها وهي الأناجر جمع أنجر لفظة يونانية عربوها فقال الفرنسوين واشتقوا منها المصدر ثم ربط العرب مراكبهم بالحبال الغلظة وهي الأمراس والمرار جمع مر فسمى الطليان ذلك الحبل وتوسع فيها الفرنسيون فقالوا مثل ما صنع العرب حينما قالوا أمر السفينة أو الشيء أي ربطها بهذا الحبل الغليظ القوي المتين وعلى ذكر الحبل أذكر بأنه هو الفرنسية بمعنى واحد وأن اللفظة الثانية مأخوذة عن ذلك الأصل العربي.

ولا يسعني أن أتجاوز الشط وأن أتتبع العرب في سيرهم قبل أن أقول أنهم حينما استقرت قدمهم بالسواحل أنشأوا فيها دور صناعة عَلَى مثل مذ ذكرنا في مصر وتونس فقال الطليان في أول الأمر (دور الصناعة) فكان مثلهم في هذا مثل أهل أسبانيا والبرتقال. ثم قال الطليان ثم ثم ثم واستمروا عَلَى هذا اللفظ الأخير إلى يومنا هذا ومنه كلمة الفرنسيين فلما جاء محمد علي وتقلد أمر مصر وأراد إحياءها رأى أن ذلك لا يتم إلا بإنشاء الأسطول. فاستحدثت دار الصناعة في الإسكندرية وأشنأ الأسطول واستخدم في ذلك الكثير من الأتراك والطلبيان وغيرهم من بني الأصفر فلذلك جارى أجدادنا الأقربون هؤلاء القوم فاستردوا منهم كلمتنا العربية البحتة المحتة المحضة مصبوغة بلون إفرنكي ضاعت معه معالمها الأصلية فقالوا كما قال الترك ترسانة بل تركها بعضهم أكثر من الترك أنفسهم فقالوا ترسخانة من باب المبالغة في التضليل وتعفية آثاره الأصلية. وقد استحكمت هاتان الكلمتان في استعمال الخاصة والعامة حتى لا سبيل لاقتلاعهما أو الإقلاع عنهما مع أن الطليانيين لا يزالون إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم يقولون ولكن للدلالة عَلَى القسم الداخل في جوف الميناء حيث يربطون السفن المحتاجة للتعمير بعد نزع آلاتها وجهازتها.

ما هي الوظيفة الأساسية لدار الصناعة؟

إنشاء السفن وإصلاح ما عساه يحدث فيها من العور؟

أخذ الإفرنج الكلمة الثانية وصنعوا منه كلمة ثم أطلقوها أيضاً عَلَى جميع أنواع العوار في السفن والسلع وغير ذلك.

ومن المعلوم أن إنشاء السفن يدعو إلى ما نسميه نحن الآن بالقلفطة عَلَى يد القلفاط فهذان اللفظان نالهما ما نال دار الصناعة فإنهما معربان عن اللغات الأوربية التي أخذتها عن اللغة العربية. وهذا كما ترى.

رأى أجداد عملة المسلمين يشتغلون في دور الصناعة بالقلافة فيقلفون المراكب فقالوا من فعل قلف العربي ثم أضافوا إليه علامة المصدر في لغتهم بعد زيادة حرف التاء للتوصل للنطق بين ساكنين كما يقولون في حالة الاستفهام ?) قال في تاج العروس قلف السفينة قلقاً بحرز ألواحها بالليف وجعل في خللها القار (الزفت) والاسم القلافة بكسر القاف أفليس هذا هو الذي يفعله القلفاط يا أبناء السبالة وأولاد الأنقوشي؟ فأنتم في ذلك شهود عدول.

كل أسطول لا بد له من سفائن تحمل له الزاد والمتاع والكراع. فمنها التي نسميها اليوم (بالنقالات) أما الأساطيل الإسلامية فكانت تخدمها القراقير جمع قرقور اخذ الطليان هذا اللفظ فقالوا وقال الفرنسيون لا تعجبوا بين الصل والفرع فإن الإنتقال من لغة إلى أخرى يلدنا عَلَى ما هو أشد وأبعد ولتعلمن نبأه بعد حين ولكن إذا علمتم أن البرتقاليين يقولون في تسمية هذه السفينة ثبت لكم صدقي وقد استرجعنا اللفظ منهم في هذه العصور الحديثة ولكن مفرنجاً فقلنا كركاة من قول الطليانيين ولكن بمعنى آخر لنوع آخر من السفن التي تستعمل لنزع الطين والرمال من قاع النهر والترع والخلجان ومن قاع المواني والمعابر البحرية في نظير المركب المسى عن الفرنسيين وكان لابد لكل أسطول من سفائن خصوصية لحمل الخيل وهيب التي تسمى بالطرائد جمع طريدة (وذلك خلاف الطراد وجمعه طرادات) أخذ الإفرنج هذا الاسم فقال الطليان ثم وقال الفرنسيون ولكن للدلالة عَلَى سفائنها الشراعية التي تمخر في البحر الأبيض المتوسط غرباً. ومن توابع الأسطول الفوالك جمع فلوكة فقال الطليان وقال فرنسيون وكذلك الشباك - ومن توابعه القارب فقالوا من اللفظ المفرد وهو قارب وربما يصح القول أنهم أخذوه من غرائب بقيت عَلَى شكل كلمة بشأن الشلنديات التي ذكرتها في أسماء مراكب الأسطول. فمفردها شلندي (ولا ادري ما أصله في العربية) وربما كان أصله عن اللاتينية وهو واخذوه الروس فقالوا وقال الطليان والفرنسيون واسترجعناه منهم بطريقة التعريب والتقريب والتمثيل والتأهيل فقلنا (صندل) وأصبح هذا الاسم بتحريفاته عندهم وعندنا عَلَى السفائن المخصصة لنقل البضائع مثل الماعين جمع ماعون التي قال فيها الفرنسيون وقال الطليان رجعوا قليلاً بنا إلى البحر فإن الأسطول قد تصادفه الرياح بما لا تشتهيه وقد تعاكسه الأمواج فيلقى النوتية أو النواتية منه الأمرين وهو البحر وهولته بعرفهما كل من اقتحم لجتة فالملاحون يسمون إضراب الموج الشديد بالهولة فقال الفرنسيون في ذلك للموج المتعالي كالجبال وقد تعاكسه الرياح التي تهب من الجنوب الشرقي فبقى السم الثاني في ذاكرة اففرنج فقال الطليان - وأما الفرنسيون أطلقوا عليه وكل ذلك مأخوذ من الشرق وأما رياح الموسم فيسمسها الفرنسيس والطليان ولا تعجبوا لوضعهم النون بدل الميم في آخر الكلمة فلهم في التبديل شيء كثير من هذا القبيل وحسبنا جنميعاً أنهم يسمون مدينة سواكن فلنأخذ النون من هناك ونضعها بدل الميم هنا لنرد كل شيء لأصله لأن كلمة عندهم ماخوذة من الأصل العربي وهو الرد ولا عجب فإن اللاتينيون قالوا بإضافة علامة المصدر فزاد الطليان والفرنسيس نوناً من عندهم وليس لنا في ذلك شأن عندهم ولكنهم عند نحت الاسم يردون الكلمة التي جرثومتها العربية فيقولون في تقديم الحساب وفي تسليم الحصون.

' نعود إلى السطول ونقول أنه بعد أن لقى من البحر ما لقى دخل إلى الميناء ولعدم خبرة الربان اصطدم بشعب فقال إفرنجي في ذلك تشبيها له ببروز الرصيف في الشوارع والطرقات التي أنشأها العرب فيما بعد بتلك البلاد ثم دخول الأسطكول إلى الميناءفي كلاءة الله وحفظه وفعل ما سنأتي عَلَى بيانه. وصل إلى المحل الذي يأمن فيه من عبث الرياح وثوران المواج وهو الموضع الذي يسميه الإسبانيون والبرتقاليون والفرنسون وقد استعمله الفرنسيون من كلمة.

ألفاظ أصلها مشتق من كلمة كلأ العربية بمعنى حرس وحفظ.

وهذا كما ترى.

ماذا صنع الأسطول؟

اصطف للقتال ونصب المنجنيق. هذه كلمة يونانية استلحقها العرب وأضافوا إليها النون الأولى لتدخل في أوزانهم.

عادة المغاربة جرت بأنهم لا يضعون نقط الأعجام فوق الفاء والقاف وتحت الياء متى كانت هذه الحروف مفردة أو في أواخر الكلمات.

غذ في هاتين الحالتين لا يمكن حدوث التباس بينهما وبين ما يشابههما من الحروف الأخرى. فلو تصورنا أن بعضهم كتب اسم هذه الآلة الحربية عَلَى هذا المثال منجنيق وفرضنا أن ذيل الحرف الأخير انطمس بسبب ما فأصبح منجنيو فإننا لو أردنا أن نرسمها وهي عَلَى هذا الشكل بحروف إفرنكية لتحصلنا عَلَى منجنيو وبنطقهم منجنو بغير تشديد النون وإن كانت مكتوبة مرتين وهو الاسم الذي القه الفرنسيون عَلَى المنجنيق.

أتعبتكم بذكر البحر والحروب وأنتم أهل السلام فهل تحبون الذهاب إلى العراق والدخول بمدينة السلام، مدينة بغداد؟

كانت مدينة أبي جعفر (بغداد) جنة الدنيا في عهد هارون والمأمون وخصوصاً في أيام المتوكل. وكان فيها شاعر يسمى أبو العبر له أحوال عجيبة وأمور غريبة وكان من المجان الذين يقل نظيرهم في الدنيا. وقد تكفلت كتب التواريخ والأدب بشرح أموره وكان يزيد في كل سنة حرفاً في اسمه حتى انتهى بعد بضع سنوات إلى: أبي العبر طرد طيل طليرى بك بك بك كان المتوكل يلبسه قميصاً من حرير ثم يرمي به في المنجنيق إلى نهر دجله فمتى حذفه المنجنيق في الهواء قال: الطريق الطريق (كما تقول الان وسع وسع) ثم يقع في الماء فيأتي السباح ويستخرجونه من الماء. وكان في أحد قصوزر المتوكل زلاقة ما اشبهها بالتوبوجان الموجود الآن في مصر الجديدة (واحة عين شمس) فكان الخليفة يامره بالجلوس عليها ومن هناك ينحدر ساقطاً من فوق الزلاقة حتى يقع في البركة فيطرح الخليفة الشبكة فيخرجه كما يخرج السمك. وفي ذلك يقول شاعرنا:

ويأمرني الملك ... فيطرحني في البرك

ويصطادني بالشبك ... كأني من السمك

فعل المنجنيق بالحصون أفاعيله وتم له النصر فخلا الجو البر للعرب فنزلوا وقاتلوا وفازوا ثم شنوا الغارات عَلَى الأقطار النائية تمهيداً للتسلط عليها فقال أصحابنا في الغارة وقال الإسبانيون في المغاورين ولا يزال أهل إيطاليا يقولون للدلالة عَلَى الجندي وعلى المرزاق الذي يعتقله وقالوا في الغازي (وذهب بعضهم إلى أنها ماخوذة من الوزير) ولا عجب من إضافة الجيم في هذه الحالة الثانية فإنهم يضيفونها عَلَى جميع الكلمات العربية المبدوءة بحرف الواو فيقولون في الوضوء وفي الوادي الكبير وهكذا من كلمة اشتق الفرنسيون قولهم لحارس المذنبين المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة ورأوا العرب يستعملون البسطانة وهي آلة لرمي البندق وصيد الطيور فقال الإسبانيون والبرتقاليون وأما الطليانيون فقالوا واقتصر الفرنسيون عَلَى رأوهم يستخدمون قاطعة وهي من نوع السكاكين فقالوا وربما كان هذا اللفظ مأخوذ عن صيغة الأمر من قول العرب: قط يقط قطاً أما الخنجر فقال الطليان فيه والفرنسيون وعلى ذلك قول شاعرهم:

وقالوا في الزغاية وهو نوع من الحراب العربية: تجتمع العساكر عادة عَلَى سوت البوق ولكن الإسبان حينما أخذوا هذه الكلمة ونقلوها إلى لغتهم قالوا لزمارة الراعي. ومتى اجتمعت العساكر للعرض والتمرين فإن الفرسان تختال بخيولها وقد يختال الفرس فيدور عَلَى نفسه وذلك قول العرب كركر الفرس أخذ الفرنسيون ذلك اللفظ فقالوا وما أجمل امرئ القيس حين وصف الفرس بشطرة واحدة كل كلمة منها تدل عَلَى حركة مخصوصة وتجعل السامع يتخيلها واقعة حاصلة بحضرته قال:

مكر نفر مقبل مدبر معاً ... كجلمود صخر حطه السيل من عَلَى.

وكانت السهام في ذاك الوقت هي التي يترامى المحاربون بها. ولا يزال العرب مشهورين بإصابة القبلة وهي الهدف والغرض والقرطاس. فقال الفرنسيون في هذا المعنى من كلمة قبلة. ولا أزيدكم علماً بأن السهام توضع في الكنانة وهي الجعبة غير أن اشتباك العرب بالفرس والترك جعلهم يختارون كلمة من غير لسانهم وهي التركاش بهذا المعنى فقال الطليان ثم قالوا كما قال الإسبان وكما قال البرتقاليون والفرنسيون وانتم تعلمون أن الفرنسيين كانوا إلى عهد قريب ينطقون بحرفي كما ينطقون بحرفي ولكنهم عدلوا عن كتابة في مثل هذا المقام وأبقوا عَلَى حال رسمها ونطقوها بالنطق الجديد فلذلك صار بينها وبين أصلها العربي بون كبير.

إلى هنا وضعت الحرب أوزارها فاستقرت قدم الفاتحين وعرضوا جيوشهم تخفق فوقها الرايات والأعلام والبنود. فأخذ الفرنج هذه الكلمة الأخيرة فقالوا في بند المعربة عن الفارسية دلالة عَلَى الجماعة المنضوين تحت لواءٍ واحدٍ ثم اطلقوها من هذا القيد وقال الطليانيون في ذلك والفرنسيون وأخذنا عن الطليانيين كلمتنا مطلينة فنحن نقول الآن بنديرة.

ماذا كان لون راياتهم؟

كان تبعاً لشعار الدولة القائمة في دمشق أو بغداد أو القاهرة. فشعار بني أمية من الألوان الخضرة في الملابس والبياض في الرايات أخذوا البياض عن اللون الذي كان يعمم به النبي ﷺ وأما بنو العباس فشعارهم السواد في الحالتين. لأخذوا ذلك فيما يقال عن اللون الذي اختاره رسول الله يوم حنين ويوم فتح مكة. فإنه عقد لعمه العباس راية سوداء وقيل أن ذلك يرجع إلى حزنهم عَلَى إبراهيم بن محمد أول القائمين بالدعوة العباسية. فإن مروان بن محمد الجعدي المنبوذ بالحمار هو آخر بني أمية حينما ضيق عليه الخناق قال الرجل لشيعته: لا يهولنكم قتلي. فإذا تمكنتم من أمركم فاستخلفوا عليكم العباس. فلما قتله مروان لبس أشياعه كلهم السواد حداداً وحزناً عليه حتى إذا صار إليهم هذا الأمر أعني الخلافة جعلوا السواد شعارهم في كل أمرهم وكانت جنودهم تعرف باسم المسودة فكانت المسودة تتقابل مع المبيضة (أي لابسي البياض من الموالين للأمويين) والناس عَلَى فريقين بعضهم يسود وبعضهم يبيض حتى عم السواد سواد العراق وخفق عَلَى جميع الآفاق. اللهم إلا في الأندلس فإنها عادت أموية بفضل عبد الرحمن الداخل وكان شعارهم الخضرة في الرايات كما يراه الإنسان في البقايا المحفوظة إلى الآن في دور التحف بمدريد وغيرها من أمصار إسبانيا.

وقد تغالى الأندلسيون في أيام دولتهم في كراهة السواد حتى أنهم لم يستعملوه في الحزن والحداد فكانوا يلبسون الثياب البيض فقط في الحداد لئلا يشتبهون بالعباسيين في شيء ما حتى عند وقوع المصائب وكوارث الأيام.

ولقد تجددت في هذه الأيام ذكرى الأندلسيين في حدادهم عَلَى يد غادة من فتيات أميركا وهي تظن أنها مبتدعة للبس البياض في حالة الحداد. أشير إلى أرملة الخواجة استور صاحب القناطير المقنطرة من الدنانير والملايين المملينة من الذهب الوهاج.

فإنه بعد أن غرق حديثاً في الباخرة تيتانيق وهي لا تزال في ربيع العمر وريعان الشباب رأت من الواجب عليها أن لا تشوه محاسنها بلبس السواد عَلَى ما جرت به العادة الشائعة الآن في جميع أقطار العالم فاختارت البياض. فمن لي بتعريف هذه العادة المعينة بأنها ليست من المجتهدات وإنها كانت لعرب الأندلس من المقلدات.

ومن غريب ما يتعلق بالسواد والنساء أن الظافر خليفة الفاطميين بمصر لما قتله وزيره. بعث نساء الخليفة بشعورهن إلى الصالح طلائع بن رزيك وهو يومئذ عامل بمنية ابن الخصيب (أعني أنه كان مدير المينا بحسب اصطلاحنا الإداري الآن) فأسرع لنجدتهن. ورأى أن يستميل الأمة المصرية وأجنادها إليه لأجل إغاثة الحريم والدفاع عن بيضة الخلافة فعقد تلك الشعور عَلَى رؤوس الرماح (كما هو الحال الآن في وضع جدائل الشعر فوق المزاريق التي يتعلقها الرماحة في أوربا وفي مصر) وأقام الرايات السود من باب الحزن عَلَى الخليفة المقتول وعلى ما حل بالقصرين وساكنات القصرين من بيت الخلافة وإعلاناً بالحرب لأخذ ثأر الظافر فدخل القاهرة عَلَى هذه الصورة. فكان ذلك من الفأل العجيب وهو أن مصر انتقلت إلى المسودة (بني العباس) ورجعت إلى حكمهم بعد ذلك بخمسة عشر سنة في أيام العاضد آخر الفواطم وعلى يد صلاح الدين الذي يسميه الإفرنج كلهم فكان السواد شعارها الرسمي تبعاً لراية أمير المؤمنين

حتى جاءت دولة المماليك فصار لون الرايات هو الصفر. كانت لهم راية سلطانية صفراء وهي مطرزة بالذهب وعليها ألقاب السلطان. وبعدها راية عظيمة صفراء أيضاً وفي رأسها خصلة من الشعر وهي التي تسمى بالجاليش. ويتلو ذلك رايات صفر صغار تسمى السناجق.

فلما جاءت الدولة العثمانية صار اللون الرسمي هو الأحمر يتوسطه الهلال المحبوب الذي ترمقه العيون وتلتف حوله القلوب.

فلنقف الآن تحت الهلال ونترك البقية الباقية لمحاضرة أو محاضرات تالية إن شاء الله.

أحمد زكي.