الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 77/قصة

مجلة المقتبس/العدد 77/قصة

بتاريخ: 1 - 7 - 1912


نتائج الإهمال

دخلت عيشا ذات يوم مكاناً عاماً تعرض فيه الصور المتحركة لأقضي ليلة من ليالي همومي فأنصرف بالفرج عن السياسة فبينما أسرح الطرف لأختار مكاناً للجلوس لفتت نظري فتاة مسلمة لا تتجاوز الرابعة عشرة سنة تمشي رقصاً وتتيه عجباً بملاءة من الحرير الأسود مزركشة بأنواع التخاريم ضيقة الأطراف والأذيال تكاد تظهر أعضاؤها فيرى الناظر إليها خصرها النحيل الذي زاد نحولاً بضغط المشد وهو محاط بزنار من الحرير الأسود ويرى نهديها نافرين وكفلها بارز وكأن هذا المظهر غير كاف حتى أخرجت شعرها المتجعد من فوق جبينها الوضاح كأنه إكليل من الأزهار وزان الخالق جبينها بقوسي حاجبيها وأما عيناها النجلاوان وأجفانها المتكسرة وأهدابها البارزة فقد زينتها بكحل أسود يخص بغانيات مصر كحل يزدن به كحلهن جمالاً يسحرن بغمزهن قلوب الناظرين ولها أنف مستو يعلو نصفه برقع شفاف من الحرير الأبيض عَلَى أنها قريبة من البياض ولما دخلت لفتت رأسها إلى الجانب الأيمن فتراءى من تحت البرقع جيد أشبه بجيد الغزال مطوق بطوق من الذهب وهي مكشوفة الزندين كأنها ذاهبة إلى مرقص عَلَى النمط الإفرنكي فقلت في نفسي ما هذا التبرج؟ وهل بعد ذلك أقول أنها في حجاب! عَلَى أنه أعجبني تستر بعض السيدات المصريات بما يطلقن عليه الحجاب الشرعي إذ لا يتيسر للمرء لا يراهن متبرجات تبرجاً جاهلياً وكيف يجوز للشريفة العفيفة أن تتبرج لغير زوجها؟ وما التبرج الجاهلي إلا دليل السذاجة وسلامة الطوية أو دليل خبث النية وعادة سيئة.

أسفت عندما رأيتها دخلت إلى مثل تلك الأمكنة العامة وحيدة وليس منها مكلف من محارمها يدفع عن أذى المتهكمين ومن الأسف دخول السيدات إلى الأمكنة العامة حيث يختلطن بالرجال ويسمعن من الألفاظ ما يؤذيهن ونما هذا العمل الأخرق لآداب الشرق وشرف الحجاب.

دخلت تلك الفتاة محلاً خاصاً فدعاني حب الاطلاع عَلَى الأمور مغروس في فطرة الإنسان أن أراقب أعمالها فدنوت من المحل الذي جلست فيه وما أشد دهشتي وقد شاهدتها تتعاطى كؤوس حتى دخل فتى مصري وبصق في وجه الفتاة وعنفها بكلام مخجل فلما رأته ارتعدت له فرائصها ووقعت هي وحبيبها في اضطراب ووجل ثم رجع الفتى وأتى برجل من الشرطة وأخذ يراقب مكانهما فسمعتها تقول يا دهوتي بعرضك يا سيدي وأنا أعمل إيه دي الوقت فقال لها تربصي وخرج وأتى بعربة فركب فيها مع الفتاة وذهب فتبعه الفتى والشرطي بعربة أخرى فتبعتهما بعربة ثالثة إلى أن وصل الحبيبان إلى أحد المخافر ونزلا معاً ونظرا إلى الفتى نظرة تهديد وهما بالدخول إلى المخفر لكن الفتى المصري ظل سائراً مع البوليس فتبعتهما مسافة قليلة ثم نزلت ووقفت أراقب أعمال الحبيبين فرأيت أنهما لم يدخلا بل ركبت الفتاة المركبة بعد أن كلمت الشاب بضع كلمات وذهبت وبقي هو أمام المخفر ثم رجع ذلك الفتى وكلم حبيبها هنيهة غير قليلة وأنا أنظر إليهما وأستخرج المعاني من حركاتهما وإشاراتهما فتبين لي أن الحبيب كان يؤنب الفتى عَلَى عمله وكان الفتى يأتي بحركات تدل عَلَى الاعتذار. ثم تصافحا وتفارقا.

هم الحبيب بالرحيل فدنوت منه وخاطبته بلطف: أيسمح لي سيدي بأن أكلمه وأسأله عن بعض الأمور وأنا راج عفوه عَلَى جرأتي لمشافهته من غير سابق معرفة فأجاب بكل لطف لك ذلك وكرامة.

سيدي أعلم أني رجل غريب عن هذه الديار قام في ذهني أن أدرس أحوالها لأقف عَلَى الحياة الاجتماعية لهذا القطر وقد راقبت أعمالك وما جرى معك مع الفتاة المسلمة من أوله إلى آخره ولاحظت أن في المسألة غرابة وأمراً ذا بال وأن وراء الستار أموراً لم أكشفها عن بعد فهل تسمح لي بأن تقص عليّ جلي الأمر لأعلم إن كنت مخطئاً في ظني أم أنا مصيب ولا يدخلك ريب مني لأني فهمت أكثر كا تخلل القصة ولا يحتاج إلا إلى كشف الحقيقة فأطلعني عليها لثلا أخلط في ظنوني.

ـ ما اسمك ومن أين أنت قبل كل شيء. - أنا فلان.

ـ أو أنت فلان كم سمعت باسمك. - نعم أنا فلان.

ـ لي الشرف بمعرفتك أما أنا فاسمي. . . .

ـ تشرفت بحضرتك هات إذاً قص عليّ أمرك كله ولك الفضل.

ـ ما دمت في علم من أمرنا فهاءنذا أقص عليك ما وقع لي بجملته ولكن تعال وتفضل لنجلس في مكان فجلسنا في قهوة قريبة ثم شرع في الحديث يقول:

اعلم يا سيدي أن لي صديقاً عرفني إلى هذه الفتاة وهي من عائلة كريمة ولا تزال تلميذة في إحدى المدارس الداخلية وكان بينها وبين الصديق روابط واجتماعات دامت نحو عام وصادف أني وجدتها عند صديقي فقدمني إليها فمال قلبي إليها واقتنصت الفرص فطلبت الاجتماع بها فوعدتني هذه الليلة إلى ذاك المكان لأن ليلة السبت ليلة دخولها المدرسة فالمدرسة لا تهتم لتأخرها عَلَى ما يظهر وأهلها يعلمون أنها ذهبت إلى المدرسة فتحتال عَلَى عمدة المدرسة وأهلها في آن واحد وهكذا كانت تفعل مع صديقي الذي أغواها إغواء الشيطان ولعب بعقلها في كتبه الغرامية وهي لا تزال في سن طفوليتها لا تعرف كيف تفكر في مستقبلها وشرفها مع شرف أسرتها فسحر لبها واستحوذ عَلَى عواطفها فانقادت له طيعة حتى صارت لا تبالي بشيءٍ يمس عفافها ولا يخفى عليك أن أكثر الجاهلات يعتقدن أن الفتاة إذا كانت بالغة فهي حرة تتصرف بشخصها كما تشاء.

ـ فقلت تباً لك أيتها الحرية كم أساء إليك الجاهلون والجاهلات وكم ارتكبت باسمك الفظائع البشرية دخلت الشرق من الغرب بعد فقد حريته الطاهرة فلم يأخذ منك إلا حرية الرقص والمداعبة وحرية تناول الكؤوس عَلَى رؤوس الأشهاد والتفاخر بالمقامرة واعتبار القمار دليلاً عَلَى المدنية وحرية التبرج وفي الجملة حرية كل شيء يمس الفضائل ومحاسن الأخلاق وما يجرح العواطف الشريفة ولم يأخذ منك حرية الكلام والاجتماع والجمعيات ولا حرية الكتابة والطبع والمطبوعات ولا حرية التعليم التي فيها الحياة ولذلك فشا الفاسد في الشرق وأصبحت الرذائل مكان الفضائل عَلَى أننا في حاجة إلى حرية فاضلة وأما حرية تلك الرذائل فإنها لا تثمر إلا فساد الأخلاق وموت الفضيلة وتحذير الشعور والإحساس وقتل الشعب وإماتة الجامعة وذلك الأمة.

وحبذا غيرة الحكومة المصرية في منعها الحشيش حبا بإحياء النفوس التي أماتها والعواطف التي خدرها وليت الحكومة تبذل مثل هذه العناية في منع التنهتك ولعب القمار الذي فيه الدمار.

مهلاً يا سيدي لقد حركت عواطفي وجرحت فؤادي وأخجلتني عَلَى أنها هي التي شجعتني فلولا أني رأيت منها ميلاً وأنست منها حنواً لما أقدمت عَلَى طلب الاجتماع بها.

ـ تباً لكم معشر الرجال ما أقسى قلوبكم تصرفون اقتداركم ومعارفكم في التسلط عَلَى قلوب النساء الضعيفة وهل تنتظر مقاومة تتمثل فيها العفة والعقل عفة تمنع قلب هذه الفتاة الضعيفة التي لا تزال في مهد الطفولية بين صفوف الطالبات من تضليل الرجال وحبائلهم الشيطانية ولا ريب بأن صديقك هو الذي أغواها وأفسد أخلاقها أنا لا أشك بأم الوسط الذي تنشأ فيه الفتاة من أكبر العوامل المؤثرة في نفسها ولكنني لا أجهل أيضاً أن حسن التعليم وإتقان التربية في المدارس وشدة الاعتناء تصلح ما فسد في البيت وربما قرأت عن جيش المجاهدين في بلاد أسوج كيف يحاربون البغاء ويخلصون الباغيات من العهر والفجور فتصبح العاهرة بفضل هذا الجيش المنظم مثال الطهر والعفة فالفتاة التي نشأت عَلَى تربية حسنة ثم زينتها المدرسة بالآداب والفضائل وثقفت عقلها وأحسنت تعليمها ولا يستهويها فاسد مثل صديقك ولكن نقص التربية البيتية وعدم الاعتناء في المدرسة وهذه الحرية الفاسدة ومهارة أمثال صديقك تفسد الملائكة فما بالك بالنساء وما قلوبهن الأهواء فلنرجع إلى حديثنا.

ـ كان موعدنا هذه الليلة فخرجت الفتاة من بيت أبيها تحمل ما يلزمها في المدرسة وأتت إليّ لأقضي معها ساعة أنس وطرب فلما جاءت أدخلتها المحل الذي أعددته لها فلما دخلت طلبت لها الجعة فما بدأنا بالشرب حتى فاجأنا الفتى المصر وبصق في وجهها وشتمها وخرج يستقدم الشرطي كما رأيت فأخذها الخوف الشديد وداخلني الريب فسكنت أكثر منها خوفاً فسألتها عنه فقالت هو ابن عمي فطار عقلي وأخذت أفكر بماذا أفعل فخطر ببالي التظاهر بالشجاعة لأني خفت من أن يكون الأمر مدبراً ليتهموني بها عَلَى أن الجاني كان صديقي فخرجت من المكان وأخذتها معي فركبنا العربة وذهبنا إلى المخفر لأشكو أمر الرجل والشرطي لأنهما اعتديا عَلَى حريتنا.

ـ بئست تلك الحرية.

ـ ولما رأى الفتى دخولنا إلى المخفر ذهب مع الشرطي فسارعت بإركاب الفتاة وإرسالها إلى مدرستها وإذ رجع الفتى عرضت له قصتي فقال أنه من جمعية سرية تناهض البغاء والفجور وأنكر أنه ابن عمها ولكنه يعرفها وأخبراني عن أسرتها ثم تفارقنا عَلَى ذلك وأشهد والله عَلَى أني تبت توبة نصوحاً ولن أفعل مثل هذه الأفعال لأن الخوف الذي استولى عليَّ لم أصادفه في حياتي وبعد أن مكثنا هنيهة من الزمان تفارقنا عَلَى أمل دوام المحبة.

فهذه قصة واقعية حذفت منها ما حذفت لئلا يفهم الناس أبطالها ونشرتها لتبرهن للذين لا يفهمون معنى الحرية وأن الحرية الفاضلة إنما وجدت لرقي الشعوب وراحتهم ولكن أمثال هذه الحرية الفاسدة لا تقوم بشعب بل تكون علة وانحطاطه بعلمه وأدبه وأخلاقه ونفوسه وماله.