الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 7/النهضة الأميركية

مجلة المقتبس/العدد 7/النهضة الأميركية

بتاريخ: 20 - 8 - 1906


معربة عن الفرنسية

انتشر مذهب مونرو وقوي في نفوس الأميركيين الأدلال بأميركيتهم فتوسعت أحوال الولايات المتحدة وزادت بسطة في الجاه والثروة. وحذا خلفاء مونرو حذوه في التمسك بمبدأ الإكثار من الضرائب على الواردات مع ميل بعضهم إلى حب التوسع وتوفير الصلات مع البلاد الأجنبية وخفف جاكسون أحد رؤسائهم مكوس الجمارك فنقص الدين العام وكان بلغ 127 مليون دولار بتخفيف الضرائب ووفي كله. ثم جاء بعد هذا من الرؤساء من حافظوا حق المحافظة على مبدأ مونرو ورفعوا سدود الجمارك من وجوه السلع الأجنبية وأنذروا العالم أن مبدئهم السياسي القويم في المستقبل الضرب على يد كل دولة أوربية تطمح إلى أن تنشئ لها مستعمرة أو تستحل لها أرضاً في أميركا الشمالية وأن الولايات المتحدة هي الحاكمة المتحكمة التي لا تسأل عما تفعل في تلك الأصقاع وسعوا السعي الحثيث حتى ضموا إلى بلادهم يوكاتان وأريغون وجزيرة سان دومينيك. وصرح كرانت أحد رؤساء الجمهورية أن الوقت ربما لا يطول وأن مجرى الحوادث الطبيعية والصلات السياسية الأوربية مع أميركا قد انقضت أيامها وأن الولايات المتحدة تعمل يداً واحدة مع الممالك الإسبانية الأميركية على إحراز خصل السبق والذهاب بفضل العمل على الأوربيين للاستمتاع بمبدأ سنه مونرو وأدامس وكلاري. وبعد خمس وعشرين سنة قام الرئيس كليفلند وصرح لإنكلترا بأن لجنة أميركية عهد إليها النظر في مسألة فنزويلا فإذا عبثت بريطانيا بما تقرره تلك اللجنة يكون في ذلك الحرب ويعني بذلك أن الولايات المتحدة اشتد ساعدها بحيث صارت في غنية عن الاستمداد من غيرها وأنها حامية أميركا الشمالية والجنوبية معاً وكان لهذا النبأ في العالم القديم (أوربا) دوي كدوي الرعد تحت سماءٍ من الرصاص وظهر مبدأ مونرو هذه المرة سيفاً لامعاً في ظلمات الماضي وبه نهضت نهضة الشمير البصير.

وبعد فإن المراد من النهضة الأميركية مذهب الأمريكان الداعي إلى التفاف أميركا برمتها حول الولايات المتحدة سياسياً واقتصادياً وذلك حرصاً على مصلحة عالية أخذ مصدرها الأساسي عن مبدأ مونرو. ذاك المبدأ الذي سنه هذا الرئيس وجرى عليه العمل في أز رؤساء كثيرين وفيه بقاء الولايات المتحدة وضمان توسعها وتبسطها في مناحي السلطة والثروة والبقاء وليس غير هذا المبدأ دافعاً عن مصلحة البلاد غارة الأوربيين لاسيما وهم يأتونها زرافات ووحداناً.

ولم يكن الرؤساء بولك وكرانت وكليفلند وأولنيه إلا مؤيدين لمونرو وعاملين على نشر مبدأه الاقتصادي. وقد أبان أحد علماء تلك البلاد بأن مبدأ مونرو لم يعمل به هو ولا أشياعه من بعده وأن أميركا لم تنهض حق نهضتها وذكر إثباتاً لرأيه أمثلة طفيفة من تداخل الأوربيين في شؤون أميركا بالفعل دون أن تقيم الولايات المتحدة الحجة على ذلك. فحصار إنكلترا سنة 1842 لسان جان دي نيكاراغا ولمرافئ السان سلفادور سنة 1851 وقبض السفن البرازيلية سنة 1862 انتقاماً من التعدي الذي وقع على البرنس أوف فالس كلها من الأمثلة في هذا الباب. قال هذا الناقد أن مبدأ مونرو لم يسن لمعاضدة حقوق الممالك الأميركية ومصالحها بل للاحتفاظ بحقوق الولايات المتحدة ومصالحها فقط.

ثم أن مبدأ التكافل الأميركي من أدنى إقليم الألاسكا في الشمال من أميركا إلى أقصى أرض النار من أميركا الجنوبية هو من الأوهام التي يصعب تحقيقها وقد حملت زمناً بهذا التكافل جمهوريات الجنوب الصغرى إلى أن ظهرت الولايات المتحدة في مؤتمر باناما سنة 1826 بمظهر الأثرة وحب الذات. فإن كان مبدأ مونرو هو الصلة الأساسية التي تضم شتات الأمريكيين بعضهم إلى بعض فإن أوربا لا تعد من الأمريكان غير أهل الشمال أي سكان الولايات المتحدة. وما عداهم من سكان الجنوب فحجة يتوكأون عليها وذريعة يتشبثون بأهداب الدفاع عنهم في الأحايين وما معنى النهضة الأميركية إلا انضواء الأمم الأميركية الضعيفة تحت علم الأمة القديمة ملتفة حول لواء المسكنة ملتحفة ثوب الصغار والذل.

ومازال الحق بجانب القوة أي أن الأمريكيين يهددون بسيف قوتهم كل أمة أوربية تريد أن تستبيح حماهم فيدافعون بذلك عن حقيقتهم ومصلحتهم. فقد قيل أن الأمريكي تحيط به تمائم ثلاث التوراة والدستور ومذهب مونرو هذه هي عدته الاجتماعية وسلاحه الذي يستعمله في جهاد هذه الدار. ولئن أسيء استعمالها فليس من داع لملام الأمريكان إذ يقضي على كل أمة أن تقضي أربها وتنال حظها ويحق لكل أمة هددت مصالحها بمصالح أمة متغلبة أن تقاوم جهد قوتها وتدافع عن بيضتها وأن تغير غارة شعواء على من يتربص بها الدوائر فلا تتسامح مع الأنانية الوطنية إلا بقدر ما لا يضر هذا التسامح بالرغبات الخاصة المحترمة عند الشعوب الأخرى. نعم كل يجر النار إلى قرصه وكل امرئ في شأنه ساع ولكن يقتضي على القوي القادر أن لا يروح مدفوعاً بعوامل حب منفعته قائلاً للضعاف أو المستضعفين جهاراً أو رئاءً: إني أعمل لمصلحتي لا لمصلحتكم ولكنكم اعملوا لي كما لو كنت أنا اعمل لكم.

بيد أن هذه الجمهورية الكبرى في أميركا الشمالية لم تسلك مسلكاً آخر أمام جمهوريات الجنوب الصغرى فإن الأولى عالمة علم يقين بأن ليس بينها وبين جاراتها من تكافل المصالح إلا ما يفيد الولايات المتحدة في مادياتها أي أن طريقة حماية التجارة تؤدي إلى الإفلاس والشقاء في البرازيل والأرجنتين فإن هاتين المملكتين خصيبتان ولكنهما ضعيفتان من حيث الارتقاء الصناعي ولذلك اضطرتا بحكم الحاجة إلى أن تفتحا أسواقهما للواردات الشمالية بدلاً من أن تغلقاها. وهاتان المملكتان مضطرتان إلى تحسين صلاتهما مع الكافة لأن معنى اعتزالهما تحت برقع النهضة الأميركية وابتعادهما عن الأوربيين حباً بأن تكونا من حروف الزوائد مع سكان الشمال أنهما كسلانتان جاهلتان محافظتان على القديم مضادتان للأهواء المعادية للتمدن راغبتان في الفناء الطبيعي الذي يلحق الأجناس ويدب فيها سوس الفساد الأدبي.

هذا ولم تتمالك إحدى المجلات الأميركية الشهيرة من التصريح بأن الولايات المتحدة تلجأ إلى القوة إذا جرى في الجنوب ما يخالف هواها. ولذا لم يستغرب أحجام إنكلترا سنة 1895 في مسألة فنزويلا وكيف طرد الإسبانيول من جزيرة كوبا سنة 1898 وكيف فتحت بورتوريكو وكيف كادت تباع جزائر الأرخبيل الدنمركية وكيف يطوف الأسطول الأميركي أبداً محافظاً أو قاهراً البحر المتوسط الأميركي حيث تمتد أصقاع سان دومينيك أو فنزويلا أو باناما وكيف يتبجحون عند أقل فرصة ولو في حدوث مسألة خاصة إن مبدأ مونرو يأمرهم بأن يحموا جمهوريات برازيل أو الأرجنتين أو بيرو أو شيلي أي أن يقوموا بشؤون تلك البلاد قيام الوصي والمعلم.

وإذ كانت النهضة الأميركية الاقتصادية مرتبطة بالنهضة السياسية ولا تتحقق النهضة الاقتصادية لما هناك من اختلاف المصالح التجارية بين سكان الشمال والجنوب وبعبارة ثانية بين أميركا البروتستانتية السكسونية وأميركا اللاتينية الإسبانيولية - رأت الجمهوريات الصغرى أن تحتفظ بحقوقها فقاومت ما تدعو إليه الولايات المتحدة من النهضة الاقتصادية خشية أن يلحق سلامتها نقصان. فعقدت مؤتمرات حضرها مندوبو الحكومات الأوربية ومن جملة ما عقد من المعاهدات معاهدة بين أميركا الشمالية والمكسيك سنة 1883 تدخل بموجبها سلع الشمال إلى بلاد المكسيك حرة بلا جمرك كما أن الشمال يقبل حاصلات المكسيك الطبيعية كذلك. ومع هذا لم يظفر سكان الشمال بطلبتهم فقد باع سكان الولايات المتحدة سنة 1894 لسكان الجنوب بضائع بمبلغ 135 مليون دولار وابتاعوا منهم غلات بمائتين وستة وأربعين مليوناً.

قال الكاتب وكل ما قامت به أميركا الشمالية من الأعمال من حرب وضم أرض وفتح بلاد من أرض الجنوب إن هو إلا للتفادي من أن ينال مذهب مونرو بعض ضعف وما هذه الأعمال إلا دالة أصرح دلالة على ما تحوي ضلوعها من فكر الاعتداء والفتح المنطوي تحت اسم نهضة أميركا.

لا يعدم الحق أنصاراً وإن من الاتحاد قوة. فقد قام بوليفار من رجال السياسة وأبطال الحرية الملقب بواشنطون أميركا الجنوبية فحرر كولومبيا وفنزويلا وبيرو وخط الاستواء وبوليفيا ثم أراد أن يجمع هذه الأمم الحرة كلها في ظل العلم الدستوري ويجعلها مملكة قائمة برأسها ففشل في دعوته ثم عاد فدعاهم باسم المحافظة على مبدأ مونرو فأجابت بعض البلاد الجنوبية دعوته. وتلكأت الولايات المتحدة كثيراً كأنها قالت بلسان الحال أن هذا المبدأ سن لحماية مصالح الشمال لا لمصالح الجنوب وأشارت إلى مندوبيها بأن لا يصغيا إلى ما يقرر إلا بأذن صماء فعرفت جمهوريات الجنوب الصغرى أن جمهورية الشمال الكبرى ليست أختهنَّ. ذلك لأن بوليفار لم يتصف كواشنطون بإرادة ثابتة منظمة بل كان من شدة الحمية بحيث يستهين بروحه ويريق دمه حباً بمصلحة العالم ويرى الأمم كلها أخوة والناس أحراراً سواءً ولذلك لم يحسن إدارة ما افتتحه من البلاد وغنمه من الطارف والتلاد.

وظلت الولايات المتحدة سائرة تلتهم كل ما تصادفه في طريقها من المغانم والفرائس ومنها ضم جمهورية التكساس إليها وهي ضعفا مساحة فرنسا. ضمٌّ لم يخل من المخاطر إذ أن الولايات المتحدة تحظر الرقيق ولا تقول هذه الجمهورية بمنعه. وبعد جدال طويل الأذيال مع المكسيك بل بعد الأخذ بالتلابيب وإشهار المكسيك الحرب على أميركا ضمت التكساس إلى هذه وصارت الولايات المتحدة صاحبة القول الفصل في الشمال بالقوة ومن ذلك تداخلها في جزيرة سان دومينيك وقد انقسمت قسمين مستقلين وثارت بينهما ثائرات العداء ولكنها تلطفت في هذا التداخل. وكانت تود إلحاقهما ببلادها لو لم تكن خارجة منهوكة من حرب الرقيق. ولا يزال لسان الثورات يندلع في تلك الجزيرة وكثيراً ما هددت أميركا من أجلها ولعلها تلتهمها بعد لأنها واقعة بين جزيرتي كوبا وبورتوريكو اللتين بسط النسر الأمريكي مخالبه عليهما. ومرفأ هذه الجزيرة سان نيقولا هو بمثابة جبل طارق لأميركا. وفاوضت الولايات المتحدة حكومة الدانمارك عام 1902 في أن تبيعها جزائرها في الأرخبيل الانتيل بمبلغ خمسة ملايين دولار وهي ثلاث جزائر مساحتها السطحية 310 كيلومترات مربعة وسكانها 32786. فاكتشفت في خلال هذه المدة حبال نصبها أحد أعضاء مجلس البلاد الدنمركية وتبين أنه ارتشى لتحقيق رغبات الأمريكان. فتأخر النظر في أمر الجزائر الآن ريثما تجيء الفرصة المناسبة (والأمريكان كالإنكليز لا يضيعون الفرص ولا يخترعونها) ولئن لم تسقط هذه الأجاصة في أرض الأمريكان فذلك لأنها الآن آخذة بالنضج وما نضجها على الصابرين ببعيد.