الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 7/الحق مشاع

مجلة المقتبس/العدد 7/الحق مشاع

بتاريخ: 20 - 8 - 1906


لعل بعض الناظرين في هذا العنوان يعده خروجاً عن القصد وخطلاً في القول وضلة عن سبيل السلامة وما حكم من يبادر إلى التنديد بادئ الرأي إلا حكم من استغواه الهوى واستهواه الغرض فإن الحق كان ولا يزال مشاعاً بين الأمم والبلدان والمذاهب وما قط كان وقفاً على أمة معينة ولا على بلد خاص ولا على مذهب معلوم. الحق كنز ثمين يأخذ كل منه بحسب استعداده وأسبابه بل نور يعم العالمين على قدر خلاصهم من العوائق وبصرهم بالاستنارة به.

يخطئ كل الخطأ من يذهب إلى أن كل ما يعتقده أهل المذاهب والنحل لا ضل له من الحق وأن أهل النحل المتعددة في الإسلام مثلاً كالاباضية والسنية والمعتزلة والشيعة قد ضلوا إلا قليلاً والحقيقة التي يقتضي اعتبارها أن الحق تقسم بين أهل هذه المذاهب والنحل ومن أراد أن ينشده فلا يتأتى له ذلك إلا بالنظر فيما كتبه أئمة هذه المذاهب ثم ينخل ما يقرأه وينتحل ما يراه الحق المطلق وهكذا الحال في العلم الذي هو من الأوضاع البشرية فإنه ما خص بقبيل ولا بجيل بل هو موزع على القدماء والمحدثين والشرقيين والغربيين.

توخيت أن أصرح هنا بهذا الفكر على جلبته حباً بتقرير جملة تقطع السن من يشاغبون في كل ما لم تألفه أسماعهم ويعتقدون أن ما لم يعرفوه ولا آباؤهم ليس من الحق في شيء. فلا يعظمن على بعضهم إذا قرأوا في طريد هذه الصحيفة ما لا ينطبق مع رغباتهم فالعلم كالحق كثير الأفنان والفنون لا دين له ولا نحلة وناشره معه خازن أمين يجمعه ليصرفه عند مسيس الحاجة. وربما كان فيما يجمعه كخاطب ليل يجمع بين الجيد والرديء ولا يكاد يشعر ولذلك كان على من أوتي نوراً من الحق أكثر من غيره أن يقبسه صاحبه ويدله على عوراته.

فقد خالف ابن عباس عمر وعلياً وزيد بن ثابت وكان أخذ عنهم وخالف كثير من التابعين بعض الصحابة وإنما اخذوا العلم عنهم وخالف مالك كثيراً من أشياخه وخالف الشافعي وابن القاسم وأشهب مالكاً في كثير من المسائل قال ابن الأزرق وكان مالك أكبر أساتيذ الشافعي وقال لا أحد أمن عليَّ من مالك وكاد كل من أخذ العلم عنه أن يخالفه بعض تلامذته في عدة مسائل وما عد ذلك من سوء أدب التلميذ مع شيخه ولا من الخروج عن مراجعة الحق الذي توزعته عقول الناس ونال كل منهم قسطاً منه.

روى ابن جرير عن أبي مخنف عن الصقعب بن زهير عن الحسن قال أربع خصال كنَّ في معاوية لو لم يكن فيه منهنَّ إلا واحدة لكانت موبقة انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها بغير مشورة منهم وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة واستخلافه ابنه بعده سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير وادعاؤه زياداً وقد قال رسول الله (ص) الولد للفراش وللعاهر الحجر وقتله حجراً ويلاً له من حجر وأصحاب حجر مرتين - روى ابن جرير هذا وما عدَّ من الشيعة.

ورأى المنذر بن سعيد أرجوزة لابن عبد ربه يذكر فيها الخلفاء ويجعل معاوية رابعهم ولم يذكر علياً فيهم ثم وصل ذلك بذكر الخلفاء من بني مروان إلى عبد الرحمن بن محمد فلما رأى ذلك منذر غضب وسب ابن عبد ربه وكتب في حاشية الكتاب

أو ما عليّ لا برحت ملعناً ... يا ابن الخنيثة عندكم بإمام

رب الكساء وخير آل محمد ... داني الولاء مقدم الإسلام

قال هذا منذر بن سعيد قاضي الجماعة بالأندلس وما عدَّ شيعياً. وكم في تاريخ السلف من أمثال هذه الأنباء التي تدلنا على مبلغ حرية القوم وأن الحق مشاع ليس وقفاً على فئة وأن التقيد برأي واحد أو عدة آراء ولاسيما في المسائل العلمية ليس من السداد في شيء بل هو سبب عظيم من أسباب انحطاط العلم في الشرق.