مجلة المقتبس/العدد 7/التعليم والتربية
→ منتخبات من كتاب النبراس | مجلة المقتبس - العدد 7 التعليم والتربية [[مؤلف:|]] |
صحف منسية ← |
بتاريخ: 20 - 8 - 1906 |
الإرادة والعزم
اهتم الفرنسيين للكتاب الذي وضعه المسيو دومر والي الهند الصينية السابق ورئيس مجلس النواب في فرنسا واحتفوا به لما وجدوا فيه من أدوية أدوائهم الاجتماعية وطرق تربية النشءِ تربية تقيهم آفات العصر التي ضجَّ منها العقلاء وحار في معالجتها الحكماء. وهناك سبب آخر لتلقي القوم هذا الكتاب بأيدي الاعتبار وهو غير ما يتبادر للذهن من بهرج الألقاب التي تحف باسم مؤلفه. بل هو ما عرفوه من مبادئ نشأته ووسائل رفعته حتى كانت سيرته مثالاً يحتذى في الشهامة والإقدام وأخلاقه خير وسيلة لاستكشاف أسرار النجاح. وقد تسابقت جرائدهم ومجلاتهم إلى شرحه وتقريظه ونقلت حسب عادتها فصولاً منه توضيحاً للدلالة عليه والتعريف به. فآثرت تعريب هذا الفصل لشمول فائدته كل قارئ من أي قوم كان قال في الإرادة والعزم:
تعلم الإرادة واعمل ما ينبغي. بذلك يمكن أن تلخص النصوص العديدة التي تتخذ قواعد للحياة. أدّ الواجب وكن في الجملة رجل حق أبداً. هذه هي الوصية السامية والفريضة الأدبية التي تسود في سيرة الإنسان. ولا ينبغي لامتثالها أن نرغب فيها فقط بل يجب أن نكون أهلاً للعمل بها أو لي إرادة وقوة تحكم على أنفسنا. هذا هو المهم وهذا هو الصعب. من أجل ذلك كان أول ما يجب على الفتى المتقدم لاحتمال أعباء الحياة وتبعاتها أن يتأهل لامتلاك قياد نفسه فتكون له السلطة المطلقة على هواه وخطرات قلبه كما لها على جسمه وأعمال جوارحه. فإذا كان المرء كذلك أوشك أن يكون امرأ خير وأن يقبض في الغالب على زمام حياته وقياد سعادته.
كيف السبيل إلى تأمين سيطرة مستمرة مثل هذه على النفس وهي تظهر متعسرة بادي بدءٍ وأن تكن تهونها المزاولة حتى لقد تصير آلية؟ أنى لنا الصبر على الانفعالات الجاهلية وعلى الجواذب والفواتن التي تحيط بالإنسان؟ كيف نغلب الميل إلى البلادة والاستسلام إلى الأميال الطبيعية التي يحلو الاسترسال معها ما لم تقدر عواقبها؟ كل ذلك ينال بتعلم الإرادة والتمرن عليها.
نظم الفلاسفة الإرادة في سلك القوى الإنسانية الأولى فلا نظير لها في الأهمية إلا العق الذي يضبط الفكر والواجب والحكم. ثم الإحساس الذي هو مبدأ الحواس والعواطف والشهوات. وأن الذوق السليم ليتفق مع الفلسفة على وضع الإرادة في الموضع الأول بين القوى البشرية وصفات الإنسان الكامل. فإن الإرادة القوية الثابتة لتمكن من كل أمر من حيث الشؤون المعنوية وكثير من الأمور المادية.
رجل الإرادة هو وحده الحر في الحقيقة فهو رب أحكامه وأفعاله. يقود أفكاره وعواطفه بل وخياله ويخضع كل شيء لسلطة العقل. فهو يسير بمقتضى أحكام عقله ويأتمر بأوامر وجدانه مع قابليته للسلوك وفق قواعد الحياة التي دعته الحكمة إلى اتخاذها.
وفي الإمكان أن يتغلب الإنسان بالإرادة الثابتة على الشهوات الضارة متطرفة أو مهلكة وأن لا يدع سلطة على نفسه لغير العواطف الكريمة والخواطر النبيلة. ولا يصغي إلى العواطف إلا إذا لم تقتض شيئاً ينافي الواجب. فلابدَّ إذاً من إرادة حديثة ليكون المرء امرأ خير فاضلاً حقيقة. وكلٌّ بمثل تلك الإرادة يستطيع الكمال مهما كان مزاجه ومعايبه وكيف كانت مشاربه ومذاهبه.
ويحسن في المزاولات الحيوية والأعمال اليومية العديدة التي تهمنا جداً إذ منها يتكون نسيج وجودنا أن لا نضطر إلى التحاور في الفكر عند كل أمر لنتبين أفي العمل به تكون الفائدة أم في الامتناع عنه. ولكن يجب أن يكون لنا قواعد ثابتة وأن تكفي أدنى حركة من إرادتنا المتنبهة لتوعز إلينا بالجزم.
فإذا كنت تعرف قيمة العفة وكان من قاعدتك أن لا تفرط في الطعام وأيقنت بمضرة المسكر والدخان مثلاً ثم تعددت المثيرات وتوالت الدواعي إلى ما يخالف ذلك فينبغي أن تتقيها الإرادة بالعزم. وتمرن الإرادة يومياً على مغالبة مثل هذه الصغائر يجعلها نافذة السلطان في غيرها من الأمور المهمة.
لا ينال الخير في الشؤون الخصوصية والعمومية إلا بالإرادة. نعم ليست هي المادة الوحيدة للنجاح إلا أنها شرط أولي لا أثر لغيره من الشروط بدونه. فإن كنا نجد لهذه القوة الحيوية أعني الإرادة تأثيراً محتماً في كل أمر لو نظر فيه على حدة فماذا نجد من تأثيرها في حياة يتوالى عملها فيها؟ لا جرم أن الرجل الذي عرف أن يتملك القوة يصير إليه في الغالب تعيين حظه حتى لا يدع للمصادفات والطوالع السيئة إلا أدنى ما لها من التأثير في حياته بحي يكون هو الكاسب لفلاحه والباني لسعادته.
وأما الرجل الذي لا إرادة له فلا يكون له من التأثير في حظه إلا القليل ولو كان ذا عقل كبير فيظل ألعوبة بيد الحدثان وأمره إلى الاتفاق. يجري في الحياة كما جرت فلك لا دفة لها فوق بحر هائج فهي تبحر من غير ما إدارة تتجاذبها الأرياح وتتدافعها المجاري إلى أن تصير إلى لجة تبتلعها.
والجامدون من الرجال الذين فقدوا الإرادة بتة هم شواذ كأولي الإرادة الثابتة المطبوعين على العزم والعمل. أما السواد الأعظم فمؤلف من ضعفاء الإرادة وذوي العقول المترددة ولقد كان في إمكان هؤلاء أن يكونوا أحسن حالاً مما هم عليه بثبات عزيمة وسداد رأي لو تعلموا الإرادة. فالتردد والحيرة اللتان تفترسانهم هما مرضان يؤولان بمرور الزمن إلى شلل الإرادة بالفعل. وقد تكون الحيرة والتردد في بعض الأحوال أشد النواقص خطراً وتؤديان إلى الرزايا إذا كان صاحبهما رئيساً ما لأن العزم هو الصفة الأصلية للقواد والحكام والأمراء هكذا تقتضي كلتا الحياتين العمومية والخصوصية أن يعرف المرء أن يعتزم ويريد.
فالإرادة التي يقودها العقل إذا ما عملت في الإنسان بصورة مستمرة حتى تبلغ الغاية من نشاطها ويتم لها الكمال تصير عزماً وذو العزم هو رجل إرادة وثبات وإقدام وذلك خير ما يوجد في المجتمع وأفيد ما فيه وأندر. إلا وأن كل ما يقال عن مآثر الإرادة فهو حق وإن شئت فقل ما يقال عن مآثر العزم. العزم يحتاجه الإنسان ليكون فاضلاً يصنع الخير كما يحتاجه لإنشاء حظه وسعادته. وبه يربي شخصيته الأدبية والعقلية ويكون حياته جمعاء. وحكم العزم نافذ في هذين الأمرين الحسي والمعنوي على السواء. فذو العزم ينمو عقله وهو يتحسن ويتكمل أبداً.
الطريقان المفتوحان أمامنا طريق الخير وطريق الشر بينهما فرق أما طريق الشر فسهلة وهي على منحدر يستدرج فيكفي من الإنسان أن يميل ميلاً حتى يتردى إلى الحضيض. وأما طريق الخير أكثر عناءً إذ ينبغي لسلوكها جهد مستمر وإرادة ثابتة وبالجملة ينبغي لها عزم.
والعمل في إصلاح النفس وتكميلها عمل يومي وشغل لا ينقضي من مثابرة المكارم والفضائل لاكتسابها والتنقيب عن النقائص والمعايب لمكافحتها وإزالتها وعن المبادئ التي تستدعي الحذر والشهوات التي يجب أن تقهر. هنالك الخير خيرٌ يفعله الإنسان لذاته وثمة خير آخر لا يقل فائدة عن ذاك وهو ما يفعله الإنسان مع غيره أدبياً كان أو مادياً بالنصيحة والأسوة الحسنة قولاً وفعلاً.
صاحب العزم الثابت لا يتحول البتة عن هذا العمل النبيل والصنع الجميل يقوم به بأمانة ودقة مستضيئاً بمصباح العقل معتمداً على جزم الإرادة. وانه ليمكنه بل يجب عليه أن يفحص كل يوم ضميره وأعماله فيعتبر اليوم الذي لم يتيسر له أن ينفع فيه أحداً يوماً مضيعاً ثم يتفكر ويتدبر ويستمد من تفكيره حياة جديدة لعزمه وقوى غضة لحرب الحياة فإن ذا الإرادة القوية ليفلح أكثر من غيره فيما لا محيص عنه من الجهاد في سبيل الحياة إذ يكون مجهزاً للعمل فيما ينفعه وينفع ذويه وفيما ينميه ويرفعه ويحقق أمانيه. العزم يفيد في تحصيل الرفاهية والسعادة ما لا يفيده العقل أو الحظ فعلى من أراد النجاح في حياة تليق به أن يلتمس عزماً عريقاً في الثبات وبعد فبقية أسباب النجاح تأتي زائدة.
أرى في الناس عموماً والفرنسي خصوصاً - لأني إليه أنظر - جرثومة الإرادة الثابتة وأرى فيه قوة ومتانة ظلت مهملة حتى جمدت وصارت كأن لم تكن لعدم العناية بها والالتفات إلى تهذيبها. أرأيت الرجل يسترخي عضله ويضعف جثمانه إذا هو أهمل الرياضة وترك العمل؟ فكذلك الشأن في القوى الأدبية.
إذا كنا نهذب العقل في إبان الشبيبة فمتى نربي العزم؟ لقد آن للشباب الذين أوجه إليهم هذا الخطاب أن يشرعوا في هذه التربية والتنمية الأدبية بأنفسهم ويجب أن يكون هذا أكبر همهم. وعليهم لكي يتعلموا الإرادة ويحصلوا منها على نتيجة أن يعزموا عليها ويمارسوها من غير انقطاع ولا استراحة فيستعملونها في تكميل أنفسهم وكل شأن من شؤون وجودهم إذ الغاية أن يجعل الإنسان ذاته رجلاً ذا عزم يملك هواه ويقتدر على إدارة حياته وتدبير أعماله وأن يكون هو المنشئ لسعادته وسعادة الآخرين من بني جنسه وأن يشرف بلاده وينفعها بخدمته. فيا أيها الشاب الذي تقرأ كلامي إن كنت عازماً على بلوغ هذه الغاية فاذكر الكلمة الأولى من هذا الفصل وهي تعلم الإرادة. يقول معربه وأضف إليها هذا البيت العربي إذا لم تك الحاجات من همة الفتى ... فليس بمغن عنك عقد الرتائم
بيروت
عبد المعين خلوصي