الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 68/الاركيولوجيا

مجلة المقتبس/العدد 68/الاركيولوجيا

مجلة المقتبس - العدد 68
الاركيولوجيا
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 1 - 10 - 1911


////

الاركيولوجيا كلمة يونانية معناها الكلام على العاديات أو الآثار القديمة. وقد خص استعمالها مؤخراً بالبحث عن قدم الإنسان وحال معيشته حتى زمن التاريخ.

وقبل الدخول في البحث عن تاريخ الإنسان القديم لا بد من تمهيد جيولوجي لشدة علاقة موضوعنا بعلم اليولوجيا - أي قدم العالم - فنقول:

يرى معظم علماء الجيولوجيا أن الأرض كانت قديماً سديمية القوام ثم جمدت فبردت قشرتها الظاهرة بعد زمن طويل إلى أن صارت صالحة لظهور الحياة عليها فظهرت (بقوة علة العلل) منذ مئات الألوف من السنين. ويسمى زمن ظهورها بالدور الثلاثي وتلا هذا الدور الرباعي فوجد الإنسان في أوائله عل الأرجح. ويرى بعضهم أن الإنسان ظهر في أواخر الدور الثلاثي غير أن الآثار التي يعتمدون عليها لتعضيد رأيهم ليست بثبت. ثم جاء العصر الحجري الطويل المدة حين كان أسلافنا الأقدمون يستخدمون الأدوات الظرانية من حجارة العسوان. وعقب هذا الزمان البرونزي فالحديدي وفيه بدأت الحضارة الحقيقية ووضح التاريخ. والأزمنة الثلاثة الأخيرة من أخص مباحث الاركيولوجيا.

وتختلف مدد هذه العصور في طولها فبعضها يتخطى عشرات الألوف من السنين وبعضها كالزمان البرونزي لا يتجاوز ثلاثة آلاف سنة.

وبما أن ما اكتشف من آثار الدور الرابع لا يزال في معرض البحث والتخليص من شوائب الريب نبدأ ببيان عاديات العصر الحجري التي قد كشف للآن شيءٌ كثيرٌ منها. ويتبين من هذه الآثار أن الإنسان ظهر على الأرض منذ نحو عشرين ألف سنة على الأقل ومائة ألف سنة على الأكثر.

العصر الحجري - هذا العصر قديم جداً سابق لأقدم التواريخ البشرية من مثل الهيوروغليفية المدونة على هياكل مصر وفي مدافنها. وانتهى على الجملة قبل المسيح بنحو ثلاثة آلاف سنة. غير أن بعض البلدان كمصر كانت قد تحضرت قبل المسيح بستة إلى سبعة آلاف سنة وغيرها بقي إلى ما بعد ذلك بزمن طويل في حالة الهمجية كما يرى اليوم في سكان أوستراليا الأصليين وبعض أهالي جزر المحيط وغيرهم المنفصلين عن العالم المتحضر.

وبقسم علماء الاركيولوجيا العصر الحجري إلى عدة أزمنة أضربنا عن ذكرها لنسوق الكلام عليه هنا خلواً من عرقلة التقسيم والتداخل.

ويظهر من الآثار القديمة أن الإنسان لم يهتد في أوربا إلى استعمال المعادن إلا قبل التاريخ المسيحي بألفين إلى ثلاثة آلاف سنة حين بدأ باستعمال البرونز وبعد ذلك استعمال الحديد (قبل المسيح بنحو ألف سنة).

ولذلك فالخصر الحجري في أوربا وكثير من أنحاء العالم انتهى في بدء زمان استعمال المعادن بعد أن استمر زمناً طويلاً.

وقد وجدت آثار عديدة في جميع أنحاء العالم تدل على أن الإنسان استعمل الأدوات الصوانية في همجيته حيث حل في القارات الست. وكانت هذه الأدوات خشنة الملمس غير متقنة في أوائل عهد الهمجية ثم أتثنت شيئاً فشيئاً في زمن سكن الكهوف ثم صقلت وارتقت في أواخر العصر الذي تلاه زمن يسمى بالجديد وهو ما نسميه هنا بزمن العبور من العصر الحجري إلى الزمن المعدني أي استعمال المعادن.

وفي جملة ما عثر عليه الباحثون من البقايا الحيوانية والآلات الصوانية في كنت ببلاد الإنكليز وفي بلجيوم وألمانيا وفرنسا ومصر وآسيا واليابان وأواسط أفريقية والمكسيك وغيرها ما يدل دلالة واضحة على كيفية معيشة الإنسان قديماً وعلى أنواع الحيوانات المعاصرة له التي انقرض بعضها الآن كالمموث والفيل الكبير ونوع من فرس البحر هائل الجثة وكثير من الطيور التي لو رأينا هياكلها الآن لهالنا كبر حجمها وغرابة منظرها.

وقد وجدت عظام هذه لحيوانات المنقرضة بجانب أدوات الإنسان في مدافنه وكهوفه ورئي شيء من لحم بعضها لا يزال لاصقاً بالعظام.

العصر الجليدي - واستدل علماء الآثار من أدلة عديدة وجدوها في طبقات متباينة العمق تحت الأرض وفي كهوف كلسية أن نصف الكرة الشمالي كان معتدل الهواء في أواسط الدور الثلاثي إلا أن سطح أوربا الشمالي كان في ذلك الوقت غير ما كان عليه في الدور الرباعي بعده. فكانت مياه الأوقيانوس الشمالي تغطي جميع الأراضي الواقعة الآن إلى الشمال من خط يمد من جنوب إنكلترا إلى بطرسبرج. وبعد ذلك شخصت جبال الألب والقوقاس والكربتيان وباقي الجبال فغبرت هواء تلك الأصقاع بما أحدثته من الرطوبة والبرد فتجلدت المياه وكانت تذوب صيفاً فيتكون منها أنهر جليدية تكسح في طريقها الشواخص وتخدد المطمئنات حاملة الأوحال إلى أبعاد سحيقة وجارفة الصخور تسحل بها وجه الأرض. فنجم عن ذلك النواتيء الصخرية والرواسب الترابية في السهول كما نشاهده اليوم. ويقدر العلماء أن عمق الجليد في الدور المذكور المسمى بالجليدي أيضاً بلغ في جهات اسكندينافيا نحواً من ستة آلاف قدم. وجعل يقل شيئاً فشيئاً في الجنوب حتى محاذاة إنكلترا ولكنه لم يبلغ قط جنوبيها كما ظهر من تحليل تربة الأنهر الجليدية عند لندن.

والغريب أنه كان يتخلل هذا الدور القارس مدد معتدلة الهواء تدل عليها بقايا الأشجار الحيوانات المتحجرة. فتقلبات كهذه لا يمكن تصورها كما هي حقيقة لعدم وجود مماثل لها في عصرنا الثابت أو القليل التغيرات.

زمن سكنى الكهوف - حدثت في القرن السادس عشر أن عني أهل أوربا بالبحث عن قرن الكركدن القديم المعروف بوحيد القرن لاعتقاد عامتهم أن لهذه القرون خاصة الشفاء من كثير من الأمراض فجر البحث عنه ذلك إلى اكتشاف كثير من الكهوف والمغاور التي كان يسكنها الإنسان. ووجد فيها من الآنية والأدوات الظرانية ما يكفي للدلالة على نوع معيشة الإنسان في أواسط العصر الحجري. إلا أن هذه الأبحاث لم تأخذ وجهة علمية إلا منذ نحو قرن حين عثر على مغاور الضباع الهائلة التي كانت تفترس المموث وفرس البحر. وكان المظنون أن هذه الآثار سابقة لظهور الإنسان غير أهم اكتشفوا بعد ذلك كهف كنت وهو من هذا النوع فوجدوا فيه آثار الإنسان وآثار وهذه الحيوانات المنقرضة جنباً إلى جنب فعلوا أن الإنسان كان معاصراً لها وقد ارتقى شيئاً فشيئاً يشبه بعض متوحشي أوستراليا اليوم. ولكنه أرقى من متوحشي جزائر صندويج لأنهم اكتشفوا على نقوش ورسوم رسمها على العظام تشهد له بالتفوق حتى على بعض منحطي أهل زماننا.

وإني شهدت رسم الوعل والمموث وغيره منقولاً عنه عظام محفوظة في متحف بريطانيا فدهشت لدقة صنعها وإتقان رسمها إتقاناً تقتضي له حنكة ورياضة وارتقاءٌ عقلي مما لا يمكن أن يتم إلا بعد عصور عديدة من التقدم التدريجي. ويتصف هذا الزمان بكثرة الأوهام حتى أن لمعظم أوهام أوربا علاقة بسكان الكهوف.

زمن الظران المصقول - بعد أن مضى على الإنسان ردح من الدهر وهو يستعمل الآلات الصوانية السمجة الخشنة الملمس توصل إلى صقلها وجعلها مستطيلة أكثر من سابقاتها المائلة إلى الاستدارة وجعل يعتني بمقالع الصوان ويبحث في الأرض بقرون الحيوانات كالوعل لاستخراج أفضل أنواعها. وكان من يستعمل المطارق من الصوان أيضاً ومن الحجارة المستديرة القاسية. وفي هذا الزمان أكثر انتشار الإنسان في الأرض لأن آثاره وجدت في معظم جهات العالم.

زمن العبور من الهمجية إلى الحضارة - مر على الإنسان نحو ألف سنة حاول فيها العبور من استعمال الحجارة إلى استخدام المعادن. وكان الناس في آخر هذا الزمن قد ارتقوا كثيراً عن سابق عهدهم حتى أنه وجد عند اكتشاف أميركا من بقايا الهنود وآثارهم الراقية ما يخجل سادتهم الأسبانيين الفاتحين ووجدت كتابات رمزية في المكسيك لم يهتد العلماء إلى حل رموزها إلى الآن ولسوف تحل مع الزمان فيكون من وراء ذلك أعظم فائدة للتاريخ. لأن في المكسيك شيئاً كثيراً منها فلا تقل فائدتها عن كشف رموز اللغة الهيروغليفية في وادي النيل خصوصاً لأن رسومها تماثل شيئاً ما في الهند والصين وحيواناتها تشبه حيوانات هاتين المملكتين فإذا حلت هذه الرموز كانت للعلم من أثمن الكنوز.

ويمتاز هذا الزمان بوفرة كوم بقايا الأطعمة من أصداف الأسماك وغيرها لأن معظم المساكن كانت بالقرب من البحيرات والأنهر وكان لها منافذ للنجاة إلى المياه عند الوقوع في خطر من هجوم الضواري. ووجد كثير من آثار الأبنية على الآكام وعلى مرتفعات صناعية محضة وحولها ركام من فضلات المأكولات وهي أسماك وحيوانات ونباتات بعضها مطبوخ بالنار.

أما في سويسرا حيث البحيرات الجميلة تحيط بها الجبال فيظهر أن الإنسان هناك سبق جيرانه في الارتقاء مستقلاً استقلالاً نوعياً فكان يبني أكواخاً على ضفافها ويلقي فضلات طعامه فيها ويتقي الخطر بفتح نوافذ إلى المياه أو ببناء مسكنه في وسط الماء كمما شوهد في بعض الأماكن ولذلك انصرف أيضاً إلى زراعة القمح والشعير مع صيد الأسماك والحيوانات. وتوصل إلى صنع الخزف ونسج الحصر والحبال وشيء من الأثواب وكانت أهم أدواته الحجر وقرن الوعل.

ويمتاز جميع أهل هذا الزمان بإقامة أبنية مستديرة الشكل متجهة إلى الشرق أو الغرب أو إلى أحد الكواكب ولها دهاليز تحت الأرض. والأرجح أنها هياكل. وقد علم من انحراف اتجاه الشمس عن الهياكل التي كانت مخصصة لها أنها بنيت منذ نحو ألفي سنة قبل المسيح. وبعد هذا التاريخ بدا استعمال المعادن في إنكلترا مع أنها كانت مستعملة في مصر وغيرها قبل ذلك.

الزمن البرونزي - كان البرونز هو المزيج من النحاس والتنك مستعملاً في آسيا وغيرها فأدخل استعماله في أوربا قوم من السلتيين سلالة الآريين هاجموا أوربا من جهات مختلفة. فاستعمل البرونز أولاً في كريت قبل المسيح بثلاثة آلاف سنة وفي صقلية بعد ذلك بخمس مئة سنة وفي فرنسا بعد صقلية بخمس مئة سنة ولم يدخل إلى بريطانيا حتى سنة 1800 ق. م.

وكان هؤلاء السلتيون عند دخولهم إنكلترا يحرّقون بعض موتاهم ويدفنون البعض الآخر. وإذا دفنوا أحداً وضعوا معه آلة عمله وشيئاً من الطعام ليتبلغ به في العالم الأسفل وأما لتشاؤمهم من بقاء عدته وطعامه بعد موته.

ومن الغريب أن يستعمل الإنسان البرونز أولاً وهو مزيج مركب مع إمكانه استخراج الحديد حالاً من معدنه الأصلي. ولعل هذا المشكل يحل فيما بعد أما الآن فيظن أن الإنسان وقع عرضاً على شيء من هذا المزيج فوجده وافياً بالغاية وعلم نسبة تركيبه بالاختبار وهي 1 إلى 9 فجرى عليها.

وعلم أن أول معدن نحاسي عثر عليه الإنسان وجده في السواقي والجداول حيث كان أهل العصر الحجري يبحثون عن مواد صوانية يصنعون منها أدواتهم. فسكب أهل الزمن البرونزي ما وجدوه منه في بوائق حجرية محفور فيها رسم الفؤوس والسيوف وغيرها بمهارة تقضي بإعجاب صناعنا اليوم. وكانت هذه الصناعة قد بدأت في مصر قبل أن يعرفها سكان شمالي البحر المتوسط.

وفي هذا الزمن كان الذهب كثيراً في إيرلندا بدليل ما صنع من الأدوات المبتذلة منه. وإن وفرة ما كان يستخرج منه مما يدهش ولا ثل لها إلا في كولمبيا من أعمال أميركا الجنوبية. إلا أن الفضة لم تكشف إلا بعد الذهب بزمن ليس بقليل. وأول ما ظهرت على ما نعلم في سواحل أسبانيا بجوار الماريا حيث وجد منها كثير من الحلقات التي تستعمل لتمتين المقابض الخشبية في أماكنها من تجاويف الفؤوس.

ومن الغريب مشابهة رسوم الأدوات الحجرية في جميع أنحاء العالم مما يدل على تفرق الإنسان من بقعة كانت قديماً محتده الأصلي.

وخلاصة ما تقدم أن للإنسان تاريخاً مقروءاً من هذه الأدوات الصوانية والمعدنية تدل على ارتقائه بارتقاء صنعها وتعدد ضروبها وأشكالها مما لا يترك محلاً للشك في كون الإنسان تدرّج في معارج النشوء والارتقاء من الآدمي العريق في الوحشية إلى البشري ساكن الكهوف ومفترس الحيوانات إلى صانع الآلات البرونزية التي اجتاز بواسطتها من طور التوحش إلى طور استعمال الحديد فالحضارة.

وهو الآن قد أبدل الأعصر القديمة بعصر البخار جعل ينتقل منه إلى عصر الكهرباء. وعما قليل نجده يأكل ويشرب ويلبس ويسبح وينام ويستيقظ ويبني ويهدم ويزرع ويحصد ويطبع ويسافر ويشهد الألعاب والملاهي على الأرض وفي القبة الزرقاء بمساعدة قوة الكهرباء.

هذا هو متوحش الأمس ومتحضر اليوم فما عسى أن يكون إنسان الغد؟

لا ريب أن الكثير من غرائب الزمان لا يزال مخبوءاً للإنسان ومن يعش ير.

بيروت // خليل سعد