الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 67/رسائل الانتقاد

مجلة المقتبس/العدد 67/رسائل الانتقاد

مجلة المقتبس - العدد 67
رسائل الانتقاد
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 1 - 9 - 1911


تابع لما سبق

قال أبو الريان ومن شر عيوب الشعر كلها الكسر لأنه يخرجه عن نعته شعراً وليس مما يقع لمن نُعت بشاعر. فأما الاقواء. والسناد. والأكفاء. والزحاف. وصرف ما لا ينصرف فكل ذلك يستعمل الآن السالم من جميع ذلك أجمل وأفضل قال ومن عيوبه المذمومة مجاورة الكلمة ما لا يناسبها ولا يقاربها مثل قول الكميت:

حتى تكامل فيها الدل والسنب

وكما قال بعض المتأخرين في رثاء:

فإنك غيبت في حفرة ... تراكم فيها نعيم وحور

وإن كان النعيم والحور من مواهب أهل الجنة فليس بينهما في النفوس تقارب. ولا لفظة تراكم مما يجمع بين الحور ولا النعيم. ومثله قول بعضهم:

والله لولا أن يقال تغيرا ... وصبا وإن كان التصابي أجدرا

لعاد تفاح الخدود بنفسجاً ... لثمي وكافور الترائب عنبرا

فالتفاح ليس من جنس البنفسج لأن التفاح ثمرة والبنفسج زهرة. وقد أجاد في جمعه بين الكافور والعنبر لأنهما من قبيل واحد. ولو قال:

لعاد ورد الوجنتين بنفسجاً=لثمي وكافور الترائب عنبرا

لأجاد الوصف. وأحسن الرصف. لكون الورد من قبيل البنفسج. فهذا النوع فافتقد. وهذا الشرع فاعتمد.

قال أبو الريان ولفضلاء المولدين سقطات مختلفات في أشعارهم أُذاكرك منها في أشياء لتستدل بها على أغراضك لا لطلب الزلات. ولا لاقتفاء العثرات. كان بشار تتباين طبقات شعره فيصعد كبيرها. ويهبط قليلها كثيرها. وكذلك كان حبيب ابن أوس الطائي فإذا سمعت جيدهما كذبت أن رديهما لما. وإذا صح عندك أن ذلك الردي لهما أقسمت أن جيدهما لغيرهما. قال ومما يعاب من الشعر الافتتاحات الثقيلة مثل قول حبيب أول قصيدة:

هن عوادي يوسف وصواحبه ... فعوماً فقدماً أدرك الثأر أو طالبه

ومثل قول ديك الجن أول قصيدة:

كأنهايا كأنه خلل الخ ... لة وقف الهلوك إذ بغم فابتدأ هو وحبيب بمضمرات على غير مظهرات قبلها وهو رديء قال ويعاب أيضاً الافتتاحات المتطير بها. والكلام المضاد للغرض كابتداء قصيدة أبي نواس التي أنشدها الفضل بن يحيى خالد البرمكي يهنيه ببنيانه الدار الجديدة فدخل إليه عند كمالها وقد جلس للهناء والدعاء وعنده وجوه الناس فأنشده:

أربع البلى إن الخشوع لبادي ... عليك وإني لم أخنك ودادي

فتطير الفضل من ذلك ونكس رأسه وتناظر الناس بعضهم إلى بعض ثم تمادى فختم الشعر بقوله:

سلام على الدنيا إذا ما فُقدتمُ ... بني برمك من رائحين وغادي

فكمل جهله وتمم خطأه وزاد القلوب المتوقعة للخطوب سرعة توقع. وأضاف للنفوس المتوجعة بذكر الموت شدة توجع. وأراد أن يمدح فهجا. ودخل ليسر فشجا قال وقريب من هذا ما وقع للمتنبي في أول شعر أنشده كافوراً:

كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا

فهذا خطاب بالكاف بفتح ولا سيما في أول لقية. وفي ابتداء واستعطاف ورقية. وفي هذا البيت غير هذا من العيوب سنذكره بعد.

ووقع مثل هذا من قبح الاستفتاح في عصرنا وذلك أن بعض الشعراء أنشد بعض الأمراء في يوم المهرجان فقال:

لا تقل بشرى ولكن بشريان ... وجه من أهوى ووجه المهرجان

فأمر بإخراجه واستطار بافتتاحه وحرمه إحسانه قال أبو الريان ولو كان هذا الشاعر حاذقاً لكان إصلاح هذا الفساد أيسر الأشياء عليه وذلك بأن يعكس البيت فيقول:

وجه من أهوى ووجه المهرجان ... أي بشرى هي لا بل بشريان

قال ويبج جداً الإتيان بكلمة القافية معجمة لا ترتبط بما قبلها من الكلام وإنما هي مفردة لحشو القافية كقول بعضهم:

فبلغت المنى برغم أعاديك ... وأبقاك سالماً رب هود

فأنت ترى غثاثة هذه القافية وإله تعالى رب جميع الخلق وكل شيء فخصَّ هوداً عليه السلام وحده لضعف نقده وعجزه عن الإتيان بقافية تليق وتحسن.

قال ويقبح أيضاً الجفاءُ في النسيب على الحبيب والتضجر ببعده. وغلظة العتاب على صده. كقول أبي نواس:

أجارة بيتينا أبوك غيور ... وميسور ما يرجى لديك عسير

فان كنت لا خلاً ولا أنت زوجة ... فلا برحت منا عليك ستور

وجاورت قوماً لا تزاور بينهم ... ولا قرب إلا أن يكون نشور

فلم أسمع بأوحش من هذا النسيب. ولا أخشن من هذا التشبيب. وذلك قوله إن لم تكوني لي زوجة ولا صديقة فلا برحت منا ستور للتراب عليك. ولا كان جارك ما عشنا نحن إلا الموتى الذين لا يتزاورون ولا يتواصلون إلى يوم النشور على أن كلامه يشهد عليه بأنه شاك وإنما المعروف في أهل الرقة والظرف. والمعهود من أهل الوفاء والعطف. أن يفدوا أحبابهم بالنفوس. من كل مكروه وبوس. فأين ذهبت ولادته البصرية وآدابه البغدادية. حتى اختار الغدر على الوفاء. وبلغت به طباعه إلى أجفاء الجفاء. فاعلم هذا وإياك أن تعمل به.

قال ومن عيب الشعر السرق وهو كثير الأجناس. في شعر الناس. فمنها سرقة ألفاظ. ومنها سرقة معان. وسرقة المعاني أكثر لأنها أخفى من الألفاظ ومنها سرقة المعنى كله. ومنها سرقة البعض. باختصار في اللفظ وزيادة في المعنى وهو أحسن المسروقات. ومنها مسروق بزيادة ألفاظ وقصور عن المعنى وهو أقبحها. ومنها سرقة محضة بلا زيادة ولا نقص والفضل في لك للمسروق منه ولا شيء للسارق كسرقة أبي نواس في هذه القصيدة التي ذكرنا معنى أبي الشيص بكماله. قال أبو الشيص:

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم

فسرقة الحسن بكماله فقال:

فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير

فهذا على أن بيت أبي الشيص أحلى وأطبع ومع حلاوته جزالة. وقد ذكر عن الحسن أنه قال ما زلت أحسد أبا الشيص على هذا البيت حتى أخذته منه وسرقة المعاصر سقوط همة. وبهذه القصيدة يناضل أصحاب الحسن عنه ويخاصمون خصماءه مقرين بأن ليس له أفضل منها. ولا لهم إلى سوى هذه القصيدة معدل عنها. فقس بفهمك واعمل فكرك على ما وصفناه من أبواب السرقة ما وجدته في أشعار لم أذكرها يظهر لك جميع ما وصفناه. ويبدو لك جميع ما رسمناه. قال ومما يقع في عيوب الشعر ويغفل الشاعر عنه ويجوزه الأمر فيه لصغر جرم العيب وسلامة اللفظ لذي احتبي فيه ثم يكون ذلك سبب غفلة النقاد أيضاً عنه مثل قول المتنبي:

كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا

فضع هذا الكلام على أنه إنما شكا داءَه ووصفه بالعظم فعاد شاكياً نفسه وجعلها أعظم الداء لأنه أراد كفى بدائك داءً فغلط وقال كفى بك داءً فصار كفى بالسلامة داءً فالسلامة هي الداء يريد طول البقاء سبب للفناء. وقال الله تعالى وكفى بنا حاسبين فالله هو أعظم شهيد فجعل المتنبي نفسه أعظم الداء ولم يرد إلا استعظام دائه وإصلاح هذا الفساد. وبلوغه إلى المراد. أن يقول:

كفى بالمنايا أن تكن أمانيا ... وحسبك داء أن ترى الموت شافيا

فيعود الداء المستعظم كما أراد تزول خشونة ابتدائه. وشدة جفائه. إذ خاطب للممدوح بالكاف فجعله داء عظيماً في أول كلمة سمعها منه. وقد تأدب خواص الناس وكثير من عوامهم في مثال هذا المكان فهم يقولون عند مخاطبات بعضهم بعضاً بما يخشن ذكره قلت للأبعد يا كذا أو كذا للأبعد.

ومن عيوب هذا القسم أيضاً أن قائله قصد إلى سلطان جديد وإلى مكان يحتاج فيه إلى التعظيم والتفخيم وقد صدر عن ملك نوه به أعني سيف الدولة وأغناه بعد فقره وشرفه ورفعه. وأدنى موضعه. فورد كل كافور هذا في مرتبة شريفة. وخطة منيفة. فجعل بجهله يصفه في أول بيت لقيه به أنه في حالة لا يرى منها المنية. أو يرى المنية أعظم أمنية. وعلم كافور بذكائه ووصول أخبار الناس إليه أنه في حالة خلاف ما قال وأنه كفر النعمة من المنعم عليه وأراه أن جميع ما عامله به من الجاه الواسع. والغنى القاطع حقير لديه. صغير في عينيه. فعلم كافور في هذا الوقت أنه ممن لا تزكو لديه الصنيعة وإن عظمت. ولا تكبر في عينيه المواهب وإن جسمت. ولم يكن في خلق كافور من الصبر على اتساع البذل. ولا من الرغبة في أهل الآداب والفضل ما عند سيف الدولة من ذلك فزهد فيه بعد رغبة وعلله بالقليل. وشاوقه بالجزيل. ورأى المتنبي أن الأسود ليس له في قلبه من الحب والقرب ما له عند سيف الدولة فلم يدل عليه ولا كثر من التعتب والعتاب ما يعطفه عليه فأضاع وضاع. وكان يتوقع الإيقاع. ولكفران النعم نقم. ثم نجاه ركوب ظهر الهرب وأقبل يعترف لسيف الدولة بالذنوب. وكان لحنه وشعره شريفين. وعقله ودينه ضعيفين. ومع ذلك فسقطاته كثيرة إلا أن محاسنه أكثر وأوفر. والمرء يعجز لا المحالة. وكان يميل إلى تعقيد الكلام ويعتمد على علمه بقبحه فيقول من ذلك ما يصف به ناقته:

فعبيت تسئد مسئداً في نيها ... أسادها في المهمة الأنضاء

يقول في المدح:

أنى يكون أبا البرية آدم ... وأبوك والثقلان أنت محمد

ويقول في بيت آخر من قصيدة أخرى يمدح بها والبيت لا يتعلق بشيء مما قبله فيما يظهر ولا فيما بعده بشيء:

كأنك ما جاودت من بان جوده ... عليك ولا قاومت من لم تقاوم

ومثل هذا كثير وهذه الأجناس من أبيات وإن ظهرت معانيها بعد استقصاء. وأطاعت غوامضها بعد استعصاء. فهي مذمومة السلك وإن اطلعت منها على أجزل الإفادة فكيف إذا حصلت منها على السلامة بلا زيادة. وكان أيضاً يغفل عن إصلاح أشياء من كلامه على قرب ذلك من الفهم. مثل قوله يرثي أخت سيف الدولة:

يا أخت خير أخ يا بنت خير أب ... كناية بهما عن أشرف النسب

فجعل يا أخت خير كناية عن اشرف النسب والكناية لا تكون إلا لعلل تتسع فيها التهم لأن الكناية ستر وتعمية فنا بال شرف النسب يورى عنه تورية المعائب. ويكنى عنه والتصريح به من المفاخر والمناقب. وقد غفل عن إصلاح هذا بلفظ فصيح. ومعنى صحيح. قد كاد يبرز من الجنان. إلى طرف اللسان. وهو لو فطن إليه:

يا أخت خير أخ يا بنت خير أب ... غنى بهذا وذا عن أشرف النسب

قال أبو الريان وهذه الجملة التي أثبت لك فيها ما دخل على الشعراء المحيدين من التقصير والغفلة والغلط وغير ذلك كافية ومغنية عن إيراد ذلك وإن لقيتها بجودة بحث وصحة قياس. لم تحتج إلى كشف عيوب أشعار الناس. ولعل قائلاً يقول مال على هؤلاء وترك سواهم لميله على من بكت. ولتفضيله من عنه سكت. فقل لمن قال ذلك الأمر، عل خلاف ما ظننت لم أذكر إلا الأفضل فالأفضل. والأشهر فالأشهر. إذ كانت أشعارهم هي المروية.

فالحجة بهم وعليهم هي القوية. فقد نقلته علي من ميلي عليهم. إلى ميلي بالحق إليهم قال أبو الريان فأما نقد المستحسن فتمثيله لك يعظم ويتسع لكثرته فلا يسعنا إيراده ولكن ما سلم من جميع ما أوردناه فهو في حيز السالم. ثم تتسع طبقات الجودة فيه. وأحسن منه ما اعتدل مبناه. وأغرب معناه. وزاد في محمودات الشعر عل سواه. ثم يمدح الأدون فالأدون بمقدار انحطاطه إلى حيز السلامة. ثم لا مدح ولا كرمة.

قال محمد فقلت لله درك يا أبا الريان فما ألين جانبك. وما أقرب غائبك. وما ألحح طالبك. وما أسعد صاحبك. فقال أنجح الله مطالبك. وقض مآربك. وصفى من القذى مشاربك. وبث الحواضر والبوادي مناقبك.

تمت المقامة المعروفة بمسائل الانتقاد

بلطف الفهم والاقتصاد

والحمد لله أولاً وآخراً وصلاته على نبيه سيدنا محمد وآله وسلامه