الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 67/أبيات العادات

مجلة المقتبس/العدد 67/أبيات العادات

مجلة المقتبس - العدد 67
أبيات العادات
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 1 - 9 - 1911


يقف الناظر في دواوين الأدب ومجاميع الشعر والأخبار على أبيات غامضة المعنى يشكل عليه فهمها يسميها علماء الأدب بأبيات المعاني. وقد عنوا قديماً بجمعها وتدوينها وشرح معانيها وتفسير مستغلقها إلا أن يد الضياع تلاعبت بتلك المؤلفات فلم يصل إلينا منها إلا القليل ولم نقف على هذا النوع من الشعر إلا مبعثراً مفرقاً في تضاعيف الأسفار المختلفة. أذكر أنني كنت أراجع مرة في شرح القاموس مع الأمير محمود سامي باشا البارودي فمر بنا قول القائل:

فوردت مثل اليماني الهزهازْ ... تدفع عن أعناقها بالإعجاز

فلم يتكشف لنا معناه مع إطالة الرواية وإجهاد الفكر إلا بعد أن سألنا عنه أستاذنا الإمام الشنقيطي رحمه الله فقال هذا من أبيات المعاني يذكر إبلاً وردت غديراً كالسيف الصقيل في الصفاء وقوله تدفع عن أعناقها الخ يعني أنها كثيرة الألبان ممتلئة الضروع وضروعها في إعجازها فإذا نزل الضيوف بصاحبها قراهم من لبنها فأغنى ذلك عن نحرها فتكون دفعت عن أعناقها بإعجازها قال وتمام الرجز (أعيت على مُقصدنا والرجاز) انتهى.

وقد عثرت على ضرب آخر من الشعر إن لم يكن من هذا النمط فهو منه قريب رأيت أن أجمع ما تيسر لي منه وأسميه (بأبيات العادات) وهي أبيات ظاهرة اللفظ والمعنى إلا أنها غامضة من جهة القصد والمرمى فلا يفهم مراد قائليها إلا بمعرفة عادة من عادات العرب أو مزعم من مزاعمهم بني عليه البيت كقول الخنساء في رثاء أخيها معاوية:

فلا والله لا تسلاك نفسي ... لفاحشة أتيتَ ولا عقوق

ولكني رأيت الصبر خيراً ... من النعلين والرأس الحليق

فليس في ألفاظ البيتين لفظ غريب غير مفهوم كما أن معناهما ظاهر في غاية الوضوح وإنما الإشكال في مرادها بالنعلين والرأس الحليق فإذا عرفنا أن العادة كانت عند نساء العرب إذا أصبن في حميم أن يحلقن رؤوسهن وتأخذ الواحدة منهن نعلين في يديها تصفق بهما وجهها زال عنها الإشكال واستبان لنا القصد. وفي معنى بيتي الخنساء قول عبد مناف بن ربع الهذلي:

ماذا يغير ابنتي ربع عويلها ... لا ترقدان ولا بؤسى لمن رقدا

كلتاهما أبطنت أحشاؤها قصباً ... من بطن حَلية لا رطباً ولا نق إذا تأوب نوْح قامتا معه ... ضرباً أليماً بسبت يلعج الجلدا

وهو نوع مستملح من الشعر لم أرهم اعتنوا بجمعه اعتنائهم بأبيات المعاني. فمنه قول زهير ابن أبي سلمى:

ومن يعص أطراف الزجاج فإنه ... يطبع العوالي ركبت كل لهذم

الزجاج بالكسر جمع زج بالضم وهي حديدة تكون في سافلة الرمح واللهذم السنان ويكون في عاليته وظاهر المعنى أن من أبى الصلح ذللته الحرب أو من لا يقبل الأمر الصغير اضطر إلى قبول الكبير والبيت مع صلاحه لهذا المعنى فإنه يتضمن شيئاً آخر من عاداتهم وذلك أن الفئتين من العرب كانتا إذا التقتا في القتال سددت كل واحدة منهما زجاج الرماح نحو صاحبتها ثم يسعى الساعون في الصلح فإن أبتا إلا التمادي في القتال قلبت كل واحدة منهما الرماح واقتتلتا بالأسنة.

(ومن أبيات العادات) قول النابغة الذبياني:

فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السمّ نافع

يسهد من ليل التمام سليمها ... لحلي النساء في يديه قعاقع

السليم الملدوغ وكانت عاداتهم كما في لسان العرب وشرح الديوان أن يضعوا في أيدي الملدوغ شيئاً من الحلي لئلا ينام فيدب السم في جيده فيقتله. ومثله قول الآخر:

فبت معنَّى بالهموم كأنني ... سليم نفى عنه الرقاد الجلاجل

قلت وغريب تقارب بعض العادات عند الأمم فقد حكة لي شيخ مسن من الجراكسة أن من عاداتهم في بلادهم أنهم لا يدعون الجريح ينام لئلا يموت عل زعمهم فيجعلون حوله من يقرع على طست أو قدر من النحاس ليوقظه كلما أغفى ولا يزالون يتناوبون ذلك حتى يتم شفاؤه.

(ومن أبيات العادات) قول الربيع بن زياد في مالك بن زهير العبسي:

من كان مسروراً بمقتل مالكٍ ... فليأت نسوتنا بوجه نهار

يجد النساء حواسراً يندبنه ... يلطمن أوجههن بالأسحار

فإن مراده أن من كان شامتاً مسروراً بمقتل مالك فليأت نسوتنا وهن على هذه الحال ليعلم أننا أخذنا بثأره فلا يشمت به وذلك لأن العرب كانت تندب قتلاها بعد إدراك الثأر وقد حكى التبريزي أقوالاً أخرى في البيتين تخرجهما عما نحن فيه.

(ومنها) قول الكميت:

أحلامكم لسقام الجهل شافية ... كما دماؤكم تشفي من الكلب

جاء في معاهد التنصيص قال ابن الأعرابي: كانت العرب تقول أن من أصابه الكلب أو الجنون لا يبرأ منه إلا أن يسقى من دم ملك فهو يقول أن ممدوحيه أرباب العقول الراجحة ملوك وأشراف ومثله قول القاسم بن حنبل من شعراء الحماسة:

بنات مكارم وأًساة كلم ... دماؤهم من الكلب الشفاءُ

وقد حكة التبريزي في شرحه نحواً مما حكاه ابن الأعرابي ثم قال وقيل في دوائه أن تشرط الإصبع الوسطى من يسرى رجل شريف ويؤخذ من دمه قطرة على تمرة فيطعم المعضوض فيبرأ وقيل أنه يسعط به انتهى. ومثله قول عبد الله بن الزبير (بفتح الزاي وكسر الباء) الأسدي في عبد الله بن زياد:

من خير بيت علمناه وأكرمه ... كانت دماؤهم تشفي من الكلب

وقول عبد الله بن قيس الرقيات:

عاودتي النكس فاشتفيت كما ... تشفي دماءُ الملوك من كلب

وقول ابن عباس الكندي لبني أسد في قتلهم حجر بن عمرو:

عبيد العصا جئتم بقتل رئيسكم ... تريقون تاموراً شفاءً من الكلب

التامور هنا الدم. وكلهم اقتصروا على ذكر الكلب وقد جمع الفرزدق بينه وبين الجنون فقال:

ولو تشرب الكلبى المراضى دماءنا ... شفتها وذو الخبل الذي هو أدلف

وذكر الجنون عاصم بن فرية الجاهلي فقال:

وداويته مما به من مجنة ... دام ابن كهال والنطاسي واقف

وقلدته دهراً تميمة جده ... وليس لشيء كاده الله صادف

صادف بمعنى صارف. قال الجاحظ وكان أصحابنا يزعمون أن قولهم دماءُ الملوك شفاء من الكلب على معنى أن الدم الكريم هو الثأر المنيم وأن داء الكلاب على معنى قول الشاعر: كلب من جس ما قد مسه ... وأفانين فؤاد مختبل

وعلى معنى قولهم (كلب بضرب جماجم ورقاب) فإذ كلبَ من الغيظ والغضب فأدرك ثأره فذلك هو الشفاء من الكلب وليس أن هناك دماً في الحقيقة يشرب ولولا قول عاصم ابن الفرية (والنطاسي واقف) لكان ذلك التأويل جائزاً انتهى كلامه. قلت وقد تظرف البحتري فقال يهنئ من انتصد وأخرجه مخرج هذا الزعم عند العرب:

ليهنك البرءُ مما كنت تأمله ... وليهنك الأجر عقبى صائب الوصب

لئن فصدت ابتغاء البر من سقم ... فقد أرقت دماً يشفي من الكلب

(ومن أبيات العادات) قول القائل:

ولا عيب فينا غير عرق لمعشر ... كرام وأنا لا نخط على النمل

النمل هنا جمع نملة وهي قرحة تخرج في الجسد ولو لم يكن البيت مبنياً على عادة لهم لما كان معنىً لافتخاره ممن لا يخطون على تلك القروح ولكن مراد الشاعر أننا لنا بمجوس نتزوج الأخوات لزعم العرب أن ابن امجوسي إذا كان من أخته وخط بيده على النملة أبرأها كذا في كتابات الجرجاني صاحب اللسان والعلامة ابن القيم في كتابه الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان أن ذلك من زعم المجوس أنفسهم. قلت لا مانع أن يكون انتقل منهم إلى العرب فاعتقدوه وأضافوه إلى مزاعمهم في الجاهلية كما انتقلت ليعضهم أشياء من التمجس عن الفرس.

(ومنها) قول سبرة بن عمرو الفقعسي:

أتنسى دفاعي عنك إذ أنت مسلم ... وقد سال من ذلّ عليك قُراقر

ونسوتكم في الروع باد وجوهها ... يُخان إماء والإماء حرائر

وذلك لأن الحرائر كن في مثل ذلك الوقت يتشبهن بالإماء في كشف وجوههن ليزهد فيهن فيأمن السبي كما في شرح الحماسة للتبريزي وقال أيضاً في تفسير قول عمرو بن معد يكرب:

لما رأيت نساءنا ... يفحصن بالمعزاء شدَّا

وبدت لميس كأنها=بدر السماء إذا تبدى

إن المعنى كاشفة عن وجهها كأنها قد أرسلت نقابها ودلّ على هذا بقوله كأنها بدر السماء إذا تبدى فعلت ذلك إما للتشبه بالإماء حتى تأمن السباء أو لما تداخلها من الرعب انتهى. قلت وليس من هذا ما أنشده الاشنانداني في كتاب معاني الشعر لذي الخرق الطهوي أو لغيره:

ولما رأين بني عاصم ... ذكرن الذي كن أُنسينه

فوارين ما كنَّ حسرنه ... وأخفين ما كنَّ أبدينه

لأن معناه كما فسره أنهن نساءٌ قد سبين فنسين الحاء وأبدين وجوههن فلما رأين بني عاصم أيقن أنهن قد استنفذن فراجعن حياءهن فسترن ما كن أبدينه انتهى.

(ومنها) قول عنترة:

تركتُ جريَّة المعمري فيه ... شديد العير معتدل شديد

فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... وإن يُفقد فحقَّ له الفقود

يقول تركه وفيه سهم شديد العير والعير الناتئُ وسط النصل والبيت الثاني بني على عادة كانت لهم وهي أن الرجل منهم كان إذا رمى بسهم وأراد سلامة الرمية منه رقى سهمه وإذا أراد الإهلاك لم يفعل ذلك.

(ومنها) قول كبشة أخت عمرو بن معد يكرب:

أرسل عبد الله إذ حان يومه ... إلى قومه لا تعقلوا لهم دمي

ولا تأخذوا منهم أفالاً وأبكراً ... وأترك في بيت بصعدة مظلم

البيت الأول مخروم وصعدة مخلاف من مخاليف اليمن والمعنى أن هذا المرثي أرسل يقول لقومه بلسان الحال لا تأخذوا بدل دمي عقلاً أي دية وتتركوني في قبرٍ مظلمٍ تريد بذلك تحريضهم على أخذ الثأر ولا يفهم من ظاهر قولها بيت مظلم إلا حكاية الحال لأن القبر لا يكون إلا مظلماً ولكن الأمر ليس كذلك بل هو مبني على ما كانوا يزعمون أن قبر المقتول لا يزال مظلماً حتى يثأروا به فإن فعلوا أَضاء.

(ومنها) قول جرير يرثي قيس بن ضرار:

أظن انهمال الدمع ليس بمنتهٍ ... عن العين حتى يضمحل سوادها

وحقَّ لقيس أن يباح له الحمى ... وأن تُعقر الوجناءُ إن خف زادها

وهو مبني على عادة لهم وهي أن الرجل كان إذا مرَّ بقبر رئيس وهو في صحبة أحب أن ينوب عن المقبور في الضيافة وإذا لم يساعده من الطعام ما يدعو الناس إليه عقر ناقته إكراماً له. ولما قتل ربيعة بن مكدم كان لا يمر بقبره أحد من العرب إلا عقر عليه دابة أو بعيراً حتى مر به شيخ كبير فقال لا أعقر ناقتي ولكن أرثيه مكان ذلك ورثاه بقوله:

لا بعدن ربيعة بن مكدم ... وسقى الغوادي قبره بذنوب

نفرت قلوصي من حجارة حرة ... بنيت على طلق اليدين وهوب

لا تنفري يا ناق منه فإنه ... شريب خمر مسعر لحروب

لولا السفار وبعد خرق مهمة ... لتركتها تحبو على العرقوب

فكان أول من ترك العقر عليه.

(ومنها) قول الحطيئة:

قد ناضلوك وسلوا عن كنانتهم ... مجداً تليداً ونبلاً غير إنكاس

قال التبريزي في شرح الحماسة أراد بالمجد التليد أن الشجاع منهم كان إذا أسر فارساً مذكوراً فمنَّ عليه جزّ ناصيته وجعلها في كنانته. وفسره ابن أبي الإصبع في كتابه بديع القرآن تفسيراً آخر فقال معنى هذا البيت لا يعرفه إلا من عرف عادة العرب إذا منّوا على أسير أعطوه نبلاً من نبلهم عليها إشارة تدل على أنها لأولئك القوم لا تزال في كنانته فقال الحطيئة لهذا الممدوح الذي عناه بهذا المدح أن عداك لما فاخروك سلوا عن كنانتهم نبلك التي أعطيتها لهم حين مننت عليهم تشهد لك بأنهم عتقاؤك فكان هذا مجداً تليداً لك لا يقدرون على جحده تثبته لك هذه النبل التي ليست بإنكاس يعني الصائبات التي لا تنكس إذا ناضلت بها عن العرض وهذا غاية المدح للمدوح ونهاية الهجاء لعداه إذا خبرناهم مع معرفتهم بفضله عليهم يفاخرونه بما إذا أظهروه أثبت لهم الفضل عليهم وهذا غاية الجهل منهم والغباوة انتهى كلامه.

(ومنها) قول سحيم عبد بني الحسحاس:

فكم قد شققنا من رداء منير ... ومن برقع عن طفلة غير عانس

إذا شق برد شق بالبرد برقع ... دواليك حتى كلنا غير لابس

جاء في شرح شواهد الجمل أن العرب كانت تقول أيّما امرأة أحبت رجلاً فلم يشق برقعها وتشتق هي رداءه فسد ما بينهما انتهى. ويروى (إذا شق برد شق بالبرد مثله) وحكوا أن العرب كانت تزعم أن المتحابين إذا شق كل واحد منهما ثوب صاحبه دامت مودتهما ولم تفسد.

(ومنها) قول عمر بن أبي ربيعة:

أهيم بها في كل مُمسى ومصبح ... وأكثر دعواها إذا خدرت رجلي

لأنهم كانوا يزعمون أن الرجل إذا خدرت رجله وذكر من يحب أو دعاه ذهب خدرها. ومثله لجميل:

وأنت لعيني قرة حين نلتقي ... وذكرك يشفيني إذا خدرت رجلي

(ومنها) قول الأعشى:

ويأمر لليحموم كل عشية ... بقت وتعليق فقد كاد يسنق

روى الثعالبي في فقه اللغة بتبن بدل قت. واليحموم فرس كان للنعمان بن المنذر والسنق في الدواب بمنزلة التخمة في الإنسان وليس في ظاهر معنى البيت ما يستحسن بل قال فيه بعض من لا يعرف عاداتهم أن القيام على الفرس والاعتناء بعلفه حتى يكاد يتخم ليس مما تمدح به السوقة فضلاً عن الملوك ومراد الشاعر وراء كل هذا لأنه بناه على عادة كانت لملوك العرب وذلك أنه بلغ من حزمهم ونظرهم في العواقب أن أحدهم لا يبيت إلا وفر سه موقوف بسرجه ولجامه بين يديه قريباً منه مخافة عدو بفجوه أو حالة تصعب عليه فكان للنعمان فرس يقال له اليحموم يتعاهده كل عشية وهذا ما تتمادح به العرب من القيام بالمحيل وارتباطها بأفنية البيوت كما في العقد الفريد. وقد ذكر الأعشى اليحموم أيضاً في قوله:

أو فارس اليحموم يتبعهم ... كالطلق يتبع ليلة البهر

يعني بفارسه النعمان وقال لبيد:

والحارثان كلاهما ومحرق ... والتبعان وفارس اليحموم

(ومنها) قول الشاعر:

كفاك الله يا عصم بن لأي ... خيال بني أبيك وهم عيام

إذا مروا بجيزك لم يعوجوا ... ولو غطى سبيلهم الظلام

عيام أي شهاوى إلى اللبن وبجيزك يعني بنواحيك جمع جيزة بالكسر. وكان من عادتهم أن الرجل كان يحمل حبلاً ويسترفد عشيرته إذا أعطى الشاة والحاشية من الإبل ربطها بالحبل كذا في معاني الشعر للأشنانداني أقرب لأبيات المعاني منه لأبيات العادات.

(ومنها) قول الآخر يصف حماراً:

يلوي مجامع لحيه فكأنه ... لما تمخط في السحيل نقيب

نقيب أي منقوب الحنجرة وكان من عادة العرب إذا اشتد الزمان نقبوا حنجرة الكلب أو غلصمته ليضعف صوته فلا يسمع الضيف صياحه فشبه نهيق هذا الحمار بصياح الكلب النقيب. وفي اللسان إن ذلك كان يفعله البخلاء من العرب لئلا يطرقهم ضيف باستماع نباح الكلاب. وأنشد الأشنانداني في معاني الشعر:

تجاوبن إذ برّكن والليل غاسق ... تعاوي منقوبات حيي محارب

وقال في تفسيره المنقوبات الكلاب كانوا إذا اشتد الزمان نقبوا لسان الكلب لئلا يسمع نباجه يقول فهذا الإبل كأنها منقوبات يصف إبلاً معيبة فهي ترغو رغاءً ضعيفاً.

(ومنها) قول الآخر:

تلفت نحو الحي حتى وجدتني ... وجعت من الإصغاء ليتا وأخدع

فظاهر معناه أنه لشدة شوقه لمن في الحي أكثر التلفت نحوه حتى وجعته عنقه. ولكن الراغب الأصفهاني في محاضراته حمله على عادة كانت لهم وهي زعمهم أن المسافر إذا خرج فالتفت لم يتم سفره قال فالتفاته لأنه كان عاشقاً فأحب أن لاي تم سفره ليرجع إلى من يحب.

(ومنها) قول بشر بن أبي خازم (بالخاء المعجمة والزاي):

تظل مقاليت النساء يطأنه ... يقلن ألا يلقى على المرء مئزر

المقاليت جمع مقلاة بالكسر وهي التي لم يبق لها ولد. والبيت مبني على ما كانت تزعم أن المقلات إذا وطئت رجلاً كريماً قتل غدراً عاش ولدها كذا في اللسان.

(ومنها) قول متمم بن نويرة في أخيه مالك:

لقد كفن المنهال تحت ردائه ... فتى غير مبطان العشيات أروعا

وكان المنهال قتل ملكاً والرداء هنا السيف وكانت العادة عند الرعب إذا قتل الرجل منهم رجلاً مشهوراً وشع سيفه عليه ليعرف قاتله كما في اللسان.

(ومنها) قول القائل:

فقأت لها عين الفحيل تعيفا ... وفيهن رعلاءُ المسامع والحامي

أنشده الجاحظ في البيان والتبيين والفحيل بفتح فكسر الفحل الكريم وأنشد أيضاً:

وهب لنا وأنت ذو امتنان ... تفقأ فيها أعين البعران

وأنشد أيضاً:

فكان شكر القوم عند المنن ... كيَّ الصحيحات وفقءٌ الأعين

وكلها مبنية على عادة كانت لهم ذكرها الجاحظ وهي أنهم كانوا إذا بلغت إبلهم ألفاً فقؤا عين الفحل فإن زادت فقؤا عينه الأخرى قال فذلك المفقأ والمعمي. وفي مادة (عمى) من اللسان قال الأزهري وقرأت بخط أبي الهيثم في قول الفرزدق:

غلبتك بالمفقئ والمعمى ... وبيت المحتبى والخافقات

قال فخر الفرزدق ف هذا البيت على جرير لأن العرب كانت إذا كان لأحدهم ألف بعير فقأ عين بعير منها فإذا تمنت ألفان عماه وأعماه فافتخر عليه بكثرة ماله قال والخافقات الرايات انتهى ما في اللسان. قلت إذا كان معنى البيت على ما فهمه أبو الهيثم كان الصواب أن يكون المفقأ بصيغة اسم المفعول لا بصيغة اسم الفاعل. وقد روى البيت في مادة فقأ (بالمفقئ والمعنى) بالنون ونقل المصنف عن الليث أن العرب كانت في الجاهلية إذا بلغ إبل الرجل ألفاً فقأ عين بعير منها وسرحه حتى لا ينتفع به ثم حكى عن الأزهري أن معنى المفقئ في هذا البيت ليس على ما ذهب إليه الليث وإنما أراد الفرزدق قوله لجرير:

ولست ولو فقأت عينك واجداً ... أبا لك أن عد المساعي كدارم

انتهى. قلت القول ما ذهب إليه الأزهري لما سيرد عليك والظاهر أن الذي حمل الليث على أن يفهم في المفقئ ما فهم كون المعنى يطلق على جمل كان أهل الجاهلية ينزعون سناسن فقرته أي حروفها ويعقرون سنامه لئلا يركب ولا ينتفع بظهره بفعل ذلك الرجل منهم إذا بلغت إبله مائة ليعرف أنه مميء فظن الليث أن الفرزدق أراده فحمل المفقئ عليه وكان وجهه على ما فهم أن يرسم أيضاً بصيغة اسم المفعول كما قدمنا.

والصواب في معنى البيت ما ذكره صاحب اللسان في مادة (عنا) نقلاً عن ابن سيده أن مراد الفرزدق بالمفقئ بيته في جرير المتقدم ذكره ومراده بالمعنى (ضبط بكسر النون) قوله له:

تعنى يا جرير لكل شيء ... وقد ذهب القصائد للرواة

فكيف ترد ما بعمان منها ... وما بجبال مصر مشهرات

ونقل عن الجوهري أن مراده بالمعنى قوله:

فإنك إذ تسعى لتدرك دارماً ... لأنت المعنى يا جرير المكلف

قلت عليه ويصح ضبط المعنى في بيت الفرزدق بالفتح. قال وأراد بالمجتبى قوله:

بيت زرارة محتبٍ بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشل

لا يحتبي بفناء بيتك مثلهم ... أبداً إذا عد الفعال الأفضل

وأراد بالخافقات قوله:

وأين يقضي المالكان أمورها ... بحق وأين الخافقات اللوامع

أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع

أي غلبتك بأربع قصائد منها هذه الأبيات وعلى هذا لا يعد البيت من أبيات العادات وإنما أطلت الكلام فيه لأنه كان سبب لخلاف واستطار شرره بين بعض الأدباء بمصر.

(ومن أبيات العادات) قول آدم مولى بلعنبر:

وان أراد جدل صعب أرب ... خصومة تنقي أوساط الركب

أطلعته من رتب إلى رتب

من رجز يقوله لابنه أنشده الجاحظ في البيان والتبيين وقد يسأل لمَ كانت هذه الخصومة لنقب الركب فالجواب أنه كان من عاداتهم إذا تخاصموا جثوا على الركب.

(ومنها) قول عتيبة بن بجير المازني من شعراء الحماسة:

ومستنبح بات الصدى يستتيهه ... إلى كل صوت فهو في الرحل جانح

فقلت لأهلي ما يغام مطية ... وسارٍ أضافته الكلاب النوابح

فقالوا غريب طارق طوحت به ... متون الفيافي والخطوب الطوارح

وهذا مبني على عادة وهي أن الرجل من العرب كان إذا ضل وتحير في الليل فلم يدر أين البيوت أخرج صوته على مثل النباح فتسمعه الكلاب وتظنه كلباً فتنبح فيستدل بنباحها ويهتدي إلى المكان. ومثله ما أنشده أبو علي القالي في أماليه: ومستنبح بات الصدى يستتيهه ... فتاه وجوز الليل مضطرب الكسر

رفعت له ناراً ثقوباً زنادها ... تليح إلى الساري هلم ال قدري

وأنشد أيضاً في معناه:

ومبدٍ لي الشحناء بيني وبينه ... دعوت وقد طال السرى فدعاني

يعني كلباً نبح له فنبح فاهتدى به فكأنه دعاه بنباحه. والأبيات في هذا المعنى كثيرة لا فائدة من سردها في هذه العجالة. وفي معنى استنبح أيضاً كلب الرجل يكلب من باب ضرب واستكلب أنشد ابن سيده في المخصص على الأول:

وداعٍ دعا بعدما أقفرت ... عليه البلاد ولم بكلب

وأنشد صاحب اللسان على الثاني: ونبح الكلاب لمستكلب:

(ومنها) قول لبيد:

ولقد حميت الحي تحمل شكتي ... فرط وشاحي إذ غدوت لجامها

الفرط بضمتين الفرس المتقدمة السريعة والمعنى أنني توشحت بلجام هذه الفرسوهو مبني على عادة ذكرها التبريزي في شرح المعلقات وهي أن الفرسان كان أحدهم يتوشح لجام فرسه ليكون ساعة يفزع قريباً منه وتوشحه إياه أن يلقيه على عاتقه ويخرج منه يده. ومنه قول زياد بن حمل من شعراء الحماسة:

ليست عليهم إذ يغدون أردية ... إلا جياد قسي النبع واللجم

(ومنها) قول القائل:

قلبت ثيابي والظنون تجول بي ... وترمي برجلي نحو كل سبيل

فلأيا بلأي ما عرفت جليتي ... وأبصرت قصداً لم يصب بدليل

لأن عاداتهم كانت إذا ضل رجل منهم في فلاة قلب قميصه وصفق بيديه كأنه يومي بهما إلى إنسان يزعمون أنه إن فعل ذلك اهتدى. هذا ما تيسر لي جمعه الآن فإن ظفرت بشيء بعد ذلك ألحقته به.

القاهرة // أحمد تيمور