مجلة المقتبس/العدد 63/الفتوى في الإسلام
→ البرجان | مجلة المقتبس - العدد 63 الفتوى في الإسلام [[مؤلف:|]] |
أوغست كونت وفلسفته ← |
بتاريخ: 1 - 5 - 1911 |
تتمة ما ورد في الجزئين الماضيين
حاجة المفتين إلى معرفة العلوم الرياضية
إن هذه العلوم الجليلة - الرياضية - كان عني بها من سلفنا وأئمتنا من لا يزال اسمه كالبدر في السماوات وعمه وآثاره مرجعاً لحل العويصات مثل الحافظ بن حيان صاحب الصحيح وحجة الإسلام الغزالي وفخر الدين الرازي وولي الدين ابن خلدون والإمام ابن رشد وسيف الدين الآمدي والحرالي وابن عبد ربه وابن الصلاح وأبي الصلت الداني الأندلسي والرشيد بن الزبير الأسواني والمبشر بن فاتك الأموي والشيخ السويد والفخر الفارسي والقطب المصري والموفق عبد اللطيف البغدادي وابن البيطار وأفضل الدين الخونجي وشمس الدين الأصفهاني وابن النفيس والقطب الرازي والسيد الشريف الجرجاني وسعد الدين التفتازاني وبدر الدين ابن جماعة وقاضي القضاة الهروي وعلاء الدين البخاري وشهاب الدين ابن المجدي والتقي السبكي ومن لا يحصى من الأئمة كما تراه في طبقات الحكماء وفي حسن المحاضرة للسيوطي وسواهما من تواريخ الأعلام ووفيات الأعيان وكثر من كان فيهم من القضاة والحفاظ والرواة والمتكلمين والمفتين العدول الثقات ولو ضم إليهم غيرهم لبلغ مجلدات كل من عني بهذه العلوم - الرياضية - علم مسيس الحاجة إليها وأدرك موضع الكمال منها فراح بضرب منها بسهم ويخوض منها في بحر.
تخلل كتب الفقه ما لا يحصى من فروع هذه العلوم وكم توقف القضاء والافتاء في النوازل على الإلمام بهذه الفنون.
أليس تحرير سمت القبلة يتوقف على معرفة أصول فن الميقات وكذا تحرير أوقات الصلوات في البلاد على معرفة عروضها وأطوالها المقررة في علمها.
وكذلك حسم المنازعات في مساحة قطع الأرض أو مقادير السقيا من الأنهار أو الدمن يتوقف على فن الهندسة والمقاييس.
وهكذا التقاضي في وقف على بلد من بلاد دولة من الدول معينة ارتيب في كون تلك البلد من حوزتها أو حدودها يتوقف على علم الجغرافيا (تقويم البلدان) فمنه يعلم دخولها في شرط الواقف أو عدم دخولها.
وهكذا أفتى من المحققين غير واحد أن لمن له معرفة بعلم هيئة الفلك أن يعمل بحسابه في صوم رمضان والفطر منه بل أفتى تقي الدين السبكي لما كان قاضي القضاة بدمشق في رسالة سماها (العلم المنشور في إثبات الشهور) إن من شهد برؤية الهلال في رمضان أو ذي الحجة مثلاً ودل الحساب على أنه لا تمكن رؤيته أن تلك الشهادة ترد (قال) لأنه أقوى من الريبة لأنه مستحيل عادة، وبين رحمه الله في هذه الرسالة ما يجب على القاضي من التثبت في ذلك وما ينبغي له من الإلمام بعلم الهيئة والميقات أو تقليد من يثق به في ذلك ليكون على بصيرة مما يقبل من الشهادة في ذلك أو يرد.
ورسالته هذه من أنفس الرسائل المضنون بها.
وبالجملة فحاجيات الفنون الرياضية في الأقضية والأحكام وفي العبادات والمعاملات أوسع من أن يدخلها الحصر ولا غنى للقاضي والمفتي عن الإلمام بها كما أوضحنا.
تحري المفتي في مسائل الطلاق المجمع عليه والأقوى دليلاً
مما يجب على كل مفت - بمعنييه الخاص والعام - أن يتحرى ويتروى ويحتاط في مسائل الطلاق ما أجمع على وقوعه أو قوى الدليل فيه معقولاً أو منقولاً وأما التسرع بالفتوى بحل العصمة لمجرد قول غير مجمع عليه أو المدرك في سواه أو قول الصحب والتابعين رضوان الله عليهم على خلافه - هذا التسرع من الأمور التي جرت الويلات على كثير من العائلات وكم أفضت إلى التحيل بما لا يرضاه الشارع ولا يلتقي مع أصول ملته السمحاء، ومن العجيب أن صور الحلف بالطلاق وأنواع التعاليق فيه التي أفردت لها تآليف خاصة وأفعمت بطون الأسفار لا ترى منها مسألة مرفوعة إلى النبي ﷺ ولا واقعة مأثورة عن الصحب رضوان الله عليهم لأنها مما حدثت بعد قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في بعض فتاويه لما أحدث الحجاج بن يوسف تحليف الناس بأيمان البيعة وهو التحليف بالطلاق والعتاق والتحليف باسم الله وصدقة المال وقيل كان معها التحليف بالحج تكلم حينئذ التابعون ومن بعدهم في هذه الأيمان وتكلموا في بعضها على ذلك فمنهم من قال إذا حنث بها لزمه ما التزمه ومنهم من قال لا يلزمه إلا الطلاق والعتاق ومنهم من قال بل هذا من جنس إيمان أهل الشرك لا يلزم بها شيء ومنهم من قال بل هي من ايمان المسلمين يلزم فيها ما يلزم في سائر ايمان المسلمين واتبع هؤلاء ما نقل في هذا الجنس عن الصحابة وما دل عليه الكتاب والسنة (قال) كما بسط في موضع آخر.
وبالجملة فأهم مسائل الطلاق الآن مسألة الحلف به وبالحرام، والتعليق عليه، وطلاق السكران، وطلاق الغضبان، وجمع الثلاث في كلمة دفعة واحدة، والطلاق في الحيض، ويندرج تحت كل صور شتى يرى الواقف على مذاهب السلف فيها أقوالاً وفتاوى عديدة وقد أسلفنا ما اتفق عليه كلام المحققين من وجوب التحري في المسائل المختلف فيها وبذل الوسع في مسألة القولين لترجيح أحدهما.
ومما يعين المفتي على الترجيح الصحيح مراجعته الكتب التي جمعت أقوال السلف في هذه المسائل وهي المحلى لابن حزم وفتاوى ابن تيمية وكتاب إقامة الدليل على بطلان التحليل له أيضاً وإغاثة اللهفان الكبرى لابن القيم وإغاثة اللهفان الصغرى في طلاق الغضبان لابن القيم أيضاً وزاد المعاد له أيضاً وكذلك مراجعة كتب النوازل في فقه المالكية ومطولات كتب أصحاب الأئمة نفعنا المولى بعلومهم فالواقف عليها يجد من سماحة الإسلام ويسر الدين ورفع الحرج في هذا الباب ما يجعله كله السنة تنطق بحمده تعالى على هذه الرحمة.
حكم تولية طالب الإفتاء
هذا الحكم يعلم بالأولى مما ذكروه في القضاء ومن أحسن ما كتب فيه ما قاله الإمام الماوردي - من كبار أئمة الشافعية - في كتابه الأحكام السلطانية وعبارته:
فأما طلب القضاء وخطبة الولاة عليه فإن كان من غير أهل الاجتهاد فيه كان تعرضه لطلبه محظوراً وصار بالطلب مجروحاً.
وإن كان من أهله على الصفة التي يجوز معها نظره فله في طلبه ثلاثة أحوال (أحدها) أن يكون القضاء في غير مستحقه إما لنقص علمه وإما لظهور جوره فيخطب القضاء دفعاً لمن لا يستحقه ليكون فيمن هو بالقضاء أحق فهذا سائغ لما تضمنه من دفع منكر ثم ينظر فإن كان أكثر قصده إزالة غير المستحق كان مأجورا وإن كان أكثره اختصاصه بالنظر فيه كان مباحاً.
(والحالة الثانية) أن يكون القضاء في مستحقه ومن هو أهله ويريد أن يعزله عنه إما لعداوة بينهما وإما ليجر بالقضاء إلى نفسه نفعاً فهذا الطلب محظور وهو بهذا الطلب مجروح.
(والحال الثالثة) أن لا يكون في القضاء ناظر وهو خال من وال عليه فيراعي حاله في طلبه فإن كان لحاجته إلى رزق القضاء المستحق في بيت المال كان طلبه مباحاً وإن كان رغبة في إقامة الحق وخوفه أن يتعرض له غير مستحق كان طلبه مستحباً فإن قصد بطلبه المباهاة والمنزلة فقد اختلف في كراهية ذلك مع الاتفاق على جوازه فكرهته طائفة لأن طلب المباهاة والمنزلة في الدنيا مكروه قال الله تعالى: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين.
وذهبت طائفة أخرى إلى أن طلبه لذلك غير مكروه لأن طلب المنزلة مما أبيح وقد رغب نبي الله يوسف عليه السلام إلى فرعون في الولاية فقال اجعلني على خزائن الأرض اتي حفيظ عليم فطلب الولاية ووصف نفسه بما يستحقها به من قوله اني حفيظ عليم وفيه تأويلان (أحدهما) حفيظ لما استودعتني عليم بما وليتني وهذا قول عبد الرحمن بن زيد (والثاني) أنه حفيظ للحساب عليم بالألسن وهذا قول اسحق بن سفيان وخرج هذا القول عن حد التزكية لنفسه والمدح لها لأنه كان لسبب دعا إليه انتهى.
اشتراط علم المولي بأهلية من يوليه لصحة التولية
قال الإمام الماوردي: تمام الولاية معتبر بأربعة شروط (أحدها) معرفة المولي للمولى بأنه على الصفة التي يجوز أن يولى معها فإن لم يعلم أنه على الصفة التي تجوز معها تلك الولاية لم يصح تقليده (والشرط الثاني) معرفة المولي بما عليه المولى من استحقاق تلك الولاية بصفاته التي يصير بها مستحقاً لها وأنه قد تقلدها وصار مستحقاً للاستنابة فيها ثم ذكر تتمة الشروط في تولية القضاء مما يدل على اعتبارها فيما هو دون تولية القضاء من الافتاء والتدريس والوعظ والإرشاد والخطابة والإمامة بالأولى ولله در المستوعر الأكبر في قوله:
وما سقطت يوماً من الدهر أمة ... من الذل إلا أن يسود دميمها
إذا ساد فيها بعد ذل لئيمها ... تصدى لها ذل وقد اديمها
وما قادها للخير إلا مجرب ... عليم بإقبال الأمور كريمها
وما كل ذي لب يعاش بفضله ... ولكن لتدبير الأمور حكيمها
وبالجملة فإعطاء كل ذي حق حقه ووضع الأشياء في مواضعها وتفويض الأعمال للقادرين عليها مما يوجب صيانة الحق ويشيد بناء العدل ويحفظ نظام الأمور من الخلل، ويشفي نفوس الأمة من العلل، وهذا مما تحكم به بداهة العقل وهو عنوان الحكمة التي قامت بها السموات والأرض وثبت بها نظام كل موجود، وكل من تتبع تواريخ الأمم وكان بصير القلب علم أنه ما انقلب عرش مجدها إلا لتفويض الاعمال لمن لا يحسن القيام عليها ويض الأشياء في غير مواضعها إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
حكم الاشتراط في الفتوى أن تكون على مذهب معين
يستفاد هذا مما أوضحه الإمام الماوردي في الأحكام السلطانية في القضاء (قال): ويجوز لمن اعتقد مذهب الشافعي رحمه الله أن يقلد القضاء من اعتقد مذهب أبي حنيفة لأن للقاضي أن يجتهد برأيه في قضائه ولا يلزمه أن يقلد في النوازل والأحكام من اعتزى إلى مذهبه، فإذا كان شافعياً لم يلزمه المصير في أحكامه إلى أقاويل الشافعي حتى يؤديه اجتهاده إليها، فإن أداه اجتهاده إلى الأخذ بقول أبي حنيفة عمل عليه وأخذ به.
وقد منع بعض الفقهاء من اعتزى إلى مذهب أن يحكم بغيره لما يتوجه إليه من التهمة والممايلة في القضايا والأحكام وإذا حكم بمذهب لا يتعداه كا ن أنفى للتهمى وأرضى للخصوم (قال الماوردي) وهذا وإن كانت السياسة تقتضيه فأحكام الشرع لا توجبه لأن التقليد فيها محظور والاجتهاد فيها مستحق.
ثم قال: فلو شرط المولي وهو حنفي أو شافعي على من ولاه القضاء أن لا يحكم إلا بمذهب الشافعي أو أبي حنيفة فهذا على ضربين أحدهما أن يشترط ذلك عموماً في جميع الأحكام فهذا شرط باطل سواء كان موافقاً لمذهب المولي أو مخالفاً له، وأما صحة الولاية فإن لم يجعله شرطاً فيها وأخرجه مخرج الأمر أو مخرج النهي وقال: قد قلدتك القضاء فاحكم بمذهب الشافعي رحمه الله على وجه الأمر أو لا تحكم بمذهب أبي حنيفة على وجه النهي كانت الولاية صحيحة والشرط فاسداً سواء تضمن أمراً أو نهياً، ويجوز أن يحكم بما أداه إليه اجتهاده سواء وافق شرطه أو خالفه.
فإن أخرج ذلك مخرج الشرط في عقد الولاية فقال قد قلدتك القضاء على أن لا تحكم فيه إلا بمذهب الشافعي أو بقول أبي حنيفة كانت الولاية باطلة لأنه عقدها على شرط فاسد، وقال أهل العراق تصح الولاية ويبطل الشرط ثم ذكر الضرب الثاني وفصل فيه فانظره وقال الإمام أبو زيد الدبوسي - من أكابر أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله - في كتاب تقويم الأدلة في أواخر باب الاستحسان: وكان الناس في الصدر الأول أعني الصحابة والتابعين والصالحين رضوان الله عليهم أجمعين يبنون أمورهم على الحجة فكانوا يأخذون بالكتاب ثم بالسنة ثم بأقوال من بعد رسول الله ﷺ ما يصح بالحجة فكان الرجل يأخذ بقول عمر رضي الله عنه في مسألة ثم يخالفه بقول علي رضي الله عنه في مسألة أخرى، وقد ظهر من أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله أنهم وافقوه مرة وخالفوه أخرى على حسب ما تتضح لهم الحجة، لم يكن المذهب في الشريعة عمريا ولا علويا بل النسبة كانت إلى رسول الله ﷺ فقد كانوا قروناً اثنى عليهم رسول الله صلى الله عليهم وسلم بالخير فكانوا يرون الحجة لا علماءهم ولا نفوسهم فلما ذهب التقوى من عامة القرن الرابع وكسلوا عن طلب الحجج جعلوا علماءهم حجة واتبعوهم فصار بعضهم حنفياً وبعضهم مالكياً وبعضهم شافعياً ينصرون الحجة بالرجال ويعتقدون الصحة بالميلاد على ذلك المذهب ثم كل قرن اتبع عليه كيفما أصابه بلا تمييز حتى تبدلت السنن بالبدع فضل الحق بين الهوى كلام الإمام أبي زيد وللبحث مقدمة مدهشة فليرجع إليها وقد نقل نحواً من ذلك شيخ الصوفية محيي الدين ابن عربي في الباب الثامن عشر وثلثمائة من الفتوحات المكية في معرفة منزل نسخ الشريعة المحمدية وغير المحمدية بالأغراض النفسية عافانا الله وإياك من ذلك فليتدبر من يحب الإنصاف.
الحسبة على المفتين وأمثالهم
قال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين فمن صلح للفتيا أقره، ومن لا يصلح منعه ونهاه أن يعود وتوعده بالعقوبة إن عاد، وطريق الأمام إلى معرفة من يصلح للفتوى أن يسأل علماء وقته ويعتمد أخبار الموثوق بهم انتهى.
وقال الإمام الماوردي في الأحكام السلطانية: وإذا وجد - المحتسب - من يتصدى لعلم الشرع وليس من أهله من فقيه أو واعظ ولم يأمن اغترار الناس به في سوء تأويل أو تحريف أنكر عليه التصدي لما هو ليس من أهله وأظهر أمره لئلا يغتر به.
وقال ابن القيم: من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم عاص قال أبو الفرج ابن الجوزي: ويلزم ولي الأمر منعهم وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس بل هؤلاء أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين قال وكان شيخنا شديد الإنكار على هؤلاء فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: اجعلت محتسباً على الفتوى: فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب انتهى.
دلالة العالم للمستفتي على غيره
قال ابن القيم: هذا موضع خطر جداً فلينظر الرجل إلى من يدل عليه وليتق الله فإنه إما معين على الإثم والعدوان وإما معين على البر والتقوى وقد سأل الحافظ أبو داود - صاحب السنن - الإمام أحمد عن رجل يسأله عن مسألة فيدله على من يسأله فقال: إذا كان يعني الذي أرشده إليه متبعاً ويفتي بالسنة:
وذكر بعد ورقات أنه إذا علم أن السائل يدور على من يفتيه بغرضه في تلك المسألة فيجعل استفتاءه تنفيذاً لغرضه لا تعبداً لله بأداء حقه فلا يسعه أن يدله على غرضه أين كان بل أن علم المفتي فيها نصاً عن الله ورسوله فلا يسعه تركه إلى غرض السائل وإن كانت من المسائل الاجتهادية ولم يترجح له قول لم يسغ له أن يترجح لغرض السائل وهذه المسألة جديرة بالمحافظة عليها وليرجع إلى تتمتها في كلامه.
هل يقول المفتي في المسألة قولان ونوادر في ذلك
قال الإمام ابن القيم في الأعلام: لا يجوز للمفتي تخيير السائل وإلقاؤه في الإشكال والحيرة بل عليه أن يبين بياناً مزيلاً للإشكال متضمناً لفصل الخطاب ولا يكون كالمفتي الذي سئل عن مسألة في المواريث فقال: يقسم بين الورثة على فرائض الله عز وجل: وكتبه فلان:
وسئل آخر عن صلاة الكسوف فقال: تصلي على حديث عائشة.
وسئل آخر عن مسألة من الزكاة فقال: أما أهل الايثار فيخرجون المال كله وأما غيرهم فيخرج القدر الواجب عليه.
وسئل آخر عن مسألة فقال: فيها قولان، ولم يزد.
قال أبو محمد ابن حزم وكان عندنا مفت إذا سئل عن مسألة لا يفتي فيها حتى يتقدمه من يكتب فيكتب هو: جوابي فيها مثل جواب الشيخ، فقدر أن مفتيين اختلفا في جواب فكتب تحت جوابهما: جوابي مثل جواب الشيخين، فقيل له أنهما قد تناقضا فقال: وأنا أتناقض كما تناقضا.
قال ابن القيم: وكان في زماننا رجل مشار إليه بالفتوى وهو مقدم في مذهبه وكان نائب السلطان يرسل إليه في الفتاوى فيكتب: يجوز كذا أو يصح كذا أو ينعقد كذا بشرطه، فأرسل إليه يقول: فأتينا فتاوى منك فيها: يجوز أو ينعقد أو يصح بشرطه نحن لا نعلم شرطه فإما أن تبين شرطه وإما أن لا تكتب ذلك قال وسمعت شيخنا - ابن تيمية - يقول: كل أحد يحسن أن يفتي بهذا الشرط وهذا ليس بعلم ولا يفيد سوى حيرة السائل وتنكده.
(وكذلك) قول بعضهم في فتاويه: يرجع في ذلك إلى رأي الحاكم: قال فياسبحان الله: لو كان الحاكم شريحا وأشباهه لما كان مرد أحكام الله ورسوله إلى رأيه فضلاً عن حكام زماننا والله المستعان.
وسئل بعضهم عن مسألة فقال: فيها خلاف: فقيل: كيف يعمل المفتي (فقال) يختار له القاضي أحد المذهبين.
قال عمرو بن الصلاح كنت عند أبي السعادات ابن الأثير الجزري فحكى لي عن بعض المفتين أنه سئل عن مسألة فقال: فيها قولان فأخذ يزري عليه وقال: هذا حيد عن الفتوى ولم يخلص السائل من عمايته ولم يأت بالمطلوب، وللبحث تتمة فليرجع إليه في كلامه رحمه الله.
أجناس الفتيا التي ترد على المفتين
قال الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين: المفتي إذا سئل عن مسألة فإما أن يكون قصد السائل فيها معرفة حكم الله ورسوله ليس إلا، وإما أن يكون قصده معرفة ما قاله الإمام الذي شهر المفتي نفسه باتباعه وتقليده دون غيره من الأئمة، وإما أن يكون مقصود، معرفة ما ترجح عند ذلك المفتي وما يعتقده فيها لاعتقاده علمه ودينه وأمانته فهو يرضى بتقليده هو وليس له غرض في قول أمام بعينه، فهذه أجناس الفتيا التي ترد على المفتين.
فغرض المفتي في القسم الأول أن يجيب بحكم الله ورسوله إذا عرفه وتيقنه لا يسعه غير ذلك.
أما في القسم الثاني فإذا عرف قول الإمام بنفسه وسعه أن يخبر به ولا يحل له أن ينسب إليه القول ويطلق عليه أنه قوله بمجرد ما يراه في بعض الكتب التي حفظها أو طالعها من كلام المنتسبين إليه فإنه قد اختلطت أقوال الأئمة وفتاويهم بأقوال المنتسبين إليهم واختياراتهم فليس كل ما في كتبهم منصوصاً عن الأئمة بل كثير منه يخالف نصوصهم، وكثير منهم لا نص لهم فيه، وكثير منهم يخرج على فتاويهم، وكثير منهم أفتوا به بلفظه أو بمعناه.
فلا يحل لأحد أن يقول هذا قول فلان ومذهبه إلا أن يعلم يقيناً أنه قوله ومذهبه فما أعظم خطر المفتي وأصعب مقامه بين يدي الله تعالى.
وأما القسم الثالث فإنه يسعه أن يخبر المستفتي بما عنده في ذلك مما يغلب على ظنه أنه الصواب بعد بذل جهده واستفراغ وسعه ومع هذا فلا يلزم المستفتي الأخذ بقوله وغايته أنه يسوغ له الأخذ به، فلينزل المفتي نفسه في منزلة من هذه المنازل الثلاث وليقم بواجبها فإن الدين دين الله والله سبحانه لا بد سائله عن كل ما أفتى به والله المستعان.
ولا يخفى أن في القسم الأول ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص بل هو اللازم ما أمكنه فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام وقد كان هو عصمة الصحابة واصلهم الذي يرجعون إليه وقد أسهب في ذلك بما لا يستغنى عنه فليراجع.
استعانة المفتي بمراجعة كتب المذاهب واختلاف الأئمة
في جمع الجوامع وشرحه ونرى أن الشافعي ومالكاً وأبا حنيفة والسفيانيين الثوري وابن عيينة وأحمد ابن حنبل والاوزاعي واسحق ابن راهويه وداود الظاهري وسائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم في العقائد وغيرها وقال الشعراني في الميزان وقد أجمعوا على أنه لا يسمى أحد عالماً إلا أن بحث عن منازع أقوال العلماء وعرف من أين أخذوها من الكتاب والسنة: وقال إن الشريعة كالشجرة العظيمة المنتشرة وأقوال علمائها كالفروع والأغصان وقال إن الشريعة المطهرة جاءت شريعة سمحة واسعة شاملة قابلة لسائر أقوال أئمة الهدى من هذه الأمة المحمدية وأن كلا منهم فيما هو عليه في نفسه على بصيرة من أمره وعلى صراط مستقيم وأن اختلافهم إنما هو رحمة بالأمة وقال نقلاً عن الإمام الزركشي في آخر كتاب القواعد له ما مثاله: إن مطلوب الشرع الوفاق ورد الخلاف إليه ما أمكن كما عليه عمل الأئمة من أهل الورع والتقوى كابي محمد الجويني وإضرابه فإنه صنف كتابه المحيط ولم يلتزم فيه المشي على مذهب معين انتهى ثم قال الشعراني، وقد بلغنا أنه كان يفتي الناس بالمذاهب الأربعة الشيخ الإمام الفقيه المحدث المفسر الأصولي الشيخ عبد العزيز الديريني وشيخ الإسلام عز الدين ابن جماعة المقدسي والشيخ العلامة الشيخ شهاب الدين البرلسي والشيخ علي النبتيتي الضرير، ونقل الشيخ الجلال السيوطي رحمه الله عن جماعة كثيرة من العلماء أنهم كانوا يفتون الناس بالمذاهب الأربعة لا سيما العوام الذين لا يتقيدون بمذهب ولا يعرفون قواعده ولا نصوصه ويقولون حيث وافق فعل هؤلاء العوام قول عالم فلا بأس به انتهى وذكر التاج السبكي في طبقات الشافعية في ترجمة إمام الحرمين ما مثاله والإمام لا يتقيد بالأشعري ولا بالشافعي لا سيما في البرهان وإنما يتكلم على حسب تأدية نظره واجتهاده: وذكر في ترجمة أبيه الجويني أنه ألف كتاباً سماه المحيط لم يتقيد فيه بمذهب وأنه التزم أن يقف على مورد الأحاديث لا يتعداها ويتجنب جانب العصبية للمذاهب: كما قدمه الشعراني، وذكر في ترجمة ابن جرير أن المحمديين الأربعة - ابن جرير وابن خزيمة وابن نصر وابن المنذر كانوا يذهبون مع اجتهادهم المطلق وكان كل منهم مجتهداً مطلقاً لا يقلد أحداً ولهم من الاختيارات ما دونه السبكي في تراجمهم وهذا باب يطول استقصاؤه وقد عد السيوطي في حسن المحاضرة من المجتهدين في مصر وحدها ما أضاف على السبعين فيكيف بغيرها وكل من هؤلاء إنما كان يفتي بما يؤديه اجتهاده وكان يتفق لكثير من هؤلاء وأمثالهم من جمع الكتب المنوعة للاستفادة بما فيها ما يدهش وقد حكى السبكي في طبقاته في ترجمة الإمام عبد السلام ابن بندار أنه دخل إلى بغداد من مصر ومما معه عشرة جمال عليها كتب بالخطوط المنسوبة في فنون العلم وقال الشعراني أيضاً: إن كل مقلد اطلع على عين الشريعة المطهرة - أدلتها - لا يؤمر بالتقيد بمذهب واحد وربما لزم المذهب الأحوط في الدين مبالغة منه في الطاعة، وإلى نحو ما ذكرناه أشار الإمام الأعظم أبو حنيفة رضي الله عنه بقوله، ما جاء عن رسول الله ﷺ بأبي هو وأمي فعلى الرأس والعين وما جاء عن أصحابه تخيرنا وما جاء عن غيرهم فهم رجال ونحن رجال، ثم قال إذا علمت ذلك فيقال لكل مقلد امتنع عن العمل بقول غير إمامه في مضايق الأحوال امتناعك هذا تعنت لا ورع لإنك تقول لنا أنك تعتقد أن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم لاغتراف مذاهبهم من عين الشريعة ثم قال وكان الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى يقول: لم يبلغنا عن أحد من الأئمة أنه أمر أصحابه بالتزام مذهب معين لا يرى خلافه وما ذلك إلا لأن كل مجتهد مصيب، وكان الزناتي من أئمة المالكية يقول: يجوز تقليد كل من أهل المذاهب في النوازل، وقد أطال الشعراني في هذا البحث وأجاد والقصد أن توسع المفتي في مراجعة مذاهب الأئمة وأقوالهم مما يعينه على الأقوى والأرجح في النازلة، إذ ليس الحق وقفا على مذهب أو كتاب وبالجملة فلا سبيل للوقوف على الضالة المنشودة إلا بتتبع مطاوي الكتب وخبايا الأسفار، وبمقدار رفع الهمة في ذلك بمقدار تنور الأفكار، قال العلامة العطار في حواشيه على شرح جمع الجوامع من تأمل ما ذكره من تصدى لتراجم الأئمة الأعلام علم أنهم كانوا مع رسوخ قدمهم في العلوم الشرعية والأحكام الدينية لهم اطلاع عظيم على غيرها من العلوم وإحاطة تامة بكلياتها وجزئياتها حتى في كتب المخالفين في العقائد والفروع يدل على ذلك النقل عنهم في كتبهم والتصدي لدفع شبههم وأعجب من ذلك تجاوزهم إلى النظر في كتب غير الإسلام قال فإني وقفت على مؤلف للقرافي رد فيه على اليهود شبهاً أوردوها على الملة الإسلامية لم يأت في الرد عليهم إلا بنصوص التوراة وبقية الكتب السماوية حتى يظن الناظر في كتابه أنه كان يحفظها عن ظهر قلب ثم هم مع ذلك ما أخلوا في تثقيف ألسنتهم وترقيق طباعهم من رقائق الأشعار ولطائف المحاضرات، ثم قال ومن نظر فيما انتهى إليه الحال في زمن وقعنا فيه علم أن نسبتنا إليهم كنسبة عامة زمانهم فإن قصارى أمرنا النقل عنهم بدون أن نخترع شيئاً من عند أنفسنا، وليتنا وصلنا إلى هذه المرتبة بل اقتصرنا على النظر في كتب محصورة ألفها المتأخرون المستمدون من كلامهم نكررها طول العمر ولا تطمح نفوسنا إلى النظر في غيرها حتى كأن العلم انحصر في هذه الكتب فلزم من ذلك أنه إذا ورد علينا سؤال من غوامض علم الكلام تخلصنا عنه بأن هذا كلام الفلاسفة ولا ننظر فيه أو مسألة أصولية قلنا لم نرها في جمع الجوامع فلا أصل لها أو نكتة أدبية قلنا هذا من علوم أهل البطالة وهكذا فصار العذر أقبح من الذنب، وإذا اجتمع جماعة منا في مجلس فالمخاطبات مخاطبات العامة والحديث حديثهم، فإذا جرى في المجلس نكتة أدبية ربما لا نتفطن لها وإن تفطنا لها بالغنا في إنكارها والإغماض عن قائلها إن كان مساوياً، وإيذائه بشناعة القول إن كان أدنى ونسبناه إلى عدم الحشمة وقلة الأدب، وأما إذا وقعت مسألة غامضة من أي علم كان عند ذلك تقوم القيامة وتكثر القالة ويتكدر المجلس وتمتلئ القلوب بالشحناء وتغمض العيون على القذى، فالمرموق بنظر العامة الموسوم بما يسمى العلم إما أن يتستر بالسكوت حتى يقال أن الشيخ مستغرق أو يهذو بما تمجه الاسماع، وتنفر عنه الطباع.
وقالوا سكرنا بحب الآلة ... وما أسكر القوم إلا القصع
فحالنا الآن كما قال ابن الجوزي في مجلس وعظه ببغداد
مافي الديار أخو وجد نطارحه ... حديث نجد ولا خل نجاريه
وهذه نفثة مصدور فنسأل الله السلامة واللطف كلام العطار وموضع الاستشهاد منه تأسفه على الاقتصار على ما في الأيدي من الأسفار مع أن الدواء الناجع هو التنقيب عما خبأته أيدي السلف من جواهر العلم ونفائس الفوائد وبالله التوفيق.
أعراض المفتي عن المقلد الخصم
المقلد هو الذي لا يصل فهمه إلى درك الدليل أو لا يريد أن يصل، أقعدته الفطرة عن اللحاق بأولي العلم، أو قنع بالتخلف عن السباق مع إبطال النظر وأقطاب الفهم، فلما ماتت قوته النظرية كان قصاراه أن يقف مع قول مفتيه، ويجرع من الكاس الذي يسقيه، فإذا تحكك بالدليل، وأخذ يخوض مع الإبطال في القال والقيل، دل على تطفله، وفضوله وتمحله وتعديه طوره، ومجاوزته قدره فلهذا يجب الإعراض عنه، وأن تحجب مخدرات المناظرة منه ولما ابتلي الأئمة قديماً بالمقلدة المماحكين، وضعوا لدرء جدلهم قوانين، قال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه وأرضاه في كتابه فيصل التفرقة وشرط المقلد أن يسكت ويسكت عنه لأنه قاصر عن سلوك طريق الحجاج ولو كان أهلاً له كان مستتبعاً لا تابعاً وإماماً لا مأموماً، فإن خاض المقلد في المحاجة فذلك منه فضول، والمشتغل به صار كضارب في حديد بارد، وطالب لصلاح الفاسد وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر وقال رضي الله عنه في إحياء علوم الدين في الباب الرابع من أبواب العلم في مباحث المناظرة وتلبيس المناظرين ما مثاله: اعلم أن هؤلاء قد يستدرجون الناس إلى ذلك بأن غرضنا من المناظرات المباحثة عن الحق ليتضح فإن الحق مطلوب والتعاون على النظر في العلم وتوارد الخواطر مفيد ومؤثر هكذا كانت عادة الصحابة رضي الله عنهم في مشاوراتهم ثم قال ويطلعك على هذا التلبيس ما أذكره وهو أن التعاون على طلب الحق من الدين ولكن له شروط وعلامات ثمان (إلى أن قال) الثالث أن يكون المناظر مجتهداً يفتي برأيه لا بمذهب الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما حتى إذا ظهر له الحق من مذهب أبي حنيفة ترك ما يوافق رأي الشافعي وأفتى بما ظهر له كما كان يفعله الصحابة رضي الله عنهم والأئمة فأما من ليس له رتبة الاجتهاد وإنما يفتي فيما يسأل عنه نافلا عن مذهب صاحبه فلو ظهر له ضعف مذهبه لم يتركه فأي فائدة له في المناظرة ومذهبه معلوم وما يشكل عليه يقول لعل عند صاحب مذهبي جواباً عن هذا فإنى لست مستقلاً بالاجتهاد.
وقال رضي الله عنه أيضاً في كتاب آداب تلاوة القرآن في أسباب موانع الفهم الأربعة ما مثاله في الثاني (ثانيها) أن يكون مقلداً لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة فهذا شخص قيده معتقده عن أن يجاوزه فلا يمكنه أن يخطر بباله غير معتقده فصار نظره موقوفا على مسموعه، فإن لمع برق على بعد وبدا له معنى من المعاني التي تباين مسموعه حمل عليه شيطان التقليد حملة وقال كيف يخطر هذا ببالك وهو خلاف معتقد آبائك فيرى أن ذلك من غرور الشيطان فيتباعد منه ويحترز عن مثله ولمثل هذا قالت الصوفية: إن العلم حجاب: وأرادوا بالعلم العقائد التي استمر عليها أكثر الناس بمجرد التقليد أو بمجرد كلمات جدلية حررها المتعصبون للمذاهب وأتقوها إليهم انتهى.
وما أجمل قول الجاحظ عليه الرحمة: التقليد مرغوب عنه في حجة العقل منهي عنه في القرآن، نصراؤه قد عكسوا الأمور كما ترى ونقضوا العادات وذلك أنا لا نشك أن من نظر وبحث وقابل ووزن أحق بالتبين وأولى بالحجة انتهى.
ما على المفتي إذا عرف الحق
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب الإيمان، اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز تقليد أحد في خلافه وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على الاستدلال.
وإن كان عاجزاً عن إظهار الحق الذي يعلمه فهذا يكون كمن عرف أن دين الإسلام حق وهو بين النصارى فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق لا يؤاخذ بما عجز عنه.
وإما إن كان المتبع للمجتهد عاجزاً عن معرفة الحق على التفصيل وقد فعل ما يقدر عليه مثله من الاجتهاد في التقليد فهذا لا يؤاخذان اخطأ كما في القبلة.
وأما أن قلد شخصاً دون نظيره بمجرد هواه ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق فهذا من أهل الجاهلية وإن كان متبوعه مصيباً لم يكن عمله صالحاً وإن كان متبوعه مخطئاً كان آثماً وهؤلاء من جنس مانع الزكاة ومن عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة فإن ذلك لما أحب المال حباً منعه عن عبادة الله وطاعته صار عبداً له وكذلك هؤلاء فيكون فيه شرك أصغر ولهم من الوعيد بحسب ذلك وفي الحديث أن يسير الرياء شرك كلامه عليه الرحمة.
تورع المفتي عن التضليل والتكفير
مما يزين العالم كبر عقله وشدة رزانته وحصافة لبه، ومما يشينه ويزريه طيشه وحمقه وخفته وتسرعه فتراه بذلك يهوي من حالق وإن ناطح الجوزاء بعرفانه بحق أو بغير حق.
فبحفظ اللسان صيانة الإنسان وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم.
قال حجة الإسلام الغزالي في فيصل التفرقة، إذا رأيت الفقيه الذي بضاعته مجرد الفقه يخوض في التكفير والتضليل فاعرض عنه ولا تشغل به قلبك ولسانك فإن التحدي بالعلوم غريزة في الطبع لا يصبر عنه الجهال ولأجله كثر الخلاف بين الناس ولو ينكث من الأيدي من لا يدرى لقل الخلاف بين الخلق.
(وقال) رضي الله عنه أيضاً، واعلم أنه لا تكفير في الفروع أصلاً إلا في مسألة واحدة وهي أن ينكر أصلاً دينياً علم من الرسول ﷺ بالتواتر (ثم قال) ولو أنكر ما ثبت بأخبار الآحاد فلا يلزمه به الكفر ولو أنكر ما ثبت بالإجماع فهذا فيه نظر لأن معرفة كون الإجماع حجة أصلاً فصار كون الإجماع مختلفاً فيه.
وقال أيضاً ولا يلزم كفر المأولين ما داموا يلازمون قانون التأويل وكيف يلزم الكفر بالتأويل وما من فريق من أهل الإسلام إلا وهو مضطر إليه.
وقال أيضاً كأن كل واحد لا يرضى بما ذكره الخصم ولا يراه دليلاً قاطعاً وكيفما كان فلا ينبغي أن يكفر كل فريق خصمه.
وكتابه رضي الله عنه هذا فيصل التفرقة مما يهم كل نبيه مراجعته ومطالعته فلم يؤلف في موضوعه مثله.
وقال الإمام ابن حزم في الفصل في الكلام فيمن يكفر ولا يكفر ما مثاله: اختلف الناس في هذا الباب إلى أن قال وذهبت طائفة إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا وإن كل من اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى أنه الحق فإنه مأجور على كل حال إن أصاب الحق فأجران وإن أخطأ فأجر واحد وهذا قول ابن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري وداود بن علي رضي الله عنهم إلى أن قال والحق هو أن كل من ثبت له عقد الإسلام فإنه لا يزول عنه إلا بنص أو إجماع، وأما بالدعوى والافتراء فلا إلى أن قال وأما من كفر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ لأنه كذب على الخصم وتقويل له ما لم يقل به وإن لزمه فلم يحصل على غير التناقض فقط والتناقض ليس كفراً.
وتتمة البحث من نفائس العلم فليرجع إليها.
اتقاء المفتي التسرع في دعوى الإجماع
كثيراً ما يمر بمطالع كتب الفقه دعوى الإجماع في بعض المسائل أو النوازل ولا سند له إلا عدم العلم بالمخالف فيأتي سير التقليد فينقله على اعتقاد أنه مجمع عليه مع أن الواجب عليه أما التنقيب جهده في سائر بطون الكتب الفروعية وأسفار الخلاف حتى يسقط على الحقيقة في دعوى الإجماع أو يحذف كلمة الإجماع من نقله وعزوه فقد ظهر فيما يحصى من المسائل المدعى فيها الإجماع أن وراءها خلافاً في مذاهب أخرى بل في كتب منتشرة قد لا تخلو خزانة عالم منها، وما ألطف قول شمس الدين الأصفهاني - من كبار أئمة الشافعية - في شرح الحصول، الحق تعذر الاطلاع على الإجماع إلا إجماع الصحابة حيث كان المجمعون وهم العلماء منهم في قلة وأما الآن ويعد انتشار الإسلام وكثرة العلماء فلا مطمع للعلم به قال وهو اختيار الإمام أحمد مع قرب عهده من الصحابة وقوة حفظه وشدة اطلاعه على الأمور النقلية قال والمنصف يعلم أنه لا خبر له من الإجماع إلا ما يجده مكتوباً في الكتب ومن البين أنه لا يحصل الاطلاع عليه إلا بالسماع منهم أو ينقل أهل التواتر إلينا ولا سبيل إلى ذلك إلا في عصر الصحابة وأما من بعدهم فلا انتهي كلام الأصفهاني.
ووجه الاتقاء والتورع في دعوى الإجماع في بعض الأحكام هو أن الإجماع - على ما عرفه الأصوليون - اجتماع علماء المسلمين على حكم من الأحكام: ولذا قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية: وأما قول بعض الأئمة كالفقهاء الأربعة وغيرهم فليس حجة لازمة ولا إجماعاً باتفاق المسلمين بل قد ثبت عنهم رضي الله عنهم أنهم نهوا الناس عن تقليدهم وأمروهم إذا رأوا قولاً في الكتاب أو السنة أقوى من قولهم أن يأخذوا بما دل عليه الكتاب والسنة ويدعوا أقوالهم ولهذا كان الأكابر من أتباع الأئمة الأربعة لا يزالون إذا ظهر لهم دلالة الكتاب والسنة على ما يخالف قول متبوعهم اتبعوا ذلك انتهى وفي معالم الأصول، إذا أفتى جماعة ولم يعلم لهم مخالف فليس إجماعاً قطعاً إذ لا يعلم أن الباقي موافقون ولا يكفي عدم علم خلافهم فإن الإجماع هو الوفاق لا عدم علم الخلاف انتهى.
وقال حجة الإسلام الغزالي في كتابه فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة وأما ما يستند إلى الإجماع فدرك ذلك من أغمض الأشياء إذ شرطه أن يجتمع أهل الحل والعقد في صعيد واحد على أمر واحد اتفاقاً بلفظ صريح ثم يستمروا عليه مرة عند قوم وإلى انقراض العصر عند قوم ومن هذا علم حد الإجماع (وقال أيضاً) وإنما يعرف ذلك - مواضع الإجماع - من مطالعة الكتب المصنفة في الاختلاف والإجماع للسلف ثم لا يحصل العلم في ذلك بمطالعة تصنيف ولا تصنيفين إذ لا يحصل تواتر الإجماع به (قال) وقد صنف أبو بكر الفارسي رحمه الله كتاباً في مسائل الإجماع وأنكر عليه كثير منه وخولف في بعض تلك المسائل (قال) فإذن من خالف الإجماع ولم يثبت عنده بعد فهو جاهل مخطئ وليس بمكذب فلا يمكن تكفيره والاستقلال بمعرفة التحقيق في هذا ليس بيسير انتهى كلام حجة الإسلام نفعنا المولى بعلومه.
المفتي والعالم بإزاء ما ينبزه بالألقاب
إن العالم لما أخذ الله عليه الصدع بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن لا يخاف في الله لومة لائم كان معرضاً من أعداء أنفسهم وعبيد أهوائهم للشنان والنبز وبالألقاب فتراهم أن وجدوه يميل للنظر في الأدلة على الأحكام والوقوف على مآخذ المذاهب والأقوال وتحري الأقوم والأصلح بدون تعصب لإمام ولا تحزب لآخر نبزوه بالاجتهاد وسموه (مجتهداً) تهكماً مع أنه بذلك لم يقم إلا بواجبه، وإن أبصروا ميله لعلوم الحكمة والرياضيات وتشويقه لاقتطاف ثمارها سموه (طبيعياً) وإن رأوا حثه على البذل والإنفاق في سبيل الله ودعواه الموسرين للعطف على البؤساء لقبوه (اشتراكياً) وإن سمعوه يتكلم في الزيارة المشروعة وينهى عما أحدث فيها أو يتكلم على أنواع الشرك المقررة في السنة أو يزجر عن الغلو في الصالحين دعوه (وهابياً) إلى غير ذلك من أفانين أقوالهم ونبزهم بالألقاب لكل من لا يمالئهم على ميولهم ولا يسايرهم على أهوائهم، ولهم في كل عصر تلقيب جديد ونبز مبتدع.
العالم الحكيم لا يأبه لهذه الألقاب إذا صدع بالحق ولا تحزنه بل يعيرها إذناً صما لأنه يجري على ما يوجبه دينه، ويفرضه عليه يقينه، وهو ما يرضي ربه وخالقه تعالى فإن رضاء الناس غاية لا تدرك وإنى للعاقل إرضاء أهواء متباينة ومنازع متناقضة.
ما ألذَّ الألقاب التي تتنوع على المصلح وهو ساع إلى خير قومه وما أوجب الترحيب بها والابتسام لها فإن أمامه من الأنبياء ووارثيهم ما يعزيه ويسليه وكفى بهم أسوة وما أصدق قول ورقة بن نوفل للنبي ﷺ: أنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به الأعودي: رواه البخاري.
الثبات على تحمل المشاق والصبر الجميل من الواجبات المحتمة على كل داع إلى حق والصدمات التي يجدها البطل المقدام يجب أن تقابل بثبات الجأش وأن تكون كلما تجددت باعثةً على تجدد القوى ومواصلة العمل والسير ولذلك قرن تعالى في كتابه الحكيم التواصي بالحق بالتواصي بالصبر وصدق الله العظيم.
خوض بعض المفتين في التلفيق
مسألة التلفيق من غرائب المسائل المحدثة المفرعة على القول بلزوم التمذهب للعاميّ وهوقول لا يعرفه السلف ولا أئمة الخلف وقد اتفقت كلمتهم على أن العامي لا مذهب له ومذهبه مذهب مفتيه.
ترى الفقيه من القرون المتأخرة لو سئل عن رجل مسح بعض رأسه أقل من ربعه في وضوئه ثم خرج منه دم وصلى يجيبك بأن صلاته باطلة لأن عبادته ملفقة من مذهبين فخرج منها قول لا يقول به أحد هذا قصارى جوابه في فتواه ومبلغ عمله على دعواه مع أنه لو فرض أنها حدثت في القرون الأولى وسئل عنها مفت سلفي لكان نظره في صحتها أو فسادها إلى الدليل المبيح لها أو الحاظر ولا يمكن أن يتصور أن يقول له: عملك هذا ملفق أو هذا تلفيق وإنما يأمره بالفعل أو بالترك استدلالاً أو استنباطاً فحسب، ولذلك لم يسمع لفظ التلفيق في كتب الأئمة لا في مواطآتهم ولا في أمهاتهم بل ولا في كتب أصحابهم ولا أصحاب أصحابهم ولا يبعد أن يكون حدوث البحث في التلفيق في القرن الخامس أيام اشتد التعصب والتحزب ودخلت السياسة في التمذهب، واضطر الفقهاء للاعتياش والارتياش إلى التشدد في ذلك والتصلب، فمسألة التلفيق إذن من مسائل الفروع ولا دخل لها في الأصول فإن مسائل الأصول هي مباحثه التي يستمد منها معرفة الاستنباط والاستنتاج مما لأجله سمي الأصول أصولاً فمن أين أن يعد منها التلفيق الذي لم يخطر على بال أحد في القرون الأولى ولا سمع به.
اتسع أمر التأليف في القرون المتأخرة وأدخل في كل فن ما ليس منه بل امتلأ مثل الفقه من الفرضيات أضعاف أضعاف الواقعيات فلو وازنت بين أسلوب المتقدم والمتأخر في أي فن لدهشت من تباينهما عجباً فكانت كتب المتقدمين لا تخرج عن موضوع الفن قيد شبر حتى استفحل الأمر في التأليف وجرى من جرائه ما نعاه غير واحد من الحكماء وقد ألم بشيء من ذلك القاضي ابن خلدون في مقدمة تاريخه.
والمقام لا يتسع لبسط هذا البحث الذي تتجاذبه أمور عديدة لمعرفة منشأه من اختلاف السياسة ودخول عوائد الأمة الغالبة على المغلوبة قسراً وتبدل المناحي والمطالب في تلقي العلم والتوسل لنيله فاختلط جيد الكتب بغيره وتبدلت العادات بغيرها وصارت المراتب والمناصب وقفاً على هذا السبيل لا تنال بغيره فتبعها ضرورة أمر التأليف فجرى على سنتها ومنهاجها وصار التمذهب أصلاً راسخاً وتعددت لأجله الفرق الإسلامية كل يدعو لإمام ورائده السياسة والسيادة فنشأ ما نشأ وتولد ما تولد مما لا عهد للسلف به بل بينه وبين سيرهم الأول بعد المشرفين برف ذلك كله من دقق في فلسفة التاريخ واستقرأ قواعد الفاتحين وأصول الدول واستكنه رجالها وحلية العصر والمصر في كل مملكة وجيل وقد بسطناه في مقالة خاصة والقصدان التلفيق الذي يبحث عنه المأخرون ينبغي للمفتي إذا استفتي عن مسألة منه أن ينظر إلى مأخذها من الكتاب أو السنة أو مدركها المعقول منها وإما تسرعه إلى القول بالتلفيق بطلاناً أو قبولاً فعدول عن مهيع السلف على أن ما يسمونه بعد تلفيقاً بقطع النظر عما ذكرنا في شأنه ربما رجع إلى نوع الرخص التي يحب الله أن تؤتى وللشيخ مرعي الحنبلي - أحد فقهاء الحنابلة المشاهير - رسالة في جواز التلفيق للعوام وهي رسالة نفيسة قال: لأن العلماء نصوا على أن العامة ليس لهم مذهب معين (قال) وقد قال غير واحد لا يلزم العامي أن يتمذهب بمذهب معين كما لم يلزم في عصر أوائل الأمة (قال) والذي أذهب إليه واختاره القول بجواز التقليد في التلفيق لا بقصد تتبع ذلك بل من حيث وقع ذلك اتفاقاً خصوصاً من العوام الذين لا يسعهم غير ذلك (إلى أن قال) ولا يسع الناس غير هذا ويؤيده أنه في عصر الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم مع كثرة مذاهبهم وتباينهم لم ينقل عن أحد منهم أنه قال لمن استفتاه الواجب عليك أن تراعي أحكام مذهب من قلدته لئلا تلفق في عبادتك بين مذهبين فأكثر بل كل من سئل منهم عن مسألة أفتى السائل بما يراه مجيزاً له العمل من غير فحص ولا تفصيل ولو كان ذلك لازماً لما أهملوه خصوصاً مع كثرة تباين أقوالهم انتهى.
وقال العلامة الدسوقي - من فقهاء المالكية في مصر - في حواشيه على شرح خليل في بحث الفتوى من خطبة الكتاب ما مثاله وفي كتاب الشبرخيتي امتناع التلفيق والذي سمعناه من شيخنا نقلاً عن شيخه الصغير وغيره أن الصحيح جوازه وهو فسحة (قال الدسوقي) وبالجملة ففي التلفيق في العبادة الواحدة من مذهبين طريقتان المنع وهو طريقة المصاروة والجواز وهو طريقة المغاربة ورجحت انتهى.
وقال ابن الهمام في فتح القدير في كتاب أدب القاضي: المقلد له أن يقلد أي مجتهد شاء ثم قال: وأنا لا أدري ما يمنع هذا أي تتبع الرخص وأخذ العامي في كل مسألة بقول مجتهد أخف عليه من النقل أو العقل، وكون الإنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد ما علمت من الشرع ذمه عليه وكان ﷺ يحب ما خفف عن أمته انتهى.
نقول هذا إقناعاً لمن يهوله أمر التلفيق ويزعم أن الحكم بجوازه شيء نكر مع أن أمامه من الأفاضل ممن نكبرهم من قال بجوازه لا بل من صححه ورجحه أما نحن فإنا نرى الرجوع في مسائله إلى سنة السلف والأئمة في مثلها كما أوضحناه وبالله التوفيق.
ما يعمل المفتي إذا فحص أقوال الأئمة
ذكر أبو عمر محمد بن يوسف الكندي في كتاب القضاة الذين ولوا قضاء مصر في تولية قضاء مصر لإبراهيم بن الجراح سنة 304 ما مثاله: عن عمر بن خالد قال: ما صحبت أحداً من القضاة كإبراهيم بن الجراح كنت إذا عملت له المحضر قرأته عليه أقام عنده ما شاء الله أن يقيم ويرى فيه رأيه فإذا أراد أن يقضي به دفعه لي لأنشئ منه سجلاً فأجد في ظهره قال أبو حنيفة كذا وفي سطر قال ابن ليلى كذا وفي سطر آخر قال أبو يوسف كذا وقال مالك كذا ثم أجد على سطر منها علامة له كالخطة فاعلم أن اختياره وقع على ذلك القول فأنشئ المسجل عليه انتهى وهكذا حق المفتي أن ينظر في الواقعة إلى أقوال الأئمة ويفحصها وينعم النظر حتى إذا استبان له قوة أحدها توكل على الله تعالى وأفتى به والأئمة بأجمعهم لم يغادروا في النوازل بذل الواسع حتى اجتمع من أقوالهم الكثير الطيب ووجد فيه الأمثل فالأمثل وأعني بالنوازل ما تجدد على عهدهم وأما المأثور فما كان عن الصحب رضوان الله عنهم فكذلك يتخير فيه الأمثل وما كان عن الحضرة النبوية فهناك فصل الخطاب والله الموفق.
تتمة الآداب في هذا الباب
نختم هذا البحث الجليل بما جاء في الإقناع وشرحه في كتاب القضاة والفتيا مما لم نذكره قبل وعبارته مع شرحه.
يحرم الحكم والفتيا بقول أو وجه من غير نظر في الترجيح إجماعاً.
ويجب أن يعمل بموجب اعتقاده فيما له وعليه إجماعاً قاله الشيخ.
وينبغي أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم حذراً مما يصورونه في سؤالاتهم لئلا يوقعوه في المكروه.
ويحرم تساهل مفتٍ وتقليد معروف به (قال الشيخ): لا يجوز استفتاء إلا من يفتي بعلم أو عدل:
ويلزم المفتي تكرير النظر عند تكرار الواقعة وإن حدث ما لا قول فيه تكلم فيه حاكم ومجتهد ومفت.
وينبغي للمفتي أن يشاور من عنده مما يثق بعلمه إلا أن يكون في ذلك إفشاء سر السائل أو تعريضه للأذى أو مفسدة لبعض الحاضرين فيخفيه إزالة لذلك.
ولا يلزم جواب ما لا يحمله السائل لقول علي - كما في البخاري - حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله وفي مقدمة مسلم عن ابن مسعود: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم.
ولا يلزم جواب ما لا نفع فيه لخبر أحمد عن أبن عباس أنه قال عن الصحابة ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم.
وللمفتي قبول هدية لكن لا ليفتيه بما يريده به غيره وإلا حرم قبولها.
وللمفتي رد الفتيا إن خاف غائلتها أو كان في البلد مني قوم مقامه وإلا لم يجز له ردها لتعينها عليه (والتعليم كذلك).
ومن قوي عنده مذهب غير إمامه لظهور الدليل مع أفتى به وأعلم السائل.
ويجوز للمفتي العدول عن جواب المسؤل عنه إلى ما هو أنفع للسائل.
وللمفتي أن يدله على عوض ما منعه عنه وأن ينبهه على ما يجب الاحتراز عنه لأن ذلك من قبيل الهدية لدفع المضار.
وإذا كان الحكم مستغرباً وطأ قبله ما هو كالمقدمة له.
وله الحلف على ثبوت الحكم أحياناً لآية قل أي وأبي أنه الحق وآية فورب السماء والأرض أنه لحق مثل ما أنكم تنطقون والسنة بذلك كثيرة.
وله أن بكذ لك مع جواب من تقدمه بالفتيا إذا علم صواب جوابه فيقول: جوابي كذلك والجواب صحيح وبه أقول.
وإذا مثل المفتي عن شرط واقف لم يفت بإلزم العمل به حتى يعلم هل الشرط معمول به في الشرع أو من الشروط التي لا تحل مثل أن يشرط أن يصلي الصلوات في التربة المدفون بها الواقف ويدع المسجد أو يشعل بها قنديلاً أو سرجاً لأن ذلك محرم كما تقدم (لصاحب الإقناع) في الجنائز.
ولا يجوز إطلاقه في الفتيا في اسم مشترك إجماعاً بل عليه التفصيل في الجواب، فلو سئل المفتي هل له الأكل في رمضان بعد طلوع الفجر فلا بد أن يقول: يجوز بعد الفجر الأول لا الثاني. وأرسل الإمام أبو حنيفة إلى أبي يوسف يسأله عمن دفع ثوباً إلى قصار فقصره وجحده هل له أجره إن عاد وسلمه إلى ربه وقال أبو يوسف نعم أو لا أخطأ ففطن أبو يوسف وقال إن قصره قبل جحوده فله الأجرة لأنه قصره لربه أو قصره بعد جحوده لا أجرة له لأنه قصره لنفسه. (وسأل) أبو الطيب الطبري قوماً من أصحابه عن بيع رطل تمر برطل تمر فقالوا يجوز فخطأهم فقالوا لا فخطأهم فقال: إن تساويا كيلاً جاز. فهذا يوضح خطأهم المطلق في كل ما يحتمل التفصيل.
ولا يجوز للمفتي ولا لغيره تتبع الحيل المحرمة والمكروهة ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه، فإن تتبع ذلك فسق وحرم استفتاؤه، وإن حسن قصد المفتي في حيلة جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة لتخلص المستفتي بها من حرج جاز.
وللمستفتي العمل بخط المفتي وإن لم يسمع الفتوى من لفظ إذا عرف أنه خطه.
وحقيق بالمفتي أن يكثر من هذا الدعاء النبوي اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
هذا ما يسر المولى بفضله جمع من عدة مصنفات، كما يظهر في المزو إليها في الأصل أو التعليقات، والمقام جدير بالعناية، لذوي الدراية، والله ولي الهداية.
دمشق:
جمال الدين القاسمي