الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 61/الفتوى في الإسلام

مجلة المقتبس/العدد 61/الفتوى في الإسلام

مجلة المقتبس - العدد 61
الفتوى في الإسلام
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 1 - 3 - 1911


هذا بحث علمي أدبي، تاريخي اجتماعي، يهم كل نبيه درايته، كما يجب على كل فقيه معرفته ودراسته، لا سيما من يتولى منصب القضاء، أو وظيفة الافتاء، فإن هذا البحث من أهم ما يحتاج إليه، وأعظم ما يضطر للوقوف عليه، كيف لا ومنه يعرف شعائر الحق في الأقضية والأحكام، ويتوصل به إلى فيصل الأمور بالعدل في نوازل الأنام، فهو على التحقيق لباب الفقه في الدين، وسر الأصعاد إلى ذروة الاجتهاد في مقاصد الشرع المتين.

لا نريد أن نبحث في الفتوى من حيث يعرفها الناس أنها وظيفة من الوظائف ومنصب من المناصب يتولاه من يوظفه من الاستانة شيخ الإسلام، ليعول على فتواه عند توقف الحكام، لا نقصد هذا لأن سبيلها المذكور معروف معلوم، لا حاجة إلى أن يكتب فيه ما كان يكتب أيام استئجار العلوم، وإنما نروم الكشف عن منشأ الفتوى في الإسلام، وكيف كانت في القرون الثلاثة العظام، ثم فيما بعدها إلى العصور الوسطى ومن كان يتولاها أيام استفحال العلم واتساع مناحيه، ووفرة رجال الفضل وأئمة الاجتهاد فيه، ثم ما اشترط في أولي الفتوى وما ذكر من آدابهم وآدابها، وآداب من يستفتى ويرجع إلى أربابها.

يتبع هذا مباحث منوعة ضافية الذيول، وافرة النقول، ربما يقل في سبرها مجلدات، ولا كثرة في العلم كما لا إسراف في الخيرات، بيد أنا نقتصر من هذا المبحث على اللباب، ليكون نموذجاً ومدخلاً لنجباء الطلاب.

مما يدهش المنقب على أصول الفتوى ما بلغته من عناية الأئمة في مطالبها ومقاصدها وما تفننوا به من استنباط واجباتها واستثمار فوائدها، فيعجب مما كانت في العصور الأولى عليه وما آلت بعد إليه، ولئن كان لضعف العلم في القرون الأخيرة مدخل في هذا التباين إلا أن اليد العاملة فيه اختلاف سياسة الدول في الأخذ بالعلوم النافعة وإنهاض رجالها، ونشر التعليم المفيد والتهذيب وتوسيد الأمور إلى حكمائها وإبطالها، فقد تختلف السابقة عن اللاحقة في هذا المضمار، وتخلف أمة غيرها فتقودها بعاداتها وتأخذها بنظامها فتستلب منها الأفهام والأفكار، ويرجع هذا إلى فناء طريقة تائدة في طريقة طريفة، كما تفنى في أمة غالبة قوية أمة مغلوبة ضعيفة، فتدرس آثارها وعلومها، وتمحو عادتها ورسومها ولاختلاف الدول وتعاقبها على الممالك، مدخل عظيم في اختلاف قوانين العلم والعلماء في جميع المسالك.

ما سنذكره من أحوال الفتوى لا يدريه إلا نقابة في التاريخ دراكة في علوم الاجتماع بصير بالماضي والحاضر، خبير بالحديث والغابر.

ومن المؤسف أن تنبذ هذه المعارف ظهرياً، وتصبح في هذا الجيل نسياً منسياً، فكم في بحر الأوهام من غاد ورائج، ويزعم أن هذه الحالة هي في عهد السلف الصالح، فلا يدري شيئاً من تأثير الدول، ولا يعرف أمراً من آثار الأول.

إن الباحث عن الموازنة بين السلف والخلف في شؤون الاجتماع وطبيعة العمران يعتوره من مصاعب التنقيب ومتاعب العمل وإجهاد الفكر ما لا يدريه إلا من عانى ما عاناه، وأنفق من دم قلبه وقوة عقله ما ماثله أو داناه، ولذا سيعد ما كتبناه في هذا البحث من أعظم الدروس التي ألقيت على عالم العلم في هذا العصر، يذكر ما سلف لهذا الموضوع من جليل الشأن في كل قطر ومصر. ويعرفهم ما ترك الأول للآخر، وما حفظته لنا من الكنوز ذخائر قدماء الأكابر، فرحمة الله على السلف الناصحين، وأيد الله من تبعهم بإحسان من المصلحين.

ولنشرع في البحث مفصلاً ومبوباً، ومعنوناً جملاً جملا ومرتباً، والمستعان بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أول من قام بمنصب الفتوى في الإسلام

قال الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين: لما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ والصدق فيه لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق فيكون عالماً بما يبلغ صادقاً فيه ويكون مع ذلك حسن الطريقة مرضي السيرة عدلاً في أقواله وأفعاله متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمخل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره وهو من أعلى المراتب السنيات فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته وأن يتأهب له أهبته وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به فإن الله ناصره وهاديه وكيف لا وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب) وكفى بما تولاه الله بنفسه تعالى شرفاً وجلالة إذ يقول في كتابه يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه وليوقن أنه مسؤول غداً وموقوف بين يدي الله.

وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين عبد الله ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده فكان يفتي عن الله بوحيه المبين وكان كما قال له أحكم الحاكمين قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين فكانت فتاويه عليه السلام جوامع الأحكام ومشتملة على فصل الخطاب وهي في وجوب أتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب وليس لأحد من المسلمين العدول عنها ما وجد إليها سبيلاً وقد أمر الله عباده بالرد إليها حيث يقول فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا.

كتابة الفتوى من العهد النبوي

عن أبي هريرة قال: لما فتحت مكة قام رسول الله ﷺ فذكر الخطبة خطبة النبي ﷺ قال فقام رجل من اليمن يقال له أبو شاه فقال يا رسول الله اكتبوا لي فقال رسول الله ﷺ: اكتبوا لأبي شاه: يعني الخطبة، وعن أبي هريرة قال: لم يكن أحد من أصحاب محمد أكثر حديثاً مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كتب ولم أكتب، وعن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله ﷺ أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله ﷺ يتكلم في الرضا والغضب فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق.

أخرجها الحافظ ابن عبد البر في كتاب جامع العلم في باب الرخصة في كتاب العلم وعززها بآثار عدة منها عن سعد بن ابراهيم قال: أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن فكتبناها دفتراً دفتراً فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفتراً.

المفتون من الصحابة وطبقاتهم في الفتيا

قام بالفتوى بعد النبي ﷺ علماء الصحابة رضوان الله عليهم قال ابن القيم: والذين حفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله ﷺ مائة ونيف وثلاثون نفساً ما بين رجل وامرأة.

وكان المكثرون منهم سبعة عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر.

قال أبو محمد بن حزم: ويمكن أن يجمع من فتوى كل واحد منهم سفر ضخم قال: وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن أمير المؤمنين المأمون فتيا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في عشرين كتاباً، وأبو بكر محمد المذكور أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث.

والمتوسطون منهم فيما روي عنهم من الفتيا أبو بكر الصديق، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير، وأبو موسى الأشعري، وسعد بن أبي وقاص، وسلمان الفارسي، وجابر بن عبد الله، ومعاذ بن جبل، (قال ابن حزم) فهؤلاء ثلاثة عشر يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم جزء صغير جداً ويضاف إليهم طلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وعمران بن حصين، وأبو بكرة، وعبادة بن الصامت، ومعاوية بن أبي سفيان.

والباقون منهم مقلون في الفتيا لا يروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان والزيادة اليسيرة على ذلك، يمكن أن يجمع من فتيا جميعهم جزء صغير فقط بعد التقصي والبحث.

حالة الفتوى في عهد التابعين وتابعيهم

كان المرجع بعد الصحابة في الفتيا إلى كبار التابعين وكانوا منتشرين في البلاد التي عمرها المسلمون بفتوحاتهم، وقد عد الإمام ابن القيم في أوائل أعلام الموقعين عدداً عديداً منهم كما أن كثيراً من الحفاظ ألف في طبقاتهم أجزاء ومجلدات.

وأما حالة الفتيا في عهدهم فقد نبه عليها ولي الله الدهلوي في الحجة البالغة بما مثاله: اعلم أنه كان من العلماء في عصر سعيد بن المسيب وابراهيم والزهري وفي عصر مالك وسفيان وبعد ذلك قوم يكرهون الخوض بالرأي ويهابون الفتيا والاستنباط إلا لضرورة لا يجدون منها بداً، وكان أكبر همهم رواية حديث رسول الله ﷺ سئل عبد الله بن مسعود عن شيء فقال: إني لأكره أن أحل لك شيئاً حرمه الله عليك أو أحرم ما أحله الله لك، وقال معاذ بن جبل: يا أيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله فإنه لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سرد، وروي نحو ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود في كراهة التكلم فيما لم ينزل وقال ابن عمر لجابر بن زيد: إنك من فقهاء البصرة فلا تفت إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت.

وقال الإمام الدهلوي أيضاً بعد أن مهد ضروب الاختلاف بين الصحابة في بعض الفتاوى ما مثاله:

فاختلفت مذاهب أصحاب النبي ﷺ وأخذ عنهم التابعون كذلك كل واحد ما تيسر له فحفظ ما سمع من حديث رسول الله ﷺ ومذاهب الصحابة وعقلها وجمع المختلف على ما تيسر له ورجع بعض الأقوال على بعض واضمحل في نظرهم بعض الأقوال فعند ذلك صار لكل عالم من علماء التابعين مذهب على حياله.

فانتصب في كل بلد إمام مثل سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله بن عمر في المدينة وبعدهما الزهري والقاضي يحيى بن سعيد وربيعة بن عبد الرحمن فيها وعطاء بن أبي رباح بمكة وابراهيم النخعي والشعبي بالكوفة والحسن البصري بالبصرة وطاوس بن كيسان باليمن ومكحول بالشام فأظمأ الله أكباداً إلى علومهم فرغبوا فيها وأخذوا عنهم الحديث وفتاوى الصحابة وأقاويلهم ومذاهب هؤلاء العلماء وتحقيقاتهم من عند أنفسهم واستفتى منهم المستفتون ودارت المسائل بينهم ورفعت إليهم الأقضية.

وكان سعيد بن المسيب وابراهيم وأمثالهما جمعوا أبواب الفقه أجمعها وكان لهم في كل باب أصول تلقوها من السلف: وللبحث تتمة بديعة فانظرها.

وجل فتاوى الصحب والتابعين مروية في المواطآت والمسندات والسنن من كتب الحديث التي لم تشترط تخريج المرفوع وحده من الأحاديث النبوية عدا ما جمع على حدة منها.

المفتون بالشام من التابعين

قال الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين: وكان من المفتين بالشام أبو ادريس الخولاني وشرحبيل بن السمط وعبد الله بن أبي زكريا الخزاعي وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي وحبان بن أمية وسليمان بن حبيب المحاربي والحارث بن عميرة الزبيدي وخالد بن معدان وعبد الرحمن بن غنم الأشعري وجبير بن نفير ثم كان بعدهم عبد الرحمن بن جبير بن نفير ومكحول وعمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة:

وفيه استقصاء التابعين المفتين من معظم البلاد فانظره وقد استقرأت في كتابي (تعطير الشام بمآثر دمشق الشام) كل صحابي وتابعي نزل دمشق من المشاهير وآثرته عمن جمع في هذا الشأن من الحفاظ عليهم الرحمة وكثير منهم حفظ عنه أنه قال وأفتى مجتهداً برأيه وقائماً على الأصول فيما لم يجد فيه نصاً.

حالة الناس في الفتيا قبل المائة الرابعة وبعدها

قال الإمام ولي الله الدهلوي في الحجة البالغة تحت هذا العنوان ما مثاله:

أعلم أن الناس كانوا قبل المائة الرابعة غير مجمعين على التقليد الخالص لمذهب واحد بعينه قال أبو طالب المكي في قوت القلوب: إن الكتب والمجموعات محدثة والقول بمقالات الناس والفتيا بمذهب الواحد من الناس واتخاذ قوله والحكاية له من كل شيء والتفقه على مذهبه لم يكن الناس قديماً على ذلك في القرنين الأول والثاني انتهى.

قال الدهلوي وبعد القرنين حدث فيهم شيء من التخريج غير أن أهل المائة الرابعة لم يكونوا مجتمعين على التقليد الخالص على مذهب واحد والتفقه له والحكاية لقوله كما يظهر من التتبع بل كان فيهم العلماء والعامة.

وكان من خبر العامة أنهم كانوا في المسائل الاجتماعية التي لا اختلاف فيها بين المسلمين أو جمهور المجتهدين لا يقلدون إلا صاحب الشرع وكانوا يتعلمون صفة الوضوء أو الغسل والصلاة والزكاة ونحو ذلك من آبائهم أو معلمي بلدانهم فيمشون حسب ذلك وإذا وقعت لهم واقعة استفتوا فيها أي مفت وجدوا من غير تعيين مذهب.

وكان من خبر الخاصة أنه كان أهل الحديث منهم يشتغلون بالحديث فيخلص إليهم من أحاديث النبي ﷺ وآثار الصحابة ما لا يحتاجون معه إلى شيء آخر في المسألة من حديث مستفيض أو صحيح قد عمل به بعض الفقهاء ولا عذر لتارك العمل به أو أقوال متظاهرة لجمهور الصحابة والتابعين مما لا يحسن مخالفتها.

فإن لم يجد أحدهم في المسألة ما يطمئن به قلبه لتعارض النقل وعدم وضوح الترجيح ونحو ذلك رجع إلى كلام بعض من مضى من الفقهاء فإن وجد قولين اختار أوثقها سواء كان من أهل المدينة أو من أهل الكوفة.

وكان أهل التخريج منهم يخرجون فيما لا يجدونه مصرحاً ويجتهدون في المذهب وكان هؤلاء ينسبون إلى مذهب أصحابهم فيقال فلان شافعي وفلان حنفي وكان صاحب الحديث قد ينسب أيضاً إلى أحد المذاهب لكثرة موافقته له كالنسائي والبيهقي ينسبان إلى الشافعي.

فكان لا يتولى القضاء ولا الافتاء إلا مجتهد ولا يسمى الفقيه إلا مجتهداً.

ثم بعد هذه القرون كان ناس آخرون ذهبوا يميناً وشمالاً وحدث فيهم أمور (منها) الجدل والخلاف في علم الفقه (ومنها) أنهم اطمأنوا بالتقليد ودب التقليد في صدورهم دبيب النمل وهم لا يشعرون وكان سبب ذلك تزاحم الفقهاء وتجادلهم فيما بينهم فإنهم لما وقعت فيهم المزاحمة في الفتوى كان كل من أفتى بشيء نوقض في فتواه ورد عليه فلم ينقطع الكلام إلا بمسير إلى تصريح رجل من المتقدمين في المسألة (وأيضاً) جور القضاة فإن القضاة لما جار أكثرهم ولم يكونوا أمناء لم يقبل منهم إلا ما لا يريب العامة فيه ويكون شيئاً قد قيل من قبل (وأيضاً) جهل رؤوس الناس واستفتاء الناس من لا علم له بالحديث ولا بطريق التخريج كما ترى ذلك ظاهراً في أكثر المتأخرين وقد نبه عليه ابن الهمام وغيره وفي ذلك الوقت يسمى غير المجتهد فقيهاً.

(ومنها) أن أقبل أكثرهم على التعمقات في كل فن فمنهم من زعم أنه يؤسس علم أسماء الرجال ومعرفة مراتب الجرح والتعديل ثم خرج من ذلك إلى التاريخ قديمه وحديثه ومنهم من تفحص عن نوادر الأخبار وغرائبها وإن دخلت في حد الموضوع، ومنهم من كثر القيل والقال في أصول الفقه واستنبط كل لأصحابه قواعد جدلية فأورد فاستقصى، وأجاب وتقصى، وعرف وقسم فحرر، طول الكلام تارة وتارة أخرى اختصر ومنهم من ذهب إلى هذا بفرض الصور المستبعدة التي من حقها أن لا يتعرض لها عاقل وبفحص العمومات والإيماءات من كلام المخرجين فمن دونهم مما لا يرتضي استماعه عالم ولا جاهل.

وفتنة هذا الجدل والخلاف والتعمق قريبة من الفتنة الأولى حين تشاجروا في الملك وانتصر كل رجل لصاحبه فكما أعقبت تلك ملكا عضوضاً ووقائع صماء عمياء، فكذلك أعقبت هذه جهلاً واختلاطاً وشكوكاً ووهماً مالها من أرجاء.

فنشأت بعدهم قرون على التقليد الصرف لا يميزون الحق من الباطل ولا الجدل عن الاستنباط فالفقيه يومئذ هو الثرثار المتشدق الذي حفظ أقوال الفقهاء قويها وضعيفها من غير تمييز وسردها بشقشقة شدقيه والمحدث من عد الأحاديث صحيحها وسقيمها وهذها كهذ الاسمار بقوة لحييه.

ولا أقول ذلك كلياً مطرداً فإن لله طائفة من عباده لا يضرهم من خذلهم وهم حجة الله في أرضه وإن قلوا ولم يأت قرن بعد ذلك إلا وهو أكثر فتنة وأوفر تقليداً وأشد انتزاعاً للأمانة من صدور الرجال حتى اطمأنوا بترك الخوض في أمر الدين وبأن يقولوا إن وجدنا آباءنا على أمة وأنا على آثارهم مقتدون وإلى الله المشتكى وهو المستعان وبه الثقة وعليه التكلان انتهى كلام ولي الله الدهلوي.

ماروي من تهيب السلف للفتيا

قال الإمام النووي في مقدمة شرح المهذب: أعلم أن الإفتاء عظيم الخطر كبير الموقع كثير الفضل لأن المفتي وارث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وقائم بفرض الكفاية لكنه معرض للخطاء ولهذا قالوا: المفتي موقع عن الله تعالى: وروينا عن ابن المنكدر قال: العالم بين الله وخلقه فلينظر كيف يدخل بينهم.

وروينا عن السلف وفضلاء الخلف من التوقف عن الفتيا أشياءً كثيرة معروفة نذكر منها أحرفاً روينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله ﷺ يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترفع إلى الأول وفي رواية ما منهم من يحدث بحديث الآود أن أخاه كفاه إياه ولا يستفتى عن شيء الأود أن أخاه كفاه الفتيا وعن الشعبي والحسن وأبي حصين (بفتح الحاء) رحمهم الله قالوا: إن أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر وعن سفيان بن عيينة وسحنون: اجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً: وعن الشافعي رضي الله عنه وقد سئل عن مسألة فلم يجب فقيل له فقال حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب وعن الأثرم سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يكثر أن يقول: لا أدري: وذلك مما عرف الأقاويل فيه وعن الهيثم بن جميل قال: شهدت مالكاً سئل عن ثماني وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها لا أدري وعن مالك أيضاً رحمه الله: ربما كان يسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها وكان يقول: من أجاب فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف خلاصه ثم يجيب وقال أبو حنيفة رحمه الله: لولا الفرق من الله تعالى أن يضيع العلم ما افتيت يكون لهم المهنأ وعلي الوزر وأقوالهم في هذا كثيرة معروفة.

وقال الصيمري والخطيب: قل من حرص على الفتيا وسابق إليها وثابر عليها إلا قل توفيقه واضطرب في أمره وإذا كان كارهاً لذلك غير مؤثر له ما وجد عنه مندوحة وأحال الأمر فيه على غيره كانت المعرفة له من الله أكثر والصلاح في جوابه أغلب واستدلا بقوله ﷺ في الحديث الصحيح: لا تسأل الأمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها.

معنى الفتوى اللغوي

قال الراغب: الفتيا والفتوى الجواب عما يشكل من الأحكام ويقال استفتيت فأفتاني بكذا قال: ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن فاستفتهم افتوني في رؤياي.

وفي (النهاية): يقال أفتاه في المسألة بفتيه إذا أجابه والاسم الفتوى، وفي الحديث: أن أربعة تفاتوا إليه عليه السلام: أي تحاكموا من الفتوى ومنه الحديث: الإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك الناس عنه وأفتوك: أي وإن جعلوا لك فيه رخصة وجوازاً.

وفي (المصباح): الفتوى بالواو بفتح الفاء وبالياء فتضم اسم من أفتى العالم إذا بين الحكم ويقال أصله من الفتى وهو الشاب القوي والجمع الفتاوي بكسر الواو على الأصل وقيل يجوز الفتح للتخفيف انتهى وعبارته تفيد أن الفتوى بالفتح لا غير خلافاً لما يقتضيه كلام القاموس من جواز الضم والفتح فقد نوقش فيه ولذا قال شارحه العلامة الفاسي: المصرح به في أمهات اللغة وأكثر مصنفات الصرف أن الفتيا بالياء لا تكون إلا مضمومة وأن الفتوى بالواو لا تكون إلا مفتوحة: وفي (أساس البلاغة): وفلان من أهل الفتوى والفتيا وتعالوا ففاتونا وتفاتوا إليه تحاكموا قال الطرماح:

هلم إلى قضاة الغوث فاسأل ... برهطك والبيان لدى القضاة

انخ بفناء أشدق من عدي ... ومن جرم وهم أهل التفاتي

وقال عمر بن أبي ربيعة:

فبت أفاتيها فلا هي ترعوي ... بجود ولا تبدي إباءً فتبخلا

أي أسائلها:

وراثة المفتي للمقام النبوي

قال الإمام أبو اسحق الشاطبي المفتي قائم في الأمة مقام النبي ﷺ والدليل على ذلك أمور (أحدها) النقل الشرعي في الحديث أن العلماء ورثة الأنبياء وأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم: وفي الصحيح: بينا أنا نائم أتيت بقدح من لبن فشربت حتى أن لأرى الري يخرج من أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب قالوا فما أولته يا رسول الله قال العلم: وهو في معنى الميراث وبعث النبي ﷺ نذيراً لقوله تعالى: إنما أنت نذير وقال في العلماء: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم الآية وأشباه ذلك (والثاني) أنه نائب عنه في تبليغ الأحكام لقوله: ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب: وقال بلغوا عني ولو آية وقال: تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم: وإذا كان ذلك فهو معنى كونه قائماً مقام النبي (والثالث) أن المفتي شارع من وجه لأن ما يبلغه من الشريعة إما منقول عن صاحبها وإما مستنبط من المنقول فالأول يكون فيه مبلغاً والثاني يكون فيه قائماً مقامه في إنشاء الأحكام وإنشاء الأحكام إنما هو للشارع فإذا كان المجتهد إنشاء الأحكام بحسب نظره واجتهاده فهو من هذا الوجه شارع واجب إتباعه والعمل على وفق ما قاله وهذه هي الخلافة على التحقيق بل القسم الذي هو مبلغ فيه لا بد من نظره فيه من جهة فهم المعاني من الألفاظ الشرعية ومن جهة تحقيق مناطها وتنزيلها على الأحكام وكلا الأمرين راجع إليه فيها فقد قام مقام الشارع أيضاً في هذا المعنى وقد جاء في الحديث: أن من قرأ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه: وعلى الجملة فالمفتي مخبر عن الله كالنبي وموقع للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره كالنبي ونافذ أمره في الأمة بمنشور الخلافة كالنبي ولذلك سموا أولي الأمر وقرنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم والأدلة على هذا المعنى كثيرة.

بيان أن المفتي والعالم والمجتهد والفقيه ألفاظ مترادفة في الأصول

قال الشهاب ابن قاسم العبادي في شرح قول إمام الحرمين في الورقات: وصفة المفتي الخ: والمجتهد والمفتي واحد، وقال في شرح قوله: وليس للعالم أن يقلد أي المجتهد المطلق فإنه المراد من العالم كالمفتي حيث أطلق في الأصول.

وقال أيضاً في شرح قول المحلي: والمفتي هو المجتهد: يحتمل إرادة اتحادهما مفهوماً وإرادة اتحادهما ما صدقا ولعل الثاني أقرب انتهى.

وقال السبكي: في جمع الجوامع والمجتهد الفقيه: قال المحلي: كما قال فيما تقدم نقله عنه في أوائل الكتاب: والفقيه المجتهد لأن كلاً منهما يصدق على ما يصدق عليه الآخر، قال العطار أي فهو ليس من قبيل التعريف وإنما هو من قبيل بيان الما صدق فتساوى الأفراد واختلف المفهوم.

وفي فتح القدير لابن الهمام: قد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد فأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفت والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد على وجه الحكاية فعرف أن ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي وطريق نقله لذلك عن المجتهد أحد أمرين إما أن يكون له فيه سند إليه أو يأخذه عن كتاب معروف تداولته الأيدي نحو كتب محمد بن الحسن ونحوها لأنه بمنزلة الخبر المتواتر أو المشهور.

ما اشترطه الأصوليون في المفتي

قال الإمام الصيرفي: موضوع هذا الاسم يعني المفتي لمن قام للناس بأمر دينهم وعلم جمل عموم القرآن وخصوصه وناسخه ومنسوخه وكذلك السنن والاستنباط ولم يوضح لمن علم مسألة وأدرك حقيقتها فمن بلغ هذه المرتبة سموه بهذا الاسم ومن استحقه أفتى فيما استفتي.

وقال ابن السمعاني: المفتي من استكمل فيه ثلاث شرائط: الاجتهاد والعدالة والكف عن الترخيص والتساهل.

وقال الإمام الشاطبي: المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور فلا يذهب بهم مذهب الشدة ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال والدليل على هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة ومقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين وأيضاً فإن هذا المذهب كان المفهوم من شأن رسول الله ﷺ وأصحابه الأكرمين وقد رد عليه السلام التبتل وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة: افتان أنت يا معاذ: وقال: إن منكم منفرين، وقال: عليكم من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا، وقال أحب العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه وإن قل ورد عليهم الوصال، وكثير من هذا وأيضاً فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل ولا تقوم به مصلحة الخلق أما في طرف التشديد فإنه مهلكة وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضاً لأن المستفتي إذا ذهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة وهو مشاهد وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى واتباع الهوى مهلك والأدلة كثيرة.

فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاق مضاداً للمشي على التوسط كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضاً وربما فهم بعض الناس أن ترك الترخص تشديد فلا يجعل بينهما وسطاً وهذا غلط والوسط هو معظم الشريعة وأم الكتاب ومن تأمل موارد الأحكام بالاستقراء التام عرف ذلك وأكثر من هذا شأنه من أهل الانتماء إلى العلم يتعلق بالخلاف الوارد في المسائل العلمية بحيث يتحرى الفتوى بالقول الذي يوافق هوى المستفتي بناءً منه على أن الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه وحرج في حقه وأن الخلاف إنما كان رحمة لهذا المعنى وليس بين التشديد والتخفيف واسطة وهذا قلب المعنى المقصود في الشريعة فإن أتباع الهوى ليس من المشقات التي يترخص بسببها وإن الخلاف إنما هو رحمة من جهة أخرى وإن الشريعة حمل على التوسط لأعلى مطلق التخفيف - والإلزام ارتفاع مطلق التكليف من حيث هو حرج ومخالف للهوى ولا على مطلق التشديد فليأخذ الموفق في هذا الموضع حذره فإنه مزلة قدم على وضوح الأمر فيه انتهى.

وقال الإمام أبو اسحق الشيرازي في اللمع في باب صفة المفتي والمستفتي، وينبغي أن يكون المفتي عارفاً بطرق الأحكام وهي الكتاب والذي يجب أن يعرف من ذلك ما يتعلق بذكر الأحكام والحلال والحرام دون ما فيه من القصص والأمثال والمواعظ والأخبار ويحيط بالسنن المروية عن رسول الله ﷺ في بيان الأحكام ويعرف الطرق التي يعرف بها ما يحتاج إليه من الكتاب والسنة من أحكام الخطاب وموارد الكلام ومصادره من الحقيقة والمجاز والعام والخاص والمجمل والمفصل والمطلق والمقيد والمنطوق والمفهوم ويعرف من اللغة والنحو ما يعرف به مراد الله تعالى ومراد رسوله ﷺ في خطابهما ويعرف أحكام أفعال رسول الله ﷺ وما تقتضيه ويعرف الناسخ من ذلك والمنسوخ وأحكام النسخ وما يتعلق به ويعرف أجماع السلف وخلافهم ويعرف ما يعتد به من ذلك وما لا يعتد به ويعرف القياس والاجتهاد والأصول التي يجوز تعليلها وما لا يجوز والأوصاف التي يجوز أن يعلل بها وما لا يجوز وكيفية انتزاع العلل ويعرف ترتيب الأدلة بعضها على بعض وتقديم الأولى منها ووجوه الترجيح ويجب أن يكون ثقة مأمونا لا يتساهل في أمر الدين انتهى.

وقال الإمام النووي في مقدمة شرح المهذب: وينبغي أن يكون المفتي ظاهر الورع مشهوراً بالديانة الظاهرة والصيانة الباهرة (ثم قال): شرط المفتي كونه ثقة مأموناً منزهاً عن الفسق وخوارم المروءة فقيه النفس سليم الذهن رصين الفكر صحيح النظر والاستنباط متيقظاً سواء فيه الحر والعبد والمرأة والأعمى والأخرس إذا كتب أو فهمت إشارته.

قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: وينبغي أن يكون كالراوي في أنه لا يؤثر فيه قرابة وعداوة وجر نفع ودفع ضر ولأن المفتي في حكم مخبر عن الشرع بما لا اختصاص له بشخص فكان كالراوي لا كالشاهد وفتواه لا يرتبط بها إلزام بخلاف حكم القاضي.

(قال): وذكر صاحب الحاوي أن المفتي إذا نابذ في فتواه شخصاً معيناً صار خصماً معانداً فترد فتواه على من عاداه كما ترد شهادته عليه إذا وقت انتهى.

فتوى الفاسق والمستور وأهل الأهواء والخوارج

قال الإمام النووي في مقدمة شرح المهذب: نقل الخطيب البغدادي أجماع المسلمين على أن الفاسق لا تصح فتواه (لغيره) وأنه يجب عليه إذا وقعت له واقعة أن يعمل باجتهاد نفسه.

وأما المستور وهو الذي ظاهره العدالة ولم تختبر عدالته باطناً ففيه وجهان أصحهما جواز فتواه لأن العدالة الباطنة يعتبر معرفتها على غير القضاة والثاني لا تجوز كالشهادة.

قال الصميري: وتصح فتوى أهل الأهواء والخوارج ومن لا يكفر ببدعته ولا بفسقه.

بحث الفتوى للقاضي

قال الإمام النووي: والقاضي كغيره في جواز الفتيا بلا كراهة هذا هو الصحيح وقيل له الفتوى في العبادات وما لا يتعلق بالقضاء وفي القضاء وجهان لأصحابنا أحدهما الجواز لأنه أهل والثاني لا لأنه موضع تهمة وقال ابن المنذر تكره الفتوى في مسائل الأحكام وقال شريح أنا أقضي ولا أفتي.

تقسيم المتأخرين المفتي إلى مستقل وغير مستقل قال الإمام النووي قال أبو عمرو - ابن الصلاح - المفتون قسمان مستقل وغيره فالمستقل شرطه مع ما ذكرناه أن يكون فقيهاً بمعرفة أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وما التحق بها على التفصيل وقد فصلت في كتب الفقه فيسرت وأن يكون عالماً بما يشترط في الأدلة ووجوه دلالتها وبكيفية اقتباس الأحكام منها وهذا مستفاد من أصول الفقه، وعارفاً من علوم القرآن والحديث والناسخ والمنسوخ والنحو واللغة والصرف واختلاف العلماء واتفاقهم بالقدر الذي يتمكن معه من الوفاء بشروط الأدلة والاقتباس منها، ذا دربة وارتياض في استعمال ذلك، عالماً بالفقه ضابطاً لأمهات مسائله وتفاريعه فمن جمع هذه الأوصاف فهو المفتي المطلق المستقل الذي يتأدى به فرض الكفاية وهو المجتهد المطلق المستقل لأنه يستقل بالأدلة بغير تقليد وتقيد بمذهب أحد.

قال أبو عمرو: وما شرطناه من حفظه لمسائل الفقه لم يشترط في كثير من الكتب المشهورات لكونه ليس شرطاً لمنصب الاجتهاد لأن الفقه ثمرته فيتأخر عنه وشرط الشيء لا يتأخر عنه وشرطه الأستاذ أبو اسحق الاسفراييني وصاحبه أبو منصور البغدادي وغيرهما واشتراطه في المفتي الذي يتأدى به فرض الكفاية هو الصحيح وإن لم يكن كذلك في المجتهد المستقل.

ثم لا يشترط أن تكون جميع الأحكام على ذهنه بل يكفيه كونه حافظاً لمعظمها متمكناً من إدراك الباقي على قرب.

وهل يشترط أن يعرف من الحساب ما يصحح به المسائل الحسابية الفقهية حكى أبو اسحق وأبو منصور فيه خلافاً لأصحابنا والأصح اشتراطه.

ثم إنما يشترط اجتماع العلوم المذكورة في مفت مطلق في جميع أبواب الشرع وأما مفت في باب خاص كالمناسك والفرائض فيكفيه معرفة ذلك الباب كذا قطع به الغزالي وصاحبه ابن برهان (بفتح الباء) وغيرهما ومنهم من منعه مطلقاً وأجازه ابن الصباغ في الفرائض خاصة والأصح جوازه مطلقاً.

(القسم الثاني المفتي الذي ليس بمستقل) ومن دهر طويل عدم المفتي المستقل وصارت الفتوى إلى المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة.

وللمفتي المنتسب حالات إحداها أن لا يكون مقلداً لأمامه لا في المذهب ولا في دليله لاتصافه بصفة المستقل وإنما ينسب إليه لسلوكه طريقه في الاجتهاد وادعى أبو اسحق هذه الصفة لأصحابنا وحكي عن أصحاب مالك وأحمد وداود وأكثر الحنفية أنهم صاروا إلى مذاهب أئمتهم تقليداً لهم.

والصحيح الذي ذهب إليه المحققون ما ذهب إليه أصحابنا وهو أنهم صاروا إلى مذهب الشافعي لا تقليداً له بل لما وجدوا طرقه في الاجتهاد والقياس أسد الطرق ولم يكن لهم بد من الاجتهاد سلكوا طريقه وطلبوا معرفة الأحكام بطريق الشافعي قال النووي قلت هذا موافق لما أمرهم به الشافعي ثم المزني في أول مختصره وغيره بقوله: مع إعلاميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره.

ثم فتوى المفتي في هذه الحالة كفتوى المستقل في العمل بها والاعتداد بها في الإجماع والخلاف.

الحالة الثانية أن يكون مجتهداً مقلداً في مذهب إمامه مستقلاً بتقرير أصوله بالدليل غير أنه لا يتجاوز في أدائه أصول إمامة وقواعده وشرطه كونه عالماً بالفقه وأصوله وأدلة الأحكام تفصيلاً - بصيراً بمسالك الأقيسة والمعاني - تام الارتياض في التخريج والاستنباط قيما بإلحاق ما ليس منصوصاً عليه لإمامه بأصوله إلى أن قال النووي ثم ظاهر كلام الأصحاب أن من هذا حاله لا يتأدى به فرض الكفاية.

ثم قد يستقل المقلد في مسألة أو باب خاص كما تقدم وله أن يفتي فيما لا نص فيه لإمامه بما يخرجه على أصوله وهو الذي عليه العمل وإليه يفزع المفتون من مدد طويلة ثم إذا أفتى بتخريجه فالمستفتي مقلد لإمامه لا له هكذا قطع به إمام الحرمين في كتابه الغياثي قال الشيخ أبو عمرو: ينبغي أن يخرج هذا على خلاف حكاه الشيخ أبو اسحق الشيرازي وغيره أن ما يخرجه أصحابنا هل يجوز نسبته إلى الشافعي رحمه الله والأصح أنه لا ينسب إليه.

ثم ذكر النووي بقية حالات المفتي المنتسب أضربنا عنها لقلة جدواها ولأنها فرعت لزمن غير هذا الزمن.

وقال العلامة الفناري في فصول البدائع في مسائل الفتاوي: يجوز الإفتاء للمجتهد اتفاقاً ولحاكي قول مجتهد حي سمعه منه مشافهة لأن علياً رضي الله عنه أخذ بقول المقداد عن النبي عليه السلام في المذي ولذا يجوز للمرأة أن تعمل في حيضها بنقل زوجها عن المفتي.

أما - الإفتاء - لحاكي قول ميت فمنعه الأكثرون إذ لا قول للميت لانعقاد الإجماع مع خلافه وإنما صنفت كتب الفقه لاستفادة طرق الاجتهاد من تصرفهم ومعرفة المتفق عليه والمختلف فيه قال في المحصول: والأصح عند المتأخرين جوازه لوجهين الأول انعقاد الإجماع على جواز العمل بهذا النوع من الفتوى وله معنيان 1 أن أحكام الشريعة المحمدية باقية إلى آخر الزمان لكونه خاتم النبيين وكل من المجتهدين يثبت الحكم على أنه كذلك فهم وإن اختلفوا في تعيين الحكم مجمعون ضمناً على بقائه وجواز تقليد من بعدهم 2 أن المجتهدين السابقين المختلفين أجمعوا صريحاً على أن من بعدهم إذا اضطروا إلى تقليد الميت لعدم الاجتهاد جاز لهم ذلك الثاني إذا كان المجتهد الميت ثقة عالماً والحاكي عنه ثقة فاهماً معنى كلامه حصل عند العامي ظن أن حكم الله تعالى ما حكاه والظن حجة حتى لو رجع إلى كتاب موثوق به جاز أيضاً كذا في التحصيل.

قال في فتاوى العصر في أصول الفقه لأبي بكر الرازي رحمه الله فأما ما يوجد من كلام رجل ومذهبه في كتاب معروف به قد تداولته النسخ يجوز لمن نظر فيه أن يقول قال فلان كذا وإن لم يسمعه من أحد نحو كتب محمد بن الحسن وموطأ مالك لأن وجودها على هذا الوصف بمنزلة خبر المتواتر ولاستفاضة لا يحتاج مثله إلى إسناد.

وتوفية الكلام فيه أن لغير المجتهد أن يفتي بمذهب مجتهد أن كان أهلاً للنظر والاستنباط مطلعاً على المآخذ في أقوال إمامه أي مجتهداً في ذلك المذهب ومعنى الإفتاء الاستنباط بمقتضى قواعده لا الحكاية وقيل يجوز مطلقاً ومعنى الإفتاء أعم من الاستنباط والحكاية وهو المنقول عن المحصول آنفاً وقال أبو الحسين لا يجوز مطلقاً لنا تكرر إفتاء العلماء غير المجتهدين في جميع الأعصار من غير إنكار للمجوز أنه ناقل فلا فرق فيه بين العالم وغيره كالأحاديث قلنا جواز النقل متفق عليه والنزاع فيما هو المعتاد من تخريجه على أنه مذهب أبي حنيفة أو الشافعي رحمه الله كذا في المختصر والمفهوم من غيره أن في الحاكي عن الميت خلافاً للمانع لو جاز لجاز للعامي لأنهما في النقل سواء قلنا الدليل هو الإجماع وقد يجوز للعائدون العامي والفارق علم المأخذ وأهلية النظر.

ثم عن أصحابنا في ذلك روايات ذكر في التجنيس سئل محمد بن الحسن رحمه الله: متى كان للرجل أن يفتي: قال إذا كان صوابه أكثر من خطاءه وقال ظهير الدين التمرتاشي رحمه الله: لا يجوز للمفتي أن يفتي حتى يعلم من أين قلنا فقلنا هل يحتاج إلى هذا في زماننا أم يكفيه الحفظ قال يكفي الحفظ نقلاً عن الكتب المنقحة وقال نجم الأئمة البخاري رحمه الله: الحفظ لا يكفي ولا بد من ذلك الشرط.

وفي عيون الفتاوى: قال عصام بن يوسف رحمه الله، كنت في مأتم قد اجتمع فيه أربعة من أصحاب أبي حنيفة زفر وأبو يوسف وعافية وقاسم بن معن فأجمعوا على أنه لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا كلام الفناري.

حكم المقلد يفتي بما هو مقلد فيه

قال النووي: فإن قيل هل لمقلدان يفتي بما هو مقلد فيه قلنا قطع أبو عبد الله الحليمي وأبو محمد الجويني وأبو المحاسن الروياني وغيرهم بتحريمه وقال القفال المروزي يجوز: قال أبو عمرو: قول من منعه معناه لا يذكره على صورة من يقوله من عند نفسه.

بل يضيفه إلى أمامه الذي قلده قال فعلى هذا من عددناه من المفتين المقلدين ليسوا بمفتين حقيقة لكن قاموا مقامهم وأدوا عنهم عدوا معهم وسبيلهم أن يقولوا مثلاً من مذهب الشافعي كذا ونحو هذا ومن ترك منهم الإضافة فهو اكتفاء بالمعلوم من الحال عن التصريح ولا بأس بذلك.

وذكر صاحب الحاوي في الكافي: إذا عرف حكم حادثة بني على دليلها ثلاثة أوجه أحدها يجوز أن يفتي به ويجوز تقليده لأنه وصل إلى علمه كوصول العالم والثاني يجوز أن كان دليلها كتاباً أو سنة ولا يجوز أن كان غيرهما والثالث لا يجوز مطلقاً وهو الأصح هذا ما قاله أئمة الشافعية وتقدم وتقدم عن الفناري ما للحنفية.

أحكام المفتين

الأول

قال النووي: الإفتاء فرض كفاية فإذا استفتي وليس في الناحية غيره تعين عليه الجواب فإن كان فيها غيره وحضر فالجواب في حقهما فرض كفاية وإن لم يحضر غيره فوجهان أصحهما لا يتعين والثاني يتعين وهما كالوجهين في مثله في الشهادة ولو سأل عامي عما لم يجب - لم يجب جوابه.

الثاني

إذا أفتى بشيء ثم رجع عنه فإن أعلم المستفتي برجوعه ولم يكن عمل بالأول لم يجز العمل به وإن كان عمل قبل رجوعه فإن خالف دليلاً قاطعاً لزم المستفتي نقض عمله ذلك وإن كان في محل اجتهاد لم يلزمه نقضه لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد وهذا التفصيل ذكره الصيمري والخطيب وأبو عمرو واتفقوا عليه ولا أعلم خلافه ويلزم المفتي إعلامه قبل العمل وكذا بعده حيث يجب النقض وإذا عمل بفتواه في إتلاف فبان خطؤه وأنه خالف القاطع فعن الاستاذ أبي اسحق أنه يضمن أن كان أهلاً للفتوى ولا يضمن إن لم يكن أهلاً لأن المستفتي قصر كذا حكاه الشيخ أبو عمرو وسكت عليه وهو مشكل وينبغي أن يخرج الضمان على قولي الغرور المعروفين في باب الغصب والنكاح وغيرهما أو يقطع بعدم الضمان إذ ليس في الفتيا إلزام ولا إلجاء.

(الثالث)

يحرم التساهل في الفتوى ومن عرف به حرم استفتاؤه فمن التساهل أن لا يتثبت ويشرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر فإن تقدمت معرفته بالمسؤول عنها فلا بأس بالمبادرة وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة طلباً للترخص لمن يروم نفعه أو التغليظ على من يريد ضره وأما من صح قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها ليخلص من ورطة يمين ونحوها فذلك حسن جميل عليه يحمل ما جاء عن السلف من نحو هذا كقول سفيان (إنما العلم الرخصة من ثقة) وأما التشديد فيحسنه كل أحد ومن الحيل التي فيها شبهة ويذم فاعلها الحيلة في سد باب الطلاق.

(الرابع)

ينبغي أن لا يفتي في حال تغير خلقه وشغل قلبه بما يمنعه التأمل كغضب وجوع وحزن وفرح غالب ونعاس أو ملل أو حر مزعج أو مرض مؤلم أو مدافعة حدث وكل حال شغل فيه قلبه ويخرج عن حد الاعتدال فإن أفتى في بعض هذه الأحوال وهو يرى أنه لم يخرج عن الصواب جاز وإن كان مخاطراً فيها.

(الخامس)

المختار للمتصدي للفتوى أن يتبرع بذلك ويجوز أن يأخذ عليه رزقاً من بيت المال إلا أن يتعين عليه وله كفاية فيحرم على الصحيح.

ثم إن كان له رزق لم يجز أخذ أجرة وإن لم يكن له رزق فليس له أخذ أجرة من أعيان من يفتيه على الأصح كالحاكم.

واحتال الشيخ أبو حاتم القزويني من أصحابنا فقال له أن يقول يلزمني أن أفتيك قولاً وأما كتابة الخط فلا فإن استأجره على كتابة الخط جاز.

قال الصيمري: لو اتفق أهل البلد فجعلوا له رزقاً من أموالهم على أن يتفرغ لفتاويهم جاز.

(وأما الهدبة) فقال أبو المظفر السمعاني له قبولها بخلاف الحاكم فإنه يلزمهم حكمه قال أبو عمرو: ينبغي أن يحرم قبولها إن كانت رشوة على أن يفتيه بما يريد كما في الحاكم وسائر ما لا يقابل بعوض.

قال الخطيب: وعلى الإمام أن يفرض لمن نصب نفسه لتدريس الفقه والفتوى في الأحكام ما يغنيه عن الاحتراف ويكون ذلك من بيت المال ثم روى إسناده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعطى كل رجل ممن هذه صفته مائة دينار في السنة.

(السادس)

لا يجوز أن يفتي في الإيمان والإقرار ونحوهما مما يتعلق بالألفاظ إلا أن يكون من أهل بلد اللافظ أو منزلاً منزلتهم في الخبرة بمرادهم من ألفاظهم وعرفهم فيها انتهى كلام النووي، وهكذا نقل ابن فرحون في التبصرة عن القرافي أنه ينبغي للمفتي إذا ورد عليه مستفت لا يعلم أنه من أهل البلد الذي فيه المفتي أن لا يفتيه بما عادته يفتي به حتى يسأله عن بلده وهل حدث لهم عرف في ذلك اللفظ اللغوي أم لا وإن كان اللفظ عرفياً فهل عرف ذلك البلد موافق لهذا البلد في عرفه أم لا وهذا أمر متيقن واجب لا يختلف فيه العلماء وأن العادتين متى كانتا في بلدين ليسا سواءً أن حكمهما ليس سواءً إنما اختلف العلماء في العرف واللغة هل يقدم العرف على اللغة أم لا والصحيح تقديمه لأنه ناسخ والناسخ مقدم على المنسوخ إجماعاً فكذا هنا انتهى.

(السابع) لا يجوز لمن كان فتواه نقلاً لمذهب إمام إذا اعتمد الكتب أن يعتمد إلا على كتاب موثوق بصحته وبأنه مذهب ذلك الإمام فإن وثق بأن أصل التصنيف بهذه الصفة لكن لم يلق هذه النسخة معتمدة فليستظهر بنسخ منه متفقة.

(قال النووي) قلت: لا يجوز لمفت إذا اعتمد النقل أن يكتفي بمصنف أو مصنفين ونحوهما من كتب المتقدمين وأكثر المتأخرين لكثرة الاختلاف بينهم في الجزم والتخريج.

(الثامن)

إذا أفتى في حادثة ثم حدث مثلها فإن ذكر الفتوى الأولى ودليلها بالنسبة إلى أصل الشرع أن كان مستقلاً أو إلى مذهبه منتسباً أفتى بذلك بلا نظر وإن ذكرها ولم يذكر دليلها ولا طرأ ما يوجب رجوعه فقيل له أن يفتي بذلك والأصح وجوب تجديد النظر ومثله القاضي إذا حكم بالاجتهاد ثم وقعت المسألة وكذا تجديد الطلب في التميم والاجتهاد في القبلة وفيهما الوجهان.

قال القاضي أبو الطيب في تعليقه في آخر باب استقبال القبلة: وكذا العامي إذا وقعت له مسألة فسأل عنها ثم وقعت له فيلزمه السؤال ثانية - يعني على الأصح - إلا أن تكون مسألة يكثر وقوعها ويشق عليه إعادة السؤال عنها فلا يلزمه ذلك ويكفي السؤال الأول.

(التاسع)

ينبغي أن لا يقتصر على قوله في المسألة خلاف أو قولان أو وجهان أو روايتان أو ترجع إلى رأي القاضي أو نحو ذلك وهذا ليس بجواب ومقصود المستفتي بيان ما يعمل به فينبغي أن يجزم له بما هو الراجح فإن لم يعرفه توقف حتى يظهر أو يترك الفتيا كما كان جماعة من كبار أصحابنا يمتنعون عن الإفتاء.

هذا ما نقله النووي في شرح المهذب.

آداب الفتوى

(الأول)

قال النووي: يلزم المفتي أن يبين الجواب بياناً يزيل الإشكال ثم له الاقتصار على الجواب شفاها فإن لم يعرف لسان المستفتي كفاه ترجمة ثقة واحد لأنه خبر وله الجواب كتابة وإن كانت الكتابة على خطر وكان القاضي أبو حامد كثير الهرب من الفتوى في الرقاع.

قال الصيمري: وليس من الأدب كون السؤال بخط المفتي فإما بإملائه وتهذيبه فواقع وكان الشيخ أبو اسحق الشيرازي يكتب السؤال على ورق له ثم يكتب الجواب.

وإذا كان في الرقعة مسائل فالأحسن ترتيب الجواب على ترتيب السؤال ولو ترك الترتيب فلا بأس.

وإذا كان في المسألة تفصيل لم يطلق الجواب فإنه خطأ ثم له أن يستفصل السائل أن حضر ويكتب السؤال في رقعة أخرى ثم يجيب وهذا أولى واسلم وله أن يقتصر على جواب أحد الأقسام إذا علم أنه الواقع للسائل ثم يقول هذا إذا كان الأمر كذا وله أن يفصل الأقسام في جوابه ويذكر حكم كل قسم لكن هذا كرهه أبو الحسن القابسي من أئمة المالكية وغيره وقالوا: هذا تعليم للناس الفجور وإذا لم يجد المفتي من يسأله فصل الأقسام واجتهد في بيانها واستيعابها.

(الثاني)

ليس له أن يكتب الجواب على ما علمه من صورة الواقعة إذا لم يكن في الرقعة تعرض له بل يكتب جواب ما في الرقعة فإن أراد جواب ما ليس فيها فليقل إن كان الأمر كذا وكذا فجوابه كذا واستحب العلماء أن يزيد على ما في الرقعة بما له تعلق بها مما يحتاج إليه السائل لحديث: هو الطهور ماؤه الحل ميتته.

(الثالث)

إذا كان المستفتي بعيد الفهم فليرفق به ويصبر على تفهم سؤاله وتفهيم جوابه فإن ثوابه جزيل.

(الرابع)

ليتأمل الرقعة تأملاً شافياً وآخرها آكد فإن السؤال في آخرها وقد يتقيد الجميع بكلمة في آخرها ويغفل عنها.

قال الصيمري: وقال بعض العلماء ينبغي أن يكون توقفه في المسألة السهلة كالصعبة ليعتاده وكان محمد بن الحسن يفعله.

وإذا وجد كلمة مشبهة سأل المستفتي عنها ونقطها وشكلها وكذا أن وجد لحناً فاحشاً أو خطأ يحيل المعنى أصلحه وإن رأى بياضاً في أثناء السطر أو آخره خط عليه أو شغله لأنه ربما قصد المفتي بالإيذاء فكتب في البياض ما يفسدها كما يلي به القاضي أبو حامد المرزوي.

الخامس

يستحب أن يقرأها على حاضر به ممن هو أهل لذلك ويشاورهم ويباحثهم برفق وإنصاف وإن كانوا دونه وتلامذته للاقتداء بالسلف ورجاء ظهور ما قد يخفى عليه إلا أن يكون فيها ما يقبح إبداؤه أو يؤثر السائل كتمانه أو في إشاعته مفسدة.

(السادس)

ليكتب الجواب بخط واضح وسط لا دقيق خاف ولا غليظ جاف ويتوسط في سطورها بين توسيعها وتضييقها وتكون عبارته واضحة صحيحة يفهمها العامة ولا يزدريها الخاصة واستحب بعضهم أن لا تختلف أقلامه وخطه خوفاً من التزوير ولئلا يشتبه خطه.

قال الصيمري: وقل ما وجد التزوير عن المفتي لأن الله تعالى حرس أمر الدين وإذا كتب الجواب أعاد نظره فيه خوفاً من اختلال وقع فيه وإخلال ببعض المسئول عنه.

(السابع)

إذا كان هو المبتدئ فالعادة قديماً وحديثاً أن يكتب في الناحية اليسرى من الورقة قال الصيمري وغيره: وإن كتب من وسط الرقعة أو من حاشيتها فلا عيب عليه ولا يكتب فوق البسملة بحال وأن يدعو إذا أراد الإفتاء وجاء عن مكحول ومالك رحمهما الله الاستعاذة من الشيطان ويسمي الله تعالى ويحمده ويصلي على النبي ﷺ وليقل رب اشرح لي صدري الآية ونحو ذلك.

قال الصيمري: وعادة كثيرين أن يبدؤوا فتاويهم: الجواب وبالله التوفيق، وحذف آخرون قال النووي المختار قول ذلك مطلقاً وأحسنه الابتداء بقوله الحمدلله لحديث: كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم، وينبغي أن يقوله بلسانه ويكتبه.

قال الصيمري: ولا يدع ختم جوابه بقوله وبالله التوفيق أو والله أعلم أو والله الموفق (قال) ولا يقبح قوله: الجواب عندنا أو الذي عندنا أو الذي نقول به أو نذهب إليه أو نراه كذا لأنه من أهل ذلك (قال) وإذا أغفل السائل الدعاء للمفتي أو الصلاة على رسول الله ﷺ في آخر الفتوى الحق المفتي ذلك بخطه فإن العادة جارية به.

قال النووي: وإذا ختم الجواب بقوله والله أعلم ونحوه مما سبق فليكتب بعده: كتبه فلان أو فلان بن فلان الفلاني فينسب إلى ما يعرف به من قبيلة أو بلدة أو صفة فإن كان مشهوراً بالاسم أو غيره فلا بأس بالاقتصار عليه.

قال الصيمري وينبغي إذا تعلقت الفتوى بالسلطان أن يدعو له فيقول: وعلى ولي الأمر والسلطان أصلحه الله أو سدده أو قوى الله عزمه وأصلح به أو شد الله أزره ولا يقال أطال الله بقاءه فليست من ألفاظ السلف.

(قال النووي): نقل أبو جعفر النحاس وغيره اتفاق العلماء على كراهة قول أطال الله بقاك وفي صحيح مسلم في حديث أم حبيبة رضي الله عنها إشارة إلى أن الأولى ترك نحو هذا من الدعاء بطول البقاء وأشباهه.

(الثامن)

ليختصر جوابه ويكون بحيث يفهمه العامة قال صاحب الحاوي: يقول يجوز أو لا يجوز أو حق أو باطل وحكى شيخه الصيمري عن شيخه القاضي أبي حامد أنه كان يختصر غاية ما يمكنه واستفتي في مسألة آخرها يجوز أم لا فكتب لا وبالله التوفيق انتهى.

قلت استحباب الاختصار ليس على إطلاقه بل هو في أمر جلى لا حاجة إلى الإطناب فيه أو في جواب لعامي وهو ما تغلب فيه الفتاوي وإما الفتاوي في المسائل المهمة فلا يستكثر فيها مجلد إلا أن البحث هنا ليس في أمثالها.

(التاسع)

قال الصيمري والخطيب: إذا سئل عمن قال: أنا أصدق من محمد بن عبد الله أو الصلاة لعب وشبه ذلك: فلا يبادر بقوله: هذا حلال الدم أو عليه القتل بل يقول إن صح هذا بإقراراه أو بالبينة استنابه السلطان فإن تاب قبلت توبته وإن لم يتب فعل به كذا وكذا وبالغ في ذلك وأشبعه.

(قال) وإن تكلم بشيء يحتمل وجوهاً يكفر ببعضها دون بعض قال يسأل هذا القائل فإن قال: أردت كذا فالجواب كذا.

(العاشر)

ينبغي إذا ضاق موضع الجواب أن لا يكتبه في رقعة أخرى خوفاً من الحيلة ولهذا قالوا يصل جوابه بآخر سطر ولا يدع فرجة لئلا يزيد السائل شيئاً يفسدها وإذا كان موضع الجواب ورقة ملصقة كتب على الإلصاق.

(الحادي عشر)

إذا ظهر للمفتي أن الجواب خلاف غرض المستفتي وأنه لا يرضى بكتابته في ورقته فليقتصر على مشافهته بالجواب.

وليحذر أن يميل في فتواه مع المستفتي أو خصمه ووجوه الميل كثيرة لا تخفى ومنها أن يكتب في جوابه ما هو له ويترك ما هو عليه.

وليس له أن يبدأ في مسائل الدعوى والبينات بوجوه المخالص منها وإذا سأله أحدهم وقال: بأي شيء يندفع كذا وكذا لم يجبه كيلا يتوصل بذلك إلى إبطال حق وله أن يسأله عن حاله فيما ادعى عليه فإذا شرحه له عرفه بما فيه من دافع وغير دافع.

(قال الصيمري): وينبغي للمفتي إذا رأى للسائل طريقاً يرشده إليه أو ينبهه عليه: يعني ما لم يضر غيره ضرراً بغير حق (قال) كمن حلف لا ينفق على زوجته شهراً يقول تعطيها من صداقها أو قرضاً أو بيعاً ثم تبرئها وكما حكي أن رجلاً قال لأبي حنيفة رحمه الله: حلفت أني أطأ امرأتي في شهر رمضان ولا أكفر ولا أعصي: فقال: سافر بها.

(الثاني عشر)

قال الصيمري: إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتي العامي بما فيه تغليظ وهو مما لا يعتقد ظاهره وله فيه تأويل جاز ذلك زجراً له ولا مثاله ممن قل دينه ومروءته.

(الثالث عشر)

يجب على المفتي عند اجتماع الوقائع بحضرته أن يقدم الأسبق فالأسبق كما يفعله القاضي في الخصوم وهذا فيما يجب فيه الإفتاء فإن تساووا أو جهل السابق قدم بالقرعة والصحيح أنه يجوز تقديم المرأة والمسافر الذي شد رحله وفي تأخيره ضرر بتخلفه عن رفقته ونحو ذلك على من سبقهما إلا إذا كثر المسافرون والنساء بحيث يلحق غيرهم بتقديمهم ضرر كثير فيعود إلى التقديم بالسبق أو القرعة.

قال الصيمري وأبو عمرو: إذا سئل عن ميراث فليست العادة أن يشترط في الورثة عدم الرق والكفر والقتل وغيرها من موانع الميراث بل المطلق محمول على ذلك بخلاف ما إذا أطلق الأخوة والأخوات والأعمام فلا بد أن يقول في الأخوات من أب وأم أو من أب أو من أم.

وإذا كان في المذكورين في رقعة الاستفتاء من لا يرث أفصح بسقوطه فقال: وسقط فلان وإن كان سقوطه في حال دون حال قال وسقط فلان في هذه الصورة أو نحو ذلك لئلا يتوهم أنه لا يرث بحال.

قال الصيمري وغيره: وحسن أن يقول: تقسم التركة بعد إخراج ما يجب تقديمه من دين أو وصية إن كانا.

(الخامس عشر)

إذا رأى المفتي في رقعة الاستفتاء خط غيره ممن هو أهل للفتوى وخطه فيها صحيح موافق لما عنده قال الخطيب وغيره: كتب تحت خطه هذا جواب صحيح وبه أقول أو يكتب جوابي مثل هذا وإن شاء ذكر الحكم بعبارة الخص من عبارة الذي كتب وأما إذا رأى فيها خط من ليس أهلاً للفتوى فقال الصيمري: لا يفتي معه لأن في ذلك تقرير المنكر بل يضرب على ذلك بأمر صاحب الرقعة وله انتهار السائل وزجره وتعريفه قبح ما أتاه وأنه كان واجباً عليه البحث عن أهل الفتوى وطلب من هو أهل لذلك (قال) والأولى في هذا الموضع أن يشار على صاحبها بأبدالها فإن أبى ذلك أجابه شفاها (قال أبو عمرو): إذا خاف فتنة من الضرب على فتيا العادم الأهلية ولم تكن خطأ عدل إلى الامتناع من الفتيا معه فإن غلبت فتاويه لتغلبه على منصبها بجاه أو تلبيس أو غير ذلك بحيث صار امتناع الأهل من الفتيا ضاراً بالمستفتي فليفت فإن ذلك أهون الضررين وليتلطف مع ذلك في إظهار قصوره لمن يجهله.

أما إذا وجد فتيا من أهل وهي خطأ مطلقاً لمخالفتها القاطع أو خطأ على مذهب من يفتي ذلك المفتي على مذهبه قطعاً فلا يجوز له الامتناع من الفتيا تاركاً للتنبيه على خطاءها إذا لم يلق ذلك غيره بل عليه الضرب عليها عند تيسره والإبدال أو تقطيع الرقعة بإذن صاحبها أو نحو ذلك وإذا تعذر ذلك وما يقوم مقامه كتب صواب جوابه عند ذلك الخطاء ثم إن كان المخطئ أهلاً للفتيا فحسن أن يعاد إليه بإذن صاحبها أما إذا وجد فيها فتيا أهل الفتوى وهي على خلاف ما يراه هو غير أنه لا يقطع بخطاءها فليقتصر على جواب نفسه ولا يتعرض لفتيا غيره بتخطئة ولا اعتراض قال صاحب الحاوي: لا يسوغ لمفت إذا استفتي أن يتعرض لجواب غيره برد ولا تخطئة ويجيب بما عنده من موافقة أو مخالفة.

(السادس عشر)

إذا لم يفهم المفتي السؤال أصلاً ولم يحضر صاحب الواقعة قال الصيمري كتب: يزاد في الشرح لنجيب عنه أو لم أفهم ما فيها فأجيب (قال) وقال بعضهم لا يكتب شيئاً أصلاً (قال) ورأيت بعضهم كتب في هذا يحضر السائل لنخاطبه شفاها.

قال الخطيب: ينبغي له إذا لم يفهم الجواب أن يرشد المستفتي إلى مفت آخر أن كان وإلا فليمسك حتى يعلم الجواب.

قال الصيمري: وإذا كان في رقعة الاستفتاء مسائل فهم بعضها دون بعض أو فهمها كله ولم يرد الجواب في بعضها أو احتاج في بعضها إلى تأمل أو مطالعة أجاب عما أراد وسكت عن الباقي.

(السابع عشر)

ليس ينكر أن يذكر المفتي في فتواه الحجة إذا كانت نصا واضحاً قال الصيمري: لا يذكر الحجة أن أفتى عامياً ويذكرها أن أفتى فقيهاً (قال) ولم تجر العادة أن يذكر في فتواه طريق الاجتهاد ووجه القياس والاستدلال إلا أن تتعلق الفتوى بقضاء قاض فيومئ فيها إلى طريق الاجتهاد ويلوح بالنكتة وكذا إذا أفتى غيره فيها بغلط فيفعل ذلك أو ينبه على ما ذهب إليه.

وقد يحتاج المفتي في بعض الوقائع إلى أن يشدد ويبالغ فيقول: وهذا إجماع المسلمين أو لا أعلم في هذا خلافاً أو فمن خالف هذا فقد خالف الواجب وعدل عن الصواب أو فقد أثم وفسق أو وعلى ولي الأمر أن يأخذ بهذا ولا يهمل الأمر وما أشبه هذه الألفاظ على حسب ما تقتضيه المصلحة ويوجبه الحال.

(الثامن عشر)

قال الشيخ أبو عمرو: ليس له إذا استفتي في شيء من المسائل الكلامية أن يفتى بالتفصيل بل يمنع مستفتيه وسائر العامة من الخوض في ذلك فإن كانت المسألة مما يؤمن في تفصيل جوابها من ضرر الخوض كان الجواب تفصيلاً وعلى هذا ونحوه يحمل ما جاء عن بعض السلف من الفتوى في بعض المسائل الكلامية وذكر إمام الحرمين في كتابه الغياثي أن الإمام يحرص ما أمكنه على جمع عامة الخلق على سلوك سبيل السلف في ذلك.

جمال الدين القاسمي.