الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 6/صحف منسية

مجلة المقتبس/العدد 6/صحف منسية

بتاريخ: 22 - 7 - 1906


شذرات حكمية

سئل أبو سليمان المنطقي لِمَ لم يصف التوحيد في الشريعة من شوائب الظنون وأمثلة الألفاظ كما صفا ذلك في الفلسفة فقال: إنا لا نظن أن كل من كان في زمان الفلاسفة بلغ غاية أفاضلهم، وعرف حقيقة أقوال متقدميهم، بل كان في القوم من رأى رأي العامة وحط إلى ما حطت إليه ولم يبن منهم كثير شيء مع قدم الزمان ولقاء المحققين الفاضلين وهذا إذا حل لا يكون قادحاً فيما نصصناه من القول في حقائق التوحيد الذي ظفر به خلصان الحكمة، وفرسان الصناعة، على أن الترجمة من لغة يونان إلى العبرانية ومن العبرانية إلى السريانية ومن السريانية إلى العربية قد أخلت بخواص المعاني في أبدان الحقائق إخلالاً لا يخفى على أحد ولو كانت معاني يونان تهجس في أنفس العرب مع بيانها الرائع، وتصرفها الواسع، وافتنانها المعجز، وسعتها المشهورة، لكانت الحكمة تصل إلينا صافية بلا شوب، وكاملة بلا نقص، ولو كنا نفقه عن الأوائل أغراضهم بلغتهم كان ذلك أيضاً ناقعاً للغليل وناهجاً للسبيل ومبلغاً إلى الحد المطلوب ولكن لابد في كل علم وعمل من بقايا لا يقدر الإنسان عليها وخفايا لا يهتدي أحد من البشر إليها وذلك للعجز الموروث عن الهيولى، والضعف الثابت في الطينة الأولى، وهذا لكي يكون الله تعالى ملاذاً للخلق ومعاذاً للعالم.

قال أبو حيان لأبي سليمان ما الفرق بين طريقة المتكلمين وبين طريقة الفلاسفة فقال ما هو ظاهر لكل ذي تمييز وعقل وفهم طريقتهم مؤسسة على مكايل اللفظ باللفظ وموازنة الشيء بالشيء إما بشهادة من العقل مدخولة وإما بغير شهادة منه البتة والاعتماد على الجدل وعلى ما يسبق إلى الحس أو يحكم به العيان أو على ما يسنح به الخاطر المركب من الحس والوهم والتخيل مع الألف والعادة والمنشأ وسائر الأعراض الذي يطول إحصاؤها ويشق الإتيان عليها وكل ذلك يتعلق بالمغالطة والتدافع وإسكات الخصم بما اتفق وإتمام القول الذي لا محصول فيه ولا مرجوع له مع بوادر لا تليق بالعلم ومع سوء أدب كثير نعم ومع قلة تأله، وسوء ديانة، وفساد دخلة، ورفض الورع بتحمله، والفلسفة أدام الله توفيقك محدودة بحدود ستة كلها تدلك على أنها بحث عن جميعها في العالم من ظهر للعين وباطن للعقل ومركب بينهما ومائل إلى حد طرفيهما على ما هو عليه واستفادة اعتبار الحق من جملته وتفصيله ومسموعه ومرئيه وموجوده ومعدومه من غير هوى يمال به على العقل ولا ألف تغتفر معه جناية التقليد مع أحكام العقل الاختياري وترتيب العقل الطبيعي وتحصيل ما ندَّ وانقلب من غير أن يكون أوائل ذلك موجودة حساً وعياناً وكانت محققة عقلاً وبياناً ومع أخلاق الهيئة واختيارات علوية وسياسات عقلية ومع أشياء كثيرة يطول ذكرها وتعدادها ولا تبلغ أقصى ما لها من حقها في شرفها.

ثم قال وكان شيخنا يحيى بن عدي يقول أني لأعجب كثيراً من قول أصحابنا إذا ضمنا وإياهم مجلس نحن المتكلمون ونحن أرباب الكلام والكلام لنا بنا كثر وانتشر، وصح وظهر، كأن سائر الناس لا يتكلمون أو ليسوا أهل الكلام لعلهم عند المتكلمين خرس وسكوت. أما يتكلم يا قوم الفقيه والنحوي والطبيب والمهندس والمنطقي والمنجم والطبيعي والإلهي والحديثي والصوفي قال وكان يلهج بهذا وكان يعلم أن القوم قد أحدثوا لأنفسهم أصولاً، وجعلوا ما يدعونه محمولاً عليها ومسؤولاً من عرفها وإن كانت المغالطات تجري عليهم ومن جهتهم بقصدهم مرة وبغير قصدهم أخرى قال وكان يصل هذا كثيراً بقوله والدليل على أن النحو والشعر واللغة ليس بعلم أنك لو لقيت في البادية شيخاً بدوياً قحاً محرماً لم ير حضرياً، ولا جاور أعجمياً، ولم يفارق رعية الإبل، وانتياب المناهل، وهو على قبح هيئته التي لا يشق غباره فيها أحد منا وإن كلف (كذا) فقلت له هل عندك علم قال لا: هذا وهو يسير المثل، ويقرض الشعر، ويسجع السجع البديع، ويأتي بما لو سمعه واحد من الحاضرة وعاه واتخذه أدباً، ورواه وجعله حجة، وكان يقول هذه الآداب والعلوم هي قشور الحكمة وما انتثر منها على فائت الزمان لأن القياس المقصود في هذه المواضع والدليل المدعى في هذه الأبواب معها ظل يسير من البرهان المنطقي والرمز الإلهي والإقناع الفلسفي.

قال أبو حيان رويت لأبي سليمان كلاماً لبعض المتصوفة فلم يفكه ولم يهش عنده وقال لو قلت أنا في هذه الطريقة شيئاً لقلت: الحواس مهالك، والأوهام مسالك، والعقول ممالك، فمن خلص نفسه من المهالك، قوي على المسالك، ومن قوي على المسالك، أشرف على المهالك، شرفاً يوصله المالك، قال أبو الخطاب الكاتب الشيخ هذا والله أحسن من كل ما سمع منهم فلو زدتنا منه فقال: الحواس مضلة، والأوهام مزلة، والعقل مدلة، فمن اهتدى في الأول وثبت في الثاني أدرك في الثالث ومن أدرك في الثالث فقد أفلح ومن ضل في الأول وزل في الثاني خاف ومن خاف في الثالث فهو من الهمج واستزاده مظهر الكاتب البغدادي فاستعفى قال: هذا حديث قوم أباعد منا على بعض المشاكهة. قلنا وما قلناه كاف فيما قصدنا فإن استتب خفت العار، واستحليت الغار، (كذا) ولكل أفق يقطفون منه، ولولا هذه اللطائف التي هي شعلة النفوس الوافرة والناقصة، لكانت الصدور تتقرح بأساً، والعقول تتحير يأساً، والأرواح تزهق كمداً، والأكباد تتفتت صمداً، فسبحان من له القدرة وهذه الخليقة، وهذه الأسرار في هذه الطريقة.