الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 6/البابليون

مجلة المقتبس/العدد 6/البابليون

بتاريخ: 22 - 7 - 1906


المملكة الكلدانية - قامت مملكة آشورية جديدة مكان بلاد الكلدان القديمة الداثرة دعيت مملكة البابليين أو المملكة الكلدانية الثانية. وقد تكلم أحد أنبياء إسرائيل على لسان الرب فقال: أنا أحيي الكلدان تلك الأمة الظالمة وسرعان ما تطوف الأرض للاستيلاء على مساكن غيرها وأن خيولها لأخف سيراً من النمر وفرسانها لينشرون في الأطراف ويطيرون كالنسر ينقض على قنيصته وبالجملة فقد ألف الكلدانيون الفروسية والحرب والفتح وهم يماثلون الآشوريين كل المماثلة فاستولوا على بلاد الفرس والجزيرة وبلاد اليهود وسورية وكانت مدة حكمهم قصيرة فقد أنشئت المملكة البابلية سنة 625 وأبادها الفرس سنة 538 ق. م.

بابل - كان بختنصر (604_561) من أقدر ملوكها وهو الذي خرب بيت المقدس وساق اليهود أسرى وأسس في بابل عاصمة بلاده كثيراً من المعابد والقصور. أقيمت هذه المعاهد بالآجر لقلة الحجر في سهل الفرات. ولما كتب عليها الدثور والعفاء لم يبق منها إلا كوم من التراب والأنقاض وقد عثر في المكان الذي كانت فيه بابل على بعض كتابات فعرفت هيئة المدينة. بيد أن هيرودتس اليوناني وصف مدينة بابل وصفاً مسهباً وكان زارها في القرن الخامس ق. م فإذا هي محاطة بسور مربع يشقه الفرات وكانت المدينة تشغل حيزاً من الأرض مساحته 513 كيلومتراً مربعاً (أي سبعة أضعاف مدينة باريس) ولم تكن كل هذه البقعة الفسيحة الأرجاء عامرة بالدور والمساكن بل كان يتخللها حقول مزروعة تقوم بأود السكان آونة الحصار. فكانت بابل من ثم أشبه بمعسكر حصين منها بمدينة. وفي جدرانها أبراج ولها مائة باب من النحاس الأصفر وكان سمكها صالحاً لمرور مركبة عليها وفي حيال السور خندق عريض عميق مليء ماء وسترت حافاته بالقرمد. وكانت دورها ذات ثلاث طبقات أو أربع والشوارع وسطها زوايا قائمة. وما أعجب بناء جسر الفرات وأرصفته والقصر الحصين والجنان المعلقة إحدى عجائب الدنيا السبع. وهذه الجنان سطوح مغروسة بالأشجار قائمة على عمد وقباب مصفوفة طبقات الأولى بعد الثانية.

برج بابل - بنى بختنصر في طرف المدينة برج بابل وقال في إحدى كتاباته لقد جددت أعجوبة بورسيبا (من ضواحي بابل) ليعجب الناس منها وهو معبد السيارات السبع في الدنيا فأعدت تأسيسه على النحو الذي كان عليه في الأزمان السالفة. وهذا المعبد على شك مربع مؤلف من سبعة أبراج بعضها على بعض وخص كل برج بإحدى السيارات السبع وصور باللون الذي أختاره الدين لتلك السيارة. وهذه الألوان إذا بدئ بها من أسفل فهي: زحل (سواد) والزهرة (بياض) والمشتري (أرجوان) وعطارد (أزرق) والمريخ (قرمزي) والقمر (فضي) والشمس (ذهبي). وكان في أعلى الأبراج مصلى ومنضدة من ذهب وفراش وثير تسكن إليه كاهنة.

أخلاقهم وديانتهم

أخلاقهم - لا نعرف هذه الشعوب إلا بمعاهدها ومعاهدها تكاد لا تتعدى أعمال ملوكها فلا ترى الآشوريين أبداً إلا وهم مصورون في حرب أو في صيد أو في احتفالات وما صور نساؤهم قط إذ كن حلس بيوتهن لا يخرجن للناس. وعلى العكس في الكلدان فإنهم كانوا أهل حراثة وتجارة ولكننا لا نعرف شيئاً عن حياتهم. يقول هيرودتس أن هذه الأمة كانت تجمع البنات في مدنها مرة واحدة في العام لتزويجهن فيبيعون الجميلات منهن ويؤخذ ثمنهن ليعطى جهازاً إلى مشوهات الخلقة. قال وعندي أن هذا القانون من أحكم ما وضع من القوانين والشرائع.

ديانتهم - دين هاتين الأمتين واحد فالآشوريين تمذهبوا بمذهب الكلدانيين وقد التبس علينا هذا الدين لأنه نشأ كدين الشعب الكلداني من مزيج ديانات متباينة مشوشة كلها. فكان التورانيون يعتقدون على نحو ما تتوهمه قبائل سبيريا الصفر أن العالم غاص بالشياطين (مثل الطاعون والحمى والأشباح والعفاريت) دأبها تربص البشر بالشر والأخذ بمخنقهم ولذلك تراهم لا يلجأون إلى السحرة ليطردوا عنهم هاته الشياطين برقياتهم. وكان الكوشيون يعبدون ربين ذوي اقنومين الذكر وكان القوة بزعمهم والأنثى وهي المادة وكان الكهنة الكلدان وهم مجموع طوائف قوية من المنعة بحيث ساغ لهم أن يعنوا بتوحيد الدينين.

الأرباب - الرب المتعال هو ايلو في بابل واسور في أشور وقلما يقيمون له معبداً ومنع يشتق ثلاثة أرباب وهم آنوا رب الظلمة وصورته صورة رجل وذنب نسر معصب رأسه برأس سمكة. وبعل ملك الأرواح مصور كالملك على عرشه. ونواح وهو العالم المنظور هيئته هيئة جبار ذي أربعة أجنحة منتشرة. ولكل من هذه الأرباب ربة أنثى إشارة إلى كثرة الأولاد والذراري. ثم ترد من أسفل صور القمر والشمس والسيارات الخمس والكواكب وفي هواء بلاد الكلدان الشفاف يضيء سناها إضاءة لم نعهدها فتتلألأ كالأرباب. وقد أقام الكلدانيون معابدهم باسم هذه الأرباب وما هي في الحقيقة إلا مراصد يتمكن منها المتعبد من مراقبة سير الأفلاك.

علم التنجيم - ذهب الكهنة إلى أن هذه الكواكب أرباب عظيمة تعمل عملها في حياة الإنسان. فكل امرئ يولد في الدنيا في طالع كوكب من الكواكب فيتأتى التنبؤ بسعده إذا علم الكوكب الذي ولد في طالعه. ومن هنا نشأ علم التنجيم والفأل فما يحدث في السماء علامة على ما سيحدث على الأرض. فالنجمة المذنبة مثلاً تنبئ بحدوث ثورة. ويعتقد كهنة الكلدانيين أنهم إذا رصدوا القبة الزرقاء وسياراتها يتنبأون بالحوادث وهذا أصل التنجيم.

علم السحر - للكلدان ضرب من الرقى والطلسمات يدمدمون بها لطرد الأرواح أو استحضارها. وهذه العادة من بقايا ديانة التورانيين وهي أصل السحر. نشأ علم السحر والتنجيم في بلاد الكلدانيين وانتشر في أفق المملكة الرومانية ثم تعداها إلى بلاد أوربا. عرف ذلك من تتبع القوانين السحرية في القرن السادس عشر وكان فيها إذ ذاك كلمات آشورية محرفة.

العلوم - نشأت علوم النجوم في بلاد الكلدان فمنها عرفنا منطقة البروج وتألف الأسبوع من سبعة أيام إكراماً للسيارات السبع وتقسيم السنة إلى اثني عشر شهراً واليوم إلى أربعة وعشرين ساعة والساعة إلى ستين دقيقة والدقيقة إلى ستين ثانية. وعنهم أخذنا طريقة الأوزان والمكاييل محسوبة على مقياس الطول مما ألف بالاستعمال عند الشعوب القديمة كافة.

الصنائع

علم عقود الأبنية - لا نعرف صنائع الكلدانيين حق معرفتها إذ قد سجل العفاء على معاهدهم. وقد حذا أهل الصنائع من الآشوريين ممن رأينا صنائعهم حذو الكلدانيين فصح الحكم على المملكتين جملة واحدة. كان الآشوريون يبنون كالكلدانيين بآجر مجفف بالشمس ويغشون ظواهر الأبنية بالأحجار.

القصور - أقام الكلدانيون قصورهم على آكام صناعية جعلوها واطئة مسطحة تشبه سطوحاً كبيرة واقتضى جعل العلالي والغرف ضيقة واطئة واكتفى بتطويلها كثيراً لأن الآجر لم يكن لينفع في بناء القباب المنبسطة العالية. فالقصر الآشوري يشبه سلسلة أروقة ودهاليز. والسقوف سطوح ممتدة ذات شرفات وفي الباب ثيران ضخمة مجنحة على هيئة الإنسان. والجدران مغشاة من الداخل تارة بروافد من الخشب النفيس وطوراً من الآجر المزين بالمينا وأخرى بصفائح من الرخام الأبيض المنقوش وآنات تزدان الغرف بالصور ويحلى الأثاث بالترصيع البديع.

النقش - يعجب المرء من نقوش الصور الآشورية خاصة ومن المحقق أن التماثيل نادرة ولا إتقان فيها لان النحاتين يؤثرون نحت صفائح كبيرة من الرخام ونقوش ناتئة تشبه الصور ويرسمون مشاهد لا نظام فيها أحياناً وحروباً وصيوداً وحصارات مدن واحتفالات يخرج الملك بها في موكب حفل وهناك تتجلى التفاصيل الدقيقة. فترى بنات الخدام الموكلين بطعام الملك وزمر العملة يبنون له بلاطه والحدائق والحقول والغدران والأسماك في الماء والطيور ترفرف على وكناتها أو تتطاير من شجرة إلى أخرى. وترى صور الكبراء من جوانب وجوههم لان أهل الصناعة ما عرفوا تصويرها من الأمام. ولكنك تقرأ في سحناتهم الحياة والشرف. وتظهر الحيوانات في الأحايين وخصوصاً في الرسوم البارزة في الصيد وفي العادة أن تنقل نقلاً حقيقياً مدهشاً. وكان الآشوريون يتأملون الطبيعة ويرسمونها أصح رسم وبهذا تعرف قيمة صنائعهم حتى أن اليونان اقتدوا بمذهبهم في الصنائع بأن قلدوا النقوش الآشورية ففاقوا مقلديهم وليس في الأمم حتى ولا اليونان أنفسهم من أحسنوا تصوير الحيوانات كالآشوريين.