مجلة المقتبس/العدد 59/السوريون في أميركا
→ ميزان المقادير في تبيان التقادير | مجلة المقتبس - العدد 59 السوريون في أميركا [[مؤلف:|]] |
مقابر المصريين وجنائزهم ← |
بتاريخ: 1 - 1 - 1911 |
لا يصح إطلاق اسم المهاجرين على السوريين الذين سافروا من بلادهم إلى أميركا لكونهم لم يهاجروا ديارهم كما هو المفهوم في معنى الهجرة وإنما يصح إطلاق لسم المسافرين عليهم لأنهم سافروا إلى أميركا للتجارة ولا للإقامة أو لمغادرة أوطانهم بتاتاً أو لجعل أميركا وطناً جديداً لهم أبداً.
وجعلهم طريق أميركا طريقهم المطروق ذهاباً وإياباً مما يثبت ذلك. وسل أياً كان من السوريين في أميركا الشمالية والجنوبية هل هجرت سورية. يقل كلا ما هجرتها إما غادرتها إلى حين_نزحت عنها طلباً للاكتساب وللإتجار ومتى نجحت ووصلت إلى غرضي عدت إلى وطني.
وأما أولئك الذين اشتروا الدور والأملاك في أميركا الشمالية فلم يشتروها لكي يقيموا في أميركا وإنما اشتروها ليتجروا بها ويكسبوا فالاتجار في الأراضي والعقار كثيراً ما يفيض على صاحبه ينابيع اللجين والنضار. وسل أياً كان من الملاكين السوريين في أميركا ألا تريد أن ترجع إلى أرض آبائك وأجدادك إذا تمكنت من بيع أملاكك بالربح يقل بلى أريد من قلبي ولكن دور العودة لم يأن بعد. وما يقوله الملاكون بهذا الباب يقول التجار والعمال والأطباء والصحافيون السوريون في أميركا.
وحجتهم على ذلك هي هذه الأمور (1) قلة العلة في الوطن (2) عدم المساواة (3) شدة التضييق والضغط (4) عدم وجود الأمن في أراضي سورية المهجورة وغير المهجورة (5) عدم وجود المعامل المهمة وقلة أبواب الرزق (6) كثيرة التثبيط وقلة التنشيط (7) كثرة القول وقلة العمل (8) الإبطاء الطويل والمماطلة في المعاملات.
هذه هي حججهم الرئيسية وحقهم أن يحتجوا بها. فإذا كانوا قاسوا مشاق الأخطار والأسفار حتى وصلوا إلى ديار اتسعت أبواب رزقها وكسبها وكثر عدلها وساد أمنها وعمت مساواتها وحريتها وسبق عملها قولها وكثير تنشيطها وقل تثبيطها_إذا كانت هذه حالة البلاد التي وطئتها قدم السوريين فحري بعقلائهم أن يغتنموا فرصة الانتفاع منها والعاقل العاقل من وجد الفرص فانتهزها والجاهل الجاهل من أظفرته بنفسها ولم يغتنمها.
السوريون المتخلفون منقسمون إلى أربع طوائف في هذا الموضوع. طائفة راضية عن سوريي أميركا. وطائفة غير مبالية بهم. وطائفة غير راضية عنهم وهي غير مخلصة.
وطائفة غير راضية إلا أنها مخلصة.
أما الأولى فهي عامة الشعب وهي الأكثر عدداً وأما الثانية فهي التي لا يهمها عمرت البلاد أو خربت وأما الثالثة فهي التي يليق بها بأن تسمى بالطائفة المتعنتة لأنه لا يرضيها شيءٌ فهي أبداً تتذمر وتتأفف وتتفاخر وتباهي بأقدارها وتستصغر أقدار سواها كأنها خلقت من طينة سماوية وغيرها خلق من طينة أرضية.
وأما الرابعة فهي الطائفة المخلصة الغيورة على وطنها وهي القائلة بضرر سفر المهاجرين إلى أميركا بعرفي أو بضرر مهاجرتهم بعرفها، وعرف يرها.
والطائفة القائلة بفائدته هي عامة الأمة السورية فأيتهما أحق بقولها دعواها أتلك أم هذه؟
لا جرم أن دعوى الطائفة الراضية هي الأظهر والأحق وإليك البراهين.
غادر السوريون نزلاء أميركا اليوم القطر السوري جاهلين القراءة والكتابة فصاروا في أميركا يقرأون ويكتبون.
غادروها جاهلين كثيراً من آداب السلوك فصاروا في أميركا في آداب سلوكهم من الطبقة الأولى.
غادروها جاهلين السياسة الوطنية والأجنبية فصاروا في أميركا من أهل الإلمام بها وصاروا يفهمون معناها ومبناها ومغزاها ومرماها.
غادروها عديمي المعارف العمومية تقريباً فصاروا في أميركا ملمين بكثير من تلك المعارف.
غادروها جاهلين بأساليب التجارة فصاروا في أميركا من أهل التجارة.
غادروها جاهلين الصناعات العصرية فصاروا في أميركا عاملين بكثير منها.
غادروها جامدين خاملين فصاروا في أميركا ناهضين.
غادروها ونفوسهم صغيرة فصاروا في أميركا من أهل النفوس الكبيرة.
غادروها أذلاء فصاروا في أميركا أعزاء.
غادروها منقادين لأهل الاستبداد انقياداً أعمى فصاروا في أميركا منورين من دعاة الاستقلال الشخصي.
غادروها ولا صحافة لهم فصارت صحافتهم في أميركا أرقى الصحافات العربية في العالم العربي.
غادروها فقراء فصاروا في أميركا من أهل اليسار.
غادروها ولا مقام لهم فصاروا في أميركا من أهل المقامات.
غادروها ضعفاء العمة والعزيمة فصاروا في أميركا من أهل العزائم والهمم.
وهذا ليس ما كانوا عليه في سورية وبعض ما صاروا إليه في أميركا وأما ما أرسلوه من المال إلى سورية فهو أكثر من عشرة ملايين دولار أو مليوني ليرة إنكليزية ومن كان مشككاً بذلك فعليه بمراجعة مصرف لندن والمصرف العثماني في بيروت على الأخص.
منذ عامين سألت أحد العمال في مصرف أوهاما نبرسكا الأول وهو المستر نيسي الذي لا يزال حياً يرزق عن قيمة الدراهم التي أرسلها سوريو ولاية نبراسكا إلى سورية على يده من ذلك المصرف فقال: إن ما أرسلوه في شهر واحد بلغ ستين ألف دولار أميركي أي اثنتي عشرة ألف ليرة إنكليزية. فإذا كان هذا أرسله فريق من سوريي ولاية نبراسكا في شهر واحد فكم هي قيمة المبالغ التي أرسلها ويرسلها في غيره ولايات؟
وآثار ذلك المبلغ الكبير بادية لذي عينين في لبنان وغير ولايات سورية.
لما كنت في سورية كنت أرى بأم عيني المبالغ التي كانت ترد على أهالي راشيا الوادي وقراها فكانت تلك المبالغ وحدها تختلف في كل أسبوع بين الخمسمائة ليرة والألف بيرة حتى كثر المال في ذلك القضاء بين الأيدي وكثر الأخذ والعطاء وصار ربا الليرة في الشهر عشر بارات وعشرين بارة بعد أن كان قبل عهد السفر إلى أميركا لا يقل عن غرشين أو ثلاثة غروش.
والدور الجميلة التي يشاهدها الناس اليوم في الأقاليم والولايات والألوية والمديريات والأقضية التي لها علاقة بسوريي أميركا قد بنيت بمال هؤلاء ولولا هذا المال لبقيت بلدان وضياعكثيرة أقرب إلى الخراب منه إلى العمران ولولاه لما كانت قدرت الرعية على تأدية الأموال الأميرية لأن البلاد السورية ولاسيما في العقد الأخير من القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين كانت بحاجة شديدة إلى المال. فالأشغال في ذلك العهد المظلم أمست في خبر كان. وكان الحكام والموظفون وأهل السلطة والسيادة قد اغتصبوا البقية الباقية من مال الأمة. ولم يبقوا لها إلا الموت ذلاً وفقراً وجوعاً وقهراً.
وأما دعوى القائلين بأن ما ربحته سورية مالياً من طريق أميركا لا يوازي عشر معشار ما خسرته من شبانها ورجالها الذين ذهبوا فدية الغربة فأقول لهم أنه من البديهي أن من يموت في سورية يموت في أميركا. فالموت موجود في هذه الأمور كما هو موجود في تلك خلّ عنك أنه أقل بطشاً منه في سورية بدليل وفرة الوسائط الصحية في أميركا وقلتها في سورية والسوريون في أميركا محافظون عل صحة أجسامهم أكثر بكثير من محافظتهم عليها في سورية.
وأما القول بأن المال الذي فارق السوريون آباءهم وأمهاتهم وأقرانهم من أله لا يساوي لوعة أم على فراقة فلذة كبدها فهو قول أعده من تلك الأقوال العتيقة البالية التي كانت ومازالت من أسباب انحطاط الشرق والشرقيين.
اجتماع الولد بأمه وأبيه وأهله دائماً حسن وجميل ولكن هذا الاجتماع لا يصيّر الولد رجلاً ولهذا ترى رجال الشرق الذين يصح أن يقال فيهم أنهم رجال قلائل جداً بل لهذا السبب أصيب الشرق بقحط الرجال.
الأميركي يربي ولده ويعلمه وحينما يبلغ رشده يقول له واذهب إلى العالم وعاركه ودعه يعاركك وأما الشرقي فلا يعلم ولده ويلا يربيه تربية الأميركي ولا يعلمه تعليمه وإنما يخاف عليه إذا فارق بيته ولو إلى بضعة أميال وهو يعتقد بأن بعمله هذا يحبه ويغار على مصلحته وخير مستقبله وإن هذا هو أهم ما يطلب منه ولكن قد فاته أن هذا الخوف وعدم هذا الخوف يتوقف سقوط أمم وارتفاع أمم وإذا لم ينتفع سوريو أميركا غير هذا من أميركا فكفيهم لأنهم على هذا المبدأ يستطيعون أن يشيدوا بناء أمة عالية.
وأما الذاهبون إلى أن بقاعاً جمة من بقاع سورية قد خربت بسبب مهاجرة سوريي أميركا وأنهم لو ظلوا في بلادهم يتعهدون زرعها وضرعها وتعميرها لكانت درت عليهم وعلى سورية أنهار الثروة وكانت هذه الثروة أكبر بكثير من ثروتهم التي حصلوها في أميركا ولكانت تلك البقاع زاهية بالحضارة زاهرة بالعمران فهو مذهب فاسد من وجوه جمة.
هو مذهب فاسد لأن الطور الذي زايلوا فيه وطنهم كان طور الخراب. فكانت سماؤه وأرضه خرباً في خراب وجهاته الأربع خراباً بخراب ولم يستطع في أيامه سوريو أميركا وغير سوريي أميركا أن يثروا ولا أن يعيشوا على الأقل عيشة خالية من ضغط الظالمين وجورهم وتعدي الحاكمين واستبدادهم ولا أن ينسبوا كلمة في الإصلاح والعمران.
أما كان الفلاح يهجر أرضه ويقطع غرسه ويهمل ضرعه تخلصاً من الظلم؟ أما كان يترك داره تنعي من بناها كرهاً لا طوعاً لأن صبره قد عيل في تلك الأيام السوداء ولم يبق في وسعه أن يحتمل فوق ما احتمل بصعوبة لا يستطيع وحش بشري ولا وحش بري أن يطيقهما. لما هجرتم أوطانكم وخلانكم وأخدانكم وأخوانكم وأعز الناس لديكم وأحبهم إليكم يا أيها الأحرار؟ أهو لكونكم لم تقدروا على إطاقة ما لا يطاق أم لا؟ كنا نتوقع أن تكونوا عادلين في كتاباتكم عنا في أرض غربتنا. كنا ننتظر إنصافاً لا إجحافاً ولكن شئتم ومرؤتهم وغيرتهم كبار الآمال بل قضت الأقدار أن يظلمان حتى حماة العدل وكماة الفضل إلا أن الأيام بيننا وبينهم ولكل عصر أحكام.
والخلاصة أن سوريي أميركا لم يخربوا وإنما عمروا ودواعي الخراب المشهور في سورية عائدة إلى تلك الحكومة المشهورة أمرها وإن صح أن الذنب كله أو جله راجع على سوريي أميركا فلماذا فررتم أنتم من وجه الحكومة الجائرة قبل سوريي أميركا أو بعدهم ولم تبقوا في سورية لتصلحوا ما أفسده سواكم أو لتعمروا لا لتساعدوا على ازدياد الخراب.
أشاع والي بيروت وكثيرون غيره إشاعات عن سوريي أميركا لم نسمع بها إلا منه ومنهم ولعل الغيرة على مصلحة الدولة دعتهم إلى تلك الإشاعات. فإذا افترضنا وجود افتقار بعض السوريين في أميركا إلى القوت الضروري فإنه من المؤكد والمحقق وجود كثيرين من السوريين الغير (بضم الغين والياء) الذي يعنون بذلك البعض ويطمعونه ويسدون حاجاته وإن افترضنا أن السوريين لم يكترثوا بأخيهم الجائع فحكومات هذه البلاد الرحومة الشفوقة تعنى به وإن افترضنا أنها لا تعنى به فهناك جمعيات في كل ناحية من نواحي هذه الديار غرضها الاعتناء بالفقراء والمعوزين على أنني لم أسمع ولم يسمع غيري أن سورياً مات جوعاً من أول عهد السفر حتى يومنا هذا وكيف يموت السوري جوعاً وقلما فرغ كيسه من المال مهما تكن حالته وحرفته من أرض غربته. وأما القول بأن هذه الإشاعات هي نتيجة تقارير معتمدي الدولة العثمانية في أميركا فإننا لا ندري كيف أن هؤلاء المعتمدين يبعثون بتلك التقارير وهم لا يعرفون عن سوريي أميركا من حيث مجموعهم شيئاً تقريباً ولا يعرف السوريون عنهم سوى وجودهم في أميركا.
أنا أكتب عهن السوريين لا عن سواهم من العثمانيين في أميركا وإذا كان هنالك جمهور من مهاجري أتراك سلانيك وأزمير وسواهما لم يفهموا كيفية التماس الرزق في أميركا من أبوابه وكان معتمدو الدولة في أميركا يعنون بإخوانهم الأتراك المهاجرين (؟) لأنهم أتراك ويهملون سواهم نهم غير أتراك ويرسلون في أحوالهم التقارير حباً بمصلحتهم وغيرة عليهم_فليس المعنى أن السوريين العرب في أميركا صاروا أتراكاً حتى يصح عليهم ما أذاعه عنهم والي بيروت اعتماداً على ما أرسله معتمدو الدولة في أميركا بهذا الباب.
أميركا:
يوسف جرجس زخم.