الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 54/مناظرة القنائي والسيرافي

مجلة المقتبس/العدد 54/مناظرة القنائي والسيرافي

مجلة المقتبس - العدد 54
مناظرة القنائي والسيرافي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 1 - 8 - 1910


من المناظرات الجميلة بأسلوبها وجمال إنشائها ما جرى بين متى بن يونس القنائي وبين أبي سعيد السيرافي نقتبسها من الجزء الثالث من معجم الأدباء الذي صدر مؤخراً ليطلع القراء على أفكار الفيلسوف وأفكار نحوي وها نحن نقدم قبل إيراد المناظرة مختصر ترجمة المتناظرين وناقل كلامهما ليكون القراء على بينة مما يتلو كلامه.

أما متى بن يونس أو يونان أبو بشر وهو من أهل دير ممن نشأ في أسكول مرماي قرأ على قوقري وعلى روفيل وبنيامين ويحيى المروزي وعلى ابن أحمد بن كرنيب وله تفسير من السرياني إلى العربي وإليه انتهت رئاسة المنطقتين في عصره وكان نصرانياً وتوفي ببغداد يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة ثمان وعشرين وثلثمائة ولمتى من الكتب مقالة من مقدمات صدر بها كتاب أنالوطيقا كتاب المقاييس الشرطية وشرح كتاب إيساغوجي لفرفوريوس.

وأما أبو سعيد الحسن السيرافي فيتلخص مما قاله ياقوت في معجم الأدباء أن سيراف بليد على ساحل البحر من فارس كان أبوه مجوسياً اسمه بهزاد فسماه أبوه أبو سعيد عبد الله وقال أبو حيان في كتابه الذي ألفه تقريظ أبو عمرو بن بحر وقد ذكر جماعة من الأئمة كانوا يقدمون الجاحظ ويفضلونه فقال: ومنهم ابو سعيد السيرافي شيخ الشيوخ وإمام الأئمة معرفة بالنحو الفقه واللغة والشعر والعروض والقوافي والقرآن والفرائض والحديث والكلام والحساب والهندسة أفتى في جامع الرصافة خمسين سنة على مذهب أبي حنيفة فما وجد له خطأ ولا عثر له على زلة وقضى ببغداد وشرح كتاب سيبويه في ثلاثة آلاف ورقة بخطه في السليماني فما جاراه فيه أحد ولا سبقه إلى تمامه إنسان هذا مع الثقة والديانة والأمانة والرواية صام أربعين سنة وأكثر الدهر كله ومات 368.

هذا أما أبو حيان التوحيدي فهو المتكلم الصوفي صاحب المصنفات ومنها كتاب البصائر والإشارات وغيرهما وكتاب المقابسات وكان إماماً في النحو واللغة والتصريف فقيهاً مؤرخاً وصفه ابن النجار أنه كان فقسراً صابراً متديناً وأنه كان صحيح العقيدة إلا أن بعض المؤرخين رموه بالكذب وقلة الدين والمجاهرة بالبهتان وإنه تعرض لأمور جسام والقدح في الشريعة والقول بالتعطيل قال ابن الفارس:

ولقد وقف سيدنا الصاحب كافي الكفاة على بعض ما كان يدخله ويخفيه من سوء الاعتقاد فطلبه ليقتله فهرب والتجأ إلى أعداءه ونفق عليهم بزخرفه وأفكه ثم عثروا منه على قبيح دخلته وسوء عقيدته وما يبطنه من الإلحاد ويرومه في الإسلام من الفساد وما يلصقه بأعلام الصحابة من القبائح ويضيفه إلى السلف الصالح من الفضائح فطلبه الوزير المهلبي فاستتر منه ومات في الاستتار.

وعده أبو الفرج ابن الجوزي في تاريخه أحد زنادقة الإسلام الثلاثة وهم الراوندي وأبو حيان التوحيدي وأبو العلاء قال وأشدهم على الإسلام أبو حيان لأنه جمجم ولم يصرح. قال السبكي أنه وقع على كثير من كلامه فلم يجد فيه إلا ما يدل على أنه كان قوي النفس مزدرياً بأهل عصره ولا يوجب هذا القدر. قلنا وما كان طلب الصاحب ابن عباد لأبي حيان إلا لأن هذا وضع كتاباً سماه مثالب الوزيرين ضمنه معايب أبي الفضل بن العميد والصاحب بن عباد وتحامل عليهما وعدد نقائصهما ومن كتبه أيضاً الإمتاع والمؤانسة في مجلدين وكتاب الصديق والصداقة وكان موجوداً في السنة الأربعمائة.

وإليك الآن هذه المناظرة الغريبة.

قال أبو حيان: ذكرت للوزير مناظرة جرت في مجلس الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات بين أبي سعيد السيرافي وأبي بشر متى واختصرتها فقال لي اكتب هذه المناظرة على التمام فإن شيئاً يجري في ذلك المجلس النبيه وبين هذين الشيخين بحضرة هؤلاء الأعلام ينبغي أن يغتنم سماعه وتوعى فوائده ولا يتهاون منه في شيءٍ فكتبت:

حدثني أبو سعيد بلمع من هذه القصة فأما علي بن عيسى النحوي الشيخ الصالح فإنه رواها مشروحة قال: لما انعقد المجلس سنة عشرين وثلثمائة قال الوزير ابن الفرات للجماعة: (وفيهم الخالدي وابن الإخشيد والكندي وابن أبي بشر وابن أبي رباح وابن كعب وأبو عمرو قدامة بن جعفر والزهري وعلي بن عيسى بن الجراح وأبو فارس وابن رشيد وابن العزيز الهاشمي وابن يحيى العلوي وابن طغج من مصر والمرزباني صاحب بني سامان) أريد أن ينتدب منكم إنسان لمناظرة متى في حديث المنطق فإنه يقول لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل والصدق من الكذب والخير من الشر والحجة من الشبهة والشك من اليقين إلا بما حويناه من المنطق وملكناه من القيام واستفدناه من واضعه على مراتبه وحدوده وأطلعنا عليه من جهة اسمه على حقائقه. فأحجم القوم وأطرقوا فقال ابن الفرات: والله إن فيكم لمن يفي بكلامه ومناظرته وكسر ما ذهب إليه وإني أعدكم في العلم بحاراً وللدين وأهله أنصاراً وللحق وطلابه مناراً فما هذا التغامز والتلامز اللذان تجلون عنهما. فرفع أبو سعيد السيرافي رأسه وقال: اعذر أيها الوزير فإن العلم المصون في الصدور غير العلم المعروض في هذا المجلس على الأسماع المصيخة والعيون المحدقة والعقول الجامدة والألباب الناقدة لأن هذا يستصحب الهيبة والهيبة مكسرة ويجتلب الحياة والحيا مغلبة وليس البراز في معركة غاصة كالصراع في بقعة خاصة.

فقال ابن الفرات: أنت لها يا أبا سعيد فاعتذارك عن غيرك يوجب عليك الانتصار لنفسك والانتصار لنفسك راجح على الجماعة بفضلك. فقال أبو سعيد: مخالفة الوزير فيما يأمره هجنة والاحتجان عن رأيه إخلاد إلى التقصير ونعوذ بالله من زلة القدم وإياه نسأل حسن التوفيق في الحرب والسلم ثم واجه متى فقال: حدثني عن المنطق ما تعني به فإنا إذا فهمنا مرادك فيه كان كلامنا معك في قبول صوابه ورد خطؤه على سنن مرضي وعلى طريقة معروفة. قال متى: أعني به أنه آلة من الآلات يعرف به صحيح الكلام من سقيمه وفاسد المعنى من صالحه كالميزان فإني أعرف به الرجحان من النقصان والشائل من الجانح.

فقال له أبو سعيد: لأخطأت لأن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالعقل إن كنا نبحث بالعقل هبك عرفت الراجح منت الناقص من طريق الوزن من لك بمعرفة الموزون أهو حديد أو ذهب أو شبه أو رصاص وأراك بعد معرفة الوزن فقيراً إلى معرفة جوهر الموزون والى معرفة قيمته وسائر صفاته التي يطول عدها فعلى هذا لم ينفعك الوزن الذي كان عليه اعتمادك وفي تحقيقه كان اجتهادك إلا نفعاً يسيراً من وجه واحد وبقيت عليك وجوه فأنت كما قال الأول:

حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء.

وبعد فقد ذهب عليك شيءٌ هاهنا ليس كل ما لدينا في الدنيا يوزن بل فيها ما يوزن وفيها ما يكال وفيها ما يذرع وفيها ما يمسح وفيها ما يحزر وهذا وإن كان هكذا في الأجسام المرئية فإنه أيضاً على ذلك في المعقولات المقروءة والإحساس ظلال العقول وهي تحكيها بالتبعيد والتقريب مع الشبه المحفوظ والمماثلة الظاهرة ودع هذا إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها من أين يلزم الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه وأن يتخذوه حكماً لهم وعليهم وقاضياً بينهم ما شهد له قبلوه وما أنكره رفضوه. قال متى: إنما يلزم ذلك لأن المنطق بحث عن الأغراض المعقولة والمعاني المدركة وتصفح للخواطر السانحة والسوانح الهاجسة والناس في المعقولات سواء ألا ترى أن أربعة وأربعة ثمانية عند جميع الأمم وكذلك ما أشبهه. قال أبو سعيد: لو كانت المطلوبات بالعقل والمذكورات باللفظ ترجع مع شعبها المختلفة وطرائقها المتباينة إلى هذه المرتبة البينة في أربعة وأربعة إنهما ثمانية زال الاختلاف وحضر الاتفاق وطلكن ليس الأمر هكذا ولقد موهت بهذا المثال ولكم عادة في مثل هذا التمويه ولكن ندع هذا أيضاً إذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يوصل إليها إلا باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة. قال: نعم. قال أخطأت: قل في هذا الموضع بلى. قال متى: بل أنا أقلدك مثل هذا. قال أبو سعيد: فأنت إذاً لست تدعونا إلى علم المنطق بل إلى علم تعلم اللغة اليونانية وأنت لا تعرف لغة يونان فكيف صرت تدعو إلى لغة لا تفي بها وقد عفت منذ زمان طويل وباد أهلها وانقرض القوم الذين كانوا يتفاوضون بها ويتفاهمون أغراضهم بتصرفها على أنك تنقل من السريانية فما تقول في معان متهولة بالنقل من لغة يونان إلى لغة أخرى سريانية ثم من هذه إلى لغة أخرى عربية. قال متى: يونان وإن بادت مع لغتها فإن الترجمة قد حفظت الأغراض وأدت المعاني وأخلصت الحقائق. قال أبو سعيد: إذا سلمنا لك أن الترجمة صدقت وما كذبت وقومت وما حرفت ووزنت وما جزفت ولا نقصت ولا زادت ولا قدمت ولا أخرت ولا أخلت بمعنى الخاص والعام ولا بأخص الخاص ولا بأعم العام وإن كان هذا لا يكون وليس في طبائع اللغات ولا في مقادير المعاني فكأنك تقول بعد هذا لا حجة إلى عقول يونان ولا برهان إلا ما وصفوه ولا حقيقة إلا ما أبرزوه. قال متى: لا ولكنهم من بين الأمم أصحاب عناية بالحكمة والبحث عن ظاهر هذا العالم وباطنه وعن كل ما يتصل به وينفصل عنه وبفضل عنايتهم ظهر ما ظهر وانتشر ما انتشر وفشا ما فشا ونشأ ما نشأ من أنواع العلم وأصناف الصناعة ولم نجد هذا عند غيرهم. قال أبو سعيد: أخطأت وتعصبت وملت مع الهوى فإن العلم مبثوث في العالم ولهذا قال القائل:

العلم في العالم مبثوث ... ونحوه العاقل محثوث وكذلك الصناعات مفضوضة على جميع من على جديد الأرض ولهذا غلب علم في مكان دون مكان وكثرت صناعة في بقعة دون صناعة وهذا واضح والزيادة مشغلة ومع هذا فإنما كان يصح قولك ويسلم دعواك لو كانت يونان معروفة بين جميع الأمم بالعصمة الغالبة والفطرة الظاهرة والبينة المخالفة وأنهم لو أرادوا أن يخطئوا ما قدروا ولو قصدوا أن يكذبوا ما استطاعوا وأن السكينة نزلت عليهم والحق تكفل بهم والخطأ تبرأ منهم والفضائل لصقت بأصولهم وفروعهم والرذائل بعدت عن جواهرهم وعروقهم وهذا جهل ممن يظن بهم وعناد ممن يدعيه عليهم بل كانوا كغيرهم من الأمم يصيبون في أشياء ويخطئون في أشياء ويصدقون في أمور ويكذبون في أمور ويحسنون في أحوال ويسيئون في أحوال وليس واضع المنطق يونان بأسرها إنما هو رجل منهم وقد أخذ عمن قبله كما أخذ عنه من بعده وليس هو حجة على هذا الخلق الكثير والجم الغفير وله مخالفون منهم ومن غيرهم ومع هذا فالاختلاف في الرأي والنظر والبحث في المسألة والجواب سنخ وطبيعة فكيف يجوز أن يأتي رجل بشيءٍ يرفع به هذا الخلاف أو يحله أو يؤثر فيه هيهات هذا محال. ولقد بقي العالم بعد منط قه على ما كان قبل منط قه وامسح وجهك بالسلوة عن شيءٍ لا يستطاع لأنه مفتقد بالفطرة والطباع وأنت فلو فرغت بالك وصرفت عنايتك إلى معرفة هذه اللغة التي تحاورنا بها وتجارينا فيها وتدرس أصحابك بمفهوم أهلها وتدرس كتب يونان بعادة أصحابها لعلمت أنك غني عن معاني يونان كما أنك غني عن لغة يونان وها هنا مسألة: أتقول أن الناس عقولهم مختلفة وأنصباؤهم منها متفاوتة. قال: بالطبيعة. قال: فكيف يجوز أن يكون ها هنا شيءٌ يرتفع به الاختلاف الطبيعية والتفاوت الأصلي. قال متى: هذا قد مر في جملة كلامك آنفاً. قال أبو سعيد: فهل وصلته بجواب قاطع وبيان ناصع دع عنك هذا أسألك عن حرف واحد هو دائر في كلام العرب ومعانيه متميزة عند أهل العقل فاستخرج أنت معانيه من ناحية منطق أرسطاطاليس الذي تدل به وتباهي بتفخيمه وهو الواو وما أحكامه وكيف مواقعه وهل هو على وجه واحد أو وجوه. فهبت متى وقال: هذا نحو والنحو لم أنظر فيه لأن لا حاجة بالمنطقي إلى النحو وبالنحوي حاجة إلى المنطق لأن المنطق يبحث عن المعنى والمنطق يبحث عن اللفظ فإن مر المنطقي باللفظ فبالعرض وإن عبر النحوي بالمعنى فبالعرض والمعنى أشرف من اللفظ واللفظ أوضح من المعى. قال أبو سعيد: أخطأت لأن المنطق والنحو واللفظ والإفصاح والإعراب والأنباء والحديث والأخبار والاستخبار والعرض والتمني والحض والدعاء والنداء والطلب كلها من واد واحد بالمشاكلة والمماثلة ألا ترى أن رجلاً لو قال نطق زيد بالحق ولكن ما تكلم بالحق وتكلم بالفحش ولكن ما قال الفحش وأعرب عن نفسه ولكن ما أفصح وأبان المراد ولكن ما أوضح أوفاه بحاجته ولكن ما لفظ أو أخبر ولكن ما أنبأ لكان في جميع هذا مخرفاً ومناقضاً وواضعاً للكلام في غير حقه ومستعملاً للفظ على غير شهادة من عقله وعقل غيره والنحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية والمنطق نحو ولكنه مفهوم باللغة وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى وإن اللفظ طبيعي والمعنى عقلي ولهذا كان اللفظ بائداً على الزمان يقفوا أثر الطبيعة بأثر آخر من الطبيعة ولهذا كان المعنى ثابتاً على الزمان لأن مستعملي المعنى عقل والعقل إلهي ومادة اللفظ طينية وكل طيني متهافت وقد بقيت أنت بلا اسم لصناعتك التي تنتحلها وآلتك التي تزهى بها إلا أن تستعير من العربية لها اسماً فتعار ويسلم لك بمقدار وإن لم يكن لك من بد من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة فلا بد لك من كثيرها من أجل تحقيق الترجمة واجتلاب الثقة والتوقي من الخلة اللاحقة بك. قال متى: يكفيني من لغتكم هذا الاسم والفعل والحرف فإني أتبلغ بهذا القدر إلى إغراض قد هذبتها لي يونان. قال أبو سعيد: أخطأت لأنك في هذا الاسم والفعل والحرف فقير إلى وصفها وبنائها على الترتيب الواقع في غرائز أهلها وكذلك أنت محتاج بعد هذا إلى حركات كهذه الأسماء والأفعال والحروف فإن أخطأت والتحريف في الحركات كالخطأ والفساد في المتحركات. وهذا باب أنت وأصحابك ورهطك عنه في غفلة على أن ها هنا سراً ما علق بك ولا أسفر لعقلك وهو أنتعلم أن لغة من اللغات لا تطابق لغة أخرى من جميع جهاتها بحدود صفاتها في أسمائها وأفعالها وحروفها وتأليفها وتقديمها وتأخيرها واستعارتها وتحقيقها وتشديدها وتخفيفها وسعتها وضيقها ونظمها ونثرها وسجعها ووزنها وميلها وغير ذلك مما يطول ذكره وما أظن أحداً يدفع هذا الحكم أو يسأل في صوابه ممن يرجع إلى مسكة من عقل أو نصيب من إنصاف فمن أين يجب أن نثق بشيءٍ ترجم لك على هذا الوصف بل أنت إلى أن تعرف اللغة العربية أحوج منك إلى أن تعرف المعاني اليونانية على أن المعاني لا تكون يونانية ولا هندية كما أن اللغات لا تكون فارسية ولا عربية وتركية ومع هذا فإنك تزعم أن المعاني حاصلة بالعقل والفحص والفكر فلم يبق إلا أحكام اللغة فلم تزري على اللغة العربية وأنت تشرح كتب أرسطاطليس بها من جهلك بحقيقتها وحدثني قائل قال لك عن حالي في معرفة الحقائق والتصفح لها والبحث عنها حال قوم كانوا قبل واضع المنطق أنظر كما نظروا وأتدبر كما تدبروا لأن اللغة قد عرفتها بالمنشأ والوراثة والمعاني نقرت عنها بالنظر والرأي والاعتقاب والاجتهاد وما تقول له لا يصح له هذا الحكم ولا يستثب هذا الأمر لأنه لم يعرف هذه الموجودات من الطريقة التي عرفتها أنت ولعلك تفرح بتقليدك وإن كان على باطل أكثر مما يفرح باستبداده وإن كان على حق وهذا هو الجهل المبين والحكم غير المستبين. ومع هذا حدثني عن الواو وما حكمه فإني أريد أن أبين أن تفخيمك للمنطق لا يغني عنك شيئاً. وإن تجهل حرفاً واحداً من اللغة التي تدعو بها إلى الحكمة اليونانية ومن جهل حرفاً واحداً أمكن أن يجهل اللغة بكاملها وإن كان لا يجهلها كلها ولكن يجهل بعضها فلعله يجهل ما يحتاج إليه ولا ينفعه فيه علم بما لا يحتاج وهذه رتبة العامة أو هي رتبة فوق العامة بقدر يسير فلم يتأبى على هذا وينكر ويتوهم أنه من الخاصة وخاصة الخاصة وأنه يعرف سر الكلام وغامض الحكمة وخفي القياس وصحيح البرهان وإنما سألتك عن معاني حرف واحد فكيف لو نثرت عليك الحروف كلها وطالبتك بمعانيها ومواضعها التي لها بالحق والتي لها بالتجوز وسمعتكم تقولون في لا يعلم النحويون مواقعها وإنما يقولون هي للوعاء كما يقولون أن الباء للإلصاق وإن في تقال على وجوه يقال الشيء في الوعاء والإناء والمكان والسائس في السياسة والسياسة في السائس ألا ترى هذا الشقيق هو من عقول يونان ومن ناحية لغتها ولا يجوز أن يعقل هذا بعقول الهند والترك والعرب فهذا جهل من كل من يدعيه وخطل من القول الذي أفاض النحوي إذ قال في للوعاء فقد أفصح في الجملة عن المعنى الصحيح وكنى مع ذلك عن الوجوه التي تظهر بالتفصيل ومثل هذا كثير وهو كاف في موضع السكيت. فقال ابن الفرات أيها الشيخ الموفق أجبه بالبيان عن مواقع الواو حتى تكون اشد في إفحامه وحقق عند الجماعة ما هو عاجز عنه ومع ذلك فهو متشيع به. فقال أبو سعيد: للواو وجوه ومواقع منها معنى العطف في قولك أكرمت زيداً وعمراً ومنها القسم في قولك والله لقد كان كذا وكذا ومنها الائتناف كقولك خرجت وزيداً قائم لأن الكلام بعد ابتداء وخبر ومنها معنى رب التي هي للتقليل نحو قوله:

وقائم الأعمال خاوي المخترقن.

ومنا أن تكون أصلية في الاسم كقولك واقد واصل وافد وفي الفعل كقولك وجل يوجل ومنها أن تكون مقحمة نحو قول الله تعالى فلما استلما وتله للجبين ونادياه أي ناديناه ومثله قول الشاعر:

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل

المعنى انتحى بنا ومعنى الحال في قوله عز وجل: ويكلم الناس في المهد وكهلاً أي يكلم الناس حال صغره بكلام الكهل في حال كهولته ومنها أن تكون بمعنى حرف الجر كقولك استوى الماء والخشبة أي مع الخشبة. فقال ابن فرات لمتى: يا أبا بشر أكان هذا في نحوك. ثم قال أبو سعيد: دع هذا ها هنا مسألة علاقتها بالمعنى العقلي أكثر من علاقتها بالشكل اللفظي ما تقول في قول القائل زيد أفضل الأخوة. قال: صحيح: قال: فما تقول إن قال زيد أفضل أخوته. قال: صحيح قال: فما الفرق بينهما مع الصحة فبلح وجنح جوابك عنها صحيح وإن كنت غافلاً عن وجه صحتها والمسألة الثانية جوابك عنها غير صحيح وإن كنت أيضاً ذاهباً عن وجه بطلانها. قال متى: بين ما هذا التهجين. قال أبو سعيد: إذا حضرت المختلفة استفدت ليس هذا مكان التدريس هو مجلس إزالة التلبيس مع من عادته التمويه والتشبيه والجماعة تعلم أنك أخطأت فلم تدعي أن النحوي إنما ينظر في اللفظ لا في المعنى والمنطقي ينظر في المعنى لا في اللفظ هذا كان يصح لو أن المنطقي يسكت ويجيل فكره في المعاني ويرتب ما يريد في الوهم اتلسياح والخاطر العارض والحدس الطارئ وأما وهو يريغ أن يبرز ما صح له الاعتبار والتصفح إلى المتعلم والمناظر فلا بد له من اللفظ الذي يشتمل على مراده ويكون طباقاً لغرضه وموافقاً لقصده.

قال ابن فرات يا ابا سعيد تمم لنا كلامك في شرح المسألة حتى تكون الفائدة ظاهرة لأهل المجلس والتبكيت عاملاً في نفس أبي البشر. فقال ما أكره من إيضاح الجواب عن هذه المسألة إلا ملل الوزير فإن الكلام إذا طال ملَّ. فقال ابن الفرات ما رغبت في سماع كلامك وبيني وبين الملل علاقة فأما الجماعة فحرصها على ذلك ظاهر. فقال ابو سعيد: إذا قلت زيد أفضل أخوته لم يجز وإذا قلت زيد أفضل الأخوة جاز والفصل بينهما أن أخوة زيد هم غير زيد وزيد خارج من جملتهم ولك دليل أنه لو سأل سائل فقال من أخوة زيد لم يجز أن تقول زيد وعمرو وبكر وخالد وإنما تقول عمرو وخالد ولا يدخل زيد في جملتهم فإذا كان زيد خارجاً عن أخوته صار غيرهم فلم تجز زيداً غير أخوته فإذا قلت زيد أفضل الأخوة ألا ترى أنه لو قيل من الأخوة عددته فيهم فقلت زيد وعمرو وبكر وخالد فيكون بمنزلة قولك حمارك أفره الحمير فلما كان على ما وصفناه جاز أن يضاف إلى واحد منكور يدل على الجنس كما دل الرجال وكما في عشرين درهماً مائة درهم. فقال ابن الفرات: ما بعد هذا البيان مزيد ولقد جل علم النحو عندي بهذا الاعتبار وهذا الانقياد. فقال أبو سعيد: معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير وتوخي الصواب في ذلك وتجنب الخطأ من ذلك وإن زاغ شيءٌ عن النعت فإنه لا يخلو من أن يكون سائغاً بالاستعمال النادر والتأويل البعيد أو مردوداً لخروجه عن عادة القوم الجارية على فطرتهم فأما ما يتعلق باختلاف لغات القبائل فذلك شيءٌ مسلم لهم ومأخوذ عليهم وكل ذلك محصور بالتتبع والرواية والسماع والقياس المطرد على الأصل المعروف من غير تحريف وإنما دخل العجب على المنطقيين لظنهم أن المعاني لا تعرف ولا تستوضح إلا بطريقتهم ونظرهم وتكلفهم فترجموا لغة هم فيها ضعفاء ناقصون بترجمة أخرى هم فيها ضعفاء ناقصون وجعلوا تلك الترجمة صناعة وادعوا على النحويين أنهم مع اللفظ لا مع المعنى. ثم اقبل أبو سعيد على متى فقال: ألا تعلم يا أبا البشر أن الكلام اسم وقع على أشياء قد ائتلفت بمراتب مثال ذلك أنك تقول هذا ثوب والثوب يقع على أشياء بها صار ثوباً ثم به نسج بعد أن غزله فسداته لا تكفي دون لحمته ولحمته لا تكفي وزن سداته ثم تأليفه كنسجه وبلاغته كقصارته ودقة سلكه كرق لفظه وغلظ غزله ككثافة حروفه ومجموع هذا كله ثوب ولكن يعد تقدمة كل ما يحتاج إليه. قال ابن الفرات: سله يا أبا سعيد عن مسوألة أخرى فان هذا كلما توالي عليه بأن انقطاعه وانخفض ارتفاعه في المنطق الذي ينصره والحق الذي لا ينصره. قال أبو سعيد: ما تقول في رجل قال لهذا عليّ درهم غير قيراط. قال متى: مالي علم بهذا النمط. قال: لست نازعاً عنك حتى يصح عند الحاضرين أنك صاحب مخرقة وزرق ها هنا ما هو أخف من هذا قال رجل لصاحبه: بكم الثوبان المصبوغان وقال آخر: بكم ثوبان مصبوغان وقال آخر: بكم ثوبان مصبوغين بين هذه المعاني التي تضمنها لفظ لفظ. قال متى: لو نثرت أنا عليك من مسائل المنطق شيئاً لكن حالك كحالي. قال أبو سعيد: أخطأت لأنك إذا سألتني عن شيءٍ أنظر فيه فإن كان له علاقة بالمعنى وصح لفظه على العادة الجارية أجبت ثم لا أبالي أن يكون موافقاً أو مخالفاً وإن كان غير مت علق بالمعنى رددته عليك وإن كان مت صلاً باللفظ ولكن على موضع لكم في الفساد على ما حشوتم به كتبكم رددته أيضاً لأنه لا سبيل إلى إحداث لغة مقررة بين أهلها وبين ما وحدنا لكم إلا ما استعرتم من لغة العرب كالسبب وإلا والموضوع والمحمول والكون الفساد والمهمل والمخصوص وأمثلة لا تنفع ولا تجدي وهي إلى العي اقرب منها إلى الفهاهة اذهب ثم أنتم هؤلاء في منطقكم على نقض ظاهر لأنكم لا تفون بالكتب ولا هي مشروحة وتدعون الشعر ولا تعرفونه وتدعون الخاطبة وأنتم عنها في منقطع التراب وقد سمعت قائلكم يقول الحاجة ماسة إلى كتاب البرهان فإن كان كما قال فلم قطع الزمان بمن قبله من الكتب وإن كانت الحاجة قد مست إلى ما قبل البرهان فهي أيضاً ماسة إلى ما بعد البرهان وإلا فلما صنف مالاً يحتاج إليه ويستغني عنه هذا كله تخليط وزرق وتهويل ورعد وبرق وإنما بودكم أن تشغلوا جاهلاً وتستذلوا عزيزاً وغابتكم أن تهولوا بالجنس والنوع والخاصة والفصل والعرض والشخص وتقولوا إلهية والأينية والماهية والكيفية والكمية والذاتية والعرضية والجوهرية والهيولية والصورية والإنسية والكسبية والنفسية ثم تنمطون وتقولون جئنا بالسحر في قولنا * لا أفي شيء من باء وواو وجيم في بعض باء وفاء في بعض جيم وإلا في كل ب وج في كل ب فإذا لا في كل ج وهذا بطريق الحلف وهذا بطريق الاختصاص وهذه كلها جزافات وترهات ومغالق وشبكات ومن جاد عقله وحسن تمييزه ولطف نظره وثقب رأيه وإنارات نفسه واستغنى عن هذا كله بعون اله وفضله وجودة العقل وحسن التمييز ولطف النظر وثقوب الرأي وإنارة النفس منائح الله الهبية ومواهبه السنية يختص بها من يشاء من عباده وما عرف لاستطالتكم بالمنطق وجهاً من هذا الناشيء