الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 53/رحلة إلى قلمون الأسفل

مجلة المقتبس/العدد 53/رحلة إلى قلمون الأسفل

مجلة المقتبس - العدد 53
رحلة إلى قلمون الأسفل
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 1 - 7 - 1910


على أربع ساعات من شمالي دمشق واد منبسط بين جبلين متسامتين طوله من سفح ثنية العقاب إلى مزرعة الناصرية لا يقل عن ست ساعات وعرضه ساعتان تربته بيضاء ورباعه مخصبة ومياهه موفورة بحيث لو حفرت عشرة أذرع أو أكثر ينبط الماء غزيراً مع أن الجبلين المتناوحين من شمال الوادي وجنوبه لا شجر فيهما ولا غابة تزينهما.

ولو كانا مغروسين بالسنديان والزان والبلوط والشوح لكان هذا الوادي بأمطاره الغزيرة وريه المتواصل أشبه بأخصب السهول الشندشية ولذا كان جبل قلمون ضعيفاً بريه وإن لم يكن كذلك بزكاء تربته والمعالي والأسفل أو التحتاني منه متشابها وإن كانت سهوله أخصب من آكامه وتلعاته ومياه الأعالي أعذب من مياه الأسفل. وفي قلمون الأسفل من القرى والأمهات ما يطلق على أمثاله في ديار الغرب اسم بلدة وذلك مثل الرحيبة وجيرود والمعظمية والقطيفة وضمير وكلها ذات تاريخ قديم وعمران طبيعي وهي بكثرة نفوسها يزيد عمرانها اليوم كلما انبسط السلام فيها وأمن أهلها على مواشيهم من غارات أشقياء الصفا وجبل الدروز المجاورين لهم من جهة الجنوب والجنوب الشرقي على مسيرة يوم من هذه البلاد.

ولقد كان عرب الصفا واللجاة وجبل حران يغزون من سنين أهل قرى القلمون الأسفل في عقر دارهم ويرعون زروعهم وينهبون ناطقهم وصامتهم ولذلك ضعف عمران تلك الديار حتى على قيد غلوة من القصبات والدساكر فأصبحت إلا قليلاً مزارع حقيرة ومداشر. وقلت الأشجار فيها حتى في ضواحي الثرى وعلى شواطئ الجداول والأنهار لأن الفلاح أصبح لا يفكر إلا في رزق سنته فإذا نجا عامه من شرور النهب فهو سعيد آمن وإلا فيقضى عليه أن يعيش في فقر ليس بعده فقر وذلة هي الموت بعينها أو يهيم على وجهه إلى إقليم آخر يكون أقرب إلى الأمن والأمان يطلب معاشه بالعمل مأجوراً وكان يستطيع أن يعيش أميراً من أرض أورثه إياها آباؤه وأجداده لو كان له حكومة تفكر فيه وتدفع عنه بوائق الدهر وعواديه وتعرف أن ما تتقاضاه إياه من الضرائب والإتاوات ليس إلا لتحميه.

ومن الغريب أن الأمن ما كاد يرفع رواقه في هذه الديار وتنتظم أصول الإدارة بالنسبة لما عليه في القرن الماضي مثلاً حتى سرت إلى الأهلين هنا نغمة الهجرة إلى أميركا فغدا هذا الجبل بمن هجره شقياً وكان يسعد بهم لو توفروا على خدمة أرضه واستثمار شجره واستنبات غلاته وتعدين مناجمه والعلم لاستبحار عمرانه ولا يقل عدد المهاجرين من هذا الوادي عن خمسمائة من أصل نحو عشرين ألف نسمة وكل يوم يزيد نازحهم وقلما يعود أحد منهم. يذهب الشبان الأقوياء ويبقى في الأكثر الأطفال والكهول والشيوخ حتى كادت تسوء الظنون في مستقبل هذه البلاد وهي إذا لم توفق إلى النهوض بنشاط شبانها هيهات أن تعمر بتكاسل شيوخها وكهولها وخمولهم.

قلنا تعدين مناجمها لأن جبالاً من مثل هذه لا تخلو من مناجم فإذا كانت بقعة واحدة هي جيرود وما إليها تحتوي في جملة ما تحتوي من الغلات والثمرات على أربعة أصناف من العناصر التي تقل أو لا توجد في غيرها فما بالك لو بحث في قرى هذا الجبل وحده عما يكنه صدره من الخيرات الطبيعية.

نعم في جوار جيرود على مسافة ساعة منها المملحة التي يصدر منها الملح الجيد للطعام وتكفي ألوف القناطير التي يمكن استخراجها من سورية بأجمعها ولذلك يكتفى باستخراج كمية قليلة منه لأن في جوار تدمر وحماة وصفد مملحات أخرى ينتفع بملحها دع عنك ما في سائر الأقطار العثمانية من هذا الجزء المفيد.

وبالقرب من المملحة معدن الجبس أو الجبصين ينبشونه من الأرض قطعاً مستطيلة بطول شبر أو شبرين وعرض ثلاثة أصابع وثخن إصبعين يستخرج العامل القنطار الشامي منه بسبعة قروش وقد لا يستخرج قنطاراً منه في اليوم الواحد فيأخذه ضامته من إدارة الغابات أو المعادن ويجعله في تنور كبير يحرقه وعندها يستحيل إلى جبس يدخل في الأبنية والتبليط والنوافذ وغير ذلك.

هذان هما المعدنان أما النباتان فهما نبات القلي أو الإشنان يقطعونه ويجعلونه في حفر يوقدون فيها النار فيستحيل إلى قلي. ومن شواطئ المملحة التي لا يقل طولها عن ساعتين وعرضها عن ساعة ينبت السل أو قش الحصر وهذا القش يخرج في بقاع أخرى ولكن أحسن القش ما خرج من جيرود ولذلك ترى كل حصري في دمشق يحرص على أن ينسج حصره من قش جيرود لمتانته وروائه.

فبلاد هذا بعض مغلها الطبيعي خصت بزكاء المنبت وجمال الطبيعة تخرج منها الحبوب على أنواعها والثمار على اختلاف أشكالها ثم يظل أهلها في جهالة على قربهم من دمشق أم المدن السورية بل عاصمة هذه البلاد العربية وذلك لقلة المواصلات بينهم وبينها ولأن الحكومة لا يهمها إلا أن تأخذ من أهلها حقوقها ولا تقوم بما يجب عليها من حقوق.

ولو كان الهالي في قلمون والمرج والغوطة يفكرون في مستقبل بلادهم حتى التفكير ويحبون أن يبقى أولادهم لهم لا أن يبروهم لينزحوا إلى أميركا ويتشتتوا في البلاد لطلبوا من الحكومة امتياز سكة حديدية ضيقة كالمعروفة في مصر بالسكك الحديدية الزراعية وبذلك تصدر الصادرات على أيسر وجه وتتساوى في الأبعاد القرى القاصية والدانية.

بالسكك الزراعية أحيي موات مصر وقربت مسافاتها والتحمت أجزاؤها وإذا كان يتعذر الآن ربط دمشق ببغداد بسكة حديدية تجتاز الغوطة والمرج وقلمون والقريتين وتدمر إلى العراق لاختلاف المصالح السياسية فلا اقل من أن يقوم أغنياء دمشق وهذه الأقاليم ينشئون سكة ضيقة تصل بين هذه القصبات بوصلة العمران ففي الغوطة من أمهات القرى مثل دومة وعربيل وجوبر وسقبا وفي المرج مصل ضمير وعتيبة وعذراء وفي قلمون مثل يبرود ودير عطية وقارة والنبك وجيرود والرحيبة والقطيفة وغيرها ما يجدر بأرباب الأموال أن يتدبروه ويضموا أشتات هذه الأجزاء المتفرقة التي لا تجد بينها طريقاً معبداً ولا بريداً ولا سلكاً برقياً ولا طبيباً ولا صيدلياً ولا كاتباً ولا حاسباً بل تجد فيها الناس يعيشون بعيدين عن محيطهم لا يعرفون عنه أكثر مما يعرف ابن السودان عن سكان مراكش في حين ترى المسافات قريبة وأبعد قرية عن الفيحاء لا تبعد مائة كيلومتر أو يوماً وبعض يوم على ظهور المطايا.

مثال ذلك أننا قصدنا إلى هذا الجبل يوم وقفة عيد الصغير فكان الفلاحون يسألوننا كلما وقفنا لنريح مركباتنا فيما إذا كان ذاك اليوم من رمضان أو أنه رؤي هلال العيد وثبت في دمشق أما من كنا نسألهم عن فتنة جبل الدروز فكانوا لا يعرفون من أمرها إلا أن الحكومة جيشت جيشاً عليهم ولا يعرفون ما تبع ذلك من تأديب الدروز على حين هم أحق الناس بالفرح بهزيمة الأشقياء لانتشار ظل الأمن في تلك الربوع ولأنهم طالما تأذوا بهم ونهبت مواشيهم وقتل رعاتهم وزراعهم.

ولا سبيل إلى عمران هذه البلاد إلا بالأمن والعم فمن جملة أسباب الأمن مد الخطوط الحديدية الزراعية التي تقل نفقاتها وتكثر فوائدها المادية والمعنوية فتتضاعف أثمان الأراضي هنا كما يتضاعف دخلها وتكثر أشجارها ومواشيها والعلم لا ينتشر إلا إذا هب أعيان البلاد وعقلاؤها إلى إنشاء مدارس لأبنائهم خاصة تجري على غير الخطة التي يسير عليها ديوان المعارف. تسير في التعليم على طريقة يتعلم بها الفلاحون لغتهم فقط بحيث يقرؤون ويكتبون فيها في الجملة ويعرفون المبادئ الأولى من الحساب والطبيعة والنبات والحيوان وشيئاً من تربية المواشي وحفظ الصحة والرياضة البدنية وأصول الدين. يعلمون كل ذلك بالعمل أكثر من النظر.

فلو قامت في كل قرية من قرى قلمون مدرسة ابتدائية كالتي أنشأها في جيرود محمد باشا الجيرودي ووقف عليها بستاناً فيه صنوف الثمار لا يقل ريعه السنوي عن عشرة آلاف قرش لأصبح قلمون بعد عشرين سنة أرقى جبال سورية لما فطر عليه أهله من الذكاء والنشاط.

نعم استحق الزعيم المنوه به كل شكر لأنه جرى على غير سنة كبرائنا في السخاء فكان فيما نظن ثاني رجل في هذا القرن الرابع عشر وقف على العلم في سورية مثل هذا الملك الذي لا يقل ثمنه الآن عن ثلاثة آلاف ليرة. والرجل الأول فيما نذكر محمد باشا المحمد من أمراء عكار وقف على مدرسة دينية هناك ما يكفيها. أما سائر أعياننا وأغنياءنا فلم يوفقوا إلا قليلاً إلى وقف ما يوليهم في دنياهم وآخرهم فخراً وذخراً ولعل أعيان هذه البلاد من الأسر العريقة في المجد تقدم بعد الآن بين يدي نجواها من البذل للعلم ما تقر به العين فيحذون بذلك حذو أغنياء الأقاليم في مصر الذين نهضوا بها وما أنشئوه لفلاحيهم من الكتاتيب في بضع سنين ما لا تنهض به أمة تنتظر من حكومتها أن تعلمها في قرن أو قرنين. وليت شعري متى تنبعث من دمشق نفحة من تلك الروح التي انبعثت في القاهرة ففاضت على أقاليم مصر فأحيتها حتى يكون حظ المصرين واحداً في النهوض اليوم كما كان كذلك في القرون الوسطى.