مجلة المقتبس/العدد 52/صناعة النظم والإنشاء
→ ../ | مجلة المقتبس - العدد 52 صناعة النظم والإنشاء [[مؤلف:|]] |
هل اللغة العربي حية ← |
بتاريخ: 1 - 6 - 1910 |
كان الوليد أبو عبادة البحتري معاصراً لحبيب بن أوس المعروف بأبي تمام وهما من أعيان أمراء الكلام وكلاهما طائي غير أن البحتري ولد بعد ذلك بأربعة عشر عاماً فما ترعرع وبدت فيه علائم النبوغ حتى كان أبو تمام في أوج مجده وبحبوحة اشتهاره فلصق به وتخرج عليه حتى إذا نبل شعره وسار ذكره قال أبو تمام إن شعر هذا الغلام قد نعى إليَّ نفسي فما اجتمع في طي شاعران مشهوران إلا مات أكبرهما وقد صدقت نبوءته هذه فإن أبا تمام لم يعش بعد قوله هذا أكثر من عام واحد ولقد مات عبطةً وهو دون الأربعين ولو عمر حتى اكتهل كالمتنبي أو شاخ كالبحتري لأتى بالآيات المعجزات ولأطبق الناس على كونه أمير الشعراء قديماً وحديثاً.
وكان البحتري قد سأل يوماً أبا تمام أن يبين له الوجهة التي ينتحيها في نظمه والوتيرة التي يجري عليها توصلاً إلى الإجادة والإبداع فقال له:
يا أبا عبادة تخير الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم واعلم أن العادة جرت في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيءٍ أو حفظه وقت السحر إذ تكون النفس قد أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم. وإن أردت التشبيب فاجعل اللفظ رقيقاً والمعنى رشيقاً وأكثر فيه من بيان الصبابة وتوجع الكآبة وتوجع الأشواق ولوعة الفراق فإذا أخذت في مديح سيد ذي إياد فأشهر مناقبه وأظهر مناسبه وأبن معالمه وشرف مقامه ونضد المعاني واحذر المجهول منها وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الرديئة. وكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجساد. وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك ولا تعمل شعرك إلا وأنت فارغ القلب واجعل شهوتك لقوك الشعر الذريعة إلى حسن نظمه فإن الشهوة نعم المعين وجملة الحال أن تقيس شعرك وتعتبره بما سلف من شعر الماضين فما استحسن العلماء فاقصده وما نبذوه فاجتنبه ترشده إن شاء الله.
قال البحتري فأعلمت نفسي فيما قال فجاد شعري وطار ذكري ووقفت إلى ما أروم.
أما الحاتمي فقد اختار الليل للنظم وحوك الكلام ذاهباً مذهب (جورج ساند) الكاتبة الفرنساوية التي كانت تبدأ بكتابتها عند منتصف الليل وتنتهي منها الساعة السادسة ثم تنام إلى الحادية عشرة على ما وصفه المترجمون لها. وحجة الحاتمي في ذلك أن في الليل تجم الأذهان وتنقطع الأشغال ويصح النظر وتؤلف الحكمة ويتسع مجال الفكر وتنبعث الخواطر. وعندنا أنه مصيب وأكثر رجال السياسة والتدبير وأهل العلم والخيال وأرباب الاختراع والفنون يفضلون الليل على النهار ويختصونه للمهم من أعمالهم والصعب من شؤونهم والتفكير فيما يصلح من أمورهم وينبه من أقدارهم وفيه غالباً أنشأ المؤلفون الكتب وحبروا الرسائل وولدوا المعاني الحسان وأودعوها أسلاك كلامهم تباهي النجوم ضياء والدر نظاماً والروض زخرفاً وجمالاً_وإن كان ذلك مدعاة لإضناء أجسامهم واخترام أعمارهم فإن السهر ولا جرم مدعاة للسقم ومدرجة للألم وقد طالما عبث بالعقول قبل الأجساد فأوصل إليها الفساد_فالشاعر الماهر والكاتب المتأنق من إذا خلا إلى حجرته وقد سدل الليل ستاره وسكنت ضوضاء الناس واستولت سنة النوم على أجفانهم نشط إلى ما هو ميسر له من الأمر وباشر عمله بعد إمعان الفكرة وإطالة الروية واستيحاء السليقة فيستمد من القريحة عفوها وفيضها غير مستند إلى معنى لغيره يتلاعب به أو قول لبعض السلف ينتحله موقناً أن الناس كافة قيمون له منتقدون لأقواله تفرغون لتزييف كلامه وتفنيد نظامه ووزن معانيه وألفاظه بميزان المتعنت عليه المتبرم به الطالب حجة يتذرع بها إلى تنقيصه وتسوئته والحط من فضله ثم يكتب وهذا التحوط نصب عينيه مائل لديه فلا يجود إلا من مائه ولا يسبك إلا من معدنه بلا اغتصاب ولا استكراه حتى إذا فرغ مما حبر تربص إلى أن تهدأ سؤرة إعجابه فيما راق له من مبتكرات معانيه ومسبوكات قوافيه_وقد يجمل أن يكون ترصه هذا يوماً أو أياماً_ثم يعود بعد ذلك_وقد سكنت القريحة وخلا الذهن وصح التأمل_فيراجع ما كتب مراجعة منتقد ذاته قيم على نفسه رقيب على عمله فإن وجد محلاً للإصلاح أتاه أو وجهاً للتهذيب والتنقيح مارسه وعاناه متخيراً اشرف الألفاظ وأخفها وأكثرها قرباً إلى الفهم وتداولاً على الألسنة يدمجها في تضاعيف سطوره على منوال خاص وأسلوب غريب يعرف به وتظهر ملكته في أنفاس كلامه بحيث ينسبه القارئ العارف به إليه بمجرد تلاوته ولو لم يكن معنوناً باسمه ثم يعرضه على من يثق به من جهابذة الأقلام لعله يرى فيه عورةً فيسترها أو ثلماً فيسده فمن سلك هذا المسلك الجدد من مجيدي الشعراء والكتاب أمن في غالب منشآته العثار وحق له الاشتهار.
تلك نصيحتنا نوصي بها ونحرص على الجري بمقتضاها وإن كنا خالفناها في كل منظوماتنا حتى اليوم على ما يعلمه المقتطف ونبه إليه فإننا كنا ننظم في ليلتنا القصائد لمطولات ثم بعث بها في الصبح إلى عالم النشر دون معاودة نظر أو تثبت وما ذلك إلا أثر من آثار ضيق الطعن المنبعث عن هزال الجسم وسوء الهضم أعاذ الله منهما كل ناظم وناثر فإنهما آفة الإتقان ومجلبة التعس والمرارة والشقاء لبني الإنسان وما مصدرهما فيمن قدر له أن يعيش بعقله وعلمه إلا الإمعان في السهر وعدم الاعتدال في الدراسة منذ الصغر فيلتق الله الكاتبون في أجسامهم أن لهم فيما نعالنهم به عظة وعبرة وإن كانوا ممن يتدبرون.
وهنا_والشيء بالشيء يذكر_نأتي على كلام لأبي عثمان الجاحظ مما لا يخرج عما نحن في شأنه وتتوفر فيه الفائدة لمن رزقوا حظ الكتابة ولم يهتدوا إلى قانون يقوي فيهم ملكة الإنشاء ويبعثهم على الإجادة في الصناعة فإن ذلك أهم ما يحتاجه المنشئون هذه الأيام بعد أن قوضت فوضى الأقلام أركان البلاغة وشوهت ديباجة البيان وأضاعت سر التأنق في الترسل حتى زالت عنه مسحة الجمال إلا في عدد نزر ممن أوتوا نصيبهم من سلامة الذوق والعلم وألهموا الهداية في صناعتهم هذه الشريفة إلى محجة الكلام فرسخت في أذهانهم قواعد التحرير والتحبير واستحكمت في صدورهم أساليب التفنن بصوغ المعنى الصحيح في قالب اللفظ الفصيح حتى استقامت لهجتهم ووضح منهاجهم وعذب بيانهم فنسجوا على منوال خاص بهم تشربه القلوب وتستحسنه الأذواق وتعشقه النفوس على ما فيه من السهولة والانسجام ومتانة التراكيب: قال الجاحظ:
يقول جهابذة اللفظ ونقاد المعاني وأساطين البيان. المعاني القائمة في صدور الناس المتصورة في أذهانهم المختلجة في نفوسهم المتصلة بخواطرهم والحادثة عن أفكارهم مستورة خفية وبعيدة وحشية ومحجوبة مكنونة وموجودة في معنى معدومة لا يعرف الإنسان ضمير صاحبه ولا حاجة أخيه وخليطه ولا معنى شريكه والمعاون على أمره وعلى ما لا يبلغه من حاجات نفسه إلا بغيره وإنما يحيي تلك المعاني ذكرهم لها وأخبارهم عنها واستعمالهم إياها. وهذه الخصال هي التي تدنيها إلى الفهم وتجليها للعقل وتجعل الخفي منها ظاهراً والغائب شاهداً والبعيد قريباً. وهي التي تلخص الملتبس وتحل المنعقد وتجعل المهمل مفيداً والمقيد مطلقاً والوحشي مألوفاً وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الإشارة وحسن الاختصار ورقة المدخل يكون ظهور المعنى. وكلما كانت الدلالة أوضح وأفصح وكانت الإشارة أبين وأنور كانت أنجع وأنفع في البيان والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الذي سمعت الله يمدحه بكتابه ويدعو إليه ويحث عليه:
بذلك نطق القرآن وبذلك تفاخرت العرب وتفاضلت أصناف العجم.
فالبيان اسم كل شيء كشف لك عن قناع المعنى وهتك لك حجب الضمير حتى يفضي السامع إلى حقيقته ويهجم على محصوله كائناً ما كان ومن أي جنس كان. والألفاظ هي التي تكشف لك عن أعيان المعاني في الجملة وعن حقائقها في التفسير وعما يكون منها لغواً وبهرجاً وساقطاً مطرحاً فإن صح التناسب وتم التآلف بين تلك المعاني وما تستخدمه لإبرازها من الألفاظ سهل إشرابها للعقول وتجليها على المخيلات وخولها إلى صميم القلب والعكس بالعكس. فمن شاء أن يكون حديثاً تقرع الآذان نبراته أو منشئاً تسحر الألباب نفثاته فليلبس المعنى الدقيق اللفظ الرشيق الذي لا ينقص عن معناها ولا يزيد وليمتن الأصول ويحذف الفصول ويجتنب الحشو ويطنب حيث يستحب الأطناب ويوجز حيث لا يستكره الإيجاز: كل ذلك يفتقر إلى رأي حصيف وفكر نقاد وخاطر جرئ وذهن ذكي وذوق يحسن الاختيار وبديهة لا تعرف التلكؤ وحافظة تكنز من المواد ما يستعان به على ركوب هذا المركب الوعر تقرن إلى ضلاعة في العلوم وتبحر في الأدب ومطالعة في آثار أئمة أهل البيان ممن نبغوا فدرجوا من قبل واشتمل عليهم الزمان ولقد قال أبو داود رأس الإنشاء الطبع وعموده الدربة وجناحاه رواية الكلام وحليه الإعراب وبهاؤه تخير اللفظ وقال ابن المعتز العاقل يكسو المعاني وشي الكلام في قلبه ثم يبديها بألفاظ كواس في أحسن زينة والجاهل يستعجل بإظهار المعاني قبل العناية بتزيين معارضها واستكمال محاسنها.
ولما سئل جعفر البرمكي وزير الرشيد المشهور عن البيان قال هو أن يحيط كلامك بمعناك ويكشف عن مغزاك ويخرجه عن الشركة ولا يستعان عليه بالفكرة ويكون سليماً من التكليف بعيداً من الضعة بريئاً من التعقيد غنياً عن التأويل مع نزاهته عن الركة وترفعه عن اللغو وأبلغ الكلام ما بخته مراجل العلم وصفاه راووق الفهم وضمته دنان الحكمة فتمشت في المفاصل عذوبته وفي الأفكار رقته وفي العقول حدته وما أحسن ما قال حائك أديب الكلام ما اتصلت لحمة ألفاظه بسدى معانيه فخرج مفوفاً منيراً وموشى محبراً وإن من البيان لسحراً.
ولقد قال غيره البليغ من يحوك الكلام على حسب الأماني ويخيط الألفاظ على قدود المعاني ومن أجلى ما وصفت به البلاغة قول أحد العلويين البلاغة إيصال المعنى إلى القلب بحسن صورة من اللفظ وهو يضارع قول بعض الأعراب البلاغة إيجاز في غير عجز وأطناب في غير سفسفة.
هذه هي الصناعة التي يحسبها الناس لعقة من عصيد أو لقمة من ثريد فلا يكاد الصبي منهم يقرأ الأجرومية أو شيئاً من شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك ويتلقف بعض ما أوجده الخليل بن أحمد في دائرة البحور من الأعاريض وقيده إسماعيل الجوهري على بعض صفحات الصحاح من حوشي الألفاظ حتى يتربع في دست التصنيف والتأليف أو يقف على منبر الإمام الخطيب أو يسمي نفسه بالشاعر الساحر فيملأ الدنيا صناناً وهو يظنه عطراً وملاباً أو رنداً أو أقحواناً ولله الأمر من قبل ومن بعد وما هو بغافل عما يهذرون.
سليم عنجوري