مجلة المقتبس/العدد 51/أغنياؤنا
→ درس على كتاب الدارس في المدارس | مجلة المقتبس - العدد 51 أغنياؤنا [[مؤلف:|]] |
التعليم الوطني ← |
بتاريخ: 1 - 5 - 1910 |
قال لنا منذ مدة أحد أعيان دمشق أنني اضطررت لضائقة أصابتني أن أبيع عقارين من عقاراتي أفتدري من كان يزيد فيهما؟ قلنا لا ندري. قال كان يزيد فيهما لا يتصور العقل أن عندهم قوت شهر واحد أناس يلبسون خلق الثياب ولا تعدهم من كبار السوقة بل من صغار المرتزقة أما من كان يظن أنهم سيتلقفون ذينك العقارين فلم يساومونا عليهما بفلس واحد لأنهم لا نقد عندهم وربما كان تقدير الناس لأموالهم هم دون الحقيقة بمراحل.
واجتمعا في المساء بمجلس غاص بالمفكرين وأربابا التجار فقص علينا أحدهم. أن المزرعة الفلانية التي يراد بيعها في الغوطة قد انتهى ثمنها إلى عشرين ألف لبيرة على يد رجل لم يكن يظن أنه يملك معشارها من الثروة حتى قال أنه يدفع قيمتها حوالة على المصرف دفعة واحدة ثم اجتمعت آراء الحضور على أن ثروة دمشق قد زادت في العشر سنين الأخيرة زيادة محمودة بداعي الأموال الطائلة التي بذرتها فيها إدارة السكة الحجازية وهي لا تقل عن مليوني ليرة وإدارة الترمواي الكهربائي الذي أنفق نحو مائتي ألف ليرة وما أعقب قرب المواصلات من ورود السائحين والحاجبين إلى دمشق ذاهبين منها وجائين وما نقلته السكك الحديدية من غلات البلاد القاصية فقدر ما حم لته سكة حوران وحدها من الغلات في العام الفائت بثمانين ألف طن والطن أربعة قناطير دمشقية وثمنها يناهز المليون ليرة وما نقلته سكة حديد حماة بخمسة وأربعين ألف طن هذا عدا ما نقلته الخطوط الأخرى وحمل على متون الدواب والجمال من الغلات والثمرات حتى عمرت بذلك قرى حوران وكانت خراباً يباباً منذ بضع سنين وغدا الحوراني اليوم يلعب بالليرات كما يلعب جاره الفلاح المصري بالجنيهات هذا في إقليم واحد من أقاليم بلاد الشام وفلسطين وولاية بيروت وحلب وسورية مقاطعات لا تقل في خصبها وأمراعها عن حوران ولكنها لم تشتهر شهرتها وأصبح أهلها بفضل المواصلات والحركة التجارية الجديدة في سعة من العيش تزيدهم كما زادتهم الحكومة أمناً ووفرت لهم مرافق الحياة.
قالوا وهذه النهضة الاقتصادية في دمشق خاصة لأنها قاعدة هذه البلاد والنقطة الوسطى منها وباب الكعبة ومقر الفيلق ومركز الولاية قد استمتع بخيراتها المقاولون والنجارون والحدادون والبناؤن والحجارون والجمالون والعملة والتجار وأرباب الفنادق والمطاعم والعربات فتسربت الدراهم والدنانير إلى جيوب أرباب الطبقة الوسطى فمن دونها واغتنى كثيرون وارتاشوا حتى أن كثيرين من بائعي الفول المدمس لا يرضون من الربح في يومهم أقل من ليرة.
كل هذا قالوه وهو صحيح ولكن الواجب علينا أن لا يمر بنا دون أن نتدبر سره الاقتصادي والاجتماعي والسر فيه أن كثيرين من الأعيان اكتفوا بما حازوه من الثروة إرثاً عن آبائهم أو بفضل سعيهم ولا تقول كيف حازوها والطرق التي سلكوها فمنهم من كانت ثروته ثمرة الكدح المشروع من تجارة وزراعة وهم قلائل يعدون على الأصابع. ومنهم من اغتنوا بالاتفاق فابتاعوا مثلاً أرضاً أو عقاراً قضت الأحوال بارتفاع أسعاره فأصبح ما ابتيع يساوي عشرة آلام وعددهم محدود أيضاً ومنهم من أثروا بما كان لهم أو لأجدادهم من النفوذ في الدولة الاستبدادية فكان الفلاحون يأتونهم باكين شاكين طالبين إليهم أن يرفعوا عنهم ظلم الحكومة أو الملتزمين أو عرب البادية ويأخذوا قريتهم حلالاً زلالاً وهم يكتفون منهم بالحماية ويدفعون لهم الخمس كل سنة من مجموعه ما تنبت الأرض. ومنهم من تيسر لهم أن يحرزوا وقفاً عظيماً لمدرسة أو لمدارس فعمروا أرضه ورباعه فأخصب وعلا ثمنه مع الزمن فاغتنوا هم وأولادهم ومنهم من وسدت إليهم الوظائف فباعوا ذممهم وفتحوا بطونهم لأكل الرشى وأضاعوا حقوق العباد والدولة حتى جمعوا لهم مقداراً من المال أنشوا به الحوانيت وعمروا الدور واستثمروا المزارع والدساكر. ومنهم من جرأوا على استحلال الربا أيام كان ابن حوران مثلاً لفقره يضطر في أكثر سنيه أن يقترض القرش بقرشين للمرابين والصيارف قحة وعرامة فجمعوا من رأس مالٍ صغير رأس مال صغير كنوزاً كبيرة في برهة وجيزة ومنهم من لم يستنكفوا من ظلم الفلاح فأكلوا لحمه وعرقه وعظمه حتى تم لهم والناس في غفلة والحكومة في إخفاء الذ من إغفاء الصبح نائمة على رعاياها إن جمعوا ما جمعوا سحتاً بحتاً وحراماً لا يجوزه عقل من عقول البشر ولا شريعة من الشرائع السماوية والأرضية.
هكذا قام أكثر ما نشاهده من الثروات وعلى هذه الأسس قامت أبنية الأمجاد والتقتير رائد أصحابها والإمساك طريقهم إلى الجمع. ومن أتاه قرش فصرف بعضه وأحسن استخدام ما جمع لا بد أن يأتي عليه يوم يحوز الغنى وكيف لا ننسب بعض الأغنياء إلى كزازة الأيدي ونحن نراهم لا يسمحون حتى بتعليم أولادهم مع أن تعليمهم باتفاق آراء العقلاء يعادل إطعامهم لقوام أجسامهم وتغذية الأرواح مفضلة عند الكثيرين على تغذية الأشباح.
لو تعلم أولاد الأغنياء أن التعليم العصري المطلوب وربوا على الأخلاق الفاضلة أخلاق العمل والحساب لما خيف على ثروات آبائهم من التبدد ولتوارثوا النسب كما يتوارث النشب كابراً عن كابر فتتسلسل الوجاهة في بيوتهم الجيل بعد الجيل والعصر بعد العصر فلا يخافون عيلة ولا يشكون سقوط منزلة. وأصدق مثال يصح الاستشهاد به كل حين ما يراه كل إنسان من الفروق في حالة المسيحيين والمسلمين وهم أبناء وطن واحد لا يختلفون في طبائعهم ولا في عاداتهم وهم قد فاقوا المسلمين بمبادئ يتعلمونها من اللغات والعلوم وطاب العيش فقيرهم منهم أكثر من عيش الغني في المسلمين وذلك بفضل ما تعلموه من حسن التربية والحساب للمستقبل وعدم الاتكال على الحكومة وأعمالها بل على الكفاءة واستخراج الثروة من المذاهب الطبيعية في المعاش.
وعقد ابن خلدون عقداً في نهاية الفصل في أن نهاية الحسب في العقد الواحد أربعة آباء فقال:
إن باني المجد عالم في بنائه ومحافظ على الخلال التي هي أسباب كونه وبقائه وابنه بعده مباشر لأبيه قد سمع منه ذلك وأخذه عنه إلا أنه مقصر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاني له ثم إذا جاء الثالث كان حظه الاقتفاء والتقليد خاصة فقصر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد ثم إذا جاء الرابع قصر عن طريقهم جملة وأضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم واحتقرها وتوهم أن ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلف وإنما هو أمر وجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم وليس بعصابة ولا بخلال لما يرى من التجلة بين الناس ولا يعلم كيف كان حدوثها ولا سببها ويتوهم أن النسب فقط فيربأ عن نفسه عن أهل عصبيته ويرى الفضل له عليهم وثوقاً بما ربي فيه من استتباعهم وجهلاً بما أوجب ذلك الاستتباع من الخلال التي منها التواضع لهم والأخذ بمجامعهم وقلوبهم فيحتقرهم بذلك فيغنضون عليه ويحتقرونه ويدبلون منه سواه من أهل ذلك المنبت ومن فروعه في غير ذلك العقب للإذعان لعصبيتهم بعد الوثوق بما يرضونه من خلاله فتنمو فروع هذا وتذوي فرع الأول وينهدم بناء بيته هذا في الملوك وهكذا في بيوت القبائل والأمراء وأهل الصبية أجمع ثم في بيوت أهل الأمصار إذا انحطت بيوت نشأت بيوت أخرى من ذلك النسب يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز.
واشترط الأربعة في الإحساب إنما هو في الغالب وإلا فقد يدثر البيت من دون الأربعة ويتلاشى وينهدم أمرها وقد يتصل أمرها إلى الخامس والسادس إلا أنه في انحطاط وذهاب واعتبار الأربعة من قبل الأجيال الأربعة بأنه مباشر له ومقلد وهادم وهو أقل ما يمكن وقد اعتبرت الأربعة في نهاية الحسب في باب المدح والثناء قال ﷺ إنما كريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف ابن يعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم إشارة إلى أنه بلغ الغاية من المجد وفي التوراة ما معناه أن الله طائق غير غيور مطالب بذنوب الآباء للبنين على الثوابت وعلى الروابع وهذا يدل على أن الأربعة إلا عقاب غاية في الأنساب والحسب اهـ.
وبعد فإن من سنن الكون أن لا يظل الغني غنياً ولا الفقير فقيراً وأن من رأيناهم اغتنوا في العهد الأخير بالنسبة لمجموع ثروة الأمم هم الذين سعوا إلى الرزق من أبوابه ومعظمهم يؤثرون حتى بعد أن اغتنوا أن يعيشوا عيش البساطة فدخل أحدهم فائض كثيراً عن خرجه ولا يبعد أن يجيء يوم يتولى أولئك الذين لا نعرفهم أو لا نريد أن نعرفهم أزمة الأمور ويصبحون هم أعيان البلاد خصوصاً إذا داووا أرواحهم وأرواح ذراريهم بتر ياق التعليم وبسلم التربية الحديثة وطبعوا أسراتهم بطابع الاستقلال لا بطابع الاتكال في الأعمال. ربوهم ليكونوا أعضاءً عاملة في المجتمع البشري لا ليكونوا فقط آمرين ومأمورين. ربوهم ليعرفوا المال وطرق كسبه من الوجوه المشروعة المعقولة لا بالاحتيال والنصب خبث الطعمة وسوء القالة. ربوهم كما يربي الإنكليزي ولده فيعلمه حتى إذا بلغ أشده يلقيه برضاه في معترك الحياة مانعاً عنه كل معونة مالية لا كما يربي الفرنسوي ولده فيعلمه ما أراد فإذا شب لا ينفك عنه فيزوجه ويعطيه وربما حرم بناته حتى يخلف قدراً أكثر لبنيه.