الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 50/مذاهب الأعراب وفلاسفة الإسلام في الجن

مجلة المقتبس/العدد 50/مذاهب الأعراب وفلاسفة الإسلام في الجن

مجلة المقتبس - العدد 50
مذاهب الأعراب وفلاسفة الإسلام في الجن
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 1 - 4 - 1910


تتمة ما ورد في الجزء الماضي

أقوال متقدمي فلاسفة الإسلام في الجن

ابن سينا والفارابي.

قال ابن سينا رحمه الله في كتاب الحدود: الجن حيوان هوائي ناطق مكشف الجرم من شأنه أن يتشكل بأشكال مختلفة (قال) وليس هذا رسمه بل هو معنى اسمه اهـ قال أبو البقاء في كلياته: أي هذا بيان لمدلول هذا اللفظ مع قطع النظر عن انطباقه على حقيقة خارجية سواء كان معدوماً في الخارج أو موجوداً ولم يعلم وجوده فيه فإن التعريف الاسمي لا يكون إلا كذلك بخلاف التعريف الحقيقي فإن عبارة عن تصور ماله حقيقة خارجية في الذهن (ثم قال أبو البقاء) وجمهور أرباب الملل المصدقين بالأنبياء قد اعترفوا بوجوده واعترف به جمع عظيم من قدماء الفلاسفة أيضاً.

وفي رسالة للمعلم الثاني أبو نصر محمد الفارابي في جواب مسائل سئل عنها ما مثاله:

(سئل) فيما رآه بعض العوام في معنى الجن وسأله عن ماهيته (فقال): الجن حي غير ناطق غير مائت وذلك على ما توجبه القسمة التي يتبين منها حد الإنسان المعروف عند الناس أعني الحي الناطق المائت، وذلك أن الحي منه ناطق مائت وهو الإنسان ومنه ناطق غير مائت وهو الملك، ومنه غير ناطق مائت وهو البهائم، ومنه غير ناطق غير مائت وهو الجن: فقال السائل: الذي في القرآن مناقض لهذا وهو قوله استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً والذي هو غير ناطق كيف يسمع وكيف يقول: فقال: ليس ذلك بمناقض وذلك أن السمع والقول يمكن أن يوجد للحي من حيث هو حي لأن القول والتلفظ غير التمييز الذي هو النطق، وترى كثيراً من البهائم لا قول لها وهي حية، وصوت الإنسان مع هذه المقاطع هو له طبيعي من حيث هو حي بهذا النوع كما أن صوت كل نوع من أنواع الحي لا يشبه صوت غيره من الأنواع كذلك هذا الصوت بهذه المقاطع التي للإنسان مخالف لأصوات غيره من أنواع الحيوان، أما قولنا: غير مائت فالقرآن يدل بذلك في قوله تعالى رب انظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين اهـ.

أبو طالب المك قال في قوت القلوب في الفصل الثلاثين تفصيل خواطر القلوب ما مثاله بعد سرد آيات وقال تعالى يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك وقال تعالى لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم وقال ومن كل شيءٍ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون فمن السواء والتعديل والازدواج والتقويم أدوات الظاهر وأعراض الباطن وهي حواس الجسم والقلب. فأدوات الجسم هي الصفات الظاهرة. وأعراض القلب هي المعاني الباطنة قد عدلها الله تعالى بحكمته وسواها على مشيئته وقومها إتقاناً بصنعته وإحكاماً بصنعه (أولها) النفس والروح وهما مكانان للقاء العدو والملك وهما شخصان ملقيان للفجور والتقوى (ومنها) غرضان متمكنان في مكانين وهما العقل والهوى عن حكمين في مشيئة حاكم وهما التوفيق والإغواء (ومنها) نوران ساطعان في القلب عن تخصيص من رحمة راحم وهما العلم والإيمان فهذه أدوات القلب وحواسه ومعانيه الغائبة وآلاته والقلب في وسط هذه الأدوات كالملك وهذه جنوده تؤدي إليه أو كالمرآة المجلوة وهذه الآلة حوله تظهر فيراها ويقدح فيه فيجدها.

(ثم قال) فإذا أردا الله تعالى إظهار الخير من خزانة الروح حركها فسطعت نوراً في القلب فأثرت فينظر الملك إلى القلب فيرى ما أحدث الله تعالى فيه فيظهر مكانه فيتمكن على مثال فعل العدو في خزانة الشر وهي النفس، والملك مجبول على حب الهداية مطبوع على حب الطاعة كما أن العدو مجبول على الغواية مطبوع على حب المعصية فيلقي الملك الإلهام وهو خطوره على القلب بقدح خواطره يأمر بتقييد ذلك ويحسنه له ويحثه عليه وهذا هو إلهام التقوى والرشد.

(ثم قال) ذكر تقسيم الخواطر وتفصيل أسمائها، فأما تسمية جملة الخواطر فما وقع في القلب من عمل الخير فهم (إلهام).

وما وقع من عمل الشر فهو (وسواس).

وما وقع في القلب من المخاوف فهو (الحساس).

وما كان من تقدير الخير وتأميله فهو (نية).

وما كان من تدبر الأمور المباحات وترجيها والطمع فيها فهو (أمنية وأمل).

وما كان من تذكرة الآخرة والوعد والوعيد فهو تذكرة وتفكير.

وما كان من معاينة الغيب بعين اليقين فهو مشاهدة.

وما كان من تحدث النفس بمعاشها وتصريف أحوالها فهو همم.

وما كان من خواطر العادات ونوازع الشهوات فهو لمم.

ويسمى جميع ذلك خواطر لأنه خطور همة نفس أو خطورة عدو بحسد أو خطرة ملك بهمس اهـ مخلصاً.

الغزالي

قال في المضنون الكبير: الملائكة والجن والشياطين جواهر قائمة بأنفسها مختلفة بالحقائق اختلافاً يكون بين الأنواع مثال ذلك القدرة فهيب مخالفة للعلم والعلم مخالف للقدرة وهما مخالفان اللون واللون والقدرة والعلم أعراض قائمة بغيرها فكذلك بين الملك والشيطان والجن والملك فلا يدري أهو اختلاف بين النوعين كالاختلاف بين الفرس والإنسان أو الاختلاف في الأعراض كالاختلاف بين الإنسان الناقص والكامل وكذا الاختلاف بين الملك والشيطان وهو أن يكون النوع واحداً والاختلاف واقعاً في العوارض كالاختلاف بين الخير والشر والاختلاف بين النبي والولي، والظاهر أن اختلافهم بالنوع والعلم عند الله تعالى، وهذه الجوار المذكورة لا تنقسم أعني أن محل العلم بالله تعالى واحد لا ينقسم فإن العلم الواحد لا يحل إلا في محل واحد وحقيقة الإنسان كذلك فالعلم والجهل بشيء واحد في محل واحد متضادان وفي المحلين غير متضادين وأما أن هذا الجوهر غير منقسم وهل هو متحيز أم لا فهذا الكلام عائد إلى معرفة الجزء الذي يتجزأ فإن استحال الجزء الذي لا يتجزأ فهذا الجوهر غير منقسم ولا متحيز وإن لم يستحل الجزء الذي لا يتجزأ فيمكن أن يكون هذا الجوهر متحيراً_وقد قال قوم لا يجوز أن يكون غير منقسم ولا متحيز فإن الله تعالى غير منقسم ولا متحيز فمنا الذي يفصل هذا من ذلك وهذا غير مبرهن عليه لأنه ربما تباينا في حقيقة الذات وإن سلب عنهما الانقسام والتحيز والأمور المكانية وتلك سلوب والا عتبار بالحقائق لأن ما سلب عن الحقائق كالعرضين المختلفين بالحد والحقيقة الحالين في محل واحد فإن إيجاب احتياجهما إلى المحل وكونهما في المحل لا يفيد تماثلهما فكذلك سلب الاحتياج إلى المحل والمكان لا يفيد اشتراك الشيئين ويمكن أن تشاهد هذه الجواهر أعني جواهر الملائكة وإن كانت غير محسوسة وهذه المشاهدة على ضربين إما على سبيل التمثيل كقوله تعالى فتمثل لها بشراً سوياً وكما كان النبي عليه الصلاة والسلام يرى جبريل في صورة دحية الكلبي والقسم الثاني أن يكون لبعض الملائكة بدن محسوس كما أن نفوسنا غير محسوسة ولها بدن محسوس هو محل تصرفها وعالمها الخاص بها فكذلك وربما كان هذا البدن المحسوس موقوفاً على إشراق نور النبوة كما أن محسوسات عالمنا هذا موقوف عند الإدراك على إشراق نور الشمس وكذا في الجن والشياطين اهـ.

وقال الغزالي في الإحياء في بيان تسلط الشيطان على القلب بالوسواس بعد تمهيد مقدمة ما مثله: فمبدأ الأفعال الخواطر ثم الخاطر يحرك الرغبة ثم الرغبة تحرك العزم والعزم يحرك النية والنية تحرك الأعضاء والخواطر المحركة للرغبة تنقسم إلى ما يدعو إلى الشر أعني ما يضر في العقبة وإلى ما يدعو إلى الخير أعني إلى ما ينفع في الدار الآخرة فهما خاطران مختلفان فأفتقر إلى اسمين مختلفين فالخاطر المحمود يسمى إلهاماً والخاطر المذموم أعني الداعي إلى الشر يسمى وسواساً ثم أنك تعلم أن هذه الخواطر حادقة ثم أن كل حادث فلا بد له من محدث ومهما اختلفت الحوادث دل ذلك على اختلاف الأسباب هذا ما عرف من سنة الله تعالى فر ترتيب المسببات على الأسباب، فمهمات استنارت حيطان البيت بنور النار وأظلم سقفه واسود بالدخان علمت أن سبب السواد غير سبب الاستنارة وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى (ملكاً) وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى (شيطاناً) واللطف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخير يسمى (توفيقاً) والذي به يتهيأ لقبول وسواس الشيطان يسمى (إغواءً وخذلاناً) فإن المعاني المختلفة تفتقر إلى أسامي مختلفة. و (الملك) عبارة عن خلق خلقه الله تعالى شأنه إفاضة الخير وإفادة العلم وكشف الحق والوعد بالخير والأمر بالمعروف وقد خلقه الله وسخره لذلك. (والشيطان) عبارة عن خلق شأنه ضد ذلك وهو الوعد بالشر والأمر بالفحشاء والتخويف عند الهم بالخير بالفقر. فالوسوسة في مقابلة الإلهام. والشيطان في مقابلة الملك. والتوفيق في مقابلة الخذلان. وإليه الإشارة بقوله تعالى (ومن كل شيء خلقنا زوجين).

ابن حزم

قال رحمه الله في كتابه الفصل في الكلام على الجن ووسوسة الشيطان ولعله في المصروع:

لم ندرك بالحواس ولم علمنا وجوب كونهم ولا وجوب امتناع كونهم في العالم أيضاً بضرورة العقل ولكن علمنا بضرورة العقل إمكان كونهم لأن قدرة الله تعالى لا نهاية لها وهو عز وجل يخلق ما يشاء ولا فرق بين أن يخلق خلقاً عنصرهم التراب والماء فيسكنهم الأرض والهواء والماء_وبين أن يخلق خلقاً عنصرهم الهواء والنار فيسكنهم الهواء والنار والأرض بل كل ذلك سواء وممكن في قدرته لكن لما أخبرت الرسل الذين شهد الله عز وجل بصدقهم بما أبدى على أيديهم من المعجزات المحيلة للطبائع بنص الله عز وجل على وجود الجن في العالم وجب ضرورة العلم بخلقهم ووجودهم وقد جاء النص بذلك وبأنهم أمة عاقلة مميزة متعبدة موعودة متوعدة متناسلة يموتون وأجمع المسلمون كلهم على ذلك نعم والنصارى والمجوس والصابئة وأكثر اليهود، وهم يروننا ولا نراهم قال الله تعالى إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم فصح أن الجن قبيل إبليس قال الله عز وجل إلا إبليس كان من الجن، وإذا أخبرنا الله عز وجل أننا لا نراهم فمن ادعى أنه يراهم ورآهم فهو كاذب إلا أن يكون من الأنبياء عليهم السلام فذلك معجزة لهم كما نص رسول الله ﷺ أنه تفلت عليه الشيطان ليقطع عليه صلاته قال فأخذته فذكرت دعوة أخي سليمان ولولا ذلك لأصبح موثقاً يراه أهل المدينة أو كما قال عليه السلام وكذلك في رواية عن أبي هريرة الذي رأى إنما هي معجزة لرسول الله ﷺ، ولا سبيل إلى وجود خبر يصح برؤية جني بعد موت رسول الله ﷺ وإنما هي منقطعات أو عمن لا خير فيه.

وهم أجساد رقاق صافية هوائية لا ألوان لهم وعنصرهم النار كما أن عنصرنا التراب وبذلك جاء القرآن قال الله عز وجل والجان خلقناه من قبل من نار السموم والنار والهواء عنصران لا ألوان لهما وإنما حدث اللون في النار المشتعلة عندنا لامتزاجها برطوبات ما تشتعل فيه من الحطب والكتان والأدهان وغير ذلك ولو كانت لهم ألوان لرأيناهم بحاسة البصر ولو لم يكونوا أجساماً صافية رقاقاً هوائية لأدركناهم بحاسة اللمس.

وصح النص بأنهم يوسوسون في صدور الناس وأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فوجب التصديق بكل ذلك حقيقة وعلمنا أن الله عز وجل جعل لهم قوة يتصلون بها إلى قذف ما يوسوسون به في النفوس، برهان ذلك قول الله تعالى من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس ونحن نرى الإنسان يرى ما له عنده ثأر فيضرب وتتبدل أعراضه وصورته وأخلاقه وتثور ناريته، ويرى من يحب فيثور له حال أخرى ويبتهج وينبسط، ويرى من يخاف فتحدث حال أخرى من صفرة ورعشة وضعف نفس، ويشير إلى إنسان آخر بإشارات يحيله أيضاً بالكلام إلى جميع هذه الأحوال فعلمنا أن الله عز وجل جعل للجن قوى يتوصلون بها إلى تغيير النفوس والقذف فيها بما يستدعونه إليه نعوذ بالله من الشيطان الرجيم ووسوسته ومن شرار الناس وهذا هو جريه من ابن آدم مجرى الدم كما قال الشاعر:

وقد كنت أجري في حشاهن مرة ... كجري معين في قصب الآس

(وأما الصرع) فإن الله عز وجل قال كالذي يتخبطه الشيطان من المس فذكر عن وجل تأثير الشيطان في الصروع إنما هو بالمماسة فلا يجوز لأحد أن يزيد على ذلك شيئاً ومن زاد على ذلك شيئاً فقد قال ما لا علم له به وهذا حرام لا يحل قال عز وجل ولا تقف ما ليس لك به علم وهذه الأمور لا يمكن أن تعرف البتة إلا بخبر صحيح عنه ﷺ ولا خبر عنه عليه السلام بغير ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق فصح أن الشيطان يمس الإنسان الذي يسلطه الله عليه مساً كما جاء في القرآن يثير به من طبائعه السوداء والأبخرة المتصاعدة إلى الدماغ كما يخبر به عن نفسه كل مصروع بلا خلاف منهم فيحدث الله عز وجل له الصرع والتخبط حينئذ كما نشاهده وهذا هو نص القرآن وما توجبه المشاهدة وما زاد على هذا فخرافات من توليد العزامين والكذابين وبالله تعالى نتأيد اهـ كلام ابن حزم.

الفخر الرازي

قال في مباحث الاستعاذة من أوائل تفسيره: أطبق الكل على أنه ليس الجن والشياطين عبارة عن أشخاص جسمانية كثيفة تجيء وتذهب مثل الناس والبهائم بل القول المحصل فيه قولان (الأول) أنها أجسام هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة لها عقول وإفهام وقدرة على أعمال صعبة شاقة (والقول الثاني) أن كثيراً من الناس أثبتوا أنها موجودات غير متحيزة ولا حالة في التحيز وزعموا أنها موجودات مجردة عن الجسمية (قالوا) وهذه الأرواح قد تكون مشرقة إلهية خيرة سعيدة وهي المسماة بالصالحين من الجن. وقد تكون كدرة سفلية شريرة وهي المسماة بالشياطين (ثم قال) واعلم أن قوماً من الفلاسفة طعنوا في هذا المذهب وزعموا أن المجرد يمتنع عليه إدراك الجزئيات والمجردات يمتنع كونها فاعلة للأفعال الجزئية: وهذا باطل لوجهين (الأول) أنه يمكننا أن نحكم على هذا الشخص المعين بأنه إنسان وليس بفرس والقاضي على الشيئين لا بد وأن يحضره المقضي عليهما فههنا شيء واحد هو مدرك للكلي وهو النفس ويلزم أن يكون المدرك للجزئي هو النفس (الثاني) هب أن النفس المجردة لا تقوى على إدراك الجزئيات ابتداء لكن لا نزاع أنه يمكنها أن تدرك الجزئيات بواسطة الآلات الجسمانية فلم لا يجوز أن يقال أن تلك الجواهر المجردة المسماة بالجن والشياطين لها آلات جسمانية من كرة الأثير أو من كرة الزمهرير ثم أنها بواسطة تلك الآلات الجسمانية تقوى على إدراك الجزئيات وعلى التصرف في هذه الأبدان.

وأما الذين زعموا أن الجن أجسام هوائية أو نارية فقالوا أن الأجسام متساوية في الحجمية والمقدار وهذان المعنيان لأعراض فالأجسام متساوية في قبول هذه الأعراض، والأشياء المختلفة بالماهية لا يمنع اشتراكها في بعض اللوازم فلما لا يجوز أن يقال الأجسام مختلفة بحسب ذواتها المخصوصة وماهياتها المعينة وإن كانت مشتركة في قبول الحجمية والمقدار وإذ ثبت هذا فنقول لم لا يجوز أن يقال أحد أنواع الأجسام أجسام لطيفة نفاذة حية لذواتها عاقلة لذواتها قادرة على الأعمال الشاقة لذواتها وهي غير قابلة للتفرق والتمزق وإذا كان الأمر كذلك فإن تلك الأجسام تكون قادرة على تشكيل أنفسها بأشكال مختلفة ثم أن الرياح العاصفة لا تمزقها والأجسام الكثيفة لا تفرقها، أليس أن الفلاسفة قالوا أن النار التي تنفصل عن الصواعق تنفذ في اللحظة اللطيفة في بواطن الأحجار والحديد وتخرج من الجانب الآخر فلم لا يفعل مثله في هذه الصورة، وعلى هذا التقدير فإن الجن تكون قادرة على النفوذ في بواطن الناس وعلى التصرف فيها وأن تبقى حية فعالة مصونة عن الفساد إلى الأجل المعين والوقت المعين، فكل هذه الأحوال احتمالات ظاهرة والدليل لم يقم على إبطالها فلم يجز المصير إلى القول بإبطالها.

(ثم قال الرازي) اع لم أن الإنسان إذا جلس في الخلوة وتواترت الخواطر في قلبه فربما صار بحيث كأنه يسمع في داخل قلبه ودماغه أصواتاً خفية وحروفاً خفية فكأن متكلماً يتكلم معه ومخاطباً يخاطبه فهذا أمر وجداني يجده كل أحد من نفسه. ثم اختلف الناس في تلك الخواطر فقالت الفلاسفة أن تلك الأشياء ليست حروفاً ولا أصواتاً وإنما هي تخيلات الحروف والأصوات وتخيل الشيء عبارة عن حضور اسمه ومثاله في الخيال وهذا كما إنا إذا تخيلنا صور الجبال والبحار والأشخاص فأعيان تلك الأشياء غير موجودة في العقل والقلب بل الموجود في العقل صورها وأمثلتها ورسومها وهي على سبيل التمثيل جارية مجرى الصورة المرتسمة في المرآة فإنا إذا أحسسنا في المرآة صورة الفلك والشمس والقمر فليس ذلك لأجل أنه حضرت ذوات هذه الأشياء في المرآة فإن ذلك محال وإنما الحاصل في المرآة رسوم هذه الأشياء وأمثلتها وصورها. وإذا عرفت هذا في تخيل المبصرات فاعلم أن الحال في تخيل الحروف والكلمات المسموعة كذلك فهذا قول جمهور الفلاسفة،

ولقائل يقول هذا الذي سميته بتخيل الحروف والكلمات هل هو مساو للحرف والكلمة في الماهية أولاً فإن حصلت المساواة فقد عاد الكلام إلى أن الحاصل في الخيال حقائق الحروف والأصوات وإلى أن الحاصل في الخيال عند تخيل البحر والسماء حقيقة البحر والسماء_وإن كان الحق هو الثاني وهو أن الحاصل في الخيال شيء آخر مخالف للمبصرات والمسموعات فحينئذ يعود السؤال وهو أنا كيف نجد من أنفسنا صور هذه المرئيات وكيف نجد في أنفسنا هذه الكلمة أو العبارة وجداناً لا نشك أنها حروف متوالية على العقل وألفاظ متعاقبة على الذهن فهذا منتهى الكلام في كلام الفلاسفة.

أما الجمهور الأعظم من أهل العلم فإنهم سلموا أن هذه الخواطر المتوالية المتعاقبة حروف وأصوات حقيقية.

واعلم بأن القائلين بهذا القول قالوا فاعل هذه الحروف والأصوات إما ذلك الإنسان أو إنسان آخر وإما شيءٌ آخر روحاني مباين يمكن إلقاء هذه الحروف والأصوات إلى هذا الإنسان سواء قيل أن ذلك المتكلم هو الجن والشياطين أو الملك وأما أن يقال خالق تلك الحروف والأصوات هو الله تعالى (أما القسم الأول) وهو أن فاعل هذه الحروف والأصوات هو ذلك الإنسان فهذا قول باطل لأن الذي يحصل باختيار الإنسان قادر على تركه فلو كان حصول هذه الخواطر بفعل الإنسان لكان الإنسان إذا أراد فعلها أو تركها لقدر عليه ومعلوم أنه لا يقدر على دفعها فإنه سواء حاول فعلها أو حاول تركها فتلك الخواطر تتوارد على طبعه وتتعاقب على ذهنه بغير اختياره.

(وأما القسم الثاني) وهو أنها حصلت بفعل إنسان آخر فهو ظاهر الفساد. ولما بطل هذا القسمان بقي (الثالث) وهي أنها من فعل الجن أو الملك أو من فعل الله تعالى (أما الذين قالوا) أن الله تعالى لا يجوز أن يفعل القبائح فاللائق بمذهبهم أن يقولوا أن هذه الخواطر الخبيثة ليست من فعل الله تعالى فبقي أنها من أحاديث الجن والشياطين، وأما الذي قالوا أنه لا يقبح من الله شيء فليس في مذهبهم مانع يمنعهم من إسناد هذه الخواطر إلى الله تعالى) اهـ.

المارودي

قال في كتابه أعلام النبوة: الجن من العالم الناطق المميز يتناسلون ويموتون، وأشخاصهم محجوبة عن الأبصار، وإن تميزوا بأفعال وآثار، إلا أن يخص الله برؤيتهم من يشاء، وإنما عرفهم الإنس من الكتب الإلهية، وما تخيلوه من آثارهم الخفية،

(ثم قال): واختلفوا في الشياطين فزعم قوم أنهم كفار الجن يتناسلون ويموتون وزعم آخرون أنهم غير الجن وإنهم من ولد إبليس واختلف من قال بهذا في تناسلهم وموتهم فذهب فريق منهم إلى أنهم يتناسلون ويموتون وذهب آخرون إلى أنهم كإبليس لا يموتون إلا معه وإن تناسلهم انقطع بأنظار إبليس إلى يوم يبعثون، فإن أنكر قوم خلق الجن ولم يؤمنوا بالكتب الإلهية قهرتهم براهين العقول وحجج القياس (ثم أسهب في ذلك رحمه الله).

القاشاني

قال في تفسير آية وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن في سورة الأحقاف ما مثاله: الجن نفوس أرضية تجسدت في أبدان لطيفة مركبة من لطائف العناصر سماها الحكمة الفرس (الصورة المعلقة) ولكونها أرضية متجسدة في ابدان عنصرية ومشاركتها الأنس في ذلك سميا ثقلين وكما أمكن الناس التهدي بالقرآن أمكنهم وحكاياتهم من المحققين وغيرهم أكثر من أن يمكن رد الجميع وأوضح من أن يقبل التأويل:

وقال في تفسير سورة الجن: قد مر أن في الوجود نفوساً رضية قوية لا في غلط النفوس السبعية والبهيمية وكثافتها وقلة إدراكها ولا على هيآت النفوس الإنسانية واستعداداتها ليلزم تعلقها بالأجرام الكثيفة الغالب عليها الأرضية_وملا في صفاء النفوس المجردة ولطافتها لتتصل بالعالم العلوي وتتجرد أو تتعلق ببعض الأجرام السماوية متعلقة بأجرام عنصرية لطيفة غلبت عليها الهوائية أو النارية أو الدخانية على اختلاف أحوالها سماها بعض الحكماء (الصور المعلقة) ولها علوم وإدركات من جنس علومنا وإدراكاتنا، ولما كانت قريبة بالطبع من الملكوت السماوي أمكنها أن تتلقى عالمها بعض الغيب فلا تستبعد أن ترتقي إلى أفق السماء فتسترق السمع من كلام الملائكة أي النفوس المجردة_ولما كانت أرضية ضعيفة بالنسبة إلى القوى السماوية تأثرت بتأثير تلك القوى فرجمت بتأثيرها عن بلوغ شأوها وإدراك مداها من العلوم، ولا تنكر أن تشتعل أجرامها الدخانية بأشعة الكواكب فتحترق وتهلك أو تنزجر من الارتقاء إلى الأفق السماوي فتتسفل فإنها أمور ليست بخارجة عن الإمكان اهـ.

القاضي أبو يعلي بن الفراء

نقل عن السفاريني أنه قال: الجن أجسام مؤلفة وأشخاص ممثلة ويجوز أن تكون رقيقة وأن تكون كثيفة خلافاً للمعتزلة في قولهم أنها أجسام رقيقة ولرقتها لا نراها (قال): ولا قدرة للشياطين على تغيير خلقهم والانتقال في الصور وإنما يجوز أن يعلم الله ضرباً من ضروب الأفعال إذا فعله نقله الله من صورة إلى صورة فيقال أنه قادر على التصوير والتخييل على معنى أنه قادر على أمر إذا فعل نقله الله عن صورة إلى صورة أخرى لجري العادة وإما أن يصور نفسه فذلك محال لأن انتقالها عن صورة إلى صورة إنما يكون بنقص البنية وتفريق الأجزاء وإذا انتقلت بطلت الحياة واستحال وقوع الفعل من الجملة وكيف تنقل نفسها (قال) والقول في تشكيل الملائكة مثل ذلك (وسيأتي أول الخاتمة مبحث تمثل الروحاني مفصلاً).

شيخ الإسلام ابن تيمية

نقل عنه السفاريني أنه قال: لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن وكذا جمهور الكفار لأن وجودهم تواترت به أخبار الأنبياء تواتراً معلوماً بالاضطرار يعرفه الخاصة والعامة (قال) ولم ينكر الجن إلا شرذمة قليلة من جهال الفلاسفة ونحوهم، (وقال) ليس الجن كالإنس في الحد والحقيقة فلا يكون ما أمروا به وما نهوا عنه مساوياً لما على الأنس في الحد والحقيقة لكنهم مشاركوهم في جنس التكليف بالأمر والنهي والتحليل والتحريم بلا نزاع أعلمه بين العلماء: (وقال في تفسير سورة الإخلاص) إن الفلاسفة كلامهم في الإلهيات والكليات العقلية قاصر جداً وفيه تخليط كثير وإنما يتكلمون جيداً في الأمور الحسية الطبيعية وفي كلياتها فكلامهم فيها في الغالب جيد، وأما الغيب الذي تخبر به الأنبياء والكليات العقلية التي تعم الموجودات كلها وتقسم الموجودات قسمة صحيحة فلا يعرفونها البتة فإن هذا لا يكون إلا ممن أحاط بأنواع الموجودات وهم لا يعرفون إلا قليلاً من الموجودات وما لا يشهده الآدميون من الموجودات أعظم قدراً وصفة مما يشهدونه بكثير، ولهذا كان هؤلاء الذين عرفوا ما عرفته الفلاسفة إذا سمعوا أخبار الأنبياء بالملائكة والعرش والكرسي والجنة والنار وهم يظنون أن لا موجود إلا ما علموه هم والفلاسفة يصيرون حائرين متأولين لكلام الأنبياء على ما عرفوه وإن كان هذا لا دليل عليه وليس لهم بهذا النفي علم فإن عدم العلم ليس علماً بالعدم لكن نفيهم هذا كنفي الطبيب للجن لأنه ليس في صناعة الطب ما يدل على ثبوت الجن وإلا فليس في علم الطب ما ينفي وجود الجن وهكذا تجد من عرف نوعاً من العلم وامتاز به على العامة الذي لا يعرفونه فيبقى بجهله نافياً لما لا يعلمه، وبنو آدم ضلالهم فيما حددوه ونفوه بغير علم أكثر من ضلالهم فيما أثبتوه وصدقوا به قال تعالى بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه لما يأتيهم تأويله اهـ.

وقد أسهب رحمه الله في كتابه الفرقان_المطبوع_فيما يتعلق بالجن الشياطين فليراجع.

ابن القيم

قال رحمه الله في زاد المعاد في علاج الصرع ما مثله: الصرع صرعان صرع من الرواح الخبيثة الأرضية_وصرع من الأخلاط الردية. والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه. وأما صرع الرواح فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون بأن علاجه بمقابلة الرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة فتدفع آثارها وتعارض أفعالها وتبطلها. وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه فذكر بعض علاج الصرع وقال: هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة وأما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج: وأما جهلة الأطباء فينكرون صرع الأرواح ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع وليس معهم إلا الجهل وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك والحس والوجود شاهد به، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط وهو صادق في بعض أقسامه لا في كلها، وقدماء الأطباء يسمون هذا الصرع المرض الإلهي وقالوا: إنه من الأرواح، أما جالينوس وغيره فتأولوا عليهم هذه التسمية وقالوا: إنما سموها بالمرض الإلهي لكون هذه العلة تحدث في الرأس فتضر بالجزء الإلهي الطاهر الذي مسكنه الدماغ: وهذا التأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الأرواح وأحكامها وتأثيراتها وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده، ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء الأطباء وضعف عقولهم.

(ثم قال ابن القيم) هذا ولو كشف الغطاء لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى مع هذه الرواح الخبيثة وهي في أسرها وقبضتها تسوقها حيث شاءت ولا يمكنها الامتناع عنها ولا مخالفتها وبها الصرع الأعظم الذي لا يفيق صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة فهناك يتحقق إن كان هو المصروع حقيقة.

وعلاج هذا الصرع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءت به الرسل عليهم السلام.

الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده

قال في تفسير قوله تعالى الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس الموسوسون قسمان قسم الجنة وهم الخلق المستترون الذين لا نعرفهم وإنما نجدهم في أنفسنا أثراً ينسب إليهم، ولكل واحد من الناس شيطان وهي قوة نازعة إلى الشر يحدث منها في نفسه خواطر السوء:

وقال في موضع آخر: إن إلهام الخير والوسوسة مما جاء في لسان صاحب الوحي ﷺ وقد أسند إلى هذه العوالم الغيبية، وخواطر الخير التي تسمى إلهاماً وخواطر الشر التي تسمى وسوسة كل منهما محله الروح فالملائكة والشياطين إذن أرواح تتصل بأرواح الناس. فلا يصح أن نمثل الملائكة بالتماثيل الجسمانية المعروفة لنا لأن هذه لو اتصلت بأرواحنا فإنما تتصل بها من طرق أجسامنا ونحن لا نحس بشيءٍ يتصل بأبداننا لا عند الوسوسة ولا عند الشعور بداعي الخير من النفس فإذن هي من عالم غير عالم الأبدان قطعاً.

(ثم قال) يشعر مكل من فكر في نفسه، ووازن بين خواطره عند ما يهم بأمر فيه وجه للحق أو للخير، ووجه للباطل أو للشر، بأن في نفسه تنازعاً كان الأمر قد عرض فيها على مجلس شورى فهذا يورد وذاك يدفع، وواحد يقول افعل وآخر يقول لا تفعل حتى ينتصر أحد الطرفين، ويترجح أحد الخاطرين، فهذا الشيء قد أودع في نفسنا ونسميه قوة وفكراً_وهو في الحقيقة معنى لا يدرك كنهه وروح لا تكتنه حقيقتها_لا يبعد أن يسميه الله تعالى ملكاً ويسمي أسبابه ملائكة أو ما شابه من السماء فإن التسمية لا حجر فيها على الناس فكيف يحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة والسلطان النافذ والعلم الواسع اهـ وسبق في كلام الغزالي نحوه وسيأتي في الخاتمة عن الراغب الأصفهاني ما يؤيده.

خاتمة

في فوائد متفرقات من شوارد هذه المسالة

(أ) للباحثين في تمثل الرواح آراء عديدة وأنظار متنوعة نذكر منها طرفاً قال في الخلاصة: اعتقاد قدماء اليهود بماهية الرواح المغيبة إنها إما هواء خالص أو لهيب نار (ثم قال) فعلى هذا فللملائكة أجسام هوائية لطيفة لا ترى ما لم تمثل كالهواء الذي نتنفسه فإنه جسم لكنه غير مبصر لنا (ثم قال) واقرب شاهد للتمثل هو الهواء فإنه وإن لم يقبل في حال تخلخله شكلاً ولا لوناً إلا أنه متى تكاثف أمكن تشكله وتلونه كما يتضح في السحاب وعلى هذا النمط يجوز أن تتكثف أجسام الملائكة بالقدرة الربانية على قدر ما يلزم لتموين الجسم المراد اتخاذه وبقدرون التجسد بعد أن يفعلوا أفاعيل حيوية اهـ.

وقدمنا عن القاضي أبي يعلي أنه قال: لا قدرة للشياطين على تغيير خلقهم والانتقال في الصور وإنما يجوز أن يعلمهم الله ضرباً من ضروب الأفعال إذا فعله نقله الله من صورة إلى صورة الخ: ونقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري عن إمام الحرمين أن تمثل جبريل معناه أن الله أفتى الزائد من خلاقه وأزاله عنه ثم يعيده إليه بعد. وجزم ابن عبد السلام بالإزالة دون الفناء وقرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها موجباً لموته بل يجوز أن يبقى الجسد حياً لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلاً بل بعادة أجراها الله تعالى في بعض خلقه ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طير خضر تسرح في الجنة، وقال شيخنا شيخ الإسلام_زكريا الأنصاري_ما ذكر إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه بل يجوز أن يكون الآتي هو جبريل بشكله الأصلي إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل وإذ ترك ذلك عاد إلى هيئته ومثال ذلك القطن إذا جمع بعد أن كان منتفشاً فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة وذاته لم تتغير وهذا على سبيل التقريب والحق إن تمثل الملك رجلاً ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلاً بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيساً لمن يخاطبه والظاهر أيضاً أن القدر الزائل لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط والله أعلم اهـ كلام الحافظ كله مبني على حمل الإطلاق في موارده على الحقيقة فليتأمل وقال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله في رسالة التوحيد: أما وجود بعض الأرواح العالية_وهم الملائكة المكرمون_وظهورها لأهل تلك المرتبة السامية (الأنبياء عليهم السلام) فمما لا استحالة فيما بعد ما عرفناه من أنفسنا وأرشدنا إليه العلم قديمه وحديثه من اشتمال الوجود على ما هو ألطف من المادة وإن غيب عنا فأي مانع من أن يكون بعض هذا الوجود اللطيف مشرقاً لشيء من العلم الإلهي وأن يكون لنفوس الأنبياء أشراف عليه فإذا جاء به الخبر الصادق حملنا على الإذعان بصحته، أما تمثل الصوت وأشباح لتلك الأرواح في حس من اختصه الله بتلك المنزلة فقد عهد عند أعداء الأنبياء ما لا يبعد عنه في بعض المصابين بأمراض خاصة على زعمهم فقد سلموا أن بعض معقولاتهم يتمثل في خيالهم ويصل إلى درجة المحسوس فيصدق المريض في قوله أن يرى ويسمع بل ويجالد ويصارع ولا شيء من ذلك في الحقيقة بواقع فإن جاز التمثيل في الصورة المعقولة ولا منشأ لها إلا في النفس وغن ذلك يكون عند عروض عارض على المخ فلم لا يجوز تمثل الحقائق المعقولة في النفس العالية وأن يكون ذلك لها عندما تنزع عن عالم الحس، وتتصل بحظائر القدس، وتكون تلك الحال من لواحق صحة العقل في أهل تلك الدرجة لاختصاص مزاجهم بما لا يوجد في مزاج غيرهم؟ وغاية ما يلزم عنه أن يكون لعلاقة أرواحهم بأبدانهم شأن غير معروف في تلك العلاقة من سواهم وهو ما يسهل قبوله بل يتحتم لأن شأنهم في الناس أيضاً غير الشؤون المألوفة وهذه المغايرة من أهم ما امتازوا به وقام منها الدليل على رسالتهم، والدليل على صحة شهودهم وصحة ما يحدثون عنه أن أمراض القلوب تشفى بدوائهم وأن ضعف العزائم والعقول يتبدل بالقوة في أممهم التي تأخذ بمقالهم، ومن المنكر في البديهة أن يصدر الصحيح من معتل، ويستقيم النظام بمختل اهـ وقدمنا عن الغزالي كلمة في تمثيل الملك فتذكره.

(ب) شاع وصف الجن بالأرواح في المأثور وفي كلام الحكماء قال ابن الأثير في حديث: إني أعالج من هذه الأرواح: الأرواح ههنا كناية عن الجن سموا أرواحاً كونهم لا يرون فهم بمنزلة الرواح: إلا أنه غلب لفظ روح مفرداً في التنزيل الحكيم على الملك قال في الخلاصة: أن كلمة روح التي وصف بها الملائكة تتضمن معنى يدل على ماهيتهم وهوانهم مجردون عن كثافة الأجسام فليسوا مثلنا (قال) لأن أصل معنى الروح في العبراني واليوناني كما في العربي ريح أي هراء متحرك وكأن لغة البشر تقصر عن التعبير بكمال الكنه والحقيقة فاكتفى بتوضيح بلفظ يوضح الحقيقة وإن لم يجهلها تمام الجهلاء اهـ وقال ابن الأثير في حديث (الملائكة الروحانيون) يروى بضم الراء وفتحها كأنه نسبة إلى الرُّوح والرَّوح وهو نسيم الريح والألف والنون من زيادات النسب ويريد بهم أنهم أجسا لطيفة لا يدركها البصر اهـ.

وفي كليات أبي البقاء: الروح بالضم هو الريح المتردد في مخارق الإنسان ومنافذه واسم الروح الخ وفي التاج عن الفراء قال: سمعت أبا الهيثم يقول: الروح إنما هو النفس الذي يتنفسه الإنسان وهو جار في جميع الجسد فإذا خرج لم يتنفس بعض خروجه: وفي نقد المحصل للطوسي: الفلاسفة يفرقون بين النفوس والأرواح فإن النفوس عندهم جواهر بسيطة مجردة متعلقة الأبدان، والأرواح أجسام مركبة من الأبخرة والأدخنة المرتفعة من الدم المحتبس في العروق: وروى ابن جرير عن قتادة في تفسير آية ويسئلونك عن الروح قال الروح هو جبريل قال قتادة: وكان ابن العباس يكتمه ثم اسند إلى ابن العباس أن الروح ملك وكذا عن علي رضي الله عنه أنه قال: هو ملك من الملائكة:

(ج) جاء في معجم لاروس: أن سقراط كان يزعم أن له شيطاناً خاصاً يوحي إليه مقاصده وجميع مبادئ فلسفته وحكمته. فادعى بعضهم أن ذلك كان روحاً أو عاملاً فوق قوة البشر وأطلق آخرون هذا الاسم على معنى أدبي لطيف وحاسة طبيعية رائقة سريعة الإدراك أنمتها تجارب طويلة وهم على ما يرون أن شيطان سقراط لم يكن إلا إلهامات باطنة تعرض لعقله وقلبه مؤقتة عند تصور أعلى مطالب الفلسفة فمعنى استشارة سقراط لشيطانه الخاص هو أن يستشير إلهامه الداخلي وعقله وحكمه التي لا يراها نفحة ونعمة بل هي منبعثة عن الألوهية وجزء منها. ورأى آخرون أن هذا الزعم كان من سقراط حيلة يريد أن يتوصل بها إلى تحقيق إصلاح سياسي كبير. والظاهر أن سقراط اقتنع بصحة ما وقع في نفسه فلم يخامره ولا تلامذته أدنى شك في مدعاه وكان ذلك من آكد الأسباب في الحكم عليه بالموت.

وجاء فيه أيضاً في مادة جني: أن الجن في الأساطير الرومانية إشارة إلى الشيطان عند اليونان وهي عبارة عن الروح أو المبدأ الحيوي فكانوا يذهبون إلى أن كل عمل يعمله الإنسان يمليه عليه شيطانه الخاص. فالظاهر أنه كان من تأثيرات الزندقة الطبيعية أن توهم عامة اللاتين بأن للمرء شيطانين وذلك ليحلوا كما يشاؤون مسألة الخير والشر فشيطان الخير يوحي الأفكار الصالحة النافعة وشيطان الشر يلهم الأعمال الشريرة والحوادث المكدرة وهكذا رأى أن القائد بروتوس وكاسيوس عندما كتبت الهزيمة على أعلامهما شيطانهما الشريرين.

وكان القوم في رومية يعبدون الشياطين الخاصة والشياطين المحلية فإذا ولد لهم ولد يقومون باحتفال إكراماً لشيطانه وكثيراً ما تقدم فاكهة وثمار لشياطين المكان وعلى عده الإمبراطورية كان شيطان الإمبراطور يعبد عبادةً خاصة إكراماً واحتراماً اهـ.

(د) جاء في دائرة المعارف البريطانية ما تعريبه:

إن كلمة الشيطان هي اسم وضع في الإنجيل والمذهب النصراني على شرير كبير يظن أنه يرأس مملكة من الأرواح الخبيثة وهو الملك فيها وأنه عدو الله دائماً واللفظة العبرية وهي الشيطان الدالة على معنى المعاكسة أيضاً تستعمل لهذا الشرير الكبير أو ملك مملكة الشر ومما لا شك فيه أن روحاً خبيثة كهذه كثيراً ما استعملت في العهد الجديد وقد سمي بأسماء متعددة غير ما ذكر مثل كلمة الممتحن، بعل زبوب، ملك الشياطين، القوى، الشرير الخاطئ، العدو الألد، وهذه السماء استعملت مترادفة في الإنجيل وحيثما استعملت تدل على نفس القوة المتحركة الشريرة الخارجة عن الإنسان والمؤثرة فيه أو التي لها سلطة عليه ومن المسائل ما هو مبلغ اعتقاد المسيح نفسه في وجود مثل هذه القوة الخبيثة إلا أنه مما لا شك فيه أن قوة كهذه كان معترفاً فيها في معتقدات اليهود في أيامه ومن المحقق أيضاً أن هذا الاعتقاد بين اليهود لم ينم دفعة واحدة بل نشأ على مهل ويتأثره المطالع في العهد القديم بوضوح كما نجده واضحاً في العهد الجديد وفي الحقيقة أن كلمة الشيطان لا توجد في التوراة إلا في خمس مواضع وفي آثار الأنبياء العبريين الأولى لا يوجد اعتراف بروح شريرة تقاوم إرادة الله والصورة التي صورت بها هذه الروح الشريرة في آثار متأخريهم تختلف كثيراً عن الصورة التي صورها متأخرو علماء اللاهوت. إذاً ما هو أصل الاعتقاد بالشيطان من حيث أنه روح خبيثة مطرودة فالجواب الذي يذكره المنقحون من المعاصرين أن هذا الاعتقاد نشأ من اختلاط اليهود بالفرس لما كانوا منفيين في بلاد فارس فالاعتقاد الفارسي يقسم الدنيا بين إلهين موجودين مختلفين الواحد خير والآخر شر إلا أن كليهما له حصة في الخلق والإنسان. فأهر مزده كان مقدساً صادقاً تجب له العبادة والاحترام وأما أهر من روح الظلام ذو العقل الشرير فلم يكن اقل قدرة وكان يدعي الحق بمساواة أهل مزده من حيث إطاعة الإنسان له وفي القرون الوسطى كان الاعتقاد بالشيطان عظيماً فالقديسون كانوا يحبسون أنفسهم وغيرهم بخصام دائم معه ومن الصعب علينا الآن أن نتصور مقدار التأثير لهذا الاعتقاد في معيشة الناس حينئذ فإنه كان الفكر الثابت في رأس كل إنسان خصوصاً من القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر وهي مدة يمكننا أن نعد هذه الخرافة بلغت فيها منتهاها ومن المحقق أن هذه العقيدة لم تنقص إلا قليلاً في القرن الخامس عشر بل حتى في القرن السادس عشر أو السابع عشر، ولوثيروس كان يشعر دائماً بتماس الروح الشريرة ومعاكستها ففي مكتبته وفي فراشه وحجرته كان الشيطان يتداخل في أشغاله أو راحته ولما كان يباشر درسه سمع صوتاً عرفه حالاً أنه صادر من عدوه الشيطان قال فلما وجدت أنه يريد أن يعود مرة ثانية إلى عمله جمعت كتبي وذهبت إلى فراشي وسمعته مرة ثانية في الليل ماشياً في الرواق لكنني لما كنت أعلم أنه الشيطان لم أهتم به بل غرقت في نومي وكذلك يقول لوثيروس ولما أفقت في هذا الصباح باكراً جاءني الشرير وابتدأ يجادلني فقال لي أنت مذنب عظيم فأجبته ألا يمكنك أن تأتيني بنبأ جديد يا شيطان. ولما تقدم المعقول في القرن الثامن عشر تناقص هذا الاعتقاد بانتشار التأثرات الشيطانية والشعور بما فوق الطبيعة تضاءل من جميع جهاته ولاسيما الاعتقاد القديم بسلطة الشيطان المطلقة على مصير الإنسان ومع أن الشعور الديني ازداد كثيراً منذ ذلك الحين فلا يمكن أن يقال بأن الاعتقاد القديم بالشيطان وأعماله تجدد ومن الممكن أن يكون اعتقاد النصرانية اليوم أن هنالك قوة شريرة في العالم تعاكس إرادة الله ولكن هل هذه القوة هي شخص وما هي علاقة هذه المملكة الشيطانية بمصير الإنسان؟ كل ذلك مسائل لم تقرر بعد أو مشكوك بها في أي مذهب من مذاهب الكنيسة. ووظيفتنا أن نلاحظ هذا التغير في اعتقاد النصارى من غير أن نبين منافعه أو غير ذلك ومن المحقق أن الاعتقاد بالشيطان لا يشغل مكاناً عظيماً في تصورات النصارى اليوم كما كان من ذي قبل وأنه ليس لسلطته الآن الذي كان له في الإنسان واختباره اهـ كلام دائرة المعارف البريطانية ولم نورده مع كلام المعجم قبلها إلا ليتم للواقف على هذه المسألة الاطلاع على آراء بقية المفكرين من الملل الأخرى فيها.

(هـ) تزعم الفرس أنه الجن يسكنون في بلاد تسمى جنستان ويسميها شعرائهم أرض العفاريت والجنيات ويقولون أنها واقعة في الطرف الغربي من أفريقية ومنهم من يقول أن مقرهم في جزيرة الحيات في بحر الهند ويصورونهم بهيئات مخيفة بقرون طويلة وأذناب وعيون مشقوقة طولاً وشعر واقف كذا في دائرة المعارف.

(و) قال وليّ الدين: يدعي بعض شيوخ الضلالة ورسل البهتان أن لهم تعازيم يستحضرون بها الجن ويجعلونهم تحت تصرفهم ولا يزال لهذا الأضاليل أثر يذكر يتناقله الناس ويعتقدون بصحته اهـ.

(ز) قال الرازي في مقدمة تفسيره في بحث الاستعاذة: هؤلاء الذين يمارسون صنعة التعزيم إذا تابوا من الأكاذيب يعترفون بأنهم قط ما شاهدوا أثراً من هذا الجن قال الرازي وذلك مما يغلب على الظن عدم هذه الأشياء قال وسمعت واحداً ممن تاب عن تلك الصنعة قال: إني واظبت على العزيمة الفلانية كذا من الأيام وما تركت دقيقة من الدقائق إلا أتيت بها ثم أني ما شاهدت من تلك الأحوال المذكورة أثراً ولا خبراً اهـ.

(ح) ذكر بعض المحققين أن إبليس علم جنس للشيطان معرب ذياقوليس باليونانية ومعناه موقع الخلاف أو مطغي أو مبعد الإنسان عن سبيله، ويتضمن اسمه معنى آخر في كتب الوحي وهو رئيس الأرواح الشريرة قال وكان شعراء الفرس الذين ينظمون في الخرافات يصفونه بلون أسود وعينين تقذفان ناراً ورائحة كبريتية وقرون وذنب وأظافر معوجة وحافرين مشقوقين اهـ.

(ط) لفظ شيطان عبراني بمعنى مخاصم أو مضاد ثم أطلق على روح شريرة غير مرئية تدعو إلى المعاصي والآثام كذا في المرشد قال الراغب عن أبي عبيدة: الشيطان اسم لكل عارم من الجن والإنس والحيوانات قال وقد يسمى كل خلق ذميم للإنسان شيطاناً لهـ ونقله السيد الزبيدي عنه في تاج العروس شرح القاموس.

(ي) قال بعض الأفاضل: من الاعتقادات الشائعة أن الجن تسكن بعض الأماكن ولاسيما الخرابات والقبور والعيون والآبار والبيوت المهجورة حتى العامرة أيضاً فيحتاج أهلها إلى الخروج منها وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا سكنى دار ذبحوا للجن ذبيحة حتى لا تضرهم وهذا الاعتقاد المتقادم العهد لم يزل باقياً إلى الآن في أماكن كثيرة وربما روى بعض العامة مرائي وأساطير من هذا القبيل، وما ذلك إلا أوهام وتصورات تنتج من المتخيلة المنطبعة فيها من جري أكثر الأخبار، آثار لا تمحى إلا بكرور الأيام، وانتشار ألوية العلم في كل القطار بحيث تتمزق حجب الأوهام، وتأخذ الحقائق مكانها في أفكار الأنام، سهل الله سلوك سبيل العلم والعرفان إنه الكريم العلام.

جمال الدين القاسمي