الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 46/غرائب الغرب

مجلة المقتبس/العدد 46/غرائب الغرب

بتاريخ: 1 - 12 - 1909


دار معونة العلماء

15

هي الدار التي أنشأتها الآنسة دوسن شقيقة العقيلة تير امرأة تير. وهو العالم المؤرخ أول رئيس للجمهورية الثالثة نفع هذا الرجل فرنسا بحياته فأحبت امرأته أن تخلد ذكره بعد مماته فأوصت بمال يصرف على تأسيس دار تؤوي خمسة عشر رجلاً من شبان العلماء يكفون فيها مؤونة الحياة المادية ويتفرغون للبحث والدرس ليكونوا صلة بين الكليات التي تخرجوا فيها والمجامع العلمية التي يراد إجلاسهم في قاعاتها. ماتت العقيلة تير على حين فجأة فنفذت وصيتها شقيقتها ووقفت مالاً بلغ ريعه مئة وخمسين ألف فرنك.

إن من يزور هذه الدار المباركة ويطلع على أعمالها ورجالها يوقن كل الإيقان بالمثل الإفرنجي القائل بأن (فرنسا تخترع وألمانيا تعمل) الفرنسيس يبتكرون في كل شيء وهذه الدار هي من مبتكراتهم وما أظن لها مثيلاً عند الألمان والانكليز والاميركان سادة العالم في العلم وقادة الإبداع والاختراع.

زرت هذه الدار مرتين وتشرفت بالتعرف بمديرها أحد كبار فلاسفة فرنسا وعلمائهم المعاصرين المسيو أميل بوترو ـ ومشاهير الفلاسفة المعاصرين من الفرنسيس اليوم هم بوترو وفوليه وريبو وبرجسون.

ولم أتمن في حياتي أن أكون فرنسوي الأصل والجنس إلا لما رأيت هذه الدار وعلمت أنها لا تقبل في حجرها إلا الفرنسويين. تمنيت أن أعيش فيها المدة المحددة لكل طالب أتفرغ لدرس أبحاث تجول في الصدر ويعوق الزمان والمكان الآن عن إتمامها.

هذه الدار سميت باسم تير والأولى أن تسمى دار معونة العلماء لأنها ليست مدرسة كالمدارس ولا كلية كالكليات ولا مدرسة دينية كالمدارس الدينية بل هي دار يقبل فيها كل سنة خمسة من شبان العلماء من نابغي الكليات يحملون شهادة (الليسانس) أو (الدكتورا) في الآدب أو العلوم أو ممن نالوا جائزة من جوائز المجمع العلمي في الأبحاث التي تجري فيها المسابقة بين أرباب الأفكار والأقلام تحت نظارة المجامع العلمية الخمسة في باريز فيقضون ثلاث سنين في هذا المعهد ينصرفون فيها إلى الفن الذي يريدون الاخصاءَ فيه فيبحثون بأنفسهم لأنفسهم تحت رعاية مدير المعهد فيلسوف فرنسا المسيو أميل بوترو الذي يعيش وإياهم في المعهد كما يعيش الأب مع بنيه ويمدهم بآرائه ويهديهم إلى أقرب الطرق للانتفاع بمعارفهم ووضع مؤلف أو مؤلفات نافعة في الفنون التي هي أحب من غيرها إلى قلوبهم ولا ينشرونها إلا إذا نظر هو فيها واقرهم عليها. وأي عالم لا يحب أن ينتفع في علمه برأي عالم كالمسيو بوترو بلغ السبعين أو كاد من عمره وهو يفني لياليه وأيامه في العلم والفلسفة.

يشترط فيمن يدخل دار معونة العلماء أن يكون ممتازاً بعقله وأخلاقه ويفضل من يرتضي أساتذته أخلاقه ونبوغه ويشهدون فيه شهادة حسنة وأن يكون دون السادسة والعشرين من عمره غير متزوج وقد قضى الخدمة العسكرية ويعطيه المعهد ستين ليرة في السنة لنفقته الخاصة وثلاثين ليرة ليسيح بها سياحة علمية وتعطيه غرفتين فسيحتين فيهما أسباب الراحة والرفاهية إحداهما لنومه والثانية لعمله بحيث يكون الشبان العلماء الخمسة عشر وهو عدد الموجود منهم في المعهد أبداً موسعاً عليهم لا يطلب منهم إلا أن يؤلفوا ويبحثوا أبحاثاً علمية تنفعهم ونفع أمتهم وبلادهم ويقسم عدد من كانوا فيها سنة 1908 ـ 1909 من شبان العلماء إلى رياضيين ومؤرخين ومتشرع في السياسة والاجتماع وعالم في اليونانيات وحقوقيين وفيلسوفين ومؤرخ وموسيقار وعالمين في الجرمانيات ومؤرخ في الآداب الفرنسوية وجغرافي وقد أنشئ هذا المعهد سنة 1893 فيكون عدد من أعانهم على الأخصاء في العلم حتى الآن 80 عالماً وكلهم وضعوا المؤلفات الممتعة النافعة للعلم عامة ولبلادهم خاصة وقد بلغت واردات هذا المعهد مئة وخمسين ألف فرنك في السنة يتناول منها المدير عشرة آلاف فرنك.

قام معهد تير العلمي في أجمل حي من أحياء باريز في حي الأشراف والنبلاء بالقرب من غابة بولونيا الغناء غربي مدينة باريز في الحي الذي تؤجر الدار فيه اليوم بثلثمائة ألف فرنك مسانهة وسط حديقة أنيقة تحيط بها الحدائق في مكان يجمع إلى السكون المطلوب للعلماء والمؤلفين ولا يبعد عن سائر أحياء العاصمة وما يلزم لهم من المواد المفرقة في مكاتب باريز المختلفة ودور العلم والمستودعات والمجامع والمتاحف وغيرها بحيث هم بعيدون قريبون عن الحركة العلمية والسياسية والاجتماعية وليس في المعهد مكتبة كبرى لأنها عَلَى اتساع مساحتها لا يتسع صدرها لكل ما يلزم المؤلفين فيها من المواد بل فيها فقط كتب الفهارس والمعاجم والمراجعة والأمهات التي لأغنية لكل عالم عنها وما عدا ذلك فمكاتب باريز وعلماؤها ودور سجلاتها ومتاحفها عَلَى قيد غلوة من سكانها هذه الرحبة الشريفة يأخذون منها ما راقهم كل ساعة.

وليست هذه الوسائط هي كل ما في معهد تير من المعونات علمائها بل أن لهم بفضل الشيخ الرئيس مديرهم الحكيم الكبير أهم الأسباب التي تربطهم بعلماء العالم ومجامعه وكلياته فهم كسكان الجنان توفرت لهم كل الوسائط فلم يبق عليهم إلا أن يقطفوا من ثمار يحبونها كل قريب ودان.

يعيش هؤلاء العلماء عيشة مشتركة فيتناولون طعامهم معاً ويلعبون ويتنزهون معاً ويبحثون عن العلوم التي يمتون بها معاً ويظلون هكذا يعيشون عيشة الأتراب العاملين عَلَى ما تعلموا في طفولتهم في المدارس والكليات ويستفيد بعضهم من بعض في العلوم المختلفة ويعاون بعضهم بعضاً معاونة الإخوان ويترفهون رفاهية لا يتمتع بها إلا عقلاء الأغنياء.

قام هذا المعهد المفيد تحت رعاية العلماء من أهل المجمع العلمي وحققت فيه مؤسستاه العقلية تير وشقيقتها مارسمه النظار على ذاك المعهد أمثال جول سيمون ومنيه وبارتلمي سان هيلير فكان تير الذي عد من نوابغ القرن التاسع عشر الذين خدموا بلادهم خدمة تذكر عَلَى الدهر فتشكر نافعاً لأمته في حياته بعقله وفي مماته بماله. فمتى يصل الشرق يا ترى إلى هذه الدرجة في العقل والإحسان ومتى يكون علماؤه من أهل السعة واليسار إلى هذا الحد ليحسنوا الانتفاع بأموالهم كما أحسنوها بعلومهم.

إن شبان العلماء في هذه الدار بعد أن تعلموا ورأوا العلماء كيف يعملون محتاجون لهضم ما تعلموه أن يعانوا لينشأ منهم أفراد متفردون في العلم فيتحولون بهذه الواسطة من تلامذة إلى أساتذة أكفاء أن يكفوا أنفسهم وأن يوجدوا ويخترعوا وهذا موقوف عَلَى أن يستجمعوا قواهم ويتمتعوا بحريتهم وأوقاتهم عَلَى ما يشاؤن فالعمل كما قال أميل بوترو هو السرور على شرط أن لا يكون صاحبه مستبعداً فيه لأحد ولا لمؤثر بل يقوم به مدفوعاً فقط بعامل نتائجه الطبيعية وهي الإيجاد والإبداع. وما التربية إلا أن تخرج كل إنسان عَلَى ما ينفع فيه ويتيسر له النبوغ في فروعه. التربية هي تخريج المرء أولاً في مجموع المبادئ العامة التي هي وقف خلفه لنا أسلافنا بتجاربهم وسموا ذلك العقل ثم تخريجه ثانياً في أن يكون مخصياً متفرداً في علم واحد يكون فيه عَلَى بصيرة عَلَى نحو ما يتطلب ذلك العلم الحاضر والمجتمع الحديث ثم ينشأ ثالثاً ممن دخل في هذين الطورين في التربية فيلسوف يدرك قيم الأمور ويعرف الصلات المتبادلة فيما ينصرف إليه العالمون عَلَى اختلاف معارفهم ويبحث في أن يوفق توفيقاً حسناً بين الحياة الخاصة والحياة العامة. وكل هذا لا يفهم مغزاه شرقنا التعس الآن.

تآخي الغربيين

16

كل فكر ومذهب في الوجود نتيجة الدعوة إليه وتحبيبه إلى النفوس. عرف الغربيون هذه القاعدة فجروا عليها كثير من أعمالهم وكان من ثمرات الدعوات السياسية والدينية تأليف الوحدة السويسرية والألمانية والأميركية وتوحيد كلمة الجزائر البريطانية وانتشار المذاهب الاجتماعية والاشتراكية والفوضوية وكثرة من يدينون بالمذاهب البرتستانتية والفلسفية وقد قام في فرنسا جماعة ممن يفكرون لخيرها رأوا أن بلادهم تنتفع كثيراً من تحسين صلاتها مع أميركا فألفوا جمعية دعوها (جمعية فرنسا أميركا) مؤلفة من علماء وسياسيين وقواد واجتماعيين ومعلمين وفي رأسها المسيو جبرائيل هانوتو أحد أعضاء المجمع العلمي وصاحب التأليف الكثيرة في التاريخ والسياسة ووزير خارجية فرنسا الأسبق وقد انشأوا لبث هذه الدعوة مجلة شهرية باسم جمعيتهم تدعو إلى هذا الغرض استفتحها رئيس الجمعية بمقالة في الغرض الذي يرمون إليه وكتب في المجلة الأسبوعية مقالة طويلة الذيل في هذا الشأن فرأيت أن الخص للمشارقة لباب هاتين المقالتين دلالة عَلَى ما يأتيه المغاربة من الأعمال النافعة لمستقبلهم لننعى على أنفسنا نومنا عن النظر في مستقبلنا.

قال هانوتو: إن النجاح معقود بناصية من يعمل في الوقت اللازم ولو وجهنا وجهتنا منذ سنة 1860 إلى أميركا الشمالية والجنوبية لما احتجنا اليوم إلى دعوة أمتنا لتعريفها بما نعرفها به. هبت علينا الزعازع السياسية والاقتصادية منذ ذاك الحين وإذ سكنت الآن وجب علينا أن نعمل عملاً يحمل في مطاويه أحسن الفوائد.

تبدلت الأرض غير الأرض في خمسين سنة حتى صح أن نقول إن قارتي آسيا وافريقية كأنهما اكتشفتا حديثاً فكثرت مواصلاتهما وحملت إليهما المدنية والحضارة وجرى تعليمهما واستعمارهما وكان لفرنسا من هذا التحول الغريب حصة موفورة. فقد غير دلسبس بفتحه ترعة السويس شكل الأرض كما أن جول فري بموافقته عَلَى السياسة الاستعمارية قد حاز لنا قسماً كافياً من قسمة الأراضي الجديدة.

وبينما كان الشرق يستدعينا غدا الغرب الغرب ينكرنا ويستغني عنا. فإن مسألة باناما المشؤومة التي جاءت بعد مسألة المكسيك قد أثرت في علاقاتنا مع أميركا الشمالية والجنوبية واستغرقت التدابير الأوربية الكبرى التي اضطررتا إلى مجاراتها فكرنا وقوتنا المادية. وانحطت بحريتنا التجارية فضعفت بضعفها أسبابنا في العمل واحتفظنا بأساليبنا القديمة التجارية فسبقتنا شعوب أكثر منا فتاء وأكثر مضاء وأقل مطالب ومشاعب.

نعم تقدمنا وتأثلنا ولكننا لم نبرح كما كنا في قوتنا على عهد نابليون على حين كانت أميركا بثروتها وقوتها وعظمتها تتقدم تقدماً لا يوصف فقد كان سكان الولايات المتحدة سنة 1870 ـ 36 مليوناً أي ما يقرب من سكان فرنسا على التقريب فأصبحوا سنة 1890 ـ 63 مليوناً وهاهم يتجاوزون اليوم الثمانين مليوناً. وفي كندا اليوم زهاء 6 ملايين من السكان وفي الجمهوريات الوسطى والمكسيك 22 مليوناً وأصبحت أميركا الجنوبية 45 مليوناً وكان فيها سنة 1890 ـ 35 مليوناً.

وكان مجموع تجارة الولايات المتحدة سنة 1870 خمسة مليارات ونصف فرنك فأصبحت اليوم زهاء 16 ملياراً وكان مجموع تجارة كندا سنة 1878: 75079 مليوناً فأصبحت سنة 1905ـ 1906 مليارين ونصفاً. ومجموع تجارة أميركا الوسطى والمكسيك مليارين ونصف وجمهوريات الجنوب أكثر من أربعة مليارات منها ملياران ونصف للبرازيل ومليار للجمهورية الفضية.

وعلى الجملة فقد بلغ مجموع ما هناك من نفوس 160 مليوناً من البشر ومجموع التجارة أكثر من 25 مليار فرنك وأحدثت أميركا حركة كبرى في العالم بدخولها مضمار الاتجار فأثرت في فرنسا تأثيراً غير قليل وكانت هذه إلى ذاك التاريخ قريبة لتجارتها من انكلترا أي لها المقام الثاني في التجارة فأصبحت اليوم في الدرجة الرابعة بعد انكلترا والولايات المتحدة وألمانيا. أي أننا فقدنا ما كان لنا من المكانة قديماً فنحن اليوم نريد أن نستعيد منزلتنا الأولى أو أن نغتنم الوقت الضائع فالمسألة ليست متعذرة ولكن تقتضي لها الإرادة والتفكر والعمل على طريقة منظمة والعودة إلى تقاليدنا والانتفاع من أسبابنا.

أما الولايات المتحدة بما لها من المركز الذي أحاط بطرفي البحرين المحيطين فهي المهيمنة عَلَى أعمال العالم فإن عدلت الحالة بين اليابان وروسيا فلا يبعد أن يجيءَ زمن تتداخل فيه في السياسة الأوربية وأن الفرنسويين في كندا ليبلغون مليونين ونصفاً ومثل هذا العدد من الفرنسيس منتشر في جمهورية الولايات المتحدة ولا سيما في الجنوب واللغة الفرنسوية في كويان وجزائر الانتيل يصبح عدد الفرنسيس ومن يتكلمون باللغة الفرنسية من الأميركان ليس بقليل.

وان مالنا من الأيادي في أميركا ولا سيما وقد قرن فيها اسم لافابيت الفرنسوي باسم واشنطون الأميركي اللذين ساعدا على استقلال الولايات المتحدة وما وضعناه فيها من أموالنا وقمنا به في جمهوريات الجنوب من البعثات العلمية والعسكرية والمشاريع الاقتصادية والمالية كل ذلك يدعونا بلسان الحال إلى أن نصل الحاضر بالغابر وإن لم تكن سلسلة الصلات قد قطعت كل القطع.

والناس مهما تقلبت بهم الحال لا يزالون يذكرون لفرنسا بيض أياديها عَلَى المدنية وإذا نسوها فإنهم لا ينسون باريز التي تنشر أنوارها على العالم وإليها يحج الألوف من الأميركيين كل سنة للتنزه والارتياض والاستفادة وكلما كثرت الرفاهية في ديارهم تدعوهم الدواعي إلى نزول باريز وما في أراضي فرنسا من المصايف والضواحي كالشاطئ اللازوردي (كوت دازور) فإن مجموع الأميركيين الذين يختلفون كل سنة إلى ديارنا لا يقلون عن مليون سائح. فعقد الصلات بين فرنسا وأميركا فيها كل ما نحتاجه من الأسباب القوية فإن كانت أميركا الشمالية تدعونا إليها بما فيها من القوة والعظمة فأميركا الجنوبية تناينا إليها القرابة لأن عناصرها لاتينية وتربتها لاتينية فمن كندا إلى مضيق ماجللان مارين بالمكسيك والجمهوريات الوسطى ترى الدم اللاتيني ممزوجاً في شرايين العناصر الجديدة وعلى أميركا الجنوبية يصح إطلاق المثل القائل (هذا دم لاماء).

ومثل هذه الجمعيات نفعتنا في القارات والأقطار الأخرى فقد كانت جمعية (افريقية الفرنسوية) أعظم معاون للحكومة في أعمالها الاستعمارية وجمعية (آسيا الفرنسوية) أخذت على عاتقها مثل هذه المهمة و (جمعية مراكش) تعمل على نشر الأفكار الفرنسوية في الغرب الأقصى فنحن بجمعيتنا هذه لا نأخذ إلى أميركا من معارفنا بقدر ما نأخذ عنها. فلا نرمي إلى الدخول فيها ونشر كلمتنا بين أبنائها بل نود أن نعاونها ونحالفها نريد أن نتعلم عليها ونحن أبناء المدينة القديمة درساً في النشاط والمضاء فإن كان لمدننا القديمة كنائسها وبيعها فللمدن الحديثة معاملها ومصانعها فنحن نقنع بامتصاص التاريخ أما هم فينشقون لوج المستقبل.

قام في واشنطون مثل عملنا هذا يرمي إلى التقرب بين جميع العناصر في العالم الجديد سموه مكتب الجمهوريات الأميركية أنشأته الولايات المتحدة بمعونة الحكومات الأخرى ومنحه المستر كارنجي مبلغاً جسيماً من المال وهو يفتح قاعات لإلقاء المحاضرات الاجتماع ومكاتب لأخذ المواد والتعليمات وخزانة كتب ومجلات كبرى وينشر مجلة للدعوة إلى هذا الغرض وذلك عَلَى صورة رسمية كما إن اسبانيا أشأت مثل ذلك للتوفيق بين اسبانيا وأميركا وبمثل ذلك قامت البرتغال للتوفيق بينها وبين البرازيل. وفي ألمانيا اتحدت الكليات وأعمال الرجال على جلب أبناء الأميركان وتلقينهم التربية الجرمانية أما شعار جمعيتنا فهو أن نحبب فرنسا إلى نفوس أميركا ونعرفهم بها ونحبب أميركا إلى نفوس الفرنسويين ونعرفهم بها.

ولا بأس هنا بذكر شيء من تلك العظمة الأميركية التي أدهشت العالمين المدني والوحشي فإن مدائن نيويورك وشيكاغو وسان لوي وسان فرانسيسكو قد امتازت بغناها في زراعتها ومعادنها وصناعتها وأعمالها التجارية الخارقة للعادة فقد كان في الثماني والأربعين ولاية ومقاطعة كولومبيا والأرض الهندية وألاسكا وجزائر هافاي ومنها تتألف الولايات المتحدة 5739687 مزرعة سنة 1900 ومعدل سعة كل واحدة 146 فداناً (آكر) وثمنها 20 ملياراً نصف مليار دولار أي 106 مليارات من الفرنكات وكان مجموع محاصيل هذه المزارع سنة 1908 8مليارات دولار منها 2668 مليون مكيال من الذرة و664 من الحنطة و807 من القرطمان و31 من الجاودار و166 مليوناً من الشعير و13 مليون بالة قطن و70 مليون طن من العلف و718 مليون لبرة من التبغ و278 مليون مكيال من البطاطا و135 مليون لبرة من الصوف النقي.

وكانت مساحة الغابات الأهلية 168 مليون فدان تغل كل سنة 666 مليون دولار د عنك الصيد في بحار أميركا وأنهارها وهو يباع بعشرات الملايين من الدولارات.

وبلغ سنة 1905 مجموع ما في الولايات المتحدة من المعامل 216 ألف معمل رأس مالها 12686 مليون دولار يعمل فيها 5470000 يتقاضون أجوراً يبلغ مقدارها 2611 مليون ريال وتبتاع بثمانية مليارات ونصف من المواد الأولية وتبيع بما قيمته خمسة عشر ملياراً. وفي سنة 1908 أعطت الحكومة 163 ألف رخصة لإنشاء محال وأماكن قيمتها 546 مليون ريال.

وبلغ طول الخطوط الحديدية في هذه الولايات سنة 1907: 237 ألف ميل أي 381 كيلو متر لها 55، 388 قاطرة و 2، 126، 00 مركبة فيها من المستخدمين 1672، 000 يقبضون 1072 مليون دولار مشاهرات وبلغ عدد من نقلتهم تلك الخطوط من الركاب 874 مليوناً وثقل البضائع 1796 مليون طن وثقل الطنات الألفية (الألف 1608 أمتار) 236 ملياراً ورأس مال شركات السكك الحديدية 16 مليار دولار وصافي ريعها أربعة في المئة. وفيها ما عدا هذه السكك الحديدية 38812 ميلاً من الخطوط الكهربائية.

وبلغت صادرا الولايات المتحدة سنة 1908 1194 مليون دولار والواردات 1860 ومجموع تجارة أميركا الخارجية 3315 مليوناً.

وكل هذه القوة الاقتصادية ليست بشيء لو لم تكن الأخلاق أساس عظمتها الاقتصادية وقد أخذ مقام المفكرين والعالمين يعظم في أميركا كما عظمت منزلة رجال المال والأعمال والصناعة والتجارة.

وكثير من سكان المدن يعنون بالموضوعات الأدبية والفنية والعلمية وأصبحت بعض المدن مثل بوسطون التي هي مقر الحركة العقلية منذ زمن طويل ميدان الآداب والعلوم. وأن كثيراً من الأسر لينزلون مدينة واشنطون عاصمة الولايات المتحدة في سياستها ويعيشون فيها بعيدين عن اضطرابات نيويورك وسان لوي وشيكاغو. وليس للأميركان مثل فرنسا بلاداً يغترفون منها مادة علم ولا يجدون بلداً مثل فرنسا تتلقاهم بقبول حسن وتوفر الإرادات على حبهم. وفرنسا تتعلم كذلك من نشاط رجالهم فكما أن طلابهم يجدون في بلادنا ما يتعلمونه كذلك أولادنا يستفيدون من تعلمهم في كليات أميركا فينشأون بين شبان يشعرون منذ صغرهم باستقلال الفكر وأنهم حاملون تبعة أعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

لما وصل النقل إلى هذا الحد وقف القلم فذكرت شيئاً من حال الشرق. ذكرت حال العثمانيين والإيرانيين وأنهم وإن كانوا من أمم مختلفة فجامعتهم الكبرى وهي الإسلام لا تقول بجنس ولا عنصر فلو كنا وكانوا عَلَى شيء من العلم الحقيقي أما كنا ندعو إلى إنشاء جمعية عثمانية أيرانية كما ينشئ هانوتو اليوم جمعية فرنسوية أميركية.

ولكن ضعف عقول رجالنا ورجالهم وتعصبنا وتعصبهم وجهلنا وجهلهم لا تلبث أن تنفجر براكينها إذ ذاك ويتذرع بعضهم بالسياسة يتوكأون على عكازها لينافروا بين القلوب ويفرقوا بين أبناء الأب الواحد وهناك تدخل الدول ذوات الشأن والغايات في البلادين وينفخن في أبواق الشقاق مستعينات ببعضنا عَلَى البعض الآخر. وإن العاقل ليربط عَلَى قلبه بيده عندما يفكر في عاقبة سعي الجهلاء لإبقاء سوء التفاهم بين العثماني والعثماني فكيف يتمنى هذه الأمنية البعيدة اليوم من ربط العثماني بالإيراني. فاللهم علمنا علماً نحسن به التفاهم حتى يتآخى الشرقيون كما يتآخى الغربيون.