الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 45/قضاء الفرد وقضاء الجماعة

مجلة المقتبس/العدد 45/قضاء الفرد وقضاء الجماعة

مجلة المقتبس - العدد 45
قضاء الفرد وقضاء الجماعة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 1 - 11 - 1909


من خطبة لرفيق بك العظم ألقاها في مدرسة القضاء الشرعي في القاهرة

ليس المراد بقضاء الجماعة هو قضاء هيئة مؤلفة من أكثر من واحد فقط كما قد يتبادر إلى الذهن بل هي بالمعنى المشترك أيضاً جعل قوة التشريع القضائي مصونة عن رأي الأفراد وتفردهم بالتشريع منوطة بالجماعة تثبتاً من الحكم واطمئناناً للدليل واعتماداً على ما هو الأصلح عند الجماعة إذا تعذر وجود النص.

إن مراعاة الأصلح قاعدة من أهم قواعد التشريع الإسلامي التي يدفع بها الحرج وتدرأ المفاسد عن المجتمع حتى لقد كان كبار الصحابة يراعون قاعدة الأصلح عند الضرورة مع وجود النص ويتنازعون عَلَى المسألة الواحدة يجيء بها النص من عدة روايات أو يحتاج إلى التفهم الدقيق تثبتاً من الحكم ورغبة بمحض الخير للأمة والعدل بين المتقاضين وبذلاً للجهد في بيان الحقيقة للمستفتين وقد قال ابن القيم تنازع الصحابة في كثير من الأحكام ولكن لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال. أي المسائل التي تتعلق بالأيمان.

قلنا أن المراد بقضاء الجماعة جعل قوة التشريع القضائي في حياز جماعة لا فرد لأن ذلك أسلم وأبعد عن الخطأ وأضمن للعدل وسببه أن الأحكام التي يرجع فيها إلى الرأي والاجتهاد أو القياس عند تعذر وجود النص أو عند لوم ترجيح رواية من الروايات تحتاج إلى شروط قلما تتوفر في الفرد الواحد وإن توفرت له فربما لا يتيسر له تحري المصلحة وتطبيق الحكم عليها من كل وجه بحيث لا يخالفه فيه غيره ممن هو في طبقته من أهل العلم.

اعتبروا ذلك في أئمة المذاهب المجتهدين فإنه مع بذل كل واحد منهم في تقرير فروع المذهب وأصوله منتهى الجهد في تحري صحيح الآثار والأخبار وتتبع أصول الشريعة فقد اختلفوا في كثير من المسائل واختلف اتباعهم بعد ذلك اختلافهم أيضاً فكان من ذلك انقسام القضاء الإسلامي عَلَى نفسه حتى وجد في بعض العصور أربعة قضاة لأربعة مذاهب في مصر واحد من الأمصار الإسلامية هذا فضلاً عن اختلاف فقهاء كل مذهب أيضاً في المسألة الواحدة حتى أصيب الإفتاء بما أصيب به القضاء من التشتت والانقسام واضطرب أمر العدالة أيما اضطراب مع أن الأصل لهذه المذاهب واحد وهو الدين الإسلامي المبين.

لهذه العلة الخطرة كان الصحابة الكرام لا يستنكفون عند الاستفتاء من أحدهم أن يحيل بعضهم عَلَى بعض أو يستشير بعضهم بعضاً في تقرير الحكم كما ثبت ذلك في كتب السنة خوف الوقوع في خطأ يجر إلى مظلمة أو إثم ولا سيما فيما يحتاج فيه إلى العمل بالاجتهاد والرأي.

لما كانت الشرائع مبنية عَلَى درءِ المفاسد وجلب المصالح والشريعة الإسلامية أحرى الشرائع برعاية هذين الأمرين فقد سن الشارع إيقاف العمل بالنص مراعاة للمصلحة ولكن عند الضرورة القصوى وثبوت المصلحة ولزومها عَلَى وجه لا يقبل الشك في أن المصلحة تترتب عَلَى العدول عن النص أكبر من المصلحة التي تترتب عَلَى العدل به واستن بسنته صحابته والخلفاء الراشدون من بعده فكان ذلك شرعاً أيضاً فيه تيسير عظيم على المسلمين واليكم الدليل.

في حديث لأبي داوود أن رسول الله ﷺ نهى أن تقطع الأيدي في الغزو. وأنتم تعمون أن القطع حد من حدود الله لم يستثن النص القرآني منه الغزاة لكن النبي نهى عن إقامته في حال مخصوصة خشية أن ينشأ عنه مضرة وهي لحاق صاحبه بالعدو وقد روي عنه ﷺ عدة أخبار أخرى من هذا القبيل لا محل لذكرها هنا وهي مبسوطة في كتب الحديث.

وقد استن الصحابة بسنته وأوقفوا الحدود في أحوال مخصوصة تدعو إليها الضرورة

جاء في كثير من كتب الأخبار أن عمر كتب إلى الناس ألا لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حدا وهو غاز حتى يقطع الدرب لئلا تلحقه حمية الكفار.

وروى ابن القيم في أعلام الموقعين عن ابن حاطب بن أبي بلتعة أن غلمة لأبيه سرقوا ناقة لرجل من مزينة فأتى بهم عمر فأقروا فأرسل إلى عبد الرحمن بن حاطب فجاء فقال له أن غلمان حاطب سرقوا ناقة رجل من مزينة واقروا عَلَى أنفسهم فقال عمر يا كثير بن الصلت اذهب فاقطع أيديهم فلما ولى بهم ردهم عمر ثم قال أما والله لولا أني أعلم نكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى أن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له لقطعت يديهم وايم الله أن لم أفعل لأغرمنك غرامة توجعك ثم قال يا مزني بكم أُريدت منك ناقتك قال بأربعمائة قال عمر (أي عبد الرحمن) اذهب فأعطه ثمانمائة.

وغير هذا فقد اسقط عمر الحد في عام المجاعة للضرورة وتجاوز أبو بكر عن خالد بن الوليد في حادثة مالك بن نويرة إذ قتله دون تثبت من إسلامه كما تجاوز عنه رسول الله - ﷺ - قبل ذلك بما صنعه ببني جزيمة لما أرسله داعياً لا محارباً فذهب إليهم وحاربهم وقتل وسبي منهم فبريء رسول الله من عمله إلى الله ولم يؤاخذه به وما ذلك إلا لحسن بلاء خالد في الحروب وخدمته العظيمة في الإسلام وكذلك أسقط سعد بن أبي وقاص الحد عن أبي محجن في حرب القادسية وقال والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى للمسلمين ما أبلاهم.

والشواهد عَلَى هذا من أعمال النبي وأصحابه كثيرة لا يتسع لها مقام الخطابة ولعل هذه القاعدة سوغت بعد لبعض الحكومات الإسلامية التجاوز عن الحدود والعقوبات المدنية كالسن بالسن والعين بالعين وأبدلت بها العقوبات الأدبية كالحبس والتغريم مثلاً لضرورة تغير الزمان أو لفشو المنكرات فشواً لم ينجع في تأديب مرتكبيها إلا حبس حريتهم في السجون أو غير ذلك من الدواعي والأسباب الزمانية.

ليس فيما ذكر غض من مقام الشريعة أو مس لأصولها المقدسة مادام من أصولها وقواعدها أيضاً العدول عن النص عند ثبوت المصلحة أو درء المفسدة بأقل ضرر منها والشريعة كما تعلمون مبنية على المصلحة وقد سبق الله تعالى رسوله والأئمة من بعده إلى تقرير قاعدة مراعاة الأصلح وهو ما يسمونه النسخ وما هو بنسخ وإنما تقرر حكم اقتضته مصلحة زمان وحال غير حكم آخر في زمان تقدمه وأحوال اقتضته كحكم جهاد المشركين من العرب في مبدأ أمر الدعوة حمايتها وحماية المسلمين من أعدائهم وأعدائها وفيه الإذن بقتالهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ثم تقرير حكم آخر بعده أي بعد أن انتشرت الدعوة وقوي جماعة المسلمين وصاروا في مأمن من غائلة الضعف وهو حكم الدعوة بالتي هي أحسن.

وبالجملة فإن ملخص ما تلوته عليكم ينحصر كله في المقدمات الآتية:

(أولاً) ان القضاء في العصر الأول كان مرجعه نصوص الشريعة أي أصولها التي قررها الشارع واجتهاد الصحابة والتابعين فيما لم يرد به نص.

(ثانياً) إن الأحكام التي جاءت عن الشارع لم يكن في استطاعة فرد واحد حفظها أو يتعذر عَلَى الواحد الإحاطة بها فاحتج في القضاء إلى استشارة حفاظها.

(ثالثاً) إن الصحابة كانوا قد يختلفون في المسألة الواحدة إما في تطبيق النص أو في مسوغ الحكم إذا كان اجتهادياً تثبتاً من وضع الشيء في محله جهد الإمكان.

(رابعاً) انهم كانوا يعدلون عن النص عند الضرورة الداعية وفي أحوال مخصوصة تدعو إليها المصلحة التي بني عليها الشرع اقتداءً بالشارع.

(خامساً) إن ورعهم وتقواهم وخوفهم من الوقوع في الإثم كل هذا كان يدعوهم إلى عدم الإنفراد بالحكم ومشاركة خيار المسلمين وعلمائهم في تطبيق الأحكام إذا كانت اجتهادية على القياس الصحيح أو الرأي السالم من خطأ الفرد.

هذه المقدمات تنتج نتيجتين مهمتين أحداهما أن القضاء في الإسلام كان قضاء الجماعة لا قضاء الفرد والثانية أن الشريعة الإسلامية بما تقرر فيها من قاعدتي الاجتهاد ورعاية الأصلح كانت من الشرائع التي توافق كل زمان ومكان وتجيز لكل ضرورة حكماً يوافق مقتضى المصلحة والحال وإن خالف النص مع اعتبار هذه القاعدة شرعاً أيضاً خلافاً لما يتقوله عليها المتقولون من أنها شريعة ضيقة توافق زماناً غير زماننا هذا ومكاناً غير مكان الأمم الراقية لهذا العهد فهي إذا صلحت لأهل العصر لا تصلح لعصر تسير شرائعه مع مقتضيات المدنية الحديثة وحاجاتها سيراً تدريجياً في كل ما يقتضيه ترقي الجمعيات. ومنشأ تقولهم هذا الجهل بحقيقة الشريعة الإسلامية وعدم الوقوف عَلَى أصولها وقواعدها وكلياتها يساعدهم على ذلك ما يرونه من تعصب بعض علماء الشريعة المقلدين لما جاء في كتب الفروع دون الأصول وردهم لكل ما لم يرد فيها من أسباب التيسير وإن ورد في أصول الشريعة وكلياتها من أن في كتب الفروع من الأحكام التي لا تستند إلى دليل قطعي مالا يعدو سبناها الاجتهاد أو الرأي والقياس ومع هذا فإنهم يفضلون العمل بهذه الأحكام عَلَى الرجوع إلى أصل الشريعة مهما كان فيها من التقيد والتضييق على أنفسهم والأمة ومهما ترتب عَلَى ذلك من التهم الباطلة التي يرمينا بها الباحثون في طبائع الاجتماع.

وحجة هؤلاء العلماء في هذا سد الذريعة أو خوف انتشار دعوى الاجتهاد إذا فتح بابه وتطرق الفساد إلى الشريعة وهي حجة معقولة ومسلمة لا يخالفهم فيها عاقل لكن فيما ل صارت قوة التشريع أو الاجتهاد إلى الأفراد وأطلق العنان لكل قائل أن يقول هذا حكم الله ورسوله ولكل حاكم أن يحكم بما يرى ويقول.

ومعاذ الله أن يريد هذه الفوضى للشريعة الإسلامية عاقل قط وإنما المراد أن ينظر في المسائل التي يقتضيها تغير الزمان وتجدد المصالح والحاجات عَلَى شرط عدم الوقوع في ذلك المحذور الذي يخشاه العلماء وذلك بأن تناط قوة التشريع والاجتهاد في المسائل الطارئة في كل عصر بجماعة من أهل العلم الواقفين عَلَى دقائق الكتاب والسنة والعارفين بحاجات الأمة ليقرروا لها الأحكام الموافقة لمقتضى الحال ثم تنال هذه الحكام تصديق أهل الحل والعقد فتصبح قانوناً رسمياً يتحتم العمل به في الحكومة الإسلامية التي هي في حاجة إليه لا يعدل عنه إلى غيره من أقوال الفقهاء والعلماء وإن مجتهدين فتضبط بهذا قوانين الشريعة ويؤَمن عليها تطرق الفساد ثم يكون من ذلك أن تحدد هذه القوانين تحديداً يغني عن الرجوع إلى كتب الفقه التي تختلف في المسألة الواحدة اختلافاً كثيراً يؤدي في كثير من الأحيان إلى التشويش عَلَى القضاء ويكفي أن تكون تلك الكتب شروحاً لقوانين الشريعة المعمول بها يومئذ يرجع إليها عند الضرورة والحاجة إلى تفسير نصوص ذلك القانون كما هو الشأن في مجلة الأحكام العدلية المعمول عليها في محاكم الدولة العثمانية دون غيرها.

للقضاء في الإسلام دوران دور العمل بالأصول ودور العمل بالفروع وإنما اخترت هذا التقسيم لاختصار الطريق أو اختصار البحث خوفاً من تعب القارئ والسامع مع أن أدواره بعد دور التشريع الأول كثيرة جداً إذا اعتبرنا تقسيمه إلى طبقات المفتين والمحدثين من الصحابة والتابعين ثم الأئمة المجتهدين ومن بعدهم من طبقات الفقهاء والمقلدين من أتباع كل مذهب نعتبر ذلك بما قسموا إليه طبقات الفقهاء والمقلدين من أتباع كل مذهب نعتبر ذلك بما قسموا إليه طبقات الحنفية مثلاً فقد قالوا أنهم ينقسمون إلى ست طبقات: البقة الأولى طبقة المجتهدين في المذهب كأبي يوسف ومحمد وغيهما من أصحاب أبي حنيفة القادرين عَلَى استخراج الأحكام من القواعد التي قررها الإمام.

والثانية طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب كالخصاف والطحاوي والسرخسي والخلواني والبزدوي وغيرهم وهم لا يقدرون على مخالفة إمامهم في الفروع والأصول لكنهم يستنبطون الأحكام التي لا رواية فيها عَلَى حسب الأصول.

والثالثة طبقة أصحاب التخريج القادرين عَلَى تفصيل قول مجمل وتكميل قول محتمل من دون قدرة على الاجتهاد.

والرابعة طبقات أصحاب الترجيح كالقدوري وصاحب الهداية القادرين على تفضيل بعض الروايات عَلَى بعض بحسن الدراية.

والخامسة طبقات المقلدين القادرين على التمييز بين القوي والضعيف والمرجح والسخيف كأصحاب المتون الأربعة المعتبرة.

والسادسة من دونهم الذين لا يفرقون بين الغث والسمين والشمال واليمين.

لما اتسعت دائرة الفتح وانتشر الإسلام في الممالك القاصية وتفرق حفاظ الشريعة ورواتها في الأنحاء مع اتساع دائرة القضاء بازدياد وسائل الحضارة واستبحار العمران وتجدد الحوادث التي يقتضيها تشعب المعاملات وحال الأمم الداخلة في الإسلام من غير العرب ولهذا خيف من تشتت أحكام الشريعة ودخول الفوضى في القضاء والإنشاء احتيج بالضرورة إلى أمرين مهمين: الأول تدوين الشريعة في الكتب. والثاني وضع قواعد للتفريع عن أصول الشريعة لتطبيق الحوادث التي تحدث في أحكام المعاملات عَلَى قوانين الشرع. وأول من تنبه للحاجة إلى هذين الأمرين عَلَى ما أظن عمر بن عبد العزيز الخليفة العادل الأموي وسداً للحاجة الأولى أمر الزهري من جلة التابعين وحفاظهم بتدوين الحديث في دفاتر وتوزيعها عَلَى الأمصار في أواخر القرن الأول ففعل كما هو مشهور معروف.

أما الحاجة الثانية فقد شعر بها ولكن سدها بعده الأئمة المجتهدون بدليل ما روي عن الإمام مالك بن أنس أنه قال عمر بن عبد العزيز: يحدث للناس من الأقضية بقدر ما يحدث لهم من الفجور.

أدرك هذا عمر بن عبد العزيز وأدركه الأئمة المجتهدون من بعده مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المذاهب التي لم يبق لها أتباع لهذا العهد كداوود الظاهري وغيره وكأئمة الشيعة الذين يعمل بمذاهبهم إلى اليوم زيد بن علي وجعفر الصادق وغيرهم فلم يكتفوا بتدوين السنة في الدفاتر والكتب بل رأوا الحاجة تدعو إلى البيان والتفصيل والتفريع والترتيب فعمدوا إلى النظر في أصول الشريعة من الكتاب والسنة فاستخرجوا منها الأحكام ووسعوها ورتبوها ودونوها كل على أصول مذهبه وقواعده وأصول الاجتهاد المعروفة في كتب الأصول فضبطوا بذلك قوانين الشرع بما بلغه اجتهادهم وأدى جهدهم فكانت كتب كل مذهب شرعاً يعمل به أتباعه إلى اليوم.

ولسنا بصدد إطراء هذا العمل الجليل الذي قام به أولئك الأئمة الكبار وحسب هذا العمل أو هذه الخدمة التي خدموا بها الأمة والشرع أنها تصون منزلة الإفتاء والقضاء عن متناول كل من أدعى أن عنده مسكة من العلم بالدين والوقوف على السنة هذا لو أحسن العلماءُ بعد العمل بقوانين الفقه.

وبعد فقد ارتكب الفقهاء متن التضييق والتوسع حتى أحرجوا الأمة والجأوا بعض الحكومات الإسلامية إلى العمل ببعض القوانين المقررة عند الأمم الأوربية خصوصاً الجنائية والتجارية نعم إن اختلاف الأقوال في المسألة الواحدة وكثرة الحواشي والشروح عَلَى القوانين والشرائع موجودة عند كل أمة فالقانون الفرنساوي مثلاً له شراح من المتشرعين وأشهرهم دالوز وكاربانتيه وسيريه وغيرهم كثيرون إلا أن القضاء عند تلك الأمم لما كان بيد الجماعة وقوة التشريع ليست من حق فرد من الأفراد بل من حق الأمة ونوابها فدستور العمل عندهم ما أجمعت عَلَى وضعه قوة التشريع وصادقت على قبوله الحكومة فصا قانوناً للقضاء لا يعدل عنه إلى تلك الحواشي والشروح وآراء المتشرعين ويصار إليها لتفسير مبهم أو تطبيق الحوادث بعضها عَلَى بعض.

لشريعة المسلمين أصول وكليات تعتبر أساساً للتشريع ومع أن أحكامها مسلمة فقد كان العمل بها في عهد الصحابة بالشورى بين المتفقهين منهم هذا فيما نص منها على ما يرد عليهم من النوازل فما بالكم فيما احتاج إلى الاجتهاد والتشريع بالقياس على تلك الأصول أو الاستنباط منها وقد كانوا لا يحكمون حكماً إلا بعد استشارة خيار الأمة وعلمائها وإقرارهم جميعاً عَلَى ذلك الحكم حتى اعتبر بعض الأئمة المجتهدين بعد أحكام الصحابة لقوتها شرعاً أو أصلاً من الأصول التي يبنى عليها التفريع سموه عمل الصحابة أو إجماعهم كما سبقت الإشارة إليه وكما ترون ذلك في كتب الأصول.

إذا كان إجماع الصحابة عَلَى مسألة شرط في صحتها واعتبارها شرعاً يلزمنا العمل به فقد لزم من هذا أمران:

الأول: إن إجماع الجماعة على تقرير حكم في مسألة شرط في صحة ذلك الحكم واعتباره شرعاً لزمنا العمل به وهو ما تفعله الأمم الأوربية في تقنين قوانينها لهذا العهد وقد وجد له أصل في الشرع الإسلامي فتركناه وأصبحنا نغبط الأمم الأوربية وقوانينها أو قضاء الجماعة عندها لهذا اليوم.

والأمر الثاني أن كل أقوال الفقهاء واختلافاتهم الواردة في كتب الفروع ليست بشرع إلا من حيث اشتمالها عَلَى أحكام يرد بعضها إلى أصول الشريعة إلا أنه غير متوفر فيها شرط التشريع الذي مر. وإناطة ترجيح قول دون آخر من حيث قربه من الأصل بشخص واحد لا يكسب هذا القول أو الحكم قوة التشريع ليسمى شرعاً أو قانوناً وجب العمل به إلا إذا اتفق عليه وقرره جمهور من المتشرعين أو المرجحين وهذا ما اردته من وجوب بقاء الاجتهاد لكي لا ليتناوله من شاءَ فيما شاء. كلا بل ليناط بجماعة من علماء المسلمين تقرير الأحكام التي تدعو إليها المصلحة ويتجدد بتجدد الزمان.

ولذا فإن اجتهاد الجماعة كما أنه لازم في الأصول فهو لازم في الفروع أيضاً وذلك لجمع أقوال الفقهاء عَلَى اختلاف مذاهبهم ما أصاب من تلك الأقوال محجة الصواب والمصلحة ووافق أصول الشريعة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح في كتاب بعينه يعتبر قانوناً في المعاملات مجمعاً عليه من العلماء ليعرف منه كل مسلم ما له من الحقوق وما عليه لا لتقاذفه أقوال الفقهاء من خلاف لآخر ومن قول لنقيضه فتصير به إلى أهواء القضاة والمفتين يحكمون بما ترجح لديهم وبما يشتهون.

وليس اختلاف المذاهب بمانع من أن يحكم للشافعي أو عليه بقول للحنفية أو المالكي بقول للشافعية مثلاً إذ كل أتباع المذاهب أبناءُ دين واحد وكل أقوال كتب الفقهاء مأخذها واحد وهو الشرع والواقع يثبت أن أحكام المعاملات كانت في أكثر الممالك الإسلامية ولم تزل إلى اليوم جارية في القضاء على مذهب الدولة الحاكمة وربما كان أكثر الرعية من أتباع مذهب غر مذهبها.

ومع هذا فليس نكر من العلماء على أهل الدولة فلا سبيل لهم إلى النكير على القائلين بلزوم جمع الأقوال الموافقة لمقتضى المصلحة والعصر من كتب المذاهب وجعلها قانوناً جامعاً في المعاملات للمسلمين بل هذا خير وسيلة لإصلاح القضاء ربما اغتفرت للفقهاء ماضي تفريقهم وحدة الأمة باسم التعصب للمذهب وكانت خاتمة اضطراب نظام القضاء في الإسلام.

ليس اضطراب حبل القضاء في الإسلام بجديد وليس الظلم والعسف الذي لاقاه المسلمون من حكامهم الظالمين وحكوماتهم الجائرة إلا نتيجة توكئهم على ضعف القضاء خصوصاً ما يتعلق منه بولاية المظالم لا لنقص الدين أو الشريعة بل لنقص في طرق التقنين والتنفيذ.

إن الدين الذي ينزل على الظالمين صواعق الإنذار ويقرن الظلم بالشرك بالله تعالى ويأمر بإقامة ميزان العدل ويريد سعادة المجتمع الذي يدين به ما كان ظالماً ولن يكون وإنما المسلمون أنفسهم يظلمون.

تعلمون أن أحفل العصور الإسلامية بالعلماء والمفتين والفقهاء المتشرعين وأرقاها في سلم المدنية الإسلامية عصر هارون الرشيد العباسي إذ الشريعة في إبان زهوها والتفريع في مبدأ مجده والأئمة المجتهدون هم القائمون بالتشريع وإلى كتبهم ترجع الفتوى.

في ذلك العصر الزاهر بمجد الإسلام وأمجاد العظام يرى يوسف صاحب أبي حنيفة من ضعف القضاء وتسلط عمال الجور واضطراب نظام ولاية المظالم ما يلجئه إلى وضع كتاب الخراج لأمير المؤمنين هارون الرشيد وليس فيه إلا آية أو حديث أو مثال من قضاء الصحابة أي كله من أصول تلك الشريعة الطاهرة يذكره فيه بالرجوع إلى قضاء الله ورسوله وأصحابه أو قضاء الجماعة المتين قائلاً: ارجع يا أمير المؤمنين إلى هذه الأصول في سياسة الرعية وجباية الخراج وتوزيع الفيء، اقعد يا أمير المؤمنين بنفسك للمظالم وإنصاف المحكوم من الحاكم، أدرك الزراع فقد كاد يهلكهم الظلم فقد بلغني عن عمالك أنهم يقيمون أهل الخراج في الشمس ويضربونهم الضرب الشديد وأنهم فعلون مما لا يحل لهم بوجه من الوجوه.

هكذا الحال في عصر الرشيد وأئمة الشريعة أحياء يرزقون فما بالكم بما جاء بعده من العصور التي صار فيها التشريع إلى عدد لا يحصى من المخرجين والمرجحين والفقهاء والمفتين وكلهم يقولون قولي أو قول فلان هو شريعة الله المفتى بها والمعول عليها

وما هو إلا تفكك نظام القضاء وتشتت قوة الجماعة فل حول وقوة إلا بالله.

والنتيجة أن ضمان العدالة الوحيد إنما هو قضاء الجماعة لا قضاء الفرد وأعني أن التشريع وحده غير كفيل بالعدل في القضاء إلا إذا أنيط كلاهما بالجماعة بالوضع والتنفيذ ولا تظنون أن هذا المطربش الواقف أمامكم يريد شيئاً جديداً في الدين أو قلباً لكيان الأحكام مع أنه ليس من علماء الدين ولا الأئمة المجتهدين.

كلا فليس قضاء الجماعة بجديد في الإسلام بل هو من عصر الصحابة وهم واضعو أساسه المتين في الدور الأول للقضاء في الإسلام.

أما الدور الثاني فالذي اذكره أن دولتين من دول الإسلام تنبهتا إليه وعولتا عليه اولاهما دولة الأمويين في الأندلس التي جعلت في القرن الثالث داراً في قرطبة لشورى القضاء أعضاؤها من جلة العلماء يرجع إليهم في تقرير الأحكام.

والحق أقول أني لم أظفر بكثير بيان عن هذه الشورى لكن ما رأيته عنها في ثنايا الكتب التاريخية يكفي للدلالة عليها فقد ورد ذكرها في نفخ الطيب في ترجمة بعض العلماء كقوله كان فلان مشاوراً وطلب فلان إلى الشورى فأبى ونقل إليَّ ثقة عن كتاب من الأسف أنه غير موجود بين يدي بل هو في مكتبة دمشق وهو كتاب الأحكام للقرطبي ورد فيه ذكر هذه الشورى بقوله أن الشورى خافت الإمام مالكاً في عدة أحكام أخذت فيها بقول أبي القاسم. وفي هذا دليل كاف عَلَى أنه كان لديهم سلطة في التشريع وأن الدولة الأموية ثمة كانت مسددة الأعمال حتى قبيل وهنها وسقوطها حريصة على إجراء قوانين العدل بين رعيتها.

أما الدولة الثانية التي تنبهت إلى مثل ما تنبه إليه الأمويين فهي الدولة العثمانية لهذا العهد فإنها جمعت من علماء الأمة وفقائها الموثوق بفضلهم وعلمهم جماعة سمتهم جمعية المجلة وذلك من بضع وثلاثين سنة انتخبوا من كتب المذهب قانوناً جامعاً لأحكام المدنية وهو المعروف بمجلة الأحكام العدلية وأقر عَلَى العمل به أهل الحل والعقد فصار مرجع القضاء في المحاكم إلى اليوم.