الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 45/غرائب الغرب

مجلة المقتبس/العدد 45/غرائب الغرب

بتاريخ: 1 - 11 - 1909


تاريخ عمران باريز

11

لعل باريز في الأصل إحدى تلك الضياع التي كان الغاليون ينشؤنها في جزر الأنهار الكبرى أيام كان يسهل عليهم أن ينشؤا جسوراً يتخذونها مجازاً إلى طرق مهمة وأول ذكر ورد لها ولسكانها في التاريخ كان 53 ق. م فدعا القيصر ساكنيها باريزيا كما دعا المدينة لوتيتيا وضم إليها سنة 53 نواب الأمم الخاضعة.

مضى زمن لم يمتد فيه عمران المدينة خارج الجزيرة الأصلية ثم استفاض عمرانا على الشاطئ الشمالي على عهد الإمبراطور كونستانس كلود الذي أنشأ فيها قصراً تسمى بقاياه اليوم بقصر الترم وسكن فيه جولين لما نادى به جنده قيصراً وكانت الجزيرة محاطة بمتاريس وفيها قصر تفصل فيه الأمور البلدية ومذبح عَلَى اسم جوبيتر أقامه الملاحون الذين كانوا يغدون ويروحون في تجارة نهر السين وفي سنة 250 غدت لوتيس مركز أسقفية وعَلَى ذاك العهد أطلق عليها اسم باريزي وهو اسم الشعب الذي يسكنها وكانت عاصمة بلاده فتحت باريز أبوابها للفرنك سنة 497 فدخل قصر الترم كلوفيس ثم ماتت القديسة جنفياف حامية باريز ووقف العمران عَلَى عهد الكارولنجيين بل تراجع فنقل الامبراطور شارلمان عاصمة ملكه إلى اكس لاشبل وما كان يقم في باريز إلا نادراً وكان عهد خلفائه عهد شقاء.

وكانت القرى في شمالي المدينة وجنوبها تؤسس تحت حماية الأديار وكثيراً ما كانت تخرب بأيدي أشقياء من السكان أو بغارات النورمانديين وفي سنتي 885_886 جاء النورمانديون وعددهم ثلاثون ألفاً وعسكروا أمام جزيرة المدينة وحاصروها ثلاثة عشر شهراً وبهذا الحصار افتتحت باريز أيام سعادتها وأصبحت كما قالوا رأس فرنسا وقلبها.

وفي القرن الحادي عشر والثاني عشر امتد عمران هذه القاعدة وانشئت فيها أديار وبيع ومستشفيات ومدارس وأقيم لها في أيام لويس السادس عمدة ينظر في شؤونها وأمور ضبطها وربطها وبدأ فيها العمران المادي. وعَلَى عهد فيليب اغسطس وهو أهم دور من أدوار عمران هذه العاصمة كثرت الكنائس الكبرى وأسست الأديار والمدارس ودو المرضى والأسواق والمجاري وأحواض المياه والفساقي والمرافئ وفي سنة 1185 أخذوا يبلطون شوارع المدينة للمرة الأولى وفي سنة 1204 أنشئ قصر اللوفر وبعد ذلك جمعت مدارس باريز وكان عدد طلبتها عشرين ألفاً وجعلت منها مدرسة جامعة أطلق عليه اسم الابنة الكبرى للملوك (السوربون) وأخذ سكان المدينة ينمون حتى بلغ عددهم سنة 1323 ـ 275 ألفاً وصرفت العناية منذ زمن شارل الخامس إلى لويس الثالث عشر في تزيين مدينة باريز وتطهيرها وأنشئت فيها فنادق جميلة.

ولقد كانت القرون الوسطى عَلَى باريز كما كانت عَلَى فرنسا قرون مصائب واضطراب فاستباح الإنكليز سنة 1420 حمى باريز وحاولت الفتاة جان دارك على غير طائل أن تطردهم عنها فذهب سعيها عبثاً ومنذ سنة 1408 إلى 1420 أكثر الأرمنياكيون من ذبح سكان باريز التي احتلها الإنكليز من سنة 1420 إلى 1436 وجاء طاعون جارف عَلَى الأثر أهلك الكثير من سكانها ومع هذا لا تزداد عروس الغرب إلا عمراناً.

وفي سنة 1533 وضع الحجر الأول في أساس دائرة المجلس البلدي الذي هو مفخر من مفاخر البناء في هذه العاصمة كما أسس قصر التويلري المشهور عَلَى أيام شارل التاسع وعادت باريز فأصبحت ميداناً لقتل من دانوا بالمذهب البرتستانتي من أهلها وانتشرت الفتن الدينية زمناً وأصبح القول الفصل فيها للمتعصبين والجامدين.

وفي خلال ذلك اشتد فيها القحط فاهلك من سكانها ثلاثة عشر ألفاً وكثرت الفتن عَلَى الملك وقتل بعض ملوكها وبدأ عهد لويس الثالث عشر بالارتقاء المادي والعقلي فجعلت باريز سنة 1622 مقر رئيس أساقفة وكانت أسقفية صغرى وفي سنة 1620 أنشئت مطبعة الأمة وسنة 1626 أنشئت حديقة النباتات وسنة 1635 أسس المجمع العلمي وأنشئت بعض الشوارع والساحات وغرست بالأشجار وكثرت الحارات والأحياء الجديدة واتصل العمران بالقرى المجاورة حتى تضاعفت مساحة المدينة وعَلَى عهد لويس الرابع عشر اخذوا يضيئون الشوارع بمصابيح يجعلون فيها شموعاً وذلك في الليالي الغير القمراء.

ولقد نشط هذا الملك البحث في التاريخ والصناعات والعلوم بإنشاء المجامع الأثرية والصناعات النفيسة والعلوم وبترخيصه للناس أن يختلفوا إلى المكتبة وكانت من قبل خاصة بالملوك فقط. وكان عهد الوزير كولبر المشهور عهد عمران هذه العاصمة الذي لم يسبق له نظير وزاد سكانها حتى بلغوا نحو 560 ألفاً وعلى عهد لويس الخامس عشر طبعوا أسماء الشوارع على صفائح من توتيا وجعلوها في رأس كل شارع واستعاضوا عن مصابيح الشموع القديمة بمصابيح الزيوت.

ولما جاءت ثورة سنة 1789 كثر عمران باريز إذ أعقب تخليص الأراضي من الكنائس والبيع لتنشأ فيها الشوارع والجادات وكثرت الأبنية العامة والخاصة والمعاهد العلمية والصناعية والحدائق العامة والمدارس الكبرى ولئن كان من الثورات التي حدثت بعد ولا سيما فتنة سنة 1848 ما نشأ عنه بعض الأضرار على العمران إلا أن الهمم كانت أعظم للتعمير منها للتخريب وقد جاء عشرون ألفاً من الألمان واحتلوا سنة 1871 بعض أحياء المدينة عقيب الحرب التي فشل فيها الفرنسيس في موقعة سدان وعاد الألمان من حيث أتوا بعد ثلاثة أيام.

وكان عهد عصابات الكومون بعد ذلك من أشأم أيام الخراب عَلَى عمران باريز فتقوض بها 238 داراً خاصة وعامة وقتل سبعة آلاف جندي وقتل وجرح خمسمائة ضابط وقدرت الخسائر بثمانمائة وستين مليوناً من الفرنكات وكثر بعد ذلك العمران باستتباب أسباب الراحة وكان من المعارض الثلاثة التي أقامتها باريز سنة 1878 و 1889 و 1900 ولا سيما المعرض الثاني الذي أقيم تذكاراً لمرور مئة سنة على الثورة الفرنسوية الأولى أعظم مظهر من مظاهر الصناعة عند الفرنسيس وأول دليل عَلَى ارتقائهم التدريجي الذي لم يقف قط عن الجري.

إجماليات في عمران باريز

12

باريز واقعة في الدرجة0، 48 49، 5 من العرض يشقها نهر السين إلى قسمين غير متساويين من الشرق والجنوب الشرقي ويتخللها في وسطها عدة آكام وجبال مهدتها حتى غدت كأنها بعض أجزائها منها يبلغ ارتفاعه 101 متر ومنها 128 ومنها 136 ومنها أقل من ذلك وتبلغ مساحتها 7802 هكتار ومحيطها 36 كيلومتراً.

وطولها من الشرق إلى الغرب نحو 12 كيلومتراً وعرضها من الشمال إلى الجنوب نحو تسعة كيلومترات وطول طرقها العامة 888000 متر فيكون مجموع مساحتها السطحية 1532 هكتاراً ولها 70 باباً أو منفذاً منها 57 باباً و9 طرق للسكة الحديدية وطريقان لمجرى السين وطريقان لترعة سان ديني ولورك وعدد سكانها بحسب الإحصاء الأخير 2763393 وباريز بالنسبة لحجمها أكثر المدن ازدحاماً إذا قيست بالمدن الأوربية ومعدل الزواج فيها كل سنة 25 ألفاً والولادات 65000 والوفيات 50000.

وتقسم من حيث أمورها الإدارية إلى عشرين قسماً لكل واحد منها عمدة وثلاثة أو خمسة مساعدون ولباريز 2345 زقاقاً و82 جادة كبرى و115 شارعاً و166 ساحة و406 طرق غير نافذة و468 ممشى و154 قرية و49 مصيفاً و71 مجرى عاماً و42 رصيفاً و31 جسراً و48000 بيت وتمتد الطرق المغروسة بالأشجار وفيها 87000 شجرة عَلَى طول 270363 متراً وفيها 8103 مقاعد لجلوس الناس في الطرق والشوارع والساحات والحدائق. تضاء باريز في الليل بنحو52313 ضوء غاز و1575 مصباحاً كهربائياً وقوة القوى الكهربائية فيها للشركات الخاصة والعامة في باريز 2، 300، 000 مصباح كل واحد ذو عشر شمعات. ويجري ماء الشفة إلى مدينة باريز في قساطل من عدة ينابيع صافية نافعة خلافاً لما يدعيه بعض المتجرين بالخمور من أن ماءها مضر بالصحة حتى ينفقوا خمورهم ومعدل ما يجري منه إليها 310، 000 متر مكعب يأتي إلى 84 ألف محل من البيوت الخاصة و7433 مضخة للحريق و111، 695 محلاً لشرب المارة ويجري إليها ماء للاستعمال غير صالح للشرب وهو للصناعات وغيرها يجري في 64600 آلة عامة.

في باريز 16000 عربة بالخيل وأكثرها بحصان واحد والمركبة ذات الحصانين هي في الأكثر عربات خاصة بالأعيان وأرباب الفنادق وفيها 13000 أوتومبيل كبير تنقل زهاء 30 مليوناً من الناس في السنة و119 خطاً م خطوط الحوافل (أومنيبوس) والترامواي وفيها 250 عجلة أومنيبوس و1900 مركبة كهربائية تنقل في السنة مالا يقل عن 300 مليون راكب وعشرة آلاف مركبة خاصة و12000 سيارة (أوتومبيل) وقد كان في فرنسا في السنة الماضية 44767 أوتومبيلاً و 40000 مركبة نقل ولا تدخل فيها الكميونات وفي باريز 160 ألفاً من الدراجات و106 مراكب نهرية تحمل نحو 23 مليون راكب في السنة وسككها الحديدية المحدقة بها تحمل 31 مليوناً ويركب من الست محطات الكبرى فيها زهاء 77 مليون راكب ومثلهم يأتون إليها.

ويلزم لباريز في السنة 292 مليون كيلو من الخبز و159 مليون كيلو من اللحم و36 مليون كيلو من السمك و 669 مليون بيضة و31 مليون كيلو من الطير والصيد و6 ملايين هكتولتر من الخمور و692000 من الجعة و 120000 هكتولتر من سائر المشروبات الروحية.

وفيها 30 ألف فندق وحانة وقهوة ومطعم يعيش منها مئة ألف نسمة ولتجارة الأطعمة 24500 محل يعيش منها 90 ألف شخص ولتجارة الفرش والأثاث 3200 محل وعدد البيوت والمخازن التي تبيع الأمتعة والثياب والأزياء 9500 محل فيها 72 ألف عامل وعاملة وعدد محال الأطعمة ومعاملها 75 ألفاً فيها 43 ألف مستخدم وخمسمائة ألف عامل وعاملة فيكون مجموع من يعيشون من هذه المحال نحو مليون نسمة.

وأكبر وسائط النقل وأسرعها في مدينة باريز السكة الحديدية الكهربائية تحت الأرض التي يسمونها المتروبوليتين وهي تدل عَلَى عظمة العقل وآخر ما وصل إليه الإنسان من التفنن وليس لهذا الخط نظير في سعته وجدته في برلين ولا في لندرا افتتح الخط الأول منه سنة 1900 وله الآن ستة خطوط منها ما طوله عشرة كيلومترات ومنها أكثر وأقل إلى السبعة عشر كيلومتراً تربط أجزاء المدينة بعضها ببعض وينتقل الراكب إن أحب من فرع إلى فرع آخر بدون زيادة أجرة وقد تم الخط الرابع منه هذه الآونة وهو يسير تحت نهر السين ويكلف كل كيلومتر من هذا الخط ثلاثة ملايين فرنك وهو سريع نظيف رخيص يدفع الراكب في الدرجة الأولى 25 سنتيماً وفي الدرجة الثانية 15 وقد نقلت هذه السكة الحديدية سنة 1909: 254459920 راكباً وكان عدد من أقلتهم في السنة التي قبلها 229، 700، 519 وكانت أرباحها سنة 1908 نحو أربعين مليار فرنك فأصبحت في السنة التالية زهاء أربعة وأربعين ملياراً وهم يعملون أبداً عَلَى تهويته عَلَى طريقة لا تخليه من الهواء النقي ويذرون فيه المواد المضادة للتعفن وقد يتأذى بالركوب فيه بعض ضعاف المزاج ولكن ذلك من كثرة الازدحام فيه لا من شيء آخر.

علم المشرقيات

13 لا يتأتى لغريب عن أمة أن يعرفها حق المعرفة إلا إذا درس لغتها وتاريخها وآدابها. واللغة مفتاح باب كل معرفة ومقدمة بين يدي كل عمل. ولذلك كان من الراغبين في درس أحوال الشرق من أهل أوربا أن يدرسوا لغاته ليحيطوا خبراً بأهله وكان للغة العربية المقام الأول بين تلك اللغات لأنها لغة أمة ذات حضارة باهرة ودين دان به أهل الأقطار المعتدلة من صميم الشرق.

فتوفروا على إحكام العربية وتنافسوا في تعليمها حتى نبغ منهم أناس لم يقلوا في فهم أسرارها عن خلص أبنائها الذين نشؤا في حجرها وأحكموا ملكة نظمها ونثرها وكان لفرنسا من بين ممالك الغرب يد طولى في هذا المضمار. وكل مملكة من ممالك أوربا وأمريكا لا تخلو من أفراد من أهلها أنفسهم يعانون حل معضلات لغة العرب وينسلون إلى تلقفها من كل حدب.

ولقد دعوا تعلم هذه اللغات وما ينبغي لها علم المشرقيات أو الاستشراق والمشتغلين بها علماء المشرقيات أو المستشرقين وقديماً كان العارفون من أهل هذا الشأن من الفرنسيس أكثر من غيرهم وقد أصبحوا اليوم وأكثرهم من الألمان. والألمان أمهر الغربيين في النطق باللسان العربي وأكثرهم نبوغاً فيه وعند الألمان من علماء المشرقيات بقدر ما عند الفرنسيس والنمسويين والمجريين والإيطاليين والهولانديين والإنكليز والروس والإسبانيين والبرتغاليين والأمركيين والبلجيكيين وكثرة عدد وحسن معرفة ولا عجب فالألمان نبغوا في كل شأن من شؤون الحياة والعلم والصناعة ودرس العربية كان له النصيب الأوفر من عنايتهم.

وقد اشتهرت في فرنسا الجمعية الآسياوية ومدرسة اللغات الشرقية الحية وقد درست أحوالهما وزرتهما غير مامرة وهاءنذا الخص للقارئ ما عرفته عن الجمعية الآسياوية بواسطة صديقي المسيو لوسين بوفا أحد الأعضاء العاملين العالمين في الجمعية المشار إليها فقد كتب إليَّ ما تعريبه: إن فكر تأسيس جمعية علمية تعنى بدراسة الشرق قد جرى البحث فيه منذ أواسط القرن الثامن عشر ولكنه لم يتم إلا بعد زمن طويل. فقد أنشئت الجمعيات الأولى للباحثين في المشرقيات خارج أوربا مثل جمعية العلوم والفنون في باتافيا (1778) والجمعية الآسياوية في البنغال (1784) والجمعية الآسياوية في بومباي (1805) ومنذ ذاك العهد أنشئت في أوربا وأمريكا عدة جمعيات للمستشرقين ولكن أقدمها عهداً الجمعية الآسياوية في باريز أسست سنة 1822.

وعَلَى ذلك العهد رأى جماعة من مستشرقي الفرنسيس أن الحاجة ماسة إلى أن يجتمعوا أو يجمعوا مواد الدروس المختلفة الضرورية لهم وأن يصدروا مجلة تكون لسان حالهم وقائمة أعمالهم. وكان المسيو ديلاستي أنشط هؤلاء العلماء وبفضله أسست الجمعية الآسياوية التي ناب في رئاستها ما يقرب من ثلاثين سنة وكان الرئيس إذ ذاك سلفستردي ساسي أحد أعضاء المجمع العلمي وأستاذ مدرسة فرنسا ومدرة اللغات الشرقية وهو أعظم من خدم اللغة الربية في فرنسا وربما كان أعظم مستشرق نبغ ونفع الفرنسيس وكان من مؤسسي الجمعية أيضاً كوسان دي برسفال وكارسين دي فاسي ورموسا.

فبدأت الجمعية أعمالها لأول تأسيسها بنشر المجلة الآسياوية التي اختصت بالبحث في لغات الشرق وتاريخه وعلومه وآثاره ولا تزال إلى اليوم نموذج العلم الراقي وسيدة المجلات الأخصائية في فرنسا.

وأنشأت الجمعية خزانة كتب جمعت فيها كل ما وصلت يدها إليه من الكتب والمخطوطات والرسوم وغيرها مما يفيد العلماء من أعضائها وجمعت أيضاً مجموعات من النقود القديمة والتحف البديعة. ونشرت مصنفات في تاريخ الشرق وأصول لغاته وفلسفته وأديانه وطبعت عَلَى نفقتها عدة مصنفات وساعدت كثيرين مساعدات أدبية ومادية على نشر الكتب النافعة وكان نشر المخطوطات وترجمتها من أهم الأعمال التي تعنى بها. وخصت جلساتها في سماع المراسلات والمناقشات العلمية النافعة كما عنيت بمراسلة العلماء الأجانب عَلَى الدوام والانتفاع بآرائهم وأعمالهم.

وإذ قد ظهرت منافع الجمعية الآسياوية سنة 1828 عادت بعد أن ضعف أمرها بضع سنين إلى مكانتها الأولى ولم تلبث أن قويت عن ذي قبل وانتشرت كلمتها فرأسها أمثال سلفستردي ساسي ثم جوبر ورينووموهل وكارسان دي تاسي ورنيه ورنان وباربيه دي مينار وسينار. ومن جملة رؤسائها الثانويين كوسين دي برسفال وبارتلمي سان هيلير ودفرني وبوريه دي كورتيل وماسبرو وربنس دوفال وبين امناء سرها ابيل ريمورا وجايمس ودار مستثير وشافان.

تنقلت الجمعية منذ تأسيسها في عدة أماكن ومنذ سنة 1883 اتخذت لها مقراً في بناء ملاصق للمجمع العلمي وذلك بفضل رئيسها إذ ذاك رنان الفيلسوف المعروف ونالت من الحكومة الفرنسوية عدة معونات رسمية ومنحت الجمعية مكتبة الأمة الكبرى عدة كتب ومخطوطات وغيرها من النفائس ولا سيما المخطوطات التي أتت بها من الهند والمجموعة التبتية وكتب الديانة البوذية.

وما عدا المجلة الآسياوية التي تصدرها الجمعية في نحو مائتي صفحة كل شهرين ويتألف منها مجلدان كل سنة فقد نشرت على نفقتها 21 مصنفاً تتألف من نحو 40 مجلداً وبعض هذه المصنفات طويلة الذيل مثل مروج الذهب للمسعودي نشرته بنصه العربي وترجمته إلى الفرنسوية وهو في تسع مجلدات ونشرت رحلة ابن بطوطة في أربع مجلدات وكتاب الماهافاستو في ثلاث مجلدات.

وهذه الجمعية تمنح كل سنة معونات لبعض المؤلفين في الموضوعات العلمية. وأعضاؤها اليوم 250 عضواً منهم 26 من الأجانب وهي تبعث بمجلتها إلى نحو مئة جمعية علمية ومدرسة جامعة أو مجلة دورية وإلى ثمانين مكتبة من مكاتب العالم عَلَى يد نظارة المعارف الفرنسوية وللمجلة 130 مشتركاً ليسوا من الداخلين في الجمعية. وقد بلغت وارداتها سنة 1908: 25631 فرنكاً و66 سنتيماً وفي مكتبتها نحو اثني عشر ألف مجلد من الكتب و1500 صفيحة و200 كتاب مخطوط وفيها مجموعة من النقود القديمة هذا إجمال حال الجمعية الآسياوية وفيها من الأعضاء من لا فائدة منهم ولا رابطة بينهم وبين الغرض الذي ترمي إليه إلا أنهم يؤدون الراتب السنوي المضروب عليهم ويتناولون المجلة لقاء ذلك وكثير منهم لا يعرفون من أحوال الشرق ولغاته وأصول سكانه أكثر مما نعرف نحن عن الصين وتبت.

أما مدرسة اللغات الشرقية الحية وهي التي تقرئ مبادئ اللغات الشرقية وهي مخرج لأعضاء هذه الجمعية وغيرهم ممن يتولون القنصليات والترجمة والسفارة عن حكومتهم في بلاد الشرق فاسمها فيما أرى أكثر من نفعها وما دامت فرنسا تراعي الخواطر في توسيد وظائف التدريس لغير الأكفاء فإن تعليم اللغات الشرقية يبقى صورياً لا حقيقياً. وهيهات أن ينشأ لفرنسا وهي عَلَى هذه الحال أمثال المستشرقين الأول من أبنائها الذين باهت بهم الأمم مادامت سوق الشفاعات رائجة عندها.

درس من سلانيك

14

بينما كنت مأخوذاً بما أشاهده من مظاهر عظمة الأمة الفرنسوية وأقرأ مثالاً مجسماً من الارتقاء الغربي ولا أفرغ ليلي ولا نهاري من زيارة المعاهد العلمية وحضور الدروس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وأغوص في مكاتب باريز ولا سيما مكتبة الأمة ومكتبة السوربون وبينا تكاثرت عليَّ المواد وأنا لا أعرف بأي لسان أعبر ولا بأي قلم أحبر وبينا أنا أفكر في بلادي وما يجب علي أن أكتب لها مما تأثرت به عواطفي وأخذ بمجامع قلبي حمل إليّ البريد من سلانيك كراسة باللغة الإفرنسية من قلم صموئيل سام أفندي ليفي رئيس تحرير جريدة سلانيك الفرنسوية وهي محاضرة ألقاها في نادي الإتحاد الرياضي في ذاك الثغر أواخر الشهر الماضي عقيب عودته مع جماعة العثمانيين الذين ذهبوا لزيارة بلاد النمسا والمجر منذ مدة فرأيت أن ألخصها للقراء ليعلموا إن تأثر العثمانيين واحد عند زيارتهم الديار الأوربية وأن ابن سورية إذا أقامه ما شاهده في غربي أوربا وأقعده بما فيها من آثار العمل والجد فإن ابن مكدونية لا ينقص عنه تأثراً في ما شاهده من أواسط أوربا وشعور أبناء الوطن واحد. قال الكاتب السلانيكي:

في ستة وعشرين يوماً ساح مائتان وخمسون رجلاً من أهالي الأستانة وسلانيك وأزمير وغيرها من مدن الداخلية سياحة كبرى قطعوا فيها 4500 كيلومتر في السكك الحديدية و 1500 في البواخر والعجلات والسيارات وعلى الأرجل فوقفنا في خمس وعشرين مدينة كبرى وصغرى وزرنا نحو 150 داراً صناعية ومعهداً علمياً أو مدرسياً وفنياً وإدارياً ومتحفاً وغيره وحضرنا مئة دعوة وغيرها أقامتها لنا 15 جمعية و25 غرفة تجارة وحكومة النمسا والمجر فلم يبق من تلك الرحلة التي تذكرنا السائحين جولن وماين ريد إلا أن نذكر شيئاً من ذلك الحلم الذي مر علينا في رحلتنا ونتثبت من تلك الأشباح لنحسن الانتفاع بها في مادياتنا وتكون لنا علماً ودرساً نافعاً ولقد كانت غايتنا من رحلتنا اقتصادية لندرس دور الصناعات والأوضاع التجارية والمدرسية والإدارية عن أمم ولكن المسائل الاقتصادية والاجتماعية كما قال البارون هلوموتسكي فيما خطبنا به لها مساس كلي بالمسائل السياسية وبينها روابط ولوازم ولا سبيل إلى البحث في الأولى مع إغفال الثانية.

ولقد كنا نقضي العجب من كل ما يقع نظرنا عليه حتى كنا نتساءل عما إذا كان ما تقع عليه أنظارنا من مدهش الأعمال هو من صنع أيدي البشر وهم الذين قاموا بهذه العجائب وبحق ما قاله النائب الدكتور رضا توفيق رئيس جماعتنا السائحين عندما غادر النمسا إن أغنى اللغات عاجزة عن بيان الشعور الذي نتأثر به كلنا كما ينبغي لما لقيناه من الحفاوة الخارقة للعادة مدة مقامنا في بلد بلغ هذه الدرجة من الرقي. نعم لقد تجلت لنا بلاد النمسا والمجر مملكة دخل إليها التجديد من كل أطرافها وتناول كل فرع من فروع أعمالها الخاصة والعامة.

وكثيراً ما اتفق لنا أن زرنا معهدين أو ثلاثة في فرع من فروع الصناعة وفي أقاليم مختلفة فكنا نجد في كل منها أساليب العمل التي يقضي بوجودها العلم أعمالاً كمالية تابعة وتحسينات خاصة ومحلية تدل على الإقدام الذاتي وقوة إرادة شخصية وحب في البحث وكلها ظواهر محسوسة لعمل عام ونشوءٍ متواصل. كنا نشهد ذلك في كل الفروع الصناعية والفنية والمدرسية والإنسانية. ولكثرة عنايتنا بالسؤال عن معاهد الإحسان ومعونة العملة ترآءى لنا أن النمسا في مقدمة الأمم في هذا الباب ومن ذلك أن 4200 من العملة العاجزين يعيشون في لاينز بالقرب من فينا لا على قدر الكفاية فقط بل يعيشون كما يعيش الملوك. وما ننس لا ننس ملجأ المرضى العصبيين في شنهوف وفيه 3600 عامل يعاملون كما لو كانوا في قصور ملكية وهم موزعون عَلَى 64 بناية في مسافة من الأرض تتجاوز مساحة مدينة سلانيك وقد صرفت عليها حكومة النمسا السفلى ستين مليون كورن فقط لا غير.

وبينا كان رفقائي في رحلتي يدهشون من زيارة المعامل والمصانع ودور الصناعات عَلَى اختلاف أنواعها في بلاد المجر والنمسا ومورافيا وبوهيميا وستيريا وغيرها كان يلفت نظري خاصة منظر اتفقوا عَلَى تسميته باسم مملكة هابسبورغ. فإن هذه المملكة هي في الحقيقة رقعة شطرنج فيها غرائب الفسيفساء من العناصر المختلفة والوطنيات الغير متجانسة ولكن هذه الجماعات على اختلاف أصولها قد اجتمعت ليكون مجموعها مثال جمال ولطف وتنوع وما كانت وحدة هذا المزيج إلا نتيجة نظام الحكومة المركزية وحسن مأتاها وبعد نظرها فرأت أن تترك لكل قوم استقلالاً إدارياً كان غاية الغايات في إبداعه وبذلك توقت الصدمات الهائلة ولم يحدث حتى الآن ما يكدر صفو الراحة. وهذا الرأي في توسيع سلطة الأقاليم لم يكن منه الوحدة الجوهرية فقط لما فيه من احترام القوميات بل نتج منه ارتقاء خارق للعادة في جميع فروع العمل وذلك أن كل قطر له من نفسه غنى طبيعي غزير ورجال نوابغ أذكياء هم خيرة رجاله فاستطاعوا الانتفاع بما حوت بقاعهم وكان من ذلك أن استمتع كل جماعة بما لهم من الحقوق فنشأت المنافسة بين العناصر المختلفة وأخذت كل واحدة منها تضاعف عنايتها وتكثر من جهادها فأوجدوا بذلك مجموعة من بدائع الأعمال منوعة الأساليب تمت في عامة فروع الجهاد الإنساني وكان ذلك من أهم المشاهد وأجملها التي وقع نظرنا عليها في رحلتنا وأحسن معلم لنا معاشر العثمانيين.

تأَلفت مملكة هابسبورغ من زواج أمراء بعضهم من بعض عَلَى حين كانت الانقسامات الداخلية سبباً لضعف تلك المملكة ولطالما طحنتها مطامع جيرانها واعتداؤهم ولكن لما عزمت الحكومة أن تمنح العناصر المختلفة التي يتكون منها جسم المملكة دستوراً قائماً عَلَى المبادئ الحرة في مراعاة الحق العام الحديث بدأ نهوضها وارتقاؤها إلى الأمام.

فعلى نواب العثمانيين في مجلسنا النيابي أن ينظروا في أمر العناصر العثمانية ويحلوها كما حلتها النمسا والمجر التي كانت في حالة أشبه بحالتنا اليوم منذ نصف قرن فأحسنت حلها عَلَى ما يجب فهي سابقتنا في هذا الباب وما عينا إلا أن نأخذ عنها وبذلك نأمن العثرات ولا نسير على غير هدى.

وهنا التفت إلى رفاقي في الرحلة الذين دخل عليهم اليأس من ارتقائنا مما شاهدوه من الشوط البعيد الذي قطعه جيراننا.

فأقول لهم أن ما شاهدناه عندهم ليس إلا ثمرة عمل عظيم وجهاد منظم وإرادة قوية وأساس راسخ وإذا أحببنا أن نبلغ بأمتنا مبلغهم فما علينا إلا أن نمد نحن يد مساعدتنا للدستور ونستخدم جميع القوى الحية في الأمة وأن تعمل الحكومة عملاً فعالاً لما فيه إنهاض الشعب كما عَلَى الشعب أن يعمل لمعاضدة الحكومة الصالحة وبالجملة أن يعمل كلاهما بل يعمل الكل للواحد والواحد للكل ويعرف كل الواجب عليه ونكران النفس والمفاداة.

وهنا خاض الكاتب في مسألة نهوض العثمانيين وأنها موقوفة على التعليم وأننا لا ننجح إلا إذا حذونا على الأقل حذو البلاد التي كانت تابعة لنا بالأمس كممالك البلقان مثلاً وأرسلنا من شبابنا من يتعلمون العلوم الكاملة في كليات الغرب فمن أعظم نجاح تلك الإمارات أنها ما زالت منذ زهاء ربع قرن ترسل بشبانها إلى كليات العلم حتى لا تكاد تدخل كلية في أوربا إلا وتجد منهم كثيرين وهؤلاء هم الذين استلموا زمام الأعمال في بلادهم ونفخوا فيها من أرواحهم ولسنا نضطر إلى الأجانب لتعليم أولادنا في بلادهم بل يجب أن نجلب رجال الصناعات والعلم منهم يؤسسون في بلادنا مدارس ودور صناعات كما نحن في حاجة إلى رؤوس أموال الأجانب لاستخدامها في أعمالنا ومشاريعنا وأن نكون في سياستنا الاقتصادية كما قال ارنست لافيس المؤرخ الفرنسوي في تعريف السياسة أنها علم خديعة غيرك وأنت تظهر بأنك تحملهم عَلَى الاعتقاد بأننا لم ندرك بأنهم خدعونا أو أنهم يحاولون خداعنا.