الرئيسيةبحث

مجلة المقتبس/العدد 41/مصالح الأبدان والأنفس

مجلة المقتبس/العدد 41/مصالح الأبدان والأنفس

مجلة المقتبس - العدد 41
مصالح الأبدان والأنفس
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 1 - 6 - 1909


تابع ما في الجزء الماضي

القول في الشراب

الطعام عامته جسم أرضي يحتاج إلى ما يرقق أجزاءه ويهيئه للقوة الهاضمة وحقيقة الشراب هو الشيء الذي إذا طبخ صار جميعه بخاراً بلا ثقل كالماء فأما ما يبقى له ثقل أو ينعقد منه شيء إذا طبخ فهو بالطعام أشبه وأوفق الأشربة التي يكثر استعمالها السكنجبين العسلي لأن فيه قوى العسل والخل، ولهما الجلاء والتحليل، وعلى هذين المعنيين مدار أفضل المعالجات فإن الأشياء التي تحفظ الأجسام وتمنع من العفونة والفساد هي الخل والعسل والملح والصبر فقد اجتمع في السكنجبين شيئان من هذه الأربعة.

القول في المسمومات

كما أن الماء ليس يغذو بنفسه، وإنما هو مركب للغذاء كذلك الهواء لا يغذو إلا بما يستصحبه من الرائحة الطيبة وكذلك وقع المشموم في باب حفظ الصحة ويجب للحكيم أن لا يترك الانتفاع بالروائح الأرجة وأن يجعل استعمالها عباً لأن للمشمومات قوى مفرطة في الحرارة والبرودة فربما ضرت مداومتها فلأن حاسة الشم إذا انغمست في الروائح الطيبة كلت عنها وفترت لذتها منها كالعطارين والدباغين في القيدين ولا يدني المشمومات إلى أنفه إدناءً كثيراً لغلبة الكيفيات بل يبخر له المجلس وثيابه ويجمع من المشمومات رطبةً كانت أو يابسةً طبائع مختلفة لتكون أقرب إلى الاعتدال وأعون على الاستكثار فإن التركيب ألذ ما استعمل في الأطعمة وأنفع ما اعتمل في الأدوية كالأبارجات ونحوها.

القول في النوم

من كان أرطب بدناً كان النوم عليه أغلب والمشايخ أكثر نوماً إلا أن رطوبتهم ليست أصلية فضعف لذلك نومهم واضطرب وهو من الأقوات الطبيعية إلا أن الإكثار منه يرخي البدن ويهيج الوجه ويكل الحواس ويملأ الأعضاء فضولاً ويفتر الحركات وربما كان سبباً لعفونة الإخلاط وإضعاف الحفظ والفهم والذكاء، والحاجة إليه في الصيف أكثر لغلبة الحرارة واليبس فيه ولطول نهاره وكثرة التعب بحركات اليقظة فيه وهو في الربيع مستلذ وفي الصيف علاج ويجب أن لا يلحق المرء نصف الليل إلا وهو نائم فهو حقيقة اللي واستحكام الظلام وأن امتد به السهر فلينم في السحر وقبل طلوع الفجر فإن اتصال اليقظة ليلاً ونهاراً ليس بصالح والنوم في أول النهار خطأ لأنه وقت الانتشار وحركة الحيوان فالنوم فيه تنكيس للأمور الطبيعية عن جهاتها وكذلك آخر النهار، لأنه ينقص نوم الليل ويفسده والليل أفضل الأوقات للنوم ويحمد النوم عند الغم والخوف لأنه يقلل الحرارة التي يهيجانها، وتقدير زمان نوم الحكيم، الثلث من جميع ساعات الليل والنهار ولا يلزم شكلاً واحداً في النوم فربما اضطر إلى غيره ولا يوقط الإنسان بإزعاج فإن نفسه تتموج وأعضاءه تسترخي عند نومه، فكل شيء من الأفعال الطبيعية فيجب أن يكون الانتقال منه إلى ضده بتدريج وترتيب وليكن النوم بالليل على فراش وثير والجلوس بالنهار على مقعد وطيء.

فصل في الباه

ينبغي تجنبه في حالي الخواء والامتلاء وحال الامتلاء أسلم، وفي حال الغم والحزن وأن تكون التي تواقع محركة النفس بنشاط أو غضب فإن ذلك يوجب ذكاء المولود وليجتنب مجامعة العليلة والفاترة النفس والمسترخية البدن والمغلوبة بالنوم فإن ذلك يوجب بلادة المولود. .

القول في الحمام

وهو من أشرف مرافق الأبدان ومعاون الصحة لأنه يجمع الماء الحار، والهواء الحار فيفتح المسام ويخرج الرطوبة الفجة المتولدة عن فضول الأغذية التي مقامها في البدن مؤدٍ إلى العلل والأسقام وهو يجمع إلى نقاء البدن من داخل نقاءه من خارج وتنظيفه من الأدران وفيه كذة نفسانية لأن النفس مجبولة على حب الزينة والنظافة وكلما كانت ألطف كان هذا الطبع عليها أغلب، ففيه لذتان للنفس والجسم، وأكثر نفعه لأصحاب الأبدان المتخلخلة، وربما ضر أصحاب الأبدان المستحصفة لأنه يثير الأبخرة ثم يمنع الاستحصاف من خروجها إلا بإطالة مكث في الحمام يحل القوة ويكرب ويضعف ويجب اجتنابه في الصيف أو تقليل اللبث فيه جداً وأصلح الأوقات له الغداة لأنه بعد ثقل النوم وبرده ورطوبته، وليجتنب على الامتلاء فإنه يثور ما في المعدة والجسم محتاج إلى التسكين في ذلك الوقت ليتم هضمه وربما أحدث ضرراً عظيماً، ويهجر بعقب الجماع والتعب والاستفراغ وهيجان الأعراض النفسانية ولا يستعمل الغذاء بعد الخروج منه ولا الركوب والتعب إلا بعد راحة أو نومة لأنه يثور الإخلاط، فتحريك البدن قبل أن تستقر طبيعته قرارها ضار مخوف العاقبة، ويجب استعماله غباً فإنه أدوم للذمة وأعدل لنفعه.

القول في الحركات الرياضية

الرياضة من أشرف العلاجات وقد نرى أصناف الحيوان تستعملها وتختلف في الطيران والمشي غير طالبة لشيء من مأكل أو مشرب غير الحركة فقط، وقد ترى الماء الجاري بعيداً من الفساد، والراكد كثير العفونة ولذلك صار المترفون يدفعون إلى أمراض مزمنة كالنقرس وغيره، والإنسان خلق خلقاً متحركاً مشاءً بالطبع فإذا عطل نفسه مما خلق له أداء ذلك إلى المرض ولا يسرف في الحركة فإن إفراطها أسرع في توليد الأمراض، والملوك أحوج إلى الرياضة من العوام لكثرة تودعهم ولاختلاف الأطعمة والأشربة عليهم، فأما العوام والسوقة فهم في رياضة دائمة، وأفضل الحركات حركة المشي وحركة الركوب دونها ويجب أن يحرك البدن على الدابة، ومن الحكمة أن ينزع الإنسان في القوس الشديدة نزعات كل غدوة ونعم الرياضة لأهلها اللعب بالصوالجة ويجب أن يبدأ الإنسان بالرياضة ثم الاستحمام ثم السكون ثم الأكل ثم النوم ثم الشرب، ومن لم يتهيأ له المشي والركوب، فالكلام والمحادثة فقد قيل أن الكلام الكثير يهزل الغذاء وفي وقت اشتداد الحر لأن غلبة الحر تحلل القوة الغريزية.

القول في التغميز

هذا أحد المعاون في حفظ الصحة ولا سيما بعد التعب والحركة والخروج من الحمام ومن الدليل على الانتفاع بالتغميز وإخراجه الأبخرة وتفتيحه المسام استدعاء الطبيعة الحل لإبراز البخار الذي يحتقن داخل المسام واستعمالها التمطي والتثاؤب لذلك ولا سيما عند حركة الحمى وامتلاء البدن من الفضول والتمرخ لمثل ذلك لا يكون التغميز بخرق بل برفق ولا في حال امتلاء.

القول في السماع

يجب أن يميل الملك من السماع إلى ما يوقر ويرزن دون ما يخفف لئلا تقع الأبصار منه على ما ينقص الهيبة وإن مالت نفسه إلى ذلك كان في حال خلوةٍ.

القول في الأدوية

الأدوية كلها مضادة للطباع والقوة تجاهدها فلذلك يجد البدن بعد الاستفراغ ما يجده المستريح من التعب، وفعلها في الأبدان إذا كثرت كفعل الصابون ينقي ويخلق وهي إن وافقت فضلة أخرجتها وإلا أخرجت الرطوبة الغريزية فكان ضررها بذلك عظيماً والأبدان المستحصفة التي لا يسهل خروج الأبخرة منها أحوج الأبدان إلى المداواة. . . .

فصل في الحرارة

لا تجوز المداواة في صميم الحر لأن الغريزية تضعف في عمق البدن وتبرز إلى ظاهره فلا يجوز أن يجمع عليه الضعف من هذا الوجه، والضعف بالإسهال والحرارة إذا ثبتت في ظاهر البدن جذبت الإخلاط إلى خارج، والدواء يجذبها إلى داخل فتجري بينهما ممانعة وتتعب الطبيعة ولا يؤمن معها مضرة شديدة ولا في صميم البرد لأن الإخلاط جامدة عسرة الحركة فربما كان في مجاذبة الأدوية لها سجح وأضرار بالآت الغذاء.

فصل في العلاج

يجب أن يكون العلاج بما يدخل في باب الغذاء أكثر منه بما يدخل في باب الدواء لأن الغذاء شكل، والدواء ضد، وأن يختار الأسلم منها وإن كان نفعه أقل، فتدارك التقصير أهون من تدارك الإفراط وتدارك الحمية قبل الدواء بيومين أو ثلاثة ويجتنب اللحم لأنه يملأ الأوعية وغيره مما يولد السدد والحامض لأنه يخشن، فربما أحدث الدواء بعده سحجاً بل تستعمل قبله الأغذية الخفيفة الدسمة الخفيفة لتجلو المجاري وتسلسلها ويشيع الدواء بحمية أيام لتثوب إلى البدن قوته ويجتنب بعده التخليط فإن الشيء الضار على النقاء. . . . النقاء أشد ضرراً.

فصل في إخراج الدم

بحسب الانتفاع بإخراج ما له كيفية رديئة من الدم يكون الاستضرار بإخراج النقي الجوهر منه وإذا بتيع في جوف العروق لم يشف إلا إخراجه بالقصد وإذا كان في خارج العروق نفعت منه الحجامة والصبي والشيخ يضعفان عن القصد والأكحل عام النفع لجميع البدن والقيفال لأعلاه والباسليق لأسفله ويجب إخراج الدم على ثلاثة وجوه إما غلبة الكمية يغير كيفية فاسدة وعلامته ثقل البدن وحكة ليس لها لذع شديد أو لفساد الكيفية بغير كمية فيكون مثل الماء الذي يغلي على النار، وعلامته حرقة الجسد ويثور لذاعه أو تغلب فيه الكيفية والكمية فتمكن منه العفونة والاستحالة وعلامته مجاوزة الأعراض التي ذكرناها إلى توليد الأمراض، والحمايات والأورام، والصنف الثاني يخرج منه القليل وربما أغنى فيه التسكين والأول أكثر والثالث يخرج منه كل ما تحله القوة ويقدم الفصد قبل الدواء لأن الإخلاط الآخر متشبثة بالدم فربما أغنى إخراجه عن المسهل وليكن الإقدام عليه وقت استحكام قوة البدن ويمتنع بعد الفصد من الأغذية التي تولد السدد والكيموس الرديء كالبقول والفواكه ويجتنب على حال خواء أو امتلاء أو خمار أو جماع أو تحرك بعض الأعراض النفسانية.

القول في حفظ صحة الأنفس

ينبغي للعاقل أن يشعر نفسه أن الدنيا مبنية على الشوائب والتكدير فلا يطلب منها ما ليس في طبيعتها ويستعمل التغافل وترك الاستقصاء ويروض نفسه على احتمال صغير ما يضجر فإنه تمرين على احتمال الكثير ومن التدبير البليغ أن يعرف الإنسان وزن نفسه ومبلغ استقلاله وقوة قلبه فيكون ما يخاطر في طلبه ويغرر له من مآربه بحسب احتماله فإن راحة القلب وطمأنينة مع الإقلال خير من ضده مع ضده والإنسان يقبل من غيره أكثر مما يقبل من نفسه ولذلك يجب أن يكون مع الملك طبيب لأخلاقه كطبيب الجسم يذكره ويعظه في أوقات الخوف والغضب.

فصل آخر في الخوف

الخوف هو أبعد وأسهل والفزع لما هو أقرب أو أشد فلذلك كان الخوف مقدمة للفزع والجزع أشد الحزن فهو من الحزن كالفزع من الخوف.

فصل في الغضب

ينبغي للعاقل أن لا يفارقه من قد أطلق له وعظه وتذكيره في أول اهتياج الغضب عليه وأن يتصور أن الغضب كالنار أولها سريع الإطفاء وآخرها كثير الضرر فليقصد لقمع غضبه من أوله كما يكبح الفرس في أول جماحه وليتذكر فضيلة الحكم وشرف الكظم وما حازه الحكماء من حسن الذكر ويفكر في أن شدة الانتقام وسرعة المؤاخذة لنفر قلوب الخدم وتكسب الأحقاد والضغائن وتفسد طاعة المحبة وتنقلها إلى طاعة الرهبة والذين يطيعون الرئيس بالمحبة حراسه من حيث يعلم (ولا يعلم) والذي يطيعونه بالرهبة يحتاج إلى الاحتراس منهم وما أحسن قول بعض الملوك (ما غضبي على من أملك ولا غضبي على من لا أملك) ويجب أن يفكر في أنه لا يكاد يعاقب إلا على ما فيه جنس منه ومن عاقب على ما يأتي مثله أو بعضه فليس بمنصف ويذكر نفسه حرمات المغضوب عليه ووسائله أو ما يرجو من مستأنف خدمته وما يستخلصه الحلم من طاعته ومناصحته ويجب أن لا يقع بصره على من أغضبه إلى أن يسكن غضبه.

فصل في الخوف والفزع

ليس شيء يخاف من الإنسان كخوفه على نفسه من التلف والألم ومنه شيء يكون على البديهة لرقة الطبع وسرعة استحالة النفس وهذا لا حيلة في دوائه ويجب أن يفكر الخائف في قولهم أكثر الروع باطله فإن الحكماء شبهت الأمور المخوفة بالضباب الذي يتولد على وجه الأرض فيتخيل الإنسان من بعد أنه جسم كثيف ليس فيه متنفس ولا عمل للبصر فإذا أفضى إليه وجده شبيهاً للهواء الذي فارقه وشدة الخوف ربما أذهل عن الحيلة للخلاص مما يخاف فيكون الخوف داعية ما يخافه الإنسان والعاقل لا يستجيز مثل هذه الحال ويجب أن يفكر في أن الخوف والجزع من خور النفس وأنهما خاصة للصبيان والنساء فيغضب على نفسه من أن لا يكون فيها من الجلادة والصرامة ما ينفي هذا العار عنه فليس شيء أبلغ في التشجيع من قوة الأنفة، ويفكر في أن الخوف فعل الغر الذي لا يعرف حقائق الأشياء ولذلك خوف الصبي أكثر وخوف من لم يشاهد الحروب والقتلة أوفر ولو قد تحقق الصبي من حال الأشخاص التي يفزع بها ما تحققه البالغ العالم لما خافها وقل اكتراثه لها وخوف الصبي والجاهل كخوف الطير من الشبح الذي ينصب لها على الزرع ولو تحققت كيفيته لأقدمت عليه وكنفار الخيل من الأشخاص التي لم يألفها حتى تؤنس بها فالمغ الأدوية في إزالة الخوف الاستكثار من العلم والمعرفة بحقائق الأشياء وتعويد حاسة السمع والبصر ملابسة ما يهول ويجب أن يخرج أولاد الملوك إلى معارك الحروب لتهون عليهم الأهوال فإن الأطباء الذين يباشرون الكيّ والبط والملاحين الذي قد تمرنوا على الرياح العواصف والأمواج العظائم يقل ارتياعهم لما يشاهدون من ذلك ولذلك يرتاع الإنسان للمرض أول ما يناله ثم ينوبه دفعات فيألفه فيقل استيجاشه منه والجاهل تروعه الكسوفات والعالم العارف بأسبابها وحسابها قليل الارتياع منها وهذا مثل لغيره.

فصل في الحزن والجزع

الجزع أشد الحزن وهو كالنار الملتهبة والحزن كالجمر الباقي بعد سكون اللهب وكأن نفس الإنسان التي هي نور بدنه وضياء جسده في حال الغم والحزن، شمس كسفت وهو يفعل ضد المسرة فإن وجه المسرور مستبشر بهي مشرق والحزن لفوت محبوب كما أن الخوف توقع مكروه والحزن أبداً لما مضى والخوف لما يستقيل والحزن المجهول السبب يرجع إلى الأعراض البدنية وتولده عن كدر الدم أو برده ومن أدويته النفسانية إحداث السرور بالمحادثة والمؤانسة وينبغي للمحزون أن يتذكر ما بقي له من قثيتة (؟) فإن ذلك يسليه عن المفقود ويتصور كثرة الأسى له ففي ذلك سلوة ويتصور أن الحزن يبلى كل يوم وينقص فإن التفكر في ارتفاع المكروه ونقصانه يعقب سروراً عاجلاً.

القول في الوسواس

هذا منه جنس من قبل الطبع وما يقع في المولد وهو ألزم وأسلم من الغريب الطاري والوسواس على نوعين نوع فيما يرجى ونوع فيما يخشى فالذي يرجى كالمستهتر بمعشوقه فلا يعرف غير صياغة الأماني فيه والاشتغال عن أكثر أعماله به، والذي يكون فيما يخشى فإنه يوهم الإنسان الشيء يخافه وهو بعيد عنه مقام القريب منه، فلا يزال نصب وهمه فكأنه يلاحظه ومتى أراد الاشتغال بغيره طفرت نفسه إليه، ومن شأن من هذه حاله أنه إذا عرض له أمر من الأمور يمكن أن يتصرف على وجهين لم يذهب وهمه إلا إلى ما هو أصعب وأخوف دون ما هو أسهل وأرجى ومن الأعوان على إزالة هذه الأفكار ترك الانفراد فإن الوحدة تهيج الفكر لا سيما إذا كانت النفس ذكية رقيقة الطبع، وإنما تحمد الوحذة الذي سلطان يخلو بالفكر في تدبيره أو لعالم يخلو باستنباط حكمة أو لناسك ينفرد بمناجاة ربه وما خلا هذه الوجوه من أبواب التفرد مذموم، وعلى أن الله عز وجل خلق الإنسان يحب الأنس والاجتماع مع أهل جنسه فليس يسد ذاك عن هذا الطبع إلا من عرض له نقص في طباع الإنسانية ومناسبة السباع وهو خلق موجود في الحيوان الذي طبعه أفضل وأسكن كبهائم الأنعام والطير وضده موجود في السباع من الصنفين ولذلك قيل أن الواحد شيطان ويجتنب الفراغ كتجنبه الوحدة ويصرف الفاضل من أوقات زمانه عن شغله إلى قضاء أوطاره من اللذات والسماع المحرك لقوى النفس والنظر إلى الصور الجميلة والاستجداد منها ليكون أشغل لقلبه وأغلب على فكره والآن من طباع صاحب هذا العرض أن يكون ملولاً ومما يستعان به على صرف هذا الفكر الجليس الذي يثق به ليعرفه بطلان ما يتخيل له من الفكر الرديئة وإذا علم من نفسه أن هذا خلق وقع له بالطبع الأقدم والمزاج الأول كان أخف لغائلته وأقل الاشتغال سره به ومما يزيل كثيراً من الاستشعار التعويل على صناعة النجوم وما تشهد به من السلامة فإنها صناعة شريفة قد استعملتها الأمم المتباعدة البلاد واتفقوا مع اختلاف ديارهم على صحة أصولها وتجربة فروعها فلا يجوز أن يكون اتفاقهم عليها باطلاً بل عن وحي لا يكذب أو إلهام لا يبطل ويجب أن يفكر في أن الله عز وجل لما أراد عمارة الدنيا جعل أسباب العطب ودواعي البقاء والنجاة أقوى من دواعي الانحلال والبوار وهذا أمر موجود بالمشاهدة فإنا نرى ذوي السلامة أكثر من ذوب العاهات والزمانة، فيكون هذا الفكر أميل به عن الخوف إلى الرجاء وبالله التوفيق وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.