مجلة المقتبس/العدد 41/رحلة إلى جبل قلمون
→ تدبير الصحة | مجلة المقتبس - العدد 41 رحلة إلى جبل قلمون [[مؤلف:|]] |
سير العلم والاجتماع ← |
بتاريخ: 1 - 6 - 1909 |
يعد جبل قلمون بين جبال سورية من أحسنها ماءً وهواءً وإنباتاً ومع هذا لم يشتهر اشتهار جبال لبنان وحرمون والكليبة واللكام على قربه من دمشق قاعدة بلاد الشام، وكان يقال له في القديم جبل سنير وبذلك عرفه الجغرافيون والمؤرخون والشعراء، قال ابن خرداذبة في المسالك والممالك وهو مما ألف منذ نحو ألف سنة أن كورة دمشق وأقاليمها سهل الغوطة إقليم سنير مدينة بعلبك البقاع إقليم لبنان كورة جدنية كورة اطرابلس كورة جبيل بيروت صيدا البثينة كورة حوران كورة الجولان وظاهر البلقا وحوالي الغور وكورة ناب وكورة جبال وكورة الشرا وبصرى وعمان والجابية، فإقليم سنير هو من أقرب الأعمال إلى دمشق ولم نظفر له بتحديد أجمع من تحديد ياقوت في معجم البلدان، قال أن سنير بفتح أوله وكسر ثانيه ثم ياء معجمة باثنتين من تحت جبل بين حمص وبعلبك على الطريق وعلى رأسه قلعة سنير وهو الجبل الذي فيه المناخ يمتد غرباً إلى بعلبك ويمتد مشرقاً إلى القريتين وسليمية وهو في شرقي حماة وجبل الجليل مقابله من جهة الساحل وبينهما الفضاء الواسع الذي فيه حمص وحماة وبلاد كثيرة، وهذا جبل كورة قصبها حوارين وهي القريتين ويتصل بلبنان متيامنا حتى يلتحق ببلاد الخزر ويمتد متياسراً إلى المدينة وسنير الذي ذكر أنه بين حمص وبعلبك شعبة منه إلا أنه انفرد بهذا الاسم وقد ذكره عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي فقال من قصيدة:
أسيم ركابي في بلاد غريبة ... من العيس لم يسرح بهمه بعير
فقد جهلت حتى أراد خبيرها ... بوادي القطين أن يلوح سنير
وكم طلبت ماء الاحص بآمد ... وذلك ظلم للرجال كبير
وقال البحتري:
وتعمدت أن تظل ركابي ... بين لبنان طلعاً والسنير
انتهى كلام ياقوت جاء في أبي الفداء أن الجبل الشرقي الممتد شمالي الشام كان يدعى سنير في عهده وقد ورد سنير في التوراة فقال الدكتور بوست في قاموس الكتاب المقدس: سنير (درع أو شلالة) اسم قسم من جبل الشيخ (حرمون) (1 أي 5: 23) 27: 5 (وقال ياقوت في القلمون أنه بفتح أوله وثانيه بوزن قربوس وهو فعلول قال الفراء وهو اسم وأنشد:
بنفسي حاضر بجنوب حوضي ... وأبيات على ا ومن القلمون الذي بدمشق بحتري بن عبيد الله بن سلمان الطابخي الكلبي من أهل القلمون من قرية الأفاعي وقال في القاموس قلمون محركة موضع بدمشق، التاج أن القلمون رومية وحروفها أصلية، وكلمة قالا بالرومية طيب ولعله الجبل الطيب أو نحو ذلك وحوارين التي قال عنها ياقوت أنها القريتين هي قصبة جبل سنير وهي كما قال في مكان آخر حصن من ناحية حمص قال بعضهم:
يا ليلة بحوارين ساهرة ... حتى تكلم في الصبح العصافير
وقال أحمد بن جابر مر خالد بن الوليد في مسيره من العراف إلى الشام بتدمر والقريتين ثم أتى حوارين من سنير فاغار على مواشي أهلها فقاتلوه وقد جاءهم مدد من أهل بعلبك ثم أتى مرج راهط وفي كتاب الفتوح لأبي حذيفة اسحاق بن بشير وسار خالد بن الوليد من تدمر حتى مر بالقريتين وهي التي تدعى حوارين وهي من تدمر على مرحلتين وبها مات يزيد بن معاوية في سنة 64 قال الراعي:
أنحن بحوارين في مشمخرة=بيت ضباب من فوقها وثلوج
وقال أيضاً والقريتان قرية كبيرة من أعمال حمص في طريق البرية بينها وبين سخنة وأرك أهلها كلهم نصارى وقال أبو حذيفة في فتوح الشام وسار خالد بن الوليد رضي الله عنه من تدمر إلى القريتين وهي التي تدعى حوارين وبينها وبين تدمر مرحلتان وإياها عنى ابن قيس الرقيات بقوله:
وسرت بغلتي إليك من الشا ... م وحوران دونها والعوير
وسواء وقريتان وعين ال ... تمر حزن بكل فيه البعير
فاستقت من سجاله بسجال ... ليس فيه منّ ولا تكدير
وقد سألنا العارفين فأكدوا لنا أن حوارين بعيدة عن القريتين بنحو ثلاث ساعات وآثارها بادية إلى الآن وما نظن أنها كانت قصبة جبل سنير فيما مضى إلا في أمورها الإدارية كما نرى اليوم قسماً من جبل قلمون تابع لقضاء دومة الشام والقسم الآخر هو الأعظم تابع لقضاء النبك وقسم منه تابع لحمص ويقول الخبيرون من أهل هذا الجبل اليوم أن جبل قلمون يمتد من الدريج إلى البريج وهو تحديد معقول جداً لأنك ترى في الدريج وهي مزرعة في رأس جبل قرب عين الصاحب بين معربا وحلبون سلسلة جبال جديدة تكاد تكون منفصلة بعضها عن بعض وفي البريج وهي على نحو ثلاث ساعات من قارة للقاصد إلى حمص ويمتد شمالاً إلى الجرود على بضع ساعات من بعلبك وجنوباً إلى البرية وتجتاز المسافة من الجنوب إلى الشمال لراكب المطايا في يوم كما يقطع طول الجبل من غربه إلى شرقه في يومين، وأوصل بعضهم طول الجبل إلى وادي القرن قرب البقاع، ويدل على أن آخر حدود الجبل هو في البريج من ناحية حمص ما قاله الاصطخري من أن الطريق من حمص إلى دمشق هو عشر فراسخ من حمص إلى جوسية ثم إلى قارا ثلاثون ميلاً ثم إلى النبك اثنا عشر ميلاً ثم إلى القطيفة عشرون ميلاً ثم إلى دمشق أربعة وعشرون ميلاً، وجوسية كما في المعجم قرية من قرى حمص على ستة فراسخ منها من جهة دمشق بين جبل لبنان وجبل سنير فيها عيون تسقي أكثر ضياعها سيما وهي كورة من كور حمص.
ونقل الدكتور فانديك في المرآة الموضية نقلاً عن أبي الفداء أنه قال أن سنير هو جبل الشيخ أو قسم منه ولذلك رأينا فانديك في جغرافيته يذكر بعض أمهات قرى جبل قلمون أو سنير بحسب المقاطعات التي كان معروفاً بها عند الحكومة على عهد تأليفه ولم يذكر أنها من أعمال جبل مشهور فقال: وإلى الشمال من دمشق مقاطعة يقال لها جبة عسال نسبة إلى مكان يقال له عسال الورد لكثرة الورد الذي فيه ومن أشهر قراها صيدنايا وفيها دير لراهبات طائفة الروم وإلى الشمال الشرقي مقاطعة معلولا نسبة إلى قرية فيها حصينة مبنية على قمة هناك لا يسلك إليها إلا من مضيق مستوعر وفيها دير عظيم لطائفة الروم وقد حدث في سنة 1850 للمسيح أن أمراء بني الحرفوش أصحاب بعلبك تحصنوا بها بعد وقعة جرت لهم مع أجناد دمشق فهجم عليهم عسكر الدولة إلى معلولا بوسيلة من بعض أهلها فقتلوا بعضهم وأسروا بعضاً ونهبوا القرية والدير وحول معلولا عدة من القرى كعين التينة وبخعة وغيرهما ولم يزل أهل تلك النواحي يتكلمون باللغة السريانية لكنها محرفة كثيراً عن أصلها كعربية العامة في هذه الأيام وإلى الشمال الشرقي من معلولا مقاطعة يبرود نسبة إلى قرية كبيرة فيها بعض آثار قديمة وفي جوارها رأس العين ومعرة باش كردي وفليطا وسحل والقسطل وإلى الشمال الشرقي من القسطل النبك وما بين النبك والغوطة يسمى الأرض التحتية وهذه الأرض يمر الطريق من دمشق إلى بغداد وفي جوار النبك قارة وهما أعدل مكانين في تلك الديار حتى يضرب المثل بجودة هوائهما ومائهما وقد لهجت بهما الشعراء كثيراً قال بعضهم:
إذا هاجت الرمضاء ذكراك بردت ... حشاي كأني بين قارة والنبك
وإلى الشمال الشرقي من النبك دير عطية وقال الحافظ أبو القاسم ومعلولا إقليم من نواحي دمشق له قرى وقال ياقوت في منين: قرية في جبل سنير من أعمال الشام وقيل من أعمال دمشق منها الشيخ صالح أبو بكر محمد بن رزق الله بن عبيد الله قال ياقوت وكان من ثقات المسلمين ولم يكن بالشام من يكنى بأبي بكر غيره خوفاً من المصريين (الشيعة) توفي سنة 426.
فاهم بلاد الجبل يبرود وكانت هي والنبك من أمهات بعد مملكة صوبه أو صوباالقديمة وهذه المملكة كانت في شمالي سورية تمتد من شمالي لبنان الشرقي نحو حمص وحماة وحلب وهي قاعدة لجبل ولا يقل سكانها عن عشرة آلاف ثلثهم مسيحيون والثلثان مسلمون وتكاد تكون أشبه بالمدن منها بالقرى لتوفر مرافق الحياة فيها وكثرة سكانها صلاتهم التجارية مع دمشق وبيروت وحمص وحماة وبعلبك ولوفرة المهاجرين منها إلى أميركا ويبلغ عددهم نحو ألف رجل ومنهم الذين اغتنوا وفي يبرود عدة مدارس للمسيحيين على اختلاف مذاهبهم منها مدرسة للروم والكاثوليك أنشأها أحد أحبارهم منذ زهاء عشر سنين فوهبها ثلثمائة ليرة من ماله وفرض على أبناء طائفته أن يشتغلوا فيها بأيديهم أيام الآحاد والأعياد فجاءت مدرسة كلفت زهاء ألف وخمسمائة ليرة وقد اشتغل بعضهم بنقل التراب وآخر يجلب الحجر وغيره بالبناء، وبأمثال هذه المدارس أصبح المسيحيون أرقى من جيرانهم المسلمين لأن الأول يتعلمون والآخرين مهملون وكانت الحكومة البائدة تزيدهم خبالاً إلى خبالهم وليس لهم من أهل الرأي والعلم من يشفق عليهم ويسعى إلى ترقيتهم ترقية حقيقية كما هو حال مواطنيهم.
أقول هذا ولا نكران للحق أن ارتقاء المسيحيين عن المسلمين ماثل على أشد صوره في هذا الجبل وكيف لا يكون كذلك والارساليات الدينية من الروس والانكليز والفرنسيس لم تكد تترك قرية إلا وأقامت فيها مدرسة لتثقيف عقول أبنائها على مناحيها بل أن جمع دينية أقامت لها مستشفى في دير عطية البلد الثاني في الجبل بكثرة سكانه واستئجار عمرانه.
ودير عطية هذه هي والنبك (مركز حكومة القضاء) في وادٍ كان يعرف قديماً بذات الذخائر أو وادي الذخائر قال ياقوت والنبك قرية مليحة بذات الذخائر بين حمص ودمشق فيها عين باردة في الصيف طيب عذبة يقولون مخرجها من يبرود وقال الزاجر:
أنّى بك اليوم وأنّى منك=ركباً أناخوا موهناً بالنبك
واطلعت في دير عطية على حجة وقف نقلت حوالي الألف عن حجة كتبت سنة ثمان وسبعمائة للهجرة محفوظة عند كفيف من أهلها اسمه الشيخ عبد القادر الناظر جاء فيها أن الست الجليلة صالحة خاتون ابنة الأمير الكبير صلاح الدين بن بهلوان ابن الأمير الكبير شمس الدين الأكري الآمدي وقفت وحبست وأبدت في صحة منها وسلامة وجواز أمرها جميع الضياع الخمس المتلاصقات المعروفات بوادي الذخائر عمل دمشق المحروسة وتعرف إحداهن بالبويضا والثانية بابريصا والثالثة بالميرا والرابعة بدير عطية والخامسة بالحمرا وقد صدقت على هذه الوقفية محكمة قارة ولا يعرف اليوم من هذه القرى غير دير عطية والحميرة وفي دير عطية مدرسة للعلوم الدينية واللسانية أنشأها الشيخ عبد القادر القصاب الأزهري الديرعطاني فنتجت منها فوائد جليلة وفيها الآن نحو 50 طالباً وقد تعلم بعض الطلبة فأبانوا عن كفاءة فيما أخذوا لنفسهم بتعلمه.
ومن أهم قرى قلمون الرحيبة وجيرود وعلى مقربة من هذا البلد مملحة دائرة محيطها اثنا عشر ميلاً وهي في سهل منبسط ينحدر إليه ماء المطر من ويجتمع على علو يختلف بين 30 و 100 سنتمتر وفي أوائل شهر أيار يتحول ذاك الماء ملحاً أبيض نقياً مراً وهذان البلدان من قلمون التحتاني وفيه أيضاً الضمير وفيها عين كبريتية ينفع الاستحمام بها المصابين بالأمراض الجلدية وأرض هذه القرية أو البلد الحارة تبلغ غلاتها قبل سائر قرى الجبل حتى أن الشعير ليحصد فيها في شهر نيسان ويحمل إلى عسال في جرود الجبل الباردة ويزرع في الحال فيحصد في تموز وهذا من أعجب ما يكون في إقليم واحد والمسافة بين الضمير والجرد نحو عشر ساعات.
قال في المعجم ضمير بالتصغير موضع قرب دمشق قيل هو قرية وحصن في آخر حدود دمشق مما يلي السماوة قال عبيد الله بن قيس الرقيات:
أقفرت منهم الفراديس فالغو ... طة ذات القرى وذات الظلال فضمير فالماطرون فحورا ... ن قفار بسابس الأطلال
نصب الماطرون على أن نونه للجمع وهذه المواضع كلها بدمشق، وقال المتنبي:
لئن تركنا ضميراً عن ميامننا ... ليحدثن لمن ودعتهم ندم
وقال الفرزدق يرثي عمر بن عبيد الله بن معمر التميمي وكان قد مات بضمير من دمشق:
يامعشر الناس لا تبكوا على أحد ... بعد الذي بضمير وافق القدرا
ما مات مثل أبي حفص لملحمة ... ولا لطالب معروف إذا افتقرا
منهن أيام صدق قد منيت لها ... أيام فارس فالأيام من هجرا
يعني قتاله لأبي فديك الحروري
ومن أهم قرى قلمون التعتاني القطيفة وهي مركز مدير ناحية تابعة للنبك جاء في المعجم أنها قرية دون ثنية العقاب للقاصد إلى دمشق في طرف البرية من ناحية حمص وتنية العقاب هي ثنية مشرفة على غوطة دمشق يطؤها القاصد دمشق إلى حمص قال أهل السير أن خالد بن الوليد سار من العراق حتى أتى مرج راهط فاغار على غسان في يوم فصحهم ثم سار إلى الثنية التي تعرف بثنية العقاب المطلة على دمشق فوقف عليها ساعة ناشراً رايته وهي راية كانت لرسول الله ﷺ كانت تسمى العقاب علماً لها.
ومن قرى الجبل البديعة قرية معلولا يدخل إليها من الشمال من فج طبيعي في الجبل وهي حصينة منيعة ويؤكد بعض العارفين أنها هي مدينة سيلفكيا بعينها إحدى أمهات مملكة سلوقس أحد خلفاء الاسكندر الأربعة الذين اقتسموا مملكته بينهم بعد وفاته فانتشبت الحرب عام 301 ق. م ودارت الدائرة على الملك انثيوغولس وابنه ديمتريوس فاقتسم إذ ذاك قواد الاسكندر مملكته إلى أربع ممالك الأولى مصر أخذها بطليموس سوتير مع العرب وجزء من بر الشام أي فلسطين والثانية مكدونية وبلاد اليونان أخذها كاساندر والثالثة ثرافيا وببسينا وبعض أطراف آسيا الصغرى أخذها ليسيماوس والرابعة بقية الممالك من البحر الأسود إلى نهر لاندوس في الهند أخذها سلوقس وسميت مملكة سورية ومن أشهر مدنها أنطاكية وسلوسية واناحية واللاذقية، ولا يزال إلى اليوم يعثر في بيادرها على آثار تدل على عمرانها القديم الفخيم، وأهلها وهم نحو ثلاثة آلاف يتكلمون بالسريانية المحرفة كما تقدم وفي جوار معلولا نجعا وجبعدين وأهلها أيضاً يتكلمون بهذه اللغة كما أن أهل قلدون يتكلمون بالتركية المحرفة قليلاً ويقال أن أصلهم من التركمان نزلوا هذه القرية منذ سنين واختلطوا بأهل الجبل، وكان بالقرب من قلدون ثلاث مزارع يتكلم أهلها بالتركية أيضاً وهي دنحا وخربوشة والكنيسة إلا أنها دثرت، وعلى مقربة من معلولا قرية عين التينة وكان أهلها كما يقول جيرانهم المسيحيون نصارى يعافبة دانوا كلهم بالإسلام منذ زهاء قرنين وقلبوا الأوضاع المسيحية بأوضاع إسلامية حتى لقم يطلقون على بيت الخوري بيت الحوري بالإهمال وفي هذه القرية شجر الفستق القديم ولا يزال ينقرض لأن أهلها لا يجددون غرسه وهذه القرية هي الوحيدة في قرى ولاية سورية التي تخرج الفستق وهو من أحسن الأنواع لا يكاد يضاهيه بجودته فستق روم قلعة من أعمال حلب.
طفت هذا الشهر أمهات قرى قلمون وكنت زرتها منذ عشر سنين فرأيت عليها مسحة من الارتقاء أتتها في الغالب من المال الذي جناه من أميركا المهاجرون من القلمونيين ففي قرية معرة صيدنايا وصيدنايا ويبرود ودير عطية مثلاً بيوت جميلة أقيمت بالحجر الصلد النحيت مثل بيوت لبنان الجديدة ومن البيوت ما كلفت ألفي ليرة وربما أكثر أما سائر معالم الجبل فظلت على حالها أو ارتقت بعض الشيء بطبيعة الزمن، وقد اشترك في الهجرة إلى أميركا سكان الجبل من المسلمين والمسيحيين إلا أن عدد هؤلاء أكثر والناجحين منهم أوفر ويقدرون عدد المهاجرين من الجبل بنحو أربعة آلاف رجل نجح منهم في الأكثر من اعتادوا شظف العيش مثل مهاجري دير عطية والنبك وصيدنايا والمعرة ومعلولا وقارة أما المترفون أو الذين اعتادوا الترف قليلاً فأخفق سعيهم وانقطعوا أو كادوا لقلة ذات أيديهم، ولا يعلم على وجه الصحة ما يبعث به المهاجرون القلمونيون من النقود كل سنة إذ ليس ثمة إحصاء مدقق وغاية ما يقال ومنه يستنتج ما يقرب من الحقيقة أن معدل عدد الرسائل التي ترد من المهاجرين كل سنة إلى أهلهم في الجبل يبلغ ثمانمائة رسالة، هذا في القرى التابعة لقضاء النبك وهي مركز الجبل ومزدحم الأقدام وفيه من القرى 28 قرية و 12 مزرعة، وباقي قرى الجبل وهي 13 قرية تابعة لقضاء دومه فإذا فرضنا أنه يأتي من المهاجرين في السنة ألف رسالة وهو أقل تعديل ولا يكتب لأهله إلا الناجح منهم في العادة ويرسل كل واحد ثلاثين ليرة فيكون معدل ما يصل من النقود إلى قلمون ثلاثين ألف ليرة، وهو مبلغ لا يستخف به بالنسبة لفقر الجبل ولو كان هذا المال يأتيه مع توفر العناية بالزراعة وتربية المواشي وغرس الأشجار والغابات لكان الجبل من أعمر جبال العالم.
ويبلغ عدد نفوس الجبل بإحصاء الحكومة 58127 نسمة بين ذكور وإناث منهم 45574 في القرى التابعة لقضاء النبك اليوم و 12553 في القرى التابعة لدومة وعدد المسلمين في قضاء النبك 40660 وعدد الروم الارثوذكس 1515 وعدد الروم الكاثوليك 2920 وعدد السريان الكاثوليك 399 وعدد البروتستانت 90 وربما بلغ عدد المسيحيين في الثلاث عشرة قرية التابعة لقضاء دومة 2500 نسمة.
وبلغت أعشار القرى التابعة للنبك هذه السنة 1443175 غرشاً وأعشار القرى والضمير وقارة والنبك ودير عطية ومعلولا وأهم قرى القضاء الثاني التل ومنين وحلبون وتلفيتا وصيدنايا ومعرة صيدنايا وباقيها مزارع أو أشبه بها.
ويقسمون قلمون بحسب موقع الطبيعي إلى قسمين فوقي وتحتي فمن قرى الفرقي أو الفوقاني رنكوس وحوش عرب وهي تعلو عن سطح البحر 1770 متراً وعسال وطفيل والجبة ومعرة باش وفليطا والسحل وقارة وعرسال ودير عطية والنبك وبخا ورأس العين ويبرود وحبعدين ومن التحتية النواني وعكوبر وبدا وحفير الفوقا وحفير التحتا وحلة ومعلولا والقسطل وعين التينة والقطيفة والمعظمية وجيرود والرحيبة والضمير ومعرونة وتلفيتا وصيدنايا ومعرة صيدنايا والتل ومنين وحزنة ومعطلة والدريج ومعربا وحبون وهي التي تخزن الثلج في الربيع في جردها وتأتي به كل ما يولى دمشق وتشاركها في بيع الثلج قريتا اوفرة أو قفرة وقرية منين.
وتعد زراعة قلمون من الدرجة الثالثة ولو توطدت دعائم الأمن فيه لاستطاع أهل القرى القريبة من البرية للشرق أن يزرعوا تلك السهول الفسيحة وينتفعوا بالمراعي البعيدة عن القرى ساعات، وأكد لي العارفون بأن الأمن إذا استقر في نصابه وأمن القضاء من غارة أشقياء العرب والدروز على المواشي والزروع تكثر مواشيه كثرة زائدة ويغتني الفلاح والحكومة فقد نهب العرب والدروز منذ نحو سبع سنين زهاء مئة وخمسين ألف رأس من الغنم والماعز لو سلمت لأربابها لكانت بلغت الآن على أقل تعديل مليون رأس ومعدل ربح الرأس مئة قرش هذا عدا ما هو موجود اليوم من مواشي الجبل.
وليس مثل جرود قلمون في الصيف لرعي المواشي ومثل سهولها الشرقية في الشتاء وألبان قطعانها من أدسم ما ذاق الذائقون، ولو تمت أمنية الفلاح القلموني بانتشار الأمن في شعابه وهضابه في الفصول الأربعة لربح الفلاح كل سنة القرش قرشين من ماشيته فقط ومن كانت عند المئة يجني المئتتين ومن ملك الألف جاءته ألفان، ويرى الخبيرون بأنه لا سبيل إلى تقرير الأمن في قلمون إلا بوضع أربع مخافر الأولى في الضمير والثانية في الناصرية والثالثة في الحميرة والرابعة في القريتين وأن يجعل في كل واحدة منها ـ وفي بعضها قلاع لإيواء الجند ـ خمسة وعشرون جندياً نظامياً فارساً (مفرزة) وبذلك يرهب أشقياء عرب البادية بأس الحكومة ويكفون عن السطو على ضعاف الأهلين كلما اهتبلوا الغرة.
ولا تجد في قلمون غابات كأكثر جبال العالم بل هو جبل أجرد أقرع ولو صحت عزيمة سكانه لأكثروا من زرع التين والكرم واللوز والجوز في الأراضي القريبة من القرى ومن السنديان والبلوط في النجاد والشعاب، والظاهر أن فأس الحطاب وأسنان الماشية اتفقت زمناً طويلاً على تجريد الجبل من أشجاره وغاباته فلا تجد الشجر إلا قرب القرى وقد تمشي الساعات ولا تجد أثراً للزرع ولا للشجر.
قال أحد الأجانب ممن زاروا هذا الجبل مؤخراً كنت أتمنى في حياتي أن أشاهد جبلاً أجرد من الكلأ والشجر فها قد قرت عيني في قلمون بمشاهدة ما كنت أريده من الجبال الجرداء أما ابن سورية فيتمنى لو قرت عينه برؤية جباله شجراء ذات غابات غبياء.
وليست مياه قلمون شحيحة عزيزة بل هي عذبة غزيرة كأحسن البلاد الجبلية ولكن منها ما يحتاج للإنباض وللعهد والعناية وإذا توفر الأهلون وساعدتهم الحكومة قليلاً على توفير مياههم تزيد كميتها بحفر العيون والأقنية والانتفاع بالمياه والسيول حتى لا تضيع منها نقطة بلا فائدة، ومن هذه العيون ما يشفي الأوصاب ويقوي الأجسام ويساعد على هضم الطعام وأطيبها ما قرب من جرود الجبل حيث يكثر نزول الثلوج وتبقى كل سنة ستة أشهر متراكمة في النجاد والوهاد وأبشع مياه الجبل طعماً في معرونة وهي جمع من ماء الشتاء ولكن طعمها أشبه بالملح الانكليزي بيد أنها إذا ثقلت في الطعم فلا تثقل على الهضم.
وقد بحثنا في بعض قرى الجبل عن آثار حجرية مكتوبة أو كتب مخطوطة علنا نقع فيها على مواد تاريخية ينتفع بها فخاب سعينا إذ شاهدنا معظم أديار الجبل لا يعرف أهلها من التاريخ إلا تقاليد يتناقلونها بالأفواه وهي لا تساوي شيئاً إذا وضعت على محك النقد وإذا كانت الأديار خالية من مثل هذا فاحر بأن تكون سائر المعاهد أخلى فدير صيدنايا لراهبات الروم هو بحسب ما شاهدنا من أقدم أديار الجبل وليس فيه تاريخ الدير نفسه وقيل لنا أن أهل الدير حرقوا باختيارهم منذ نحو قرن كتباً سريانية كثيرة ولو أبقوا عليها لما خلت من فوائد كان القائمون عليها يحتقرونها او يخافون منها إذ ذاك وهي أنفع ما يكون للتاريخ اليوم وغاية ما فيه الآن كتاب نسخته إحدى راهبات الدير سنة 1887 م واسمها تقلا غزال ولم تذكر شيئاً عن الأصل الذي نقلت عنه وهو حديث أيضاً ويفهم من مقدمته وفيه شرح تقاليد كثيرة متعلقة بدير صيدنايا إن هذا الدير بني على يد يوستنيانوس الكبير ملك الروم في السن الخامسة والعشرين من ملكه سنة 553 للميلاد وذلك عند مروره في تلك البقعة فاختارها لإقامة هذا الدير ليجعل محطة لها صدي بيت المقدس من أهل القسطنطينية وغيرهم وفي هذا الكتاب أمور تتعلق بتجلي السيدة العذراء عليها السلام ليوستيانوس حتى بنى ديره وهو مثل ما يقوله المسلمون عن بعض معاهدهم، وهذه التقاليد لا يثق فيها التاريخ ولا تنطبق على العقل ويأخذها المعتقدون بالتسليم دون أعمال النظر فيها على أن الإحساس الديني تجب مراعاته مهما كان وحقائق العلوم العصرية هي التي تمحو وتثبت.
وفي الجبل أديار غير العامرة الآن في قارة ويبرود ومعلولا قد أصبحت مأوى للبوم مثل دير مار شبريين ودير مار توما بالقرب من صيدنايا كما تجد كثيراً من النواويس (مقبور) محفورة في الجبال، ومنها ما رأيته في منين وعين الصاحب ومعلولا.
والجبل إلا قليلاً متشابه بعمرانه ولكنه مختلف بهيئات سكانه ولهجاتهم فلكل قرية لهجة خاصة بها وسحنة يعرف بها أهلها فأهل معلولا لا يشبهون أهل عين التينة وأهل يبرود لا شبه بينهم وبين أهل الرحيبة، والظاهر من سحنات القلمونيين أن منهم اليعاقبة والسريان ومنهم الروم والتركمان ومنهم العرب فاختلفت لهجاتهم باختلاف أصولهم وإن كان تركيب بعض أسماء قراهم متشابهاً مثل يبرود وجيرود ومعرة ومعرونة وعسال وعرسال وجبة وجبعدين وفليطا وتلفيتا، وتلفيتا هذه هي التي قال فيها صاحب المعجم أنها كانت بلد قسام الحارثي من بني الحارث بن كعب باليمن التغلب على دمشق في أيام الطائع وكان في أول عمره ينقل التراب على الدواب ثم اتصل برجل يعرف بأحمد الحطار من أحداث دمشق وكان من حزبه ثم غلب على دمشق مدة فلم يكن للولاة معه أمر واستبد بملكها إلى أن قام من مصر يلكين التركي فغلب قساماً ودخل دمشق لثلاث عشرة ليلة بقيت من محرم سنة 376 فاستتر أياماً ثم استأمن إلى يلكتين فقيده وحمله إلى مصر فعفا عنه وأطلقه.
ومن صنائع جبل قلمون وبعبارة ثانية بعض قراه مثل التل وحلبون ويبرود ومعلولا البسفي فإنه تعمل فيها بسط غليظة ولكنها متينة يستعملها أهل الجبل والمجاورون لهم من سكان القرى كما يحيكون الخام الجيد في هذه القرى، ولا جمال على صنائعها ولكنها متينة جداً ورخيصة وقد لا يربح العامل قرشين في نهاره ومع هذا يجد نفسه سعيداً بهذا المقدار الطفيف.
وهواء الجبل معتدل جداً وهو أنفع لأكثر الأجسام من هواء لبنان البليل لقرب ذاك من البحر يورث النفوس نشاطاً ومضاءً وإن الذكاء الفطري يغلب على سكانه وتساوى في ذلك سكان جروده وسهوله وقراه ومزارعه وإسلامه ونصاراه ولو سعت الحكومة بجد لإصلاح طرقه ومواصلاته والخطب فيها سهل جداً لكثر اختلاف المصطافين إليه وخصوصاً سكان دمشق لأن قلمون منها بمنزلة لبنان من بيروت والطرق فيه عامرة بطبيعتها مثل طريق صيدنايا إلى معلولا وطوله خمس ساعات ونصف وطريق معلولا إلى يبرود وطوله ثلاث ساعات وطريق يبرود فالنبك فدير عطية فقارة وهذا الطريق على طوله لو صرف عليه بضع مئات من الليرات لسارت عليه المركبات كما تسير على أحسن الطرق المعبدة ولكن الحكومة في الدور الاستبدادي كانت لا تحسن من الإدارة إلا أن تسلب نعمة الفلاحين بطرقها المعروفة من تكثير الضرائب والعبور والرسوم وإرهاق الفقير بالإعانات الكثيرة ولعل دولة الدستور تقوى في أقرب وقت فتجعل من مالها ووقتها نصيباً تصرفه في ترقية البلاد فتستعيده بعد سنين أضعافاً مضاعفة من أهلها وقد كانت حكومة الاستبداد ترى أن غناها بإفقار الأهالي فالواجب على حكومة الدستور أن تعتقد أن غناها من غناهم وسعادتها بسعادتهم.
وإن جبلاً كقلمون وهو جزء صغير من ولاية سورية وجزء أصغر من هذه المملكة العثمانية إذا حسنت إدارته ونظرت حكومته في عمرانه ليخرج من الخيرات ما لا يخرج مثله الجبل الأسود ذوالبند والعلم وصاحب الملك والوزراء، وكيف يعمر مثل قلمون إذا كان ولاة دمشق يقضون بها لاسنين الطويلة ولا يزورون معاهده ويتفقدون حالة أهله بل أن القائمين الذين طالما تناوبوا الحكم عليه لا يهمهم إلا قبض رواتبهم وأخذ ما يريدون أخذه من الأهالي وإذا طافوا بعض قراه فللنزهة والتماس الصحة والراحة لا لرفع ظلامة وإقامة عدل وتحسين حال ويعتمدون في أمورها على مشايخ معظمهم على غير علم كانوا ولم يزالوا عون كل ظالم والسعيد منهم من كان الجهل أغلب على قريته ليسوغ له أن يحكم فيهم حكماً قره قوشياً ولا أغالي إذا قلت اليوم أن أهل قلمون لم يلقحهم حتى الآن رشاشة من نعمة الدستور على قربهم من الحواضر ولولا بصيص نور يتلألأ في عقول بعض أهل القرى التي يكثر فيها المسيحيون والمدارس والهجرة لكان قلمون كما كان منذ مئات من السنين.
وهنا رأينا أن نختم هذا الفصل بقصيدة للأمير عبد القادر الحسني الجزائري قالها وقد سأله بعض الفرنسيس أي العيش أطيب عيش الخلاء والبداوة أم عيش المدن والحضارة وقد كنا نردد أكثر أبياتها في رحلتنا وأكثرها مما يصدق عليها لمناسبتها مع الحالة التي كنا عليها في الجبل من الصحة وفراغ البال قال رحمه الله:
ياعاذراً لامرئ قد هام في الحضر ... وعاذلاً لمحب البدو والقفر
لا تذعن بيوتاً خف محملها ... وتمدحن بيوت الطين والحجر
لو كنت تعلم ما في البدو تعذرني ... لكن جهلت وكم في الجهل من ضرر
لو كنت أصبحت في الصحرا تمر على ... بساط رمل به الحصباء كالدرر
أو جلت في روضة قد راق منظرها ... بكل لون جميل طيب عطر
تستنشقن نسيماً طاب منتشقاً ... يزيد في الروح لم يمرر على قذر
أو كنت في صبح ليل هاج هاتنه ... علوت في مرتب أوجلت بالنظر
رأيت في كل وجه من بسائطها ... سرباً من الوحش يرعى أطيب الشجر
فيالها وقفة لم تبق من حزن ... في قلب مضنى ولا كداً لذي ضجر
نباكر الصيد عند الفجر نبغته ... فالصيد منا مدى الأوقات في ذعر
فكم ظلمنا ظليماً مع نعامته ... وإن يكن طائراً في الجو كالصقر
يوم الرحيل إذا شدت هوادجنا ... شقائق عمها مرن من المطر فيها العذارى وفيها قد جعلن كوى ... مرقعات بأحداق من الحور
تمشي الحداة لها من خلفها زجل ... أشهى من الناي والسنطير والوتر
ونحن فوق جياد الخيل نركضها ... شليلها زينة الأكفال والخصر
نطارد الوحش والغزلان فلحتها ... على البعاد وما تنجو من الضمر
نروح للحي ليلاً بعد ما نزلوا ... منازلاً ما بها لطخ من الوضر
ترابها المسك بل أنقى وجديها ... صوب الغمائم بالآصال والبكر
نلقى الخيام وقد صفت بها فغدت ... مثل السماء زمت بالأنجم الزهر
قال الأولى قد مضوا قولاً وصدفه ... نقل وعقل وما للحق من غير
الحسن يظهر في شيئين رونقه ... بيت من الشعر أو بيت من الشعر
أنعامنا أن أتت عند العشي تخل ... أصواتها كدوي الرعد بالسحر
سفائن البر بل أنحى لراكبها ... سفائن البحر كم فيها من الخطر
لنا المهارى وما للريم سرعتها ... بها وبالخيل نلنا كل مفتخر
فخيلنا دائماً للحرب مسرجة ... من استغاث بنا بشره بالظفر
نحن الملوك فلا تعدل بنا أحداً ... وأي عيش لمن قد بات في خفر
لا نحمل الضيم من جار فنتركه ... وأرضه وجميع العز في السفر
وإن أساء علينا الجار عشرته ... نبين عنه بلا ضر ولا ضرر
تبيت نار القرى تبدو لطارقنا ... فيها المداواة من جوع ومن خصر
عدونا ماله ملجأ ولا وزر ... وعندنا عاديات السبق والظفر
شرابنا من حليب لا يخالطه ... ماء وليس حليب النوق كالبقر
أموال أعدائنا في كل آونة ... نقضي بقسمتها بالعدل والقدر
ما في البداوة من عيب تذم به ... إلا المروءة والإحسان بالبدر
وصحة الجسم فيها غير خافية ... والعيب والداء مقصور على الحضر
من لم يمت عندنا بالطعن عاش مدى ... فنحن أطول خلق الله في العمر