مجلة المقتبس/العدد 40/الجغرافيا والعرب
→ التمييز في الألبسة | مجلة المقتبس - العدد 40 الجغرافيا والعرب [[مؤلف:|]] |
ديوان خالد الكاتب ← |
بتاريخ: 1 - 5 - 1909 |
لم يترك العرب أيام حضارتهم فرعاً من فروع العلوم النافعة في قيام مجتمعهم إلا وتوفر أفراد منهم عليه. وعلم الجغرافيا هو أحد تلك العلوم ولم يكن لهم به عهد في الجاهلية كالشعر والرواية والأدب والخطب وإذا ذكروا بعض أسماء البلدان المجاورة لهم فإنما يذكرونها بالعرض لا تشعر بمعرفة ولا تنمّ عن اشتغال.
وكان أول الكتب التي نقلوها إلى لسانهم كتب بطليموس اليوناني في الجغرافيا ومن أول الأعمال الجغرافية العلمية التي تمت على يد علمائهم هو أن المأمون أمر محمد بن موسى بن شاكر وأخويه أحمد والحسن بتحقيق طول خط نصف البار لمعرفة محيط الكرة الأرضية فقاسوا أحد خطوط الطول في سهل سنجار ثم أعادوا المقياس ثانياً في وطآت الكوفة فثبتت لديهم كروية الأرض وعرفوا محيطها.
قال ابن خلكان في ترجمة بني شاكر: وكانت لهم همم عالية في تحصيل العلوم القديمة وكتب الأوائل وأتعبوا أنفسهم في شأنها وأنفذوا إلى بلاد الروم من أخرجها لهم واحتضروا النقلة من الأصقاع الشاسعة والأماكن البعيدة بالبذل السني فأظهروا عجائب الحكمة وكان الغالب عليهم من العلوم الهندسة والحيل والحركات والموسيقى والنجوم وهو الأقل ولهم في الحيل كتاب عجيب نادر يشتمل على كل غريبة ولقد وقفت عليه فوجدته من أحسن الكتب وأمتعها وهو مجلد واحد. ومما اختصوا به في ملة الإسلام وأخرجوه من القوة إلى الفعل وإن كان أرباب الأرصاد المتقدمون على الإسلام قد فعلوه ولكنه لم يثقل أحداً من أهل هذه الملة تصدى له وفعله إلا هم وهو أن المأمون كان مغرى بعلوم الأوائل وتحقيقها ورأى فيها أن دور كرة الأرض أربعة وعشرون ألف ميل كل ثلاثة أميال فرسخ فيكون المجموع ثمانية آلاف فرسخ بحيث لو وضع طرف حبل على أي نقطة كانت من الأرض وأدرنا الحبل على كرة الأرض حتى انتهينا بالطرف الآخر إلى ذلك الموضع من الأرض والتقى طرفا الحبل فإذا مسخنا ذلك الحبل كان طوله أربعة وعشرين ألف ميل فأراد المأمون أن يقف على حقيقة ذلك فسأل بني موسى المذكورين عنه فقالوا: نعم هذا قطعي وقال: أريد منكم أن تعملوا الطريق الذي ذكره المتقدمون حتى نبصر هل يتحرر ذلك أم لا فسألوا عن الأراضي المتساوية في أي البلاد هي فقيل لهم صحراء سنجار في غاية الاستواء وكذلك وطآت الكوفة فأخذوا معهم جماعة ممن يثق المأمون إلى أقوالهم ويركن إلى معرفتهم بهذه الصناعة وخرجوا إلى سنجار وجاؤا إلى الصحراء المذكورة فوقفوا في موضع منها فأخذوا ارتفاع القطب الشمالي ببعض الآلات. وضربوا في ذلك الموضع وتداً آخر وربطوا فيه حبلاً طويلاً ثم مشوا إلى الجهة الشمالية على استواء الأرض من غير انحراف إلى اليمين واليسار حسب الإمكان فلما فرغ الحبل نصبوا في الأرض وتداً آخر وربطوا فيه حبلاً طويلاً ومشوا إلى جهة الشمال أيضاً كفعلهم الأول ولم يزل ذلك دأبهم حتى انتهوا إلى موضع أخذوا منه ارتفاع القطب المذكور فوجدوه قد زاد على الارتفاع الأول درجة فمسحوا ذلك القدر الذي قدروه من الأرض بالحبال فبلغ ستة وستين ميلاً وثلثي ميل فعلموا أن كل درجة من درج الفلك يقابلها من سطح الأرض ستة وستون ميلاً وثلثان ثم عادوا إلى الموضع الذي ضربوا فيه الوتد الأول وشدوا فيه حبلاً وتوجهوا إلى جهة الجنوب ومشوا على الاستقامة وعملوا كما عملوا في جهة الشمال من نصب الأوتاد وشد الحبال حتى فرغت الحبال التي استعملوها في جهة الشمال ثم أخذوا الارتفاع فوجدوا القطب الشمالي قد نقص عن ارتفاعه الأول درجة فصح حسابهم وحققوا ما قصدوه من ذلك.
وهذا إذا وقف عليه من له يد في علم الهيئة ظهر لهم حقية ذلك ومن المعلوم أن عدد درج الفلك ثلثمائة وستون درجة لأن الفلك مقسوم باثني عشر برجاً وكل برج ثلاثون درجة لتكون الجملة ثلثمائة وستين درجة فضربوا عدد درج الفلك في ستة وستين ميلاً أي التي هي حصة كل درجة فكانت الجملة أربعة وعشرين ألف ميل وهي ثمانية آلاف فرسخ وهذا محقق لا شك فيه فلما عاد بنو موسى إلى المأمون وأخبروه بما صنعوا وكان موافقاً لما رآه في الكتب القديمة من استخراج الأوائل طلب تحقيق ذلك في موضع آخر فسيرهم إلى أرض الكوفة وفعلوا كما فعلوا في سنجار فتوافق الحسابان فعلم المأمون صحة ما حرره القدماء في ذلك.
هذا ما قاله صاحب وفيات الأعيان بنصه وليس العمل لإثبات كروية الأرض هو العلم الوحيد الذي قام به المأمون فقد قال المسعودي صاحب مروج الذهب في كتابه التنبيه والإشراف وهو مما ألفه بفسطاط مصر سنة 345 للهجرة: ورأيت هذه الأقاليم مصورة في غير كتاب بأنواع الأصباغ وأحسن ما رأيت من ذلك في كتاب جغرافيا مارينوس وتفسير جغرافيا قطع الأرض وفي الصورة المأمونية التي عملت للمأمون اجتمع على صنعتها عدة من حكماء أهل عصره صور فيها العالم بأفلاكه ونجومه وبره وبحره وعامره وغامره ومساكن الأمم والمدن وغير ذلك وهي أحسن مما تقدمها من جغرافيا بطليموس وجغرافيا مارينوس وغيرهما اهـ.
قال السنيور جويدي الإيطالي وليس حكماء العرب هم الذين عنوا دون غيرهم من الأمة العربية برسم صورة الأرض بل أن أمراءهم كذلك ومنهم أمير المؤمنين المأمون الخليفة العباسي فإنه أغرم برسم الأرض وبذل قصارى جهده في إبرازها فجمع من بالعراق من حكماء دولته زهاءَ سبعين حكيماً على ما قيل فاجتمعوا على تكوينها وأحكامها حتى فضلت بذلك ما تقدمها من الصور اهـ ولقد عرف المسلمون أن من جملة أسباب الفتح معرفة طرق البلدان والأمصار فقد ذكر المؤرخون أنه قام الملاحون المدعوون بالمغرورين في القرن الأول للهجرة وأقلعوا من لشبونة عاصمة البرتغال اليوم بغية الوصول إلى ما وراء كولمبس وفي البعثات التي سيرها الخلفاء إلى القاصية كبعثة الواثق العباسي لاكتشاف سواحل الخزر وبعثة المقتدر بالله عام 309 إلى البلغار للدعوة الإسلامية فيها وأخذ أحد أعضاء البعثة أحمد بن فضلان معلومات مفيدة عن تلك البلاد وفي الحملة التي وصلت إلى بكين بعد فتح كاشغر سنة ست وتسعين للهجرة لدعوة الصين إلى الإسلام في كل ذلك أكبر دليل على تقدير العرب على رسم الأرض أو الجغرافيا أو علم تقويم البلدان.
ولقد كان علماء الحديث من أشد الناس عناية بالجغرافيا لتمييز النسب إلى البلدان والفرق بين الرجال ومساقط رؤوسهم وهذا هو السبب الذي دعا أرباب المعاجم أن يذكروا أسماء الأمصار والقرى. ومن راجع باب العشر والخراج في مطولات الفقه علم ما بين الفقه والجغرافيا من التعلق.
كتب أحد الخلفاء إلى حكيم من حكماء عصره حين فتح الله البلاد على العرب من العراق والشام ومصر وغيرها يقول: إنا أناس عرب وقد فتح الله علينا البلاد ونريد أن نتبوأ الأرض ونسكن البلاد والأمصار فصف لي المدن وأهويتها ومساكنها وما تؤثره الترب والأهوية في سكانها فكتب إليه ذلك الحكيم بجغرافيتها الطبيعية. وكتب عمر ابن عبد العزيز إلى أحد عماله أن يصف له جزيرة الأندلس لأنه علم أن المسلمين نزلوا فيها في بلاد يحيط بهم الإفرنج من أكثر الجهات ولا بقاء لهم في تلك البلاد.
ولما اجتمع ابن خلدون بتيمورلنك سنة 802 هـ في دمشق سأله هذا عن بلده والمغرب الأقصى فذكر له ابن خلدون ما حضره وطلب منه أن يؤلف له مختصراً وجيزاً يصف له بلاد المغرب كلها أقاصيها وأدانيها وأنهارها وقراها وأمصارها فكتب له في غربته اثنتي عشرة كراساً في وصف المغرب.
وأجمع تعريف للجغرافيا يستدل منه على موقعها من نفوس العرب واتصالها بعدة علوم لهم ما قاله ياقوت في مقدمة معجم البلدان: ومن ذا الذي يستغني من أولي البصائر ع معرفة أسماء الأماكن وتصحيحها وضبط أصقاعها وتنقيحها والناس في الافتقار إلى علمها سواسية وسر دورانها على الألسن في المحافل علانية لأن من هذه الأماكن ما هي مواقيت للحجاج والزائرين ومعالم للصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين ومشاهد للأولياء الصالحين ومواطن غزوات سرايا سيد المرسلين وفتوح الأئمة من الخلفاء الراشدين وقد فتحت هذه الأماكن صلحاً وعنوة وأماناً وقوة ولكل من ذلك حكم في الشريعة في قسمة الفيء وأخذ الجزية وتناول الخراج واجتناء المقاطعات والمصالحات وإتالة التسويفات والإقطاعات لا يسع الفقهاء جهلها ولا تعذر الأئمة والأمراء إذا فإنهم في كريق العلم حزنها وسهلها لأنها من لوازم فتيا الدين وضوابط قواعد الإسلام والمسلمين فأما أهل السير والأخبار والحديث والتواريخ والآثار فحاجتهم إلى معرفتها أمسُّ من حاجة الرياض إلى القطار غب أخلاف الأنواء والمشفي إلى العافية بعد يأسٍ من الشفاء لأنه معتمد عليهم الذي قلَّ أن تخلو منه صفحة بل وجهة بل سطر من كتبهم وأما أهل الحكمة والتفهيم والتطبب والتنجيم فلا تقصر حاجتهم إلى معرفته عمن قدمنا فالأطباء لمعرفة أمزجة البلدان وأهوائها والمنجم للاطلاع على مطالع النجوم وأنوائها إذ كانوا لا يحكمون على البلاد إلا بطوالعها ولا يقضون لها وعليها بدون معرفة أقاليمها ومواضيعها ومن كمال المتطبب أن يتطلع إلى معرفة مزاجها وهوائها وصحة أو سقم منبتها ومائها فصارت حاجتهم إلى ضبطها ضرورية وكشفهم عن حقائقها فلسفية ولذلك صنف كثير من القدماء كتباً سموها جغرافيا ومعناها صورة الأرض وألف آخرون كتباً في أمزجة البلدان وهوائها نحو جالينوس وقبله بقراط وغيرهما وأما أهل الأدب فناهيك بحاجتهم إليها لأنها من ضوابط اللغوي ولوازمه وشواهد النحوي ودعائمه ومعتمد الشاعر في تحلية جيد شعره بذكرها وتزيين عقود لآلي نظمه بشذرها فإن الشعر لا يروق ونفس السامع لا تشوق حتى يذكر حاجز وزرود والدهناء وهبود ويتحنن إلى رمال رضوى فيلزمه تصحيح الاسم وأين صقعه وما اشتقاقه ونزهته وقفره وحزنه وسهولته فإنه إن زعم أنه واد وكان جبلاً أو جبل وكان صحراءَ أو صحراءُ وكان نهراً أو نهر وكان قريةً أو قرية وكان شعباً أو شعب وكان حزناً أو حزن وكان روضةً أو روضة وكان صفصفاً أو صفصف وكان مستنقعاً أو مستنقع وكان جلداً أو جلد وكان سبخةً أو سبخة وكان حرّةً أو حرة وكان سهلاً أو سهل وكان وعراً أو يجعله شرقياً وكان غريباً أو جنوبياً وكان شمالياً سفل قدره ونزر كثره وآض ضحكة ويرى أنه ضحكة وجعل هزأة ويرى أنه هزأة واستخف وزنه واسترذل واستقل فضله واستجهل اهـ.
وبعد فقد نبغ في علماء العرب بفن الجعرافيا أناس لم يزالوا يذكرون كما يذكر الأفراد فمن قدمائهم أبو موسى الخوارزمي وعبد الله بن خرداذبة وابن واضح اليعقوبي وابن الفقيه الهمذاني وعمر بن رستة وقدامة بن جعفر والجيهاني وعلي بن فضلان وأبو دلف مشعر وأبو زيد البلخي وأبو إسحق الاصطخري وشمس الدين المقدسي وعلي بن الحسين المسعودي وأبو الريحان البيروني وأبو عبيد البكري وأبو سعيد الأصمعي وأبو عبد الصيرافي والزمخشري ومحمد بن أحمد الهمذاني ومحمد بن أبي بكر الزهري والشريف الإدريسي وابن فضل الله العمري ومحمد المازني ومحمد بن علي الموصلي وأبو عبد الله بن شداد وأبو محمد العبدوي وأبو عبد الله ياقوت الحموي وزكريا بن محمد القزويني وابن سعيد المغربي وشمس الدين الأنصاري الدمشقي والملك أبو الفداء صاحب حماة وابن بطوطة وابن الوردي وابن إياس وهذا كان آخرهم ممن يعتد بأقوالهم فقد جاء في القرن العاشر للهجرة وبعد ذلك انقطع سند العلوم الجغرافية من المسلمين بزهدهم في كل علم ولغلبة الجهل وإن صادف أن جاء من اشتغل بالجغرافيا بعد ذلك العهد فيكون ناقلاً عن مصنفات أولئك الأعلام أو مختصراً لبعضها شأن العرب في القرون الثلاثة الأخيرة في جميع ما كتبوا فقد فقدت منهم ملكة التأليف والاختراع وصاروا نقلة عاديين والله أعلم.